|
اليمن من عبور المضيق إلى المتاهة !
منذر علي
الحوار المتمدن-العدد: 5446 - 2017 / 2 / 28 - 14:54
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لن أرد على أولئك المتربصين، الذين لم يكتفوا فقط بتجاهل وتشويه اجتهاد الدكتور ياسين سعيد نعمان ومساهمته الخلاقة في الفكر السياسي اليمني المعاصر، المناهض لمصالح القوى المتخلفة، الذين مابرحوا يكفرونه حيناً، أو يبحثون عن منارة عالية لاقتناصه حيناً آخر. كما أنني سأتجاهل أولئك النفر من اليسار الطفولي "المتصابين اليساريين الطفوليين والطفيليين" العاجزين عن الإبداع السياسي الذين يتحينون الفرص لاقتناص أفكاره ، بهدف التمسح بها . فهم لم يناقشوا أطروحات الدكتور نعمان ، بشكل نقدي ، توقاً إلى معرفة الحقيقة ، والمساهمة في تنوير القارئ ، وإنما اندفعوا ، بشكل محموم ، إلى محاولة تجاوز عجزهم و إحباطهم ، failure and frustration ، من خلال التمسح برؤية الدكتور نعمان ، رغبة في البحث عن "مكانة سياسية" political status ، فلجئوا إلى توضيح الموضح وتفسير المُفسر من خلال التملق الرخيص والإسهاب الممل الذي لم يجدي نفعاً ولم يضف جديداً ، ظناً منهم أن هذا النوع من التمسح الرخيص سينتشلهم وسيشفيهم من إحباطهم المرضي و سيرتقى بمكانتهم السياسية. سأترك ، بقدر الإمكان ، في هذه المداخلة القصيرة ، الحديث عن الإبعاد الخارجية التي حكمت وتحكم الأوضاع في اليمن ، وسأتجنب الدخول في التفاصيل الصغيرة والكثيرة ، التي حكمت مؤتمر الحوار ، وتحكَّمت في التصويت على قراراته في اللحظات الأخيرة ، وما ترتب عن مؤتمر الحوار من نتائج ، أتت كتحصيل حاصل ، وعكست ، بقدر ما ، العوامل الداخلية والخارجية ، كما عكست ، بقدر كبير، نوعية وأهواء ومصالح المتحاورين. فلجنة الحوار ، كما نعلم ، وبسبب الثقافة القبلية والزبائنية السائدتين، لم يتم اختيارها بشكل صحيح ، وبالتالي فأنها لم تشمل أفضل ما في الأحزاب السياسية، ناهيكم عن أفضل ما في المجتمع اليمني. سأترك التعبيرات الأدبية الرفيعة واللمسات اللغوية الراقية التي تكسو أطروحة الدكتور ياسين ، وتمنحها رونقاً جميلاً ، وسأركز على البعد الجوهري في مقالته الطويلة ، أو بالأحرى سأهتم " بسمكة القرش " على حد تعبيره ، التي توشك أن تموت وتغرق في عمق المحيط قبل أن تصل إلى الشاطئ حتى مجرد هيكل عظمي. إنَّ الدكتور ياسين سعيد نعمان يرى إنّ فشل الوحدة الاندماجية لم يكن ناتجاً ، فقط ، عن سوء إدارتها من قبل النخبة السياسية ، التي تربعت على السلطة عقب وحدة 22 مايو 1990 ، ولكنه يرى أن الوحدة لم تكن طبيعية بالأساس ، وبالتالي فأن فشلها كان "من طبائع الأشياء "، وهو يعزو ذلك لثلاثة أسباب جوهرية : 1. الصراعات والحروب السابقة بين الدولتين اليمنيتين 2. عدم اجتماع الكيانين السياسيين السابقين في نظام مشترك. 3. تباين في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فهو يرى إنّ الذين أقاموا الوحدة الاندماجية في 22 مايو 1990 لم يراعوا هذه الاعتبارات، وإنما حركتهم دوافع مختلفة، كانت لا بد وأن تفضي إلى الكارثة القائمة التي نعيشها اليوم. فهناك ، كما يرى الدكتور نعمان ، أصحاب " الحلم المشطور" الذين كانوا يسعون "للظفر بمساحة أوسع من الأرض" . وهناك الذين أطلق عليهم ، وإن بشكل ضمني ، بأصحاب "الحلم المهدور" الذين كانوا يسعون " بسذاجة لتحقيق النهوض لكل اليمن." وكان لا بد لهذا الشكل الملغوم من "الوحدة الاندماجية" ، التي لم تتم فعلياً ، أن يقود إلى حرب 1994 ، وإلى ما رافق و استتبع تلك الحرب الكارثية من نتائج مأساوية. ولكن أليس في هذا التعميم المفرط في بساطته ، تعسفاً واضحاً وقدراً كبيراً من السذاجة أيضاً؟ فهو يركز على أوجه التناقضات القائمة ، و يتجاهل طبيعة النخبة العائمة خارج الواقع ، كما يتعامى عن القواسم المشتركة العميقة بين أبناء الشعب ، فضلاً عن المنجزات التراكمية لثورة سبتمبر وأكتوبر وفبراير ونضال الشعب اليمني وحركته الوطنية على مدى أكثر من ستين عاماً . إنه، ببساطة يتغاضى عن الفعل الإنساني الخير والخلاق، الخالق للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إذ يبدو أن الدكتور نعمان قد قرأ التاريخ من زاوية مانوية ، Manichaeism ، حديِّة جامدة ، وليس جدلية. فمن جهة هناك الظلمة ومن جهة أخرى هناك النور اللذان لا يجتمعان. ووفقاً لهذه الرؤية المتحجرة فإن الشمال والجنوب نقيضان لا يلتقيان. وعليه فأن الدكتور نعمان، كما يرى البعض، يكون بهذا الموقف ، قد طلق المشاريع الوطنية الكبيرة ، وأصبح على وشك الولوج في "المشاريع الصغيرة"! ويترتب على هذه النظرة الحدية أن ليس هناك من أمل إذاً في إصلاح الوضع القائم ، كما يرى الدكتور نعمان، إلا بقيام دولة اتحادية من إقليمين : إقليم في الجنوب ، يشمل المساحة التي كانت تشغلها ، ما كان يُعرف في الماضي القريب ب "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية " ، وإقليم آخر في الشمال ، يشمل الرقعة الجغرافية التي كانت تشغلها ، ما كان يعرف ب "الجمهورية العربية اليمنية." هنا يكشف الدكتور نعمان عن ميوله الطيبة والمشوشة ، و يقترح ، كما يرى الطيبون ، مخرجاً من المأزق القائم. فالدولة الاتحادية من إقليمين ، كما يرى، هي المخرج الوحيد الممكن ، الذي لم يبق لليمن من مخرج غيره ، حيث يسعى الدكتور نعمان من خلاله للحفاظ على ما تبقى من وشائج القربى بين اليمنيين ، أو بالأحرى ، يحرص ، على حد تعبيره ، على وصول سمكة القرش سالمة إلى الشاطئ. إما الخبثاء ، ذوي الميول الخائبة ، فأنهم يرون أن الدكتور نعمان يقترح ذلك ، ليس لأنه لا يريد الانفصال الناجز كالسيد علي سالم البيض ، ولكن لأنه ليس مُغفلاً كالسيد علي سالم البيض . فهو ، على العكس من السيد البيض ، الرومانسي الحالم " يدرك ، إنَّ هدف الانفصال غير ممكن التحقيق دفعة واحدة ، ولكن يمكن الوصول إليه بطريقة متدرجة ، كما عمل جون قرنج ومن بعده سلفاكير في جنوب السودان. غير إنّ قطاعاً كبيراً من الشعب ، فضلاً عن قطاع واسع من اليسار اليمني ، وكاتب هذه السطور واحد منهم ، يرى إنَّ الفيدرالية ، سواء كانت ثنائية أو سداسية ، فأنها وصفة خائبة في ظروف اليمن ، وستقود إلى تفتيت الوطن ، خاصة في ظل ضعف الدولة المركزية ، وأن المعضلة القائمة اليوم لا تكمن في غياب الفيدرالية ، وإنما في ضعف الدولة الوطنية ، The weakness of the national state وغياب الدولة المركزية الحديثة ، القادرة على تطبيق القانون ، وصيانة السيادة الوطنية ، واجتثاث الفساد ، ومواجهة التطرف الديني ، وإزالة المظالم القائمة ، وتحقيق العدل وتفعيل العقل و تثبيت الاستقرار و السير باليمن نحو التقدم.
لكن يبدو أن هذا الخيار الوطني والعقلاني سقط ، قصداً أو سهواً ، في مؤتمر الحوار الوطني ، فانكفأت البديهيات الوطنية وتراجعت ، وركز المتحاورون جُل اهتمامهم على الأقلمة ، وتبنوا مخرجات شاذة كالفيدرالية ، التي لم تكن واردة في يوم من الأيام في أدبيات الحركة الوطنية اليمنية ، لا في الفكر السياسي الوطني ولا في الفكر السياسي العربي . ففي الإمارات ، مثلاً ، أتت الفيدرالية كتحصيل حاصل لتجميع الأمارات السابقة على قيام الدولة الجديدة عقب الاستقلال، وفي جنوب السودان ، ندرك ما أسفرت عنه الفيدرالية ، وما آل إليه الانفصال اليوم ، و في لبنان ، المتعدد الديانات و الثقافات والأعراق ، يرفضون الفيدرالية ، و ليس هناك من يتبني الفيدرالية في لبنان سوى سمير جعجع وقطاع ضئيل من القوى الانعزالية . وعلى أية حال ، ففي وطننا غير السعيد ، الخاضع لعبيد القوى الإمبريالية ، مرَّ مشروع الفيدرالية ولقي ترحيباً من "نزلاء الموفنبيك المنتفعين بالمآسي والمساهمين في صناعتها "، ولكن هناك من أعترض على "مشروع الإقليمين" ، لمصالحة الخاصة ، باقتراح "مشروع الأقاليم الستة،" وهؤلاء أرادوا أن يمنعوا الانزلاق إلى الهاوية ، ولكنهم وقعوا في هاوية أشد عمقاً . لم يسع أصحاب الأقاليم الستة لأن يحدِّو ويُعسّروا من التوجه نحو الانفصال أمام أصحاب مشروع الإقليمين فحسب ، ولكنهم ، في الأساس ، سعوا لتحقيق مصالحهم الطائفية والسياسية والاقتصادية المتميزة ، التي رأوا أنها لن تتحقق إلاَ من خلال الستة الأقاليم، وترتب على هذه الخطوة التكتيكية الماكرة ، تضييق الخناق على مشروع الإقليمين، ومضاعفة إخطار التفتت التي تحيق بالوطن. لقد رأى "أنصار الأقاليم الستةّ" إن وجود أقيلمين في الجنوب وأربعة في الشمال ، سيجعل انفصال الجنوب عن الشمال أمراً عسيراُ بعض الشيء . إذ أن كل إقليم من الأقاليم الستة ، ستنشأ له ، مع الزمن ، كينونة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة ومتميزة ، وستتعمق تلك الكينونة مع مرور الأيام ، وسيتطلب انفصال الجنوب عن الشمال وحدة إقليمي الجنوب ، الشرقي والغربي ، أولاً ، كشرط للانفصال عن الشمال. وسيكون أمام دعاة الانفصال مهمتين شاقتين :هما وحدة الجنوب ، و من ثم الانفصال عن الشمال. ولكن اندماج الإقليم الشرقي الغني ، ممثلاً بحضرموت ، وتوابعها ، مع الإقليم الغربي الفقير ، ممثلاً ، بعدن وتوابعه ، لن يكون سهلاً ، من وجهة نظرهم ، لأنه يتأسس على انقسام تاريخي بين المحميات الشرقية والغربية وعلى روابط قائمة أو قيد التشكل مع المحيط الإقليمي ، وبالتالي سيجعل انفصال الجنوب ، بشكله المعروف قبل 1990 ، عن الشمال أكثر صعوبة. غير أن ما غاب عن بال أنصار " الأقلمة" ، بشكلها الثنائي أو السداسي ، هو إنَّ الأقلمة ، في ظل الضعف البيِّن للدولة المركزية ، العاجزة حتى عن تنظيم حركة المرور في العاصمة صنعاء ، لن تكون مجرد هروب من "المركز المقدس" ، والسعي المحموم إلى تشكيل مراكز مقدسة متعددة ، هنا وهناك، فحسب ، ولكنها ستشكل نواة لدويلات جديدة متصارعة ، على أسس طائفية وقبلية وجهوية واقتصادية وسياسية ، وستحظى بعض الدويلات الفيدرالية الحدودية ، دعماً من قبل الدول الإقليمية توطئة لاحتوائها وضمها. وهكذا ستُمزق اليمن إلى أشلاء وستؤخذ من قبل الأقوياء ، سواء كانوا من الأقربين أو والأبعدين . “ وهنا لا بد من الإشارة إنَّ أطروحات الدكتور نعمان تقع بين الآمال الطيبة والأفكار الخائبة ، وتؤشر إلى دخولنا في المتاهة ، ونكون بذلك "كالمستجير من الرمضاء بالنار." وهنا يبدو إنَّ كتاب الدكتور نعمان " عبور المضيق" كان عبارة عن مرثية حزينة عشية ولوج اليمن في المتاهة! *ملاحظة: كُتبتْ هذه المقالة عقب انتهاء مؤتمر الحوار الوطني وقُبيل الحرب الأهلية ، المعززة بالعدوان الخارجي على اليمن ، وينشر هنا لأول مرة.
كاتب يمني مستقل.
#منذر_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نجاح السفير اليمني في لندن يؤرق القوى المتخلفة!
-
اليمن وضرورة فك الارتباط
-
الدوافع الحقيقية للمنسحبين من المجلس الوطني في اليمن
-
اليمن ومكر السياسة
-
تأملات في المشهد اليمني
المزيد.....
-
شركتا هوندا ونيسان تجريان محادثات اندماج.. ماذا نعلم للآن؟
-
تطورات هوية السجين الذي شهد فريق CNN إطلاق سراحه بسوريا.. مر
...
-
-إسرائيل تريد إقامة مستوطنات في مصر-.. الإعلام العبري يهاجم
...
-
كيف ستتغير الهجرة حول العالم في 2025؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي في عملية إطلاق ن
...
-
قاض أمريكي يرفض طلب ترامب إلغاء إدانته بتهمة الرشوة.. -ليس ك
...
-
الحرب بيومها الـ439: اشتعال النار في مستشفى كمال عدوان وسمو
...
-
زيلينسكي يشتكي من ضعف المساعدات الغربية وتأثيرها على نفسية ج
...
-
زاخاروفا: هناك أدلة على استخدام أوكرانيا ذخائر الفسفور الأبي
...
-
علييف: بوريل كان يمكن أن يكون وزير خارجية جيد في عهد الديكتا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|