نظرا لتعقيدات القضية الكردية محلياً وإقليمياً ودولياً، يعتبر تناولها مطباً لكثرة الزوايا التي تفرض وجهات نظر متناقضة، وبالتالي كل منا ينظر من وجهة نظره، ويعتبرها صحيحة وأقرب إلى الواقع باستثناء بعض الاسماء التي دمجت الاكراد بجهاتهم الأربع في مسمى "الكردي" وسعى بميكافيلية ممتطياً المآسي الكردية للوصول إلى الشهرة ربما، أو صبغ شخصيته بنوع من "التحضر" المرفوض منطقيا بلا شك، والسعي إلى تناول المجتمع الكردي بكل تراكماته السلبية والايجابية على خلفية ثقافة المنفى المتخمة بالرفاه والرخاء النسبي. ألا يعني هذا نوعا من الخطابات الانعزالية تلقى على الصم من الابراج العاجية التي لا تسنح لنا حتى فرصة فهم بعض الايحاءات من حركة الشفاه، وبناء على هذه الممارسات، فالبطل (المثال) يصبح مجرد ثقافة طوطمية من منظور تخاطب مع الموتى فعلا امر غير منطقي ومجرد من المفهوم المادي أو الحسي الملموس، وكذلك المورث الفلسفي الثقافي الذي لا خلاف على أنه كون شخصياتنا المستقلة نفسيا وثقافيا ووضع حدود واضحة بين انا والاخر. وتغدو مجرد محاولة الهرب إلى الماضي للحيلولة دون دفع مستحقات المرحلة الراهنة والالتحاق بقطار الحضارة المزعومة. وعلى أية حال يبقى لكل فرد منا حرية التعبير عن رأيه دونما اللجوء إلى السخرية والاستفزاز المتعمد وممارسة الدكتاتورية الفكرية وطرح الرأي في قوالب من الامر. وحتى لا نطيل في المقدمة انا هنا بصدد تناول التنظيمات والاحزاب الكردية في سورية.
البادي أو المؤكد ان الاكراد في سورية واكبوا ثورة الاتصال مع بزوغ فجر انتشار تقنية الإنترنت وبذلك يكونون قد اخترقوا طوق العزلة والتعتيم الاعلامي المطبق على اوضاعهم السياسية والثقافية والاجتماعية منذ الازل، واتمنى ان يكون تطورهم متناغما مع تطورات عصر التكنولوجيا الاتصال والتواصل وان نصبغ تناولاتنا عن وضع الاكراد بالموضوعية والقضاء على رواسب المراحل السابقة التي اضفت على بعض الامور صفة القداسة، التي تفرض على الخطاب الكردي بعدا واحدا ومغرقا في الانشاء والاطراء والسباب، بالاضافة إلى وحدة الاراء وما يتبع ذلك من تناقض فيما بينها ومع الواقع المعاش بطبيعة الحال.
الحقيقة ان التنظيمات والاحزاب الكردية في سورية على مدى خمسة عقود أو اكثر لم تنجح في فتح أي من ابواب الحوار الذي ادرجتها في سلم اولوياتها النضالية، سواء مع السلطات السورية التي جابهتها منذ البداية بشتى وسائل القمع والتهميش ناهيك عن اضفاء الشرعية التي حلمت بها بعض الاحزاب الكردية، وبقي تعامل السلطات السورية ذا بعد واحد مع مختلف الاحزاب رغم التباين المتفاوت لهذا الحزب وذاك، وكذلك طريقة صياغة الخطاب الحزبي الموجه إلى السلطة كما اعتدنا، وكذلك أخفقت هذه الاحزاب في تفعيل ما يسمى بالحوار العربي - الكردي التي طالما نادت به هذه الاحزاب والنخب المثقفة المستقلة، وبقي هذه العبارة حبيسة الأدبيات الحزبية بصورة مزمنة ولم تخرج إلى الواقع ولم تتلمس حيز التنفيذ سوى بعض المحاولات البائسة التي غلبت عليها طابع النفاق والمجاملة، ولم تلقَ اهتماما وخاصة من جانب النخب العربية. ربما هذا التجاهل نتيجة الشعور بموقف الأقوى أو ان ممارسات السلطة انعكست سلبا على توجهات النخب العربية، وبلا شك بعد اصطدام الاحزاب الكردية مع الجدار الحديدي الذي جابهتها به السلطة وحالة التجاهل للنخب الليبرالية العربية اصابتها نوع من الارباك والتخبط، ما جعل الجمود والتراخي يلقي بظلاله الثقيلة على هذه الاحزاب، وما تبع ذلك من مضاعفات هذا الوضع التي قادت الاحزاب الكردية إلى حالة الانعزال الايدولوجي عن القاعدة الشعبية وأفرزت حالة من الفتور في الحس القومي لدى عامة الشعب الكردي.
وما زاد الطين بلة حالة الركود الاقتصادي التي جعلت من الانخراط في التنظيمات السياسية ترفا فكريا، ولهذا وذاك جاء التساؤل عن جدوى هذه التنظيمات مباغتاً ومفاجئاً، بالنسبة للكوادر الحزبية العاجزة عن الدفاع عن نفسها نتيجة للتراكمات المراحل الماضية أيضاً. وبطبيعة الحال، هذا الإخفاق المزدوج لم يكن نتيجة تجربة طارئة أو قصيرة إنما الحديث عن تجربة عمرها خمسة عقود واكثر وهذا ما يجعل من الفشل اشد مرارة.
يقيناً إن الفشل الذي أدّعيه كان له مبررات ما تكفي ان يجعل من الفشل اقل وطأة وتأثيراً على الكوادر والقيادات الحزبية، فالنضال الكردي لم يكن سهلا يسيرا بل كان يدور في حلبة من الضغوط الأمنية وفي ظل شح الامكانيات الاقتصادية لهذه الاحزاب، وبذا بات وجود الحزب انتصاراً بحد ذاته وهذا العامل كان كافياً لقيادة هذا الحزب أو ذاك إلى الفشل المؤكد، ويضاف إلى ذلك اخطاء وعثرات رواد الحركة الكردية منذ نشأتها ويمكننا إجمال تلك الاخطاء التي لم يتم تداركها في اية مرحلة من مراحل تطور هذه الاحزاب بالنقاط التالية:
أولاً: الطابع العشائري القبلي للمجتمع الكردي الذي "زمته" الدين، لم يتم معالجته بصورة تنم عن الدراية الكافية لتعيقيدات التركيبة الاجتماعية الكردية، إنما عولج على نحو اعتباطي بربط كل أسباب التخلف وركود الحركات السياسية الكردية في بعض مراحلها، بوجود عقدة الارتباطات العشائرية والنزوع إلى الحلول القبلية بالاسس الموروثة هذا ما يجعل العمل الحزبي مجرد تجمع غير معترف به وبالتالي لم يجدوا آلية بديلة عن نشر روح التمرد بين النخب المتعلمة. وهذا يعني ان العمل بات مجرداً من محتواه الاخلاقي ومثار الاستهجان والسخرية.
ثانياً: الموروث الثقافي والاجتماعي تم لفظه جانباً دون تخمين العواقب، ولم تستفد منه الحركات الكردية لدغدغة مشاعر اكبر قاعدة جماهيرية ممكنة، ولا يخفى على احد ان اعتباطية التعامل مع الموروث الثقافي افرزت الازدواجية الطبقية وبالتالي قضت بشكل أو بآخر على خصوصية المجتمع الكردي القائم بالاساس على تفاوت طبقي حاد نظرياً (حاد)، وعملياً أقرب إلى أن تكون (فانتازيا) اجتماعية لا تمنع التطور أو تحد من التطور بأي شكل.
ثالثاً: التخلف الثقافي (تعليمياً): قلة عدد المتعلمين كانت سمة المميرة للمجتمع الكردي حتى فترة متأخرة جدا، وهي الثغرة التي ساقت من خلالها الممارسات الخاطئة للحركة الكردية.
إذاً .. عندما لا نقر ونعترف بهذه الامور فهذا يحتم علينا الإجابة على الاسئلة التي تطرح نفسها، يا هل ترى .. من المسئول عن ترسيخ ذهنية القلق لدى الانسان الكردي الذي يعيش وضعاً لم يرد ذكره في جحيم دانتي؟
رغبة النزوح والهجرة لدى كل أبناء الشعب الكردي بمختلف فئاته العمرية، أليس مفادها أن الفرد الكردي بات يعيش في ظل مجتمع بلا خصوصية، ثقافة بديلة مثيرة للاستفزاز تزداد رسوخاً يوماً بعد يوم. وهل لنا ان ننكر بأن هناك بعض الساسة الكرد تحولوا إلى سماسرة معروفين في تجارة الهجرة غير الشرعية وضحاياهم من الرفاق السابقين. ثم من المسئول عن القطاعات الواسعة من الشعب الكردي التي تم تعريبها طوعاً، دون أن يكون للسلطات السورية أي تأثير في ذلك؟
فهل من باب قياس الجرأة والشجاعة حين نقول ان السلطة السورية ذات توجه شمولي مسيطر على الإعلام ومتحكم بكل مفاصل المجتمع اقتصادياً وسياسياً وثقافياً؟ ألا يجب علينا قبل أن نظهر بثوب الجريء والشجاع ونطلق خطابات انعزالية مغرقة في الشعاراتية الزائفة والطوباوية، ان نعدل بعض الشيء فصول المسرحية الهزلية التي نعيدها ونكررها بنفس الاخطاء طوال المراحل السابقة.
__________
* كاتب كردي سوري - أثيوبيا