|
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -5-
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5458 - 2017 / 3 / 12 - 14:03
المحور:
سيرة ذاتية
ابن الفقيه سيرة ذاتية -5- يتبع وإذا كان هذا الباب في زمن يؤدي إلى حجرات الأسرة، ومراحات العائلة، ويفضي إلى ما يحكى على بساطها من أحاديث طازجة، وأخبار غامضة، فإن «ابن الفقيه» قد ولد بين جناحين يفصلان بين عهدين غارقين في غموض الكتمان، والتباس النسيان. إذ هما في طبيعة العرف الذي يبني العلاقات بين الأجناس، ويربط بصلاته بين الأنواع؛ جناح للرجال، وجناح للنساء، وكلاهما يصوغ معنى معينا للحقائق الكبرى، وفهما محددا للأخلاق الفضلى، إذ هما لم ينفصلا طبعا إلا في ثقافة القرية التي وضعت ناموسا للاختلاط بالأهل، والامتزاج بالأسرة، لأنهما متحدان في الكينونة، ومتفقان في الصيرورة، إذ وصايا القرى التي تضع حكمتها كل شيء في بؤرة موقعه، لكي يتمدد على الأرض جرمه، ويستولى في المكان على حظه، لا تتهاون في صياغة ما يضمن بقاء النوع، واستمرار الأنموذج المطبوع بروح العشيرة، وعقل القبيلة. ولذا كانت القرى تعيش نمطها الجماعي في تدبير المهاد، والوهاد، لأنها لن تكسب أفرادها معنى الاكتفاء في الذات، إلا إذا كانت لحظات الفرح والقرح مشتركة، إذ طابعها في الإحساس ببعضها، هو التآزر في حالات الشدة، والرخاء، لأن تحقيق وجودها بالقوة، لا يكون فعلا إلا إذا فجر الأمنُ فيها ينبوع الإبداع، والابتكار، وفتَّق الخلق فيها احترام المراتب، والمناكب، إذ سلطة الكبير في نظر ناموس الطبيعة التي تنزف كثيرا بالقسوة، وأحيانا تجود بالرحمة، لا تكون واقعة على محلها، إلا إذا قوَّمت الصغير، وسددت رميته بين الديار. وشدة القوي في وزن الحياة المترعة بالهموم، والغموم، لا تصير حادثة في محيطها، إلا إذا أسعفت الضعيف بالمواساة، وأعانت المظلوم على المجازاة، وأقامت العدل بطرق الصدق الصريحة، لأن دليله منطقي في العقول السليمة، ولا يحتاج إلى غيره في الدلالة على سمته، وكيفيته، إذ الظلم يجوز أن يبلغ شره بما يعن فيه من وسائل، لأنه لا يعتمد في إثبات ذاته على الحجة، والبرهان، بل التباسه يزيف الحقيقة، ويزور الطبيعة، ويصير الكذب مقبولا، والصدق معلولا. وإذا كانت الوصية الخالدة في عشب الأماكن الشاحبة جباهها بلفح الشمس، وشراسة الرياح، واسوداد الأفق، تقول: الأنثى، لا يسترها إلا جلباب زوجها، ولا تحيى إلا دفنت في قبر بيتها. هكذا اعتقد كثير ممن لمسوا المعنى في ظاهر اللفظ، وهو محتاج في دركه إلى تأويل، وتوجيه، إذ ستر مادتها بجلباب زوجها، يعني أنها بدون حصن حضنه، لن تكون روحها إلا مضغة لغوائل ما يرنو إليه عاشق جسدها من التهمة، والريبة، لأنها ليست إلا معنى تالدا للشرف الذي نحوطه بالغيرة، ونحرسه بالشهامة، وهي المسؤولة عن فردوس تمامه، وكماله، إذ الرجل يظعن بين القفار فرارا من اللوم، والعتاب، لكنها، لا يسير بها الركب بلا حامٍ يذود حياءها عن الرقاعة، والخلاعة، إلا وخسفت الأشباح بهجتها بالشرور، والكروب. فلا عتب على الوصية إذا جعلت الجلباب زينة على الأنثى، لأنها اللابسة لكل ما يستر غرة الذكر، والحاجبة لما يشمه من وصمة العار. والناس في القرية، يقيسون في لباس الرجل معنى عتبة بيته، إذ هي الطهارة التي تبرزه عظيما، وكريما، وإذا فقد ذاته في تنجسه بالضعة، والخسة، فكيف يكون عرَضه الخارجي دالا على أبهته، وأنفته، لأن الأنثى تهذب طبع الذكر، وتروضه على قبول بهجة الأشياء المملوكة، ولو كانت في عينه رخيصة، ورديئة، إذ الإحساس بالشيء المشترك النجعة، وفيه المسرة، والمبرة، هو الذي يفتق بين البيوت صفاء، ورخاء، لكن ذلك لا يستهدى إليه إلا بدفن الزوجة حلمها في أس ما تبنيه من بيت العزة، وإذا جابهت غيل الرزق بلين، ورقة، وواست في كدر الديار بالحنان، والمقة، كانت نفحة في عضد الزوج، ولمسة حانية في زناده، لأنه لا يتقوى بين ما يوغل فيه قدميه، إلا إذا أحس برضاها، وأيقن بأن صوت عتابها قد أسكته صوت عشقها. وهل تحتاج فيما تسترفده من فيض السماء السخي، إلا إلى زوج يقرأ سطور حنانها، ويدرك منها ما كمن فيه من ظرافة، أو خباثة.؟ ومن هنا، كانت الوصية معرفة بالحال، لا مؤكدة على واجب المقام، إذ قوتها في كونها تدل على المعنى الجامع لكل القواعد المتفق عليها بين الآباء، والأجداد. وما دمنا لا نمتلك حجة التاريخ التي تظهر رموز الحكاية جلية، ونحن نفصل في عقولنا بين الأشياء المتلازمة عند حدود البيوت المقفلة على أسرارها، فإن ما يعن لنا من رأي في حقيقة القرية، لن يكون قولا سديدا، ونظرا حديدا، ما دمنا لا نستشعر وجود سياق يواصل البقاء بما كمن فيه من معان، ومعارف، وأخلاق، لأن ثقافة أهل البلد لم تبن نُظمها بوهم جانح، ولم تخدع قيمها بحلم سارح، بل تأسس فيها القول على قاعدة العقل، وتقوم فيها الفعل بضابط الطبيعة. وهي في جفاء الأماكن القاحلة العاطفة، ترسم صورتها بقوة، وشدة، لأن ما تجود به من خيرات، وبركات، لم يكن موفورا إلا لصلابة الزناد، وجسامة الهمة. ولولا ما تفجر فيها من حدة العقل الجامع لأس التفكير بمانع ما احترز عنه من خبال، وسفاهة، وعبث، لما انبنت وشيجة ارتباطها على الاحتياط في صيانة السلوك الاجتماعي، لأنها لم تكن خائفة من الآتي المنتظر، أو من القادم المرتقب، بل كانت متوجسة من ذاتها، ومتخوفة مما حولها، إذ تحمل سر اليقين في اختلاف الإنسان بتنوع ما يرد عليه من أعراض، وأغراض. وكل ما كان ذلك الناموس الطافح بجرح العناء أساسا له، فالحرص عليه أكمل الوجوه في حمايته، ورعايته، إذ الشرف وصية الأقدمين من الأسلاف للأخلاف، وزرية الأحفاد في سبك الزمن الحاضر بين أسرار الكواكب السيارة، لأنه الشيء الذي يلف تاريخ الإنسان ببهائه، ولكنه يستر نقيضه. وإذا انكفأ الميزان في وزن الأقوال، والأفعال، سقط في بركة الفساد، والإذلال، لأنه الميراث الذي نرث نسبه، ونحمي حسبه، والعرض الذي يظهر علينا ممرعا بالجمال، ومضمخا بالكمال. ولذا اعتبر الشرف معنى متضمنا للطهارة، والنظافة، ومحتويا على ما اعتقد الإنسان كماله بالسجية، والفطرة، وإذا تدنس باطنه بالقباحة، والنتانة، صار ظاهره مجلبة للعار، والشنار، لأنه مرتبط بالمسموع والمرئي من صورة الإنسان، وهي ليست إلا كلاما مرددا على الألسن، ومحتملا لما شرف معناه في الخلال، والخصال. وإذا شوهد المعنى غير وافر في الدلالة، ذهبت ريحه بهوانه، وفقدت صولته بزواله، إذ الشرف قد وصفوه بقارورة عطر يرثها اللاحق من السابق، والمتأخر عن المتقدم. وإذا كان الشرف بهذه الرائحة، والطعم، واللون، فإن صيانة ما فيه من طيب، وشذا، وذكاء، يشمه الأباعد فوحه قبل الأقارب، هو الأصل الذي يدون كل إشارات التفكير، وحركات التدبير. ومن هنا، فإن انفصال الجناحين بين الدور العامرة بأهلها المقرورين بسعادتها، أو المعرورين بشقائها، هو الأس العقلي الذي بني عليه الاحتياط في الطبيعة الصلدة للقرية، وهو القاعدة المعرفية التي تعلمها الإنسان من أماكن طهارته، إذ هي قابلة لنجاسة من يذود عن حياضها حرصَ المتربصين غفلةَ عيون حراسها الآمنين، لأن اختلاط الأحلام في عمق الإنسان، وامتزاجها بما فيه من أوهام، وحقائق، قد تصير التليد باليا، والجديد خلقا. فلا غرابة إذا أحدث الاحتياط الشك فيمن هو الأقرب، لأن الأبعد يمنعه طول المسافة، وضيق المساحة. وعلى هذا يكون الفعل متضمنا لوعيه، ومحتويا على غايته، وإلا، فإن الجناحين لهما حدود، وقيود. وكل واحد منهما يمنع ذاته من التلاشي؛ فالأول تتوسطه مصطبة يأوي إليها الجِلة من الجلاس المحدقين حول شمعة الأرض، والشرف، والعرض. والثاني مخدع تحكى فيه أحاديث النسوان بكل تفاصيل اتفاقها، أو اختلافها، لأن للدور أغوارا كثيرة، وأسرارا عديدة، لا تكشف إلا لمن هو الأقدر على ترجمة إحساس ضرورة نقائها إلى توجيه سليم، وإرشاد قويم. وهذه الأحاديث، لا تتجاوز حدود وضع الأنثى في القرية، إذ هي ولو أسهمت بسهم في إنماء الأرض التي تفاضل بين الجِد في الكسب، والكسل في الطلب، فإنها لن تتجاوز كونها مملوكة لجمال معنى الزوجية، لأن امتلاكها للزوج الذي يبرز وجه سلطته على جدران ربعه، وحوزته، وهو الصورة المحتوية لما يختزن في باطن البيوت من دلالات، وإشارات، والمظهر الذي تهاب في غضبته حدود قوته، وبطشه، مما تنفيه مناطات حريتها الشاهدة على كونها كلية لا يدرك معناها إلا في امتزاجها مع الزوج، وهما معا جزء مما تتقوم بها كليات المجتمع، لكن امتلاكهما لشيء مشترك بالعقد المتضمن لأسس الحرص على الدائرة، هو المعنى الاسمى لمشروعية المحافظة على مقام الزوجية، وهو الحد الجامع، وبه يكون التمييز في النسب، لا في الذات، ويكون معنى التزاوج بينهما محددا للحكم على الامتلاك من عدمه، لأن التفريق بينهما، هو المحل الذي أنتج الصراع بين الذكر، والأنثى، وهما في قيمتهما الفردية، لا يستوجبان أن يصارا إلى الجماعة، إلا إذا حدث التلاقي على عقد بناء كُن الزوجية، وإنشاء أسرة تنزاح عنهما إلى دوائر واسعة في التماسك الاجتماعي، إذ كلاهما يمتلك الآخر بحد من الحدود. ولولا وجودهما بالسوية في ميراث الشرف، لما كانت الزوجة مصرعا لكل من طاش به السفه، وحسب المعنى مقصودا للقاء العابر، لا للالتحام الأبدي. ومن هنا، فإن القول بامتلاك أحدهما للآخر، هو الغلط الذي حدث في تحديد معنى البيوت المصانة بأقفال الاحتياط، والرعاية، وأغلاق الحفظ، والحماية. وهي ليست إلا أسرارا تغرس في الأولاد، وتثمر في الأحفاد، لأن معنى الامتلاك لأحدهما في نواميس القرى، لا يفي للمقام بحقه، إذ هما مالكان للكلمة التي ترسخ القيم في الأوصال، وتوطد العهد بين الأجيال، ومملوكان لضرورة غلق سر البيت على أس الفضيلة، وحصر معنى الخلد في احترام بسمة الطبيعة، إذ أحدهما لا يكون موجودا في الحوزة، إلا بالآخر الذي يتمم عوزه، وإذا فقد ركن منهما في منقبة الزوجية المقصودة بذات الزواج، كان نتاج الالتقاء على التفاضل رديئا، وسيئا، لأن فهم قيمة الزوجية، ينفي معنى الضدية، إذ لم ترد المشاححة بينهما على الأذهان، إلا في زمن استوحش العادات بين الأراضي المستجيبة للسباق، فلم يُقدَّر لها أن تظفر باللحاق. ومن هنا، تشابكت الحقوق بلا حدود، وتعاضدت الواجبات في القيود، ولم يبق للانفصال أي مدعى في القضية، إذ استحقاق ما يجوز نواله من معنى الزوجية، هو النجح في الوصول إلى الغاية، وهي ليست إلا أسرة يسرها خدمة الأرض، والطبيعة، والحياة. ولولا ما أدى إليه وضع القرية في رؤاها الدينية، لكان الكد والسعاية مناصفة، لكن القرى نامت على فروة الأمن، وحين استيقظت بعد الانتشاء بالحلم الفاتر، وجدت السكك معولة بنداء تحرير دُور المرأة العتيقة، وكأنها ما مدت أنامل خيالها إلى عناق الزوج بصورة براءتها في مرآته، لكي يكون خير متاع تجنيه في الأمل المستوطن لفؤادها، وعقلها، وتكون في قعر باطنه خير بنَّاء يرفع عماد العمارة، والحضارة، إذ إحساسها بالرجل شبيه بإحساس الرجل بها، فكلاهما محتاج إلى غيره في التلاحم مع الطبيعة، واحتياجهما إلى بعضهما في إثبات أحقية الأبوة، والأمومة، هو احتياجهما إلى فروع من الذرية، إذ معرفة دوران الزمن بين الغوائل المفجعة، يوحي بأن حاضر اليوم سيكون أمسا، وجيل اليوم سيكون سلفا. ولذا، لا أفضلية بينهما إلا في الاعتبار الذهني الذي يفصل بين الأنواع، لأنهما معا لن يكونا أسرة إلا بحدوث الالتقاء بينهما، والامتزاج على معنى يسري في الزمان، والمكان، لكن استئثار العقل بالفحولة في الإدراك الجزئي؛ "إذ شعور الذكر باستقلاله، واحتياج غيره إليه، يرفعه عن دائرة البشرية." قد أغرى بالتسلط، والتجبر، وذلك مبني على كونه الأقوى، والأقدر، لأنه نظر في خشونته التي لم تلمسها يد ناعمة بالعطف، واللطف، فظنها أساسا لكمال الإنسان الشرس بمظهره المفتون بغرته، وقوته، إذ زعم أن في الزهومة رجولة، فزم بأنفه حين أعتقد الاكتفاء، وحسب أن ما ينته، هو سبب في ظهور جماله الأوفر الكمالات. لكن لو أدرك في طراوة الزوجة معنى كماله، لكانت تهذيبا لطبعه، وترويضا لعقله. فلا غرابة إذا حدث النزاع مع ثقافة القرية التي تزينها فطرة بداواتها، لأنها تناظر في عقل صريع المدَنية مسمى البادية، فدل أحدهما على الآخر عنده باطراد، لكن لو جعلنا القرية معنى في الموطن، والبادية معنى في القيم، لتميزت لدينا رائحة القرية في شم سر امتلاكها لمقاليد الأرض بالميراث، ورائحة البادية فيما يغني به الراعي على ربوة الألم من معاني الوجدان الضجر المرابع، والقلق المطالع، لكن المنابذ لمعنى الألفاظ المسكونة بهمس الناطق بها، قد قال بالترادف بينهما، ثم صال مغترا برغبته الجانحة، وهو لا يقصد إلا وصف الديار بما في برية قاعه من وحشة، وقسوة. وهذا محض المين في التحرير، إذ لو فصل بينهما في القضية، لعرف كيف ينطق السور، وكيف يصيح الصور، لأن ما تقوم به القرية في الماهية، هو استقرار ذاتها الجرمية، وذلك ما يمنع من تنقلها، وارتحالها، وإلا، لن تستحق الوصف بالثبات في صورتها، لا في ماصدقها، فهي بهذا مستقلة بمادية كيانها، لكن ارتحال حس البداوة بين الأزمان، يجعله معنى سيارا بين الأماكن، لإذ ا مقام له إلا في العقول، وإن برز شيء مما يتضمنه معناه على وجه القرى، فما ذاك إلا شيء يجمل ما فيها من لدونة بحرشة الحزونة، لأنه نمط في السلوك المقابل للمدنية، وذلك ما يجعله غازيا لها من عمق البراري، ومن قاع الضواحي. فقد يستقر في كوخ مظلم، وقد يكمن في دور ناعمة. ومن هنا، فإن القائل بالامتزاج، لم يدرك كيف يكون ما يدعيه من بداوة قوة في القرية، ومتى يصير ضعفا تتقيه بصده، ورده، إذ هي لم تنطق باليقين إلا بعد الشك، لأن خيبتها في المطالع السعيدة، قد أغراها بإمعان النظر في الموارد النحيسة، لعلها تنال به السعد في الحقيقة. هذه الأحاديث في المحيط الثقافي السائد، لا تكون في العادة إلا مشاكسات يطغى عليها طبع التستر، والتكتم، أو مما له قيمة في اعتبار أعراف الرجال، والنساء، أو مما يسعر الحفيظة، ويغري بالوقيعة، لأنها ومهما كانت مسلمات، وبدهيات، أو توافه، ومحقَّرات، فإنها تتضمن معنى المبدأ الأخلاقي الذي ينظم العلاقات بين الأفراد، والجماعات، لأنها لم تستعر من غيرها ما يضمن استمرارها، بل أنتجت في استقرارها ما يذود عن عاداتها، وتقاليدها، وأعرافها. لكن ما يسببه إفشاء السر في المصادر الأخلاقية البدوية، هو الأدل على قيمته في عقل سكان القرية، وثقافة أهل البلد، فإما أن يكون القرار عتابا يحس به من أفشى سر الصديق، وأذاع خبر الرفيق، وإما أن يكون نظرات شزراء يتذوق آلامها، ويلعق مرارتها. إذ السر ليست قيمته في مضمونه الواعي، إذ ما عُرف خفاءُه إلا بعد أن كان علنا، لكنه يختبر ذلك الجزء غير الواعي في الذوات المنحرفة، والمستقيمة. ولولا ما فيه خفاء يستدعي الكتمان في الوعي البشري، لما كان الجلاء فيه ذميما، ولئيما، لأنه عهد بين المتآلفين على وصايا محددة. وناقضه مأثوم، وخائنه موزور. ومن هنا، فإن في كتمه دلالة على استحقاق النسبة إلى القرية، إذ الصبر على قبض التافه، الرديء، هو المرقاة إلى امتلاك مفاتيح أبواب القرى، وأسوارها، وقلاعها، لأن امتلاك ذوق الكلام، ومعرفة ما حقه أن ينشر، وما طبعه أن يستر، وهو الخارج بلا كلفة، والنازف بلا مشقة، هو الدليل على التكليف بما فيه الشدة، والعسر، إذ لا تتساهل القرية في طي موروثها تحت رداء فاقد التمييز بين ما هو موروث، ويحمل عنوان الوصية، وبين ما هو سلوك قابل للطارئ عليه، فيتغير بتغير حاله، لأن عدم فهم رمزية الأشياء على معنى الخلد، سيضع أفلاذ القرى بين أيدي الجبناء، والحقراء. ولذا اكتست العادات والتقاليد والأعراف بطلاء أهلها، لأنها تحتوي على الإحساس المفعم بروائح الأرض، والسماء، إذ القرية لا تريد إلا صيانة أخلاقها، ورعاية أذواقها، ولا سبيل إلى بقائها إلا في طريق غرسها بين أحشاء أبنائها، وفلذات أكبادها. وهم الذين يحملون سرها، ويدافعون عن شرفها. وإذا فقدت هذه الصلة، انتهى زمن القرية، وذاب أملها في الوجود. فلا غرابة إذا كان إفشاء السر حجابا، وحاجزا، لأنه يمنع الموصوف به من درك أسرار الحياة في تجارب الآخرين على الطبيعة، إذ ما أخفى الإنسان سره، وما أفشى غيره، إلا لأنه يشمل قيمة ما يمتلكه من خبرة في الكون، وملاحظة في الطبيعة، وهي شرسه المورد، لا تخضع إلا لمن وعى صمت أشجارها، وأحجارها. ولولا ما استكنهه فيها الإنسان من إشارات غامضة، وما استظهره فيها من إيحاءات غائرة، لما كان لفضحه وخز في الذات، وفي الغير، بل لن يعاتب أحد على قول يفضي إلى الافتراق، ولن ينصح شارد عن مهيع الالتقاء، لأنه المقياس الذي تقاس به العقول الواعية بالعهود، والمواثيق، والمعيار الذي تبنى به الحياة صلدة، وشرسة، ولا يدركه إلا من رضع من ثدي الأمهات روح حياته، ورشف من مياه الأماكن كامن ظهوره. ومن هنا كان السر مرتبطا بالحياة التي ننشد ضالتها على أرض الضياع، لأنه ينهي كل علاقة تربط بين الإنسان في مستقبل الأمل الموعود، والحلم المشهود. وإذا كان ما يرومه الإنسان في الأخلاق محددا لسيرته التي تكشف علاقته بالأرض، والإنسان، فإن المنبري عن الجمع لسبة عدم اقتداره على تحمل الأعباء، والأرزاء، لن يجد له سبيلا سوى الندم عن بتر وصلة حاضره بماضيه، لأنه لن يقبض على مسحة صفاء مورده من غيره، ما دام منبوذا بين أفراد قريته، إذ لا تقاوم الأخلاق الفاسدة إلا بالتبرؤ منها، والاعتذار عنها، وإذا حدث الاعتراف بجريرة قطع شجرة الأخوة بما يكشف من سر وصيتها الخالدة، كان الاعتذار عن دنيء الفعال يدا لينة تمد للجماعة، لأنها إذا صافحت برطب الألسن، ولين الألفاظ، ورقيق المشاعر، ولطيف الملامح، كان ذلك إحياء لرميم العهد في العقول، والقلوب، إذ شفقة أهل القرى تكمن في انشراح أساريرهم، وانبهاج جباههم. وإذا انفتحت وردة العشق للجميل على الملامح، والبسمات، أثمرت الرقة، وفاضت بالدموع، وأوقدت الرثاء. ولذا تكاثف أهل القرية في لحظات القرح، وتسامحوا فيما يستلزمه الفرح من حرص على طعم اللحظة، لأن دلالة الشفقة على ذاتها، ليست في رطوبة المجنى، بل في شراسة العقل عند الفرح، إذ الوصايا تؤكد على المعنى، وتقول: لا يؤتى الإنسان إلا من غفلته. ومن هنا كان الفرح قرحا، لأنه المستدر لنقيضه، وهو لا يكون حقيقة إلا عند ظهوره مع ضده، إذ امتزاجهما في حدود المشترك، هو سر القرى في صيانة كيانها المادي، والمعنوي، ولواءها الذي تخب به نحو المستقبل بهدوء، واطمئنان، إذ ما يخلقه القرح في المدينة من إحساس بالضياع، هو الألم التي تغرد به الذوات المتغربة، لأن شعور الإنسان بانفراده في معاركة عنائه، هو الشقاء الذي تنطفئ به وقدة الانتماء إلى الجماعة، لكن ما ينبثق عن القرح في القرى الراعية لأفرادها، هو الأمل الذي يفجر في عمق العاجز قوة، وأمانا. وإذا اعتدل ذلك في الميزان، كان سندا على الراحة، والمسرة، لأن تهلل وجه السماء في عين البدوي أجمل من اخضرار عشب لا يألفه في المدى، بل انجاب الابن بين أحضان القرية القاحلة الجنان، أفضل من ولادته على أرض لا تغري بطراوة مهادها، وطلاوة أخلاقها. ولذا تسمي القرية ما يولد على بساطها من ولدان بأسمائها، لأنهم يحملون في أعماقهم أسرار التاريخ، وقيم الآباء، والأجداد. وإذا تشابكت الحقائق في عقل القرية، وقلبها النابض بالحياة الهادئة، وتداخلت الرموز بالكلمات، والإشارات، وبدا لمتغزل بالجزالة أن ينكر شدة المراس المنظور على الطبيعة، والإنسان، فإن منطق الحقيقة مجاف لذلك حين يقول: إن فلسفة القرى لم تكن بدائية التفكير إلا عند من لم يدرك أن المدينة لا تنتشي روائحها إلا بعرق البادية، بل فلسفتها كل ما تعلمه الإنسان من صوت الغدران، وصياح الوديان، لأنها إذا لم يدل فيها الكلام على صدى الحماة، والرعاة، لن تدل على همس الأرواح الساكنة للدور، وضجيج الأشباح الحارسة للمدى. فلا حرج إذا كانت قوة فاعلة في الطبيعة، وواعية في الحقيقة، ويقينا يبذر الزروع، ويحمى الضروع، لأن ما ينفصل عن الأرض من متعها، وما ينشق عن الإنسان من لذاتها، لم يكن موصولا بين الأيدي الحريصة على بقائه، إلا لقوة امتدت إلى الجني، وانتزعت الثمار، واتقدت بأمل السير إلى الأمام. ومن هنا كانت فلسفة القرية تقتضي أن يكون السر عهدا بين المتواطئين على صيانة الحضن فوق التراب، إذ به يعرف قدر الإنسان في تحمل المتاعب، وتجشم المصائب. لكن، لم غالت القرية في تحديد أسرارها.؟ أليس السر هو ما دونه فري أوداج الغلاصم، والجناجر.؟ أليس السر ما يستر المعرة، ويقي العيب، ويلف العين بمظهر الجمال، وإن لم يتناه بها الحال إلى تمام الكمال.؟ قد يكون السر بسيطا في الاعتبار، وربما مما لا يغرق الهامة في مستنقع الخيانة، لكن قبح كشف السر ليست في نقل التوافه من أفراد إلى جماعات، بل في كونها تختبئ من ورائها نفوس غير مروضة، وعقول غير مهذبة، إذ احتواء العقل على السر التي لا يفشى، هو قبوله لكل الأسرار الموجودة في الكون، والطبيعة، والحياة. ولولا ذلك، لما كان هناك سر يضطر إلى إخفائه، لأن بناء العلاقات في القرية، لا يكون واقعا مستلزما للحدة، إلا إذا كان السر فيه معهودا بالحماية، إذ هو سر الإنسان في ذاته، وسر الغير في حياته، وتوحدهما يمهد الطريق إلى نيل مرتبة عالية من الأسرار الخفية، لأنه كيمياء القرى، وناموسها، ووصاياها. إذ قوام القرية الذي يعشقه كل ابن يضمر واجب رعايتها، ليس في كونها ظاهرة بالفتنة، بل في كون اعتدالها يدل على صفات تحتويها بالشرف العريض، والعرض المصون. في هذا الجناح الأنثوى الخمائل، والستائر، عاشت أم الوليد مخاضات عسيرة في حياتها، ونالت عناء وافرا من نكدها. وبين أحضان هذه القرية تعلمت أشياء جميلة وقبيحة عن ألاعيب الحياة، وأباطيل الإنسان، وحيل الطبيعة، وخدع الأنواء، وغصص الزمن، وجهلت أشياء كثيرة عن مصير تدبره يد لا تفي بوعدها دائما في السلب، والعطاء. لكن ما يشغل بالها، ويحصر نظرها، ويقلق حالها، هو ما عساه أن يحقق وجودها، ويمحص صورتها، لكي تتمتع بمحطة آمنة، وتسعد بمرفأ يهنأ فيه العيش بعد رحلة امتدت من عالم اليتم المبكر إلى حين زواجها، وهي طفلة صغيرة، لم يشتد عضدها، ولم ينضج عودها. فهل رضيت بالبقاء في هذا الجناح الذي أنهكها بالذكريات الأليمة، لئلا تحس بجرح أمها الذي ينزف من طفولة فقدت دفء الحنان بعد خمس سنوات مضت من عمرها.؟ أم عاندت الزمان حتى لا تخطر ببالها بثور خالتها التي احتضتنها بعد فقد والدتها.؟ أم أصرت على مواجهة غير الزمن، وقد أولجها أعسر الأبواب، وأدخلها غب العناء منذ نعومة أظافرها.؟ شيء من ذا وذاك يحرك الأم، ويعود بها إلى الوراء، وكأنها عاشت لحظة حلم سارح، استحال طيفه كابوسا يزعجها، ويؤرقها، لأنها ومهما حاولت أن تنسى تلك الندوب، وتتعالى على رزء فؤادها المكلوم، فإنها في بعض لحظات توهانها، وسرحانها، تذرف دموعا مدرارة، وهي تحكي بغصة تحرق نياط قلبها، وتدمي مسام جسدها. وتقول: يا بني، هذا كتاب أحزاني، وإذا فتحته في زمن تكون بين غمراته واعيا بما تقرأ، فلا تكتبه إلا سطرا ينزف بدماء القسوة العنيدة. أجل، لم ينس ابنها مسامرتها في الليل الطويل، وضوء المصباح خافت، وهزيم الرعد يجلجل، وصوت المذياع يسبل على المكان الموحش عرينه خشوعا، وخضوعا، وينساب من أعماق أنغامه بهدوء، وتؤدة، وكأنه نسيم يهدي إليهما ألحانا حرونة بالحزن الكئيب، وأنغاما حالكة بجرح السنين. كل ذلك قد كان مفجعا، لولا بعض الذكريات التي تنفرد باستعارة ما في الوجدان من أحاسيس الغدر، والخيانة، ومشاعر الهجر، والفراق، لأنها ومهما كانت ساعاتها كئيبة، وحسيرة، فإنها تعلم ابن الفقيه كيف يولد الحزن من الفرح، إذ مقتضى سيرة الأم في وكده، وجهده، أن يتمم ما تبقى من كلامها الحبيس بين أعماقها، لعله يكون صوتا صادحا بما توارى بين الأحشاء من ورم، وتوانى بين الأكنان من ألم. لم تكن المرأة كما يبدو سعيدة بجناحها المنكسر، وجاجبها المنحسر، لكنها ومهما أهاض صوت ناي الحزن صخرة ذاتها، فإنها تعاند فتور حدة ما نالته من رطوبة يد تحيي في رميم وجودها روح الأحلام، وروْح الآمال، وتمسح دموعها التي رسمت صورا كاشحة، لا ينفك صخبها يشوش على مخيلتها المتعبة بالشكوى، والبلوى. ذلك الدفء الذي أحست به في بيت زوجها، لا يعكره ما يحوط بسرادقها من انتظار مجهول تنشده العواتق بين طيات الدهر الفاتن بصروفه، وضروبه. أجل، تلك المرأة لم تكن أما لابنها، إلا لأنها هيأها القدر له، وصارت مع الزمن قابلة لأن تمنحه بغضون وجهها إشارة المرور إلى المستقبل، لأنها أيقنت بسر الأرض، وهي مهد الرغبات، والشهوات، واعتقدت في الزمن ما يليق بعقارب ساعاته من خديعة، ودسيسة، لأن ما يسود الأفق من ضباب داكن، هو الذي يغشى الذوات بنظرة داكنة، فلا تكاد تستوعب ما يروج في برزخ المعاناة من مؤامرة تحيل الطفل يتيما، وهو في عز احتيتاجه إلى الحنان، وافتقاره إلى الأمان، وترجع الكبير من حيث أتى، وكأنه ما مر على الديار فيما مضى. هكذا أحس ابن الفقيه بصوت أمه، وهي تنتفض ألما، وتستوفز حين تتذكر غوائل الطريق المنتفخة شرايينه بغرور المجذوذين، ونوح المحرومين، لأن ما يبرئ به الدهر حياضه، وحيطانه، لم يكن إلا إغراء على الزوال، إذ ما فارق أحد وهاد الأرض، إلا وهو يحمل قصته التي تضخمت في ذاته لحظة، ثم تتعدد الطرق، وتتنوع الوسائل، لكي يظهر في محل الأمان ما يخوف، وفي مقام العز ما يذل، وفي معهد الطهر ما ينجس. تلك هي النتيجة الحتمية التي نصل إليها حين تغرقنا بالآمال المتضائلة في بحر الهجران، والنكران.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عقيدة التسويغ -6-
-
عقيدة التسويغ -5-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -3-
-
عقيدة التسويغ -4-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -2-
-
ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-
-
عقيدة التسويغ -3-
-
عقيدة التسويغ -2-
-
عقيدة التسويغ -1-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -8-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -7-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -3-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -2-
-
وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
-
مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
المزيد.....
-
أحمد الشرع: سنشكل حكومة شاملة وسنعلن في الأيام المقبلة عن لج
...
-
مراسم يابانية قديمة لجلب الحظ والسلامة البحرية في فوكوكا
-
القسام تؤكد مقتل قائد أركانها محمد الضيف ونائبه وعدد من أعضا
...
-
وزير الدفاع اليوناني يطلب رسميا من سفيرة فرنسا توضيحات حول ص
...
-
ترامب يعرب عن تعازيه إثر مقتل روس في تحطم طائرتين بواشنطن وي
...
-
صحيفة تكشف التقارير الأخيرة لجهاز استخبارات بشار الأسد قبل س
...
-
السفارة الروسية في واشنطن: نعرب عن تعازينا بضحايا حادثة الطا
...
-
مرتضى منصور يهدد ترامب: التراجع أو المحاكمة أمام الجنائية ال
...
-
وكالة: الشيباني يشارك في مؤتمر دولي حول سوريا في باريس
-
واشنطن تخطط لتفجير اختباري للبلوتونيوم العسكري
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|