عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1432 - 2006 / 1 / 16 - 10:25
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
اللجنة العليا للضباط الأحرار: (5-6)
{ وحدة المتكامل المتناقض }
في سياق التطور الكمي لكتلة القادة (بغداد) وتضاعف خلاياها قبل نهاية 1956 " إلى حدٍ شعر معه الضباط الأحرار بضرورة إيجاد شكل للعلاقة أكثر تنظيماً وتمركزاً. وبعد سلسلة من الإتصالات وعمليات جس النبظ تشكلت (لجنة عليا) ضمت الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب والعقيد الركن عبد الوهاب الأمين والعقيد الركن محسن حسين الحبيب والعقيد المتقاعد طاهر يحيى والمقدم المهندس رجب عبد المجيد والمقدم الركن عبد الكريم فرحان والمقدم وصفي طاهر والرئيس الأول الركن صبيح علي غالب والرئيس الأول الجوي المتقاعد محمد سبع... ومحتمل جداً أن تكون اللجنة قد عقدت إجتماعها الأول في شهر كانون الأول/ديسمبر من تلك السنة في بيت الرئيس أول الجوي المتقاعد محمد سبع في منطقة الأعظمية... وقبل أن ينفض الإجتماع وافقت اللجنة على إقتراح طرحه رجب عبد المجيد يتعلق بإعتبار رفعت الحاج سري واحداً من أعضاء اللجنة, ولكنه لم يتمكن أبداً من المشاركة في أعمال اللجنة نظراً للرقابة المشددة المفروضة عليه ". والحقيقة كان يرفض حضور إجتماعاتها لأسباب الزعامة الأنوية ولعدم إنسجامه مع بعض الإعضاء, كما مر بنا. كان هذا الإجتماع منصباً على كتلة القادة (بغداد) وليس اللجنة العليا التي أُضيف لها خمسة أعضاء اربعة منهم منذ مطلع عام 1957 والخامس في آيار 1958 وهو عبد الوهاب الشواف.
وفي إجتماع لقيادي كتلة القادة عقد بعد إسبوع (وقيل بعد أسبوعين) من الإجتماع الأول (كانون أول 1956), تم إنتخاب الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد, رئيساً لها ورجب عبد المجيد سكرتيراً. وقد تمت هذه العملية ضمن سياقات الأنظمة العسكرية ومراعاتها للرتبة والأقدمية بالإضافة إلى ما تميز به من إنضباطية عسكرية ورؤية سياسية واضحة ومن أقدمية في تأسيس حركة الضباط الأحرار حيث عمل على تجسيد صيرورة هذه الظاهرة منذ الحرب الفلسطينية الأولى ضمن قوام القادة الأرأسيون لها.
وقد تبنت اللجنة العليا جملة من القواعد التي تنظم عملها الداخلي, لكن لم نعثر على الكيفية التي كانت تتخذ فيها القرارات, هل بالأغلبية البسيطة أم بالثلثين أو بالإجماع ؟ وما دور الرئيس هنا في عملية الترجيح عند تعادل التصويت (إن وجد مثل هذا) وما هو دوره بصورة عامة ؟ وكيف كانت تدار النقاشات ؟ ومدى المركزية فيها ؟. إن الطبيعة السرية للعمل و إشتراطهم عدم الكتابة في أي ظرف كان.. كانا عاملان مهمان في أن تتعدد بل وتتضارب آراء أعضاء اللجنة العليا للكتلة حول هذه الإستفهامات, كما يتضح من مذكراتهم ومقالاتهم, التي تناقضت في الشكل والمضمون, وكانت النظرة الفردية والإسقاط الذاتوي على الوقائع بارزٌ فيها. وقد ذكر مؤلف موسوعة 14 تموز, أن مجموع إجتماعات اللجنة العليا التي " ترأس عبد الكريم قاسم هذا التكتل في عدد من الاجتماعات لا تتجاوز العشرة ... ", في حين يذكر رجب عبد المجيد: " أن اللجنة العليا بدأت تجتمع منذ تشرين الثاني 1956حتى يوم 10 تموز 1958, أي أنها اجتمعت 20 شهراً تقريباً, وكان الإتفاق الذي تم في إجتماعات اللجنة العليا هو أن تجتمع قدر الإمكان في كل نهاية إسبوع, وإذا تعذر ذلك نجتمع بين إسبوع وإسبوع. عقدت اللجنة العليا خلال هذه الفترة ما لا يقل عن أربعين إجتماعاً, أي أنها إجتمعت مرتين في الشهر وبكامل أعضائها. أما الاجتماع الذي عقد في مشتمل الكاظمية فهو الوحيد الذي حضره أربعة أعضاء وقد إنكشفوا في اليوم التالي. كنت بطبيعة عملي...أجتمع أيضاً بجبهة الإتحاد الوطني و بممثل جبهة إتحاد الوطني وهو صديق شنشل وأجتمع كذلك برؤساء الخلايا االمرتبطين بي ".
يبدو من النص أن رجب عبد المجيد قد جمع عند الحساب كل إجتماعات لجنة القادة (بغداد) مع إجتماعات اللجنة العليا للضباط الأحرار, بعد دمج كتلتي المنصورية والقادة, والتي كان معدل إجتماعاتها مرة بالشهر تقريباً. في وقت كانت أكثر الإجتماعات تضم الأغلبية وليس كامل أعضاء اللجنة العليا كما دللت على ذلك الوقائع, نتيجة للظروف الحسية والأمنية التي تتحكم في عملهم لحدٍ بعيد. ويبدو أن اللقاءات الاجتماعية الإعتيادية بحكم المهنة في نهاية كل اسبوع وما يدور فيها من أحاديث تخص غائيتهم السرية, إعتبرها رجب ضمن إجتماعات اللجنة العليا لكتلة القادة. كما يحاول رجب إضفاء الكثير من الهالة والأهمية لذاته كسكرتير ولعمل الكتلة. كما يلاحظ أن النص يتناقض مع ما ذكر من وقائع تاريخية, إذ, كما ذكر البعض, كان المفروض أن يجتمع قاسم مع بعض قادة كتلة القادة في مشتمل بالكاظمية, كما مر بنا, ترى هل كان قاسم ضمن قوام كتلة القادة قبل تأسيس لجنتها القيادية, وهذا ما أشار إليه بطاطو بالإستناد لمذكرات رجب نفسه؟ وإذا كان نعم لماذا لم يورد إسمه إلا لاحقا بعد دمج كتلته بكتلة القادة؟.أم أن هذه الكتلة كما يلاحظ قد تأسست بدون مقدمات سابقة وتجسدت بفضل رجب وحده دون غيره, ولم لا يعرف دور محي الدين عبد الحميد وإسماعيل العارف والأمين وسري وغيرهم؟. يبدو أن هناك ضبابية وهلامية في طبيعة العلاقة بين القادة الرئيسيين لكتل الضباط الأحرار كما اوردوها في مذكراتهم من جهة, ومن جهة ثانية يعزز الإستنتاج الذي ذكرناه سابقاً والمتمحور حول إنتشار الإنتمائية الثنائية للضباط والتداخل بين هذه الكتل.
لقد إندمجت كتلة المنصورية, من خلال عبد الكريم قاسم إلى كتلة القادة (بغداد), في مطلع عام 1957, لكنه لم يكشف عن مكونات وطبيعة كتلته وشخوص قادتها, بحكم سرية العمل وطبيعة التنظيم الخلوي التي كان سائداً فيها, وما فرضته ظروف عملهم. أما كيفية إنضمامه وآليتها فقد كانت بمبادرة من اللجنة العليا التي خلال أحد إجتماعاتها "... في أوائل عام 1957, إستعرضنا أسماء بعض الضباط الذين كان من المفيد ضمهم إلى الحركة وخاصةً آمري الوحدات والتشكيلات منهم, وكان من جملة الضباط الذين تردّدت أسماؤهم الزعيم الركن (العميد)عبد الكريم قاسم (آمر لواء مشاة في المنصور)... وبعض الضباط الآخرين... ولذلك عهدنا إلى محيي حميد (المقصود محي الدين عبد الحميد-ع.ن) بمفاتحة ناظم الطبقجلي لمعرفته الوثيقة به (صبيح علي غالب, يقول كما مر بنا, أنهم كلفوه بمفاتحة الطبقجلي-ع.ن), وتعهد المقدم رجب بمفاتحة عبد العزيز العقيلي, أما عبد الكريم قاسم فتعهد وصفي طاهر بمفاتحته.
بعد بضعة أيام أخبرنا وصفي بأنه فاتح عبد الكريم قاسم بالموضوع وأنه طلب أن يجتمع بأحدنا قبل أن يعطي جوابه النهائي بذلك. وفي أحد الأيام من شهر آذار1957 أخبرنا ناجي طالب بأن عبد الكريم قاسم طلب الإجتماع به على إنفراد, وإن هذا الطلب نقل إليه بواسطة وصفي طاهر, فوافقنا على ذلك وجرى الإجتماع بينهما في دار عبد الكريم قاسم في منطقة العلوية ببغداد, وفي اليوم التالي أخبرنا ناجي بأن عبد الكريم قاسم متفق معنا في الفكرة وأنه يرغب في الإنضمام إلينا فوافقنا على ذلك, مع العلم بأن الكلام والمشاورات دارت حول إنضمام عبد الكريم بمفرده إذ لم يكن لديه تنظيم مرتبط به كما إدعى البعض... ".( التوكيد منا-ع.ن.) لكننا لم نعثر على ما يؤيد الرأي النافي لوجود كتلة لدى قاسم, لدى بقية الأعضاء, ولا عند الكم الأغلب من الباحثين, الذين يؤكدون أن هنالك كتلة المنصورية برئاسة عبد الكريم قاسم . كما إن قبول ضابط معين في اللجنة العليا يتم, بحكم سرية التنظيم, بمفرده إذ يبقى محافظاً على عدم كشف أعضاء تنظيمه وهذا ما سارت عليه كل الكتل, وأمست إحدى قواعد العمل لدى اللجنة العليا,وهو ما أشار إليه رجب عبد المجيد, وعلى ذات الإسلوب سلك قاسم فلم يبح للجنة العليا بما لديه من تنظيم ولا مكوناته وشخوصه. لأنه " وبعد أن عرفت اللجنة بوجود تنظيم المنصور(ية) تدارست إمكانية توحيد التنظيمين, وقررت, بعد مناقشات طويلة, مفاتحة تنظيم المنصور لتوحيد التنظيمين... ويمكن إرجاع أسباب دمج التنظيمين إلى ما يلي:
1- توحيد العمل الجدي للإسراع بقيام الثورة ووضع الخطط اللازمة لذلك؛
2- زيادة قوة وحجم تنظيم الضباط الأحرار ومنع المنافسة بينهما؛
3- سرية العمل وعدم إفساح المجال لتسرب أنباء التنظيم إلى السلطة؛
4- الإستفادة من أكبر عدد من الوحدات العسكرية الفعالة التي يسطير عليها الضباط الأحرار ... "؛
5- الإستفادة القصوى من هالة الكارزما (الصمدانية) التي تحيط بشخصية قاسم ومن سمعته في أوساط ضباط الجيش.
وبعد إندماج الكتلتين الأرأسيتين في حركة الضباط الأحرار, " وفي إحدى الإجتماعات التي جرت في نيسان 1957 طرح على بساط البحث موضوع القيادة, فكان هناك إقتراحان بهذا الصدد أحدهما القيادة الجماعية والآخر القيادة الرئاسية, وبعد مناقشة الإقتراحين تمت الموافقة على تكوين قيادة رئاسية لتنظيم الحركة بصورة مركزية ورشحت اللجنة ثلاثة أسماء للقيادة هم: عبد الكريم قاسم والعقيد محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب, أجري التصويت فإنتخب عبد الكريم قاسم بالإقتراع رئيساً لها للجنة... وإنتخب العقيد الركن محي الدين عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب نائبين للرئيس والعقيد المهندس رجب عبد المجيد سكرتيراً للجنة العليا... ".
ويصف سكرتير اللجنة, بعد أكثر من ربع قرن وبلغة مضخمة مناهضة لقاسم, دواعي وظروف الإنتخاب بالشكل التالي:
" في رأي إن الرئاسة يجب أن تعطى إلى أكفءِ ضابط لأننا نقوم بعمل سياسي وليس عسكرياً والأخوان جميعاً على الإطلاق كانوا يؤمنون بهذا المبدأ وهو أن العمل ولو أنه سياسي فالقدم العسكري يجب أن يبقى متحكماً وقد كنت على خلاف ذلك, فالعمل السياسي شيء والعسكري شيء آخر, ثم أن هذا العمل يحتاج إلى كفاءة وليس هو قضية عسكرية فقط, فالأخ محي أصر على عقد إجتماع لإختيار رئيس جديد وفعلاً إجتمعنا في بستنان في الجادرية يعود إلى عم زوجتي , ولم يحضر هذا الإجتماع عبد الكريم قاسم أو عبد السلام عارف.
كان الأخ محي أول من تحدث وقال: أتنازل عن هذا المركز, أي الرئاسة, إلى عبد الكريم قاسم لأنه أقدم مني. وفي الإجتماع قلت معترضاً: لا أوافق على هذا فالأمر يجب أن يتم بالإقتراع السري ليتم إختيار الشخص الكفوء. وعند إجراء عملية الإقتراع السري, ظهر إسم عبد الكريم قاسم ولم أقبل به وحدي. وأصبح عبد الكريم رئيساً. رغم أنه لم يكن حاضراً في الإجتماع, فنكران الذات كان متجلياً لدينا, فالأخ محي أنكر ذاته والكل أيد ذلك, وأخذ عبد الكريم قاسم يترأس الإجتماعات... "( التوكيد منا-ع.ن).
كانت اللجنة التي صوتت في حينها, تضم كل من: محي الدين عبد الحميد؛ ناجي طالب؛ عبد الوهاب الأمين؛ محسن حسين الحبيب؛ طاهر يحيى؛ رجب عبد المجيد؛ عبد الكريم فرحان؛ وصفي طاهر؛ صبيح علي غالب ومحمد سبع. وسميت اللجنة بإسم اللجنة العليا للضباط الأحرار. لقد تم إنتخاب قاسم بشبه إجماع كلي (9 ضد 1), ليس لأنه أقدم ضابط في اللجنة وأعلاهم رتبة حسب, بل يقف خلف ذلك, كما أرى, جملة من العوامل هي:
- ذو كفاءة عسكرية وشهادة عليا- ركن وخريج دورة القادة الاستراتجيين؛
- كان يتولي وحدة عسكرية ضاربة؛
- كان يتزعم واحدة من أكبر كتل الضباط الأحرار؛
- كان الأكثر نضجاً بين القادة العسكريين وشخصية محورية؛
- كان من المساهمين الأوائل في تاريخ الحركة؛
- كان يحظى بإحترام بين صفوف الضباط لسجله العسكري النظيف؛
- لم تلوثه المغريات المادية ولم يستغل مناصبه وبعيدا عن الزهو والخيلاء؛
- له ثقافة سياسية فكرية واسعة ومتابعة متواصلة لهما؛
- كان أحد أنشط ضباط الحركة ومساهم عضوي فعال في نشاطاتها؛
- لعبت خلفية شخصيته وسمعته في حرب فلسطين دوراً مهماً في إنتخابه.
هذا الإنتخاب لقاسم عمق, في الوقت نفسه, تفشي ظاهرة عدم الإرتياح والحساسية بين الضباط الأرأسيون في اللجنة العليا وخاصةً كلٌ من: رجب عبد المجيد ورفعت الحاج سري وبقية الضباط المتعاطفين معهم, ولم يُفهم موضوعياً موقفهم منه وهو الذي "... حتى قيام ثورة 14 تموز لم يُقدم دليل على إخلال قاسم بضوابط العمل السري في الهيئة العليا رغم حصول بعض الإختلافات بينه وبين البعض, فهذا ليس دليلاً على خرقه لأسس العمل فإن إختلافات أخرى إندلعت بين أعضاء لم يكن قاسماً طرفاً فيها. كذلك ليس هناك دليل على إنعدام حسه الوطني وشعوره بالمسؤولية تجاه الوطن ونيته الشريفة الخالصة للعمل من أجل تقويض النظام... وكانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أحق بالقيادة وبالتالي بتقرير الأمور ويرتكز هذا المفهوم في إعتقادنا على أن رفعت وهو (الشيخ), كما يطلق عليه بين أوساط الضباط الأحرار- كان يرى في نفسه المرشح الوحيد لرئاسة التنظيم, رغم انه لم يصرح بذلك أبداً بسبب أسبقيته في التنظيم ويرى في إنتخاب قاسم أو غيره جحوداً وأنانية فردية ". (التوكيد من ع.ن)
وبعد إنضمام قاسم وإداء القسم, أحضر معه عبد السلام عارف إلى الإجتماع التالي للجنة, دون إعلام مسبق لبقية أعضاءها, خلافاً لقواعد العمل المتبعة التي كانت تنص على عدم ضم أي ضابط كمرشح في التنظيم دون أخذ آراء وموافقة كافة الأعضاء مسبقاً بعد تزكيته. هذا الفعلة, إعتماداً على أقوال أعضاء اللجنة العليا, قد اثارت الإمتعاض لدى الكثير منهم, وأذكت سعير الخلاف بينهم, لكنهم قبلوا بها مرغمين بعد أن أصبحوا أمام الأمر الواقع, وإلتمسوا العذر لأنفسهم بالتبرير الذي قدمه قاسم على أنه يزكي عارف وهو " معنا في التنظيم وهو يعرف كل شيء ".
لم نجد, أي مسوغ لعمل الزعيم قاسم, إذ لم تذكر هذه المصادر ماهي وجهة نظره وكيف تم تداولها داخل اللجنة العليا ؟ كما لم نعرف ما هي الظروف الحسية التي سادت بين أعضائها والتي دفعت به للقيام بذلك ؟ وتأسيساً على ذلك أرى أنه (ربما) أنطلق من ذاته في ترسيخ موقعه داخل الهيئة؛ أو أنه أنطلق من حقه كرئيس لللجنة؛ وربما على أساس أن عارف معروف من قبل العديد من الأعضاء؛ و(يحتمل) أن قاسم قد أجرى مناقشات جانبية مع بعضهم وحبذوا ذلك وممن هم في كتلة المنصورية مثل طاهر يحيى وعبد الرحمن عارف, أو أولئك القريبين منه فكرياً كمحي الدين عبد الحميد ووصفي طاهر وعبد الوهاب الأمين. وربما, وهذا محتمل جداً, أن قاسم فعل ذلك لأنه "...لم يتقيد أعضاء التنظيم بإسلوب التزكية فبعد فترة أخذ كل عضو يفاتح على هواه دون الرجوع للمراجع العليا في التنظيم, فأصيب التنظيم بالتخمة غير المنتقاة بصورة جيدة وبالفوضى خاصةً قبيل إندلاع الثورة ", وبغض النظر عن مسببات ذلك فإن هذه الفعلة من الزعيم قاسم قد عمقت من الحساسيات السائدة بين أعضاء اللجنة العليا.
لم نعرف على وجه الدقة متى إنتمى العقيد عبد الرحمن عارف, إذ أنه لم يحدد ذلك بدقة, فهل كان ذلك قبل إنتماء قاسم وعبد السلام أم بعدهما؟ " جاءني الأخ محمد سبع سنة 1957 وذكر لي أن هناك تنظيماً للضباط الأحرار أخذ على عاتقه الإطاحة بالنظام الملكي وعرض عليَّ الإنضمام وضرورة زيارته... وزرته في الوقت المعين الذي إتفقت معه... ".
أما بصدد قواعد العمل قد تبنت شفوياً اللجنة العليا, مجموع قواعد نصت في جوهرها على أن:
" أ- عضوية حركة الضباط الأحرار:
1- تقتصر العضوية على ضباط الجيش؛
2- وتنكر العضوية على الضباط الذين يشكّ بإخلاصهم للوطن أو ذوي الأخلاق الداعية للتساؤل؛
3- لا يضم أي ضابط إلى العضوية إلا بتزكية أثنيين من الضباط الأحرار وموافقة اللجنة العليا؛
4- يفضل الضباط العاملون في وحدات الجيش الفاعلة على الضباط الآخرين
ب- تنظيم الخلايا:
1- توضع كل خلية بإشراف مُنظم وتتألف من أربعة ضباط فقط؛
2- على كل عضو خلية أن ينظم خلية جديدة؛
3- لا يمكن لأي عضو خلية أصلية أن يقبل أي ضابط في الخلية الفرعية إلا بعد الحصول على موافقة رئيس الخلية الأصلية وأحد أعضاءها ومصادقة اللجنة العليا؛
4- على مسؤول الخلية الفرعية ألا يكشف لأعضاء هذه الخلية أو لآخرين ومهما كانت الظروف, أسماء خليته الأصلية؛
ج- اللجنة العليا:
1- تتألف اللجنة العليا من ثلاثة خلايا, وتتألف كل من هذه الخلايا من أربعة ضباط فقط؛
2- يكون كل من أعضاء اللجنة العليا مسؤولاً عن تنظيم ما لا يزيد عن ثلاثة خلايا
3- لا يضم أحد إلى خلايا اللجنة العليا إلا بموافقة جميع أعضاء اللجنة؛
4- على اللجنة العليا أن تشكل اللجان الفرعية التالية من بين أعضائها:
أ- لجنة عسكرية من ثلاثة ضباط تدرس الوضع العسكري وتضع الخطط اللازمة لتنفيذ الثورة؛
ب- لجنة سياسية اقتصادية من ثلاثة ضباط تقَّيم الأوضاع السياسية المحلية والدولية وتجمع المعلومات الهامة التي يمكنها أن تسهم في حل المشكلات السياسية والاقتصادية التي قد تظهر عند قيام الثورة؛
ج- لجنة تعاونية من ثلاثة ضباط تجمع التبرعات من الضباط الأحرار لصالح إخوانهم الذين قد يصابون بالأذى.
5- يكون كل أعضاء اللجنة العليا مسؤولين عن الحصول على معلومات عن أعداء الضباط الأحرار وقوتهم في الجيش والشرطة, وعن عملاء السفارات والخدم الآخرين للإمبريالية وللسلطات الحاكمة… ".
ومن الملاحظ عدم توفر أدلة مادية على أن هذه اللجان مارست عملها فعلياً بهذا الشكل المطروح, ومما يؤكد ذلك ما أورده ليث الزبيدي من خلال مقابلاته للمعنيين بالأمر بما فيهم رجب عبد المجيد حيث يذكر أن اللجان المعنية تألفت من :
" لجنة الخطط وتضم العقيد الركن محي عبد الحميد والعقيد الركن ناجي طالب والعقيد الركن عبد الوهاب الأمين والعقيد الركن محسن حسين الحبيب؛
لجنة الدعاية والتنظيم وتضم المقدم الركن عبد الكريم فرحان والمقدم الركن صبيح علي غالب والعقيد المهندس رجب عبد المجيد؛
لجنة جمع المعلومات وتضم الرئيس الأول الطيار المتقاعد محمد سبع والمقدم رفعت الحاج سري والمقدم وصفي طاهر؛
لجنة المالية وتضم العقيد الركن محي الدين عبد الحميد و العقيد الركن محسن حسين الحبيب. وكانت هذه اللجان تجتمع حسب إختصاصاتها وبعدها تطرح الإقتراحات عند إجتماع اللجنة العليا بكامل أعضائها, وكان هذا الأسلوب يحافظ على سرية الإجتماعات والتنظيم ".
وعند تحليل طبيعية وقوام لجان اللجنة العليا وقواعد عملها فإننا نرى أن هذه الأسماء غير كاملة إذ يشير محسن حسين الحبيب في الذاكرة التاريخية (ص. 217), إلى أن عبد الكريم قاسم كان عضواً في لجنة التخطيط, ولم نفهم سبب عدم ذكره ضمن قوام اللجنة أعلاه, وهل هذا يسري على ضباط آخرين؟ ولماذا يساهم محي الدين والحبيب في لجنتين في الوقت الذي يوجد فيه عدد آخر من أعضاء اللجنة العليا بدون مهام ؟ ثم أن ورود أسم رفعت في لجنة جمع المعلومات وهو الذي لم يعترف صراحةً وضمناً باللجنة العليا ولم يعمل معها.. كلها عوامل تضع شكوك حول مصداقية توزيع المهام وجديته. كما لم يشر الضباط الأحرار في مذكراتهم إلى نشاط هذه اللجان الفعلي وما تم إنجازه وما لم يتم من قبلها, قدر تناولهم الشفهي لنشاطهم العام ضمن سياقات التوتر والتنافس. كما كان بعض أعضاء اللجنة العليا يخدم في مناطق خارج بغداد أو نائية أو على الحدود الأردنية أو السورية ونزولهم في الإجازات كان يتم في فترات متباعدة, مما يكبح من إمكانية الإجتماع الدوري المنتظم لكامل الأعضاء ويُفَعِل عمل هذه اللجان. كما قد أفصحت محاولات قلب نظام الحكم الثلاثة السابقة لثورة 1958,إنعدام مساهمة لجنة الخطط فيها, بل كانت معارضةً لبعضها, وينطبق ذات الأمر بالنسبة لخطة الثورة نفسها التي وضعها قاسم نفسه ونفذها بمعية عارف وبعض الضباط, من خارج اللوائين العشرين والتاسع عشر, المتواجدين في بغداد.
ومن جهة ثانية يلاحظ إن الهرم التنظيم للجنة العليا كان يقوم على أساس العلاقة الخلوية (وليس الخيطية/ الفردية), ويحمل أوجه شبه معينة بهيكلية الأحزاب السرية وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي وربما قد أقتبس ذلك منه. إذ كان كل ضابط مسؤول عن خلية يتراوح عدد أعضاءها على العموم ما بين 3-5 ضباط.
أما بصدد قوام اللجنة العليا للضباط الأحرار فقد تطورت بالأساس من كتلة القادة وتوسعت رويدا رويدا, لتضم ضباطاً برتب عالية ذوي توجهات فكرية/ فلسفية متباينة. وجاءها التوسع الكبير بعد عملية الاندماج مع كتلة المنصورية ومن ثم إنضمام قاسم ومن ثم عارف إليها. وعليه فقد كان قوامها يتكون عشية الثورة كما يوضحها الجدول أدناه.
جدول يوضح قوام اللجنة العليا للضباط الأحرار حسب رتبهم العسكرية وإصولهم
الاجتماعية والفكرية عشية ثورة 14 تموز 1958
الإسم والرتبة تاريخ ومكان الولادة الأصل الاجتماعي الإنتماء الفكري
الزعيم الركن عبد الكريم قاسم
الرئيس 1914 بغداد الفئات الوسطى الدنيا/ نجار يميل للحزب الوطني الديمقراطي
الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد
/ نائب أول للرئيس 1914 بغداد ضابط في الجيش العثماني يميل للحزب الوطني الديمقراطي
الزعيم الركن ناجي طالب/ نائب ثاني للرئيس 1917 ناصرية ملاك أراضي مستقل قومي النزعة
العقيد المهندس رجب عبد المجيد/ سكرتير اللجنة 1921 عانه تاجر أغنام مستقل قومي النزعة
العقيد الركن عبد الوهاب الأمين 1918 بغداد ملاك أراضي صغير يميل للوطني الديمقراطي
العقيد الركن محسن حسين الحبيب 1916 الشطرة ملاك أراضي صغير مستقل قومي النزعة
العقيد الركن عبد السلام عارف 1921 بغداد تاجر صغير قومي ذو نزعة إسلامية
العقيد طاهر يحيى 1914 بغداد تاجر حبوب ذو نزعة قومية
العقيد عبد الرحمن عارف 1916بغداد تاجر صغير قومي ذو نزعة إسلامية
العقيد المتقاعد رفعت الحاج سري 1917 بغداد ضابط عثماني قومي ذو نزعة إسلامية
المقدم الركن عبد الكريم فرحان 1919 الصويرة
ملاك صغير ذو نزعة قومية
المقدم الركن عبد الوهاب الشواف 1916بغداد ملاك قاضي شرع وطني ذو نزعة يسارية
المقدم وصفي طاهر 1918 بغداد ضابط عثماني وطني ذو نزعة يسارية
المقدم الركن صبيح علي غالب 1920 بغداد موظف حكومي وطني ذو نزعة وطنية
رئيس أول طيار متقاعد محمد سبع 1916 بغداد ضابط عثماني ذو نزعة قومية
المصدر: إعتمدنا على حنا بطاطو في تكوين هذا الجدول, راجع, ج.3, ص. 90, مصدر سابق.
ملاحظات عامة مركزة على اللجنة العليا :
- جُمدت عضوية وصفي طاهر في حزيران 1958, وإنضم إلى كتلة (11مايس 1958).
- أُلحق عبد الوهاب الشواف باللجنة بعد محاولة11 مايس 1958 إرضاءً لطموحه.
- كانت أعمار أعضاء اللجنة تراوحت بين 37-44 عاماً. و11منهم أعمارهم بين 40-44.
- أغلب أعضاء اللجنة من أصول عربية (13: 15) اي بنسبة 87%
- أغلب الأعضاء ولدوا في مدينة بغداد (11: 15) أي بنسبه 73%
- أغلب الأعضاء قد أكملوا كلية الأركان (9 :15) أي بنسبة 60%
- 5 منهم أكملوا دراسته العسكرية العليا في إنكلترة (5: 15) أي بنسبة 33%
- 4 منهم كانوا من عوائل ذو أصول عسكرية (4: 15) أي بنسبة 27%
- 5 منهم من عوائل مالكة للأراضي (كبيرة وصغيرة) (5: 15) أي بنسبة 33%
- 4 منهم من عوائل تجارية (كبيرة وصغيرة) (4: 15) أي بنسبة 27%
- الباقين أحدهم من أصول مهنية والآخر من موظف بسيط (2: 15) أي بنسبة 13%
- جميعهم خريجي المدرسة العسكرية العراقية (15: 15) أي بنسبة 100%
- جميعهم أنتسبوا للكلية العسكرية ما بعد 1932 (15: 15) أي بنسبة100%
- 12 عضوا إنضمموا إلى اللجنة قبل 1956 (12: 15) أي بنسبة80%
- 3 أعضاء إنضموا إلى اللجنة بعد عام 1956 (3: 15) أي بنسبة 20%
- جميعهم من المسلمين (15:15) أي بنسبة 100%
- تراوحت رتبهم العسكرية بين مقدم وزعيم ركن.
- جميعهم كانوا في الخدمة الفعلية يوم الثورة بإستثناء رفعت سري ومحمد سبع وطاهر يحيى
- أغلبهم كانوا من حيث الإحتراف المهني على مستوى جيد فما فوق.
- أغلب الأعضاء سبق لهم وإن مارسوا الفعل السياسي في شبابهم.
- لعبت الرابط الصداقية بينهم دوراً مهماً في الإنتساب يفوق دور الروابط الفكرية والسياسية.
- كان جميع الأعضاء غير منتمين لأي حزب سياسي كان, آنذاك على الأقل.
- كان البعض منهم متأثراً بأفكارحزب الوطني الديمقراطي والإستقلال والشيوعي
- وكان جامعهم المشترك منصب على عملية التغيير الجذري و إسقاط النظام الملكي.
أهداف اللجنة العليا :
من مميزات حركة الضباط الأحرار منذ مطلع الخمسينيات في العراق, وجود غائية عامة مستهدفة, مقارنةً بتلك التكتلات التي سبقت حرب فلسطين الأولى, وهذا ما ميزها, في الوقت نفسه عن الحركات الانقلابية التي سادت آنذاك في عموم المشرق العربي. ولكن يكتنف هذه الغائية الكثير من الغموض والتشوش للتصورات المتبناة والمستهدفة إستناداً إلى ما عرضه الضباط الأحرار أنفسهم. هذا الغموض مستنبط من خلفياتهم الاجتماعية ومساحات التباعد النفسي بينهم وفضاءاتهم الفكرية المتباينة التي إتسمت بالتناقض بل وحتى التناحر في بعض مفاصلها, رغم أن جامعها الأرأس تجسد في البعد السياسي المتمثل بإسقاط النظام الملكي, حيث رأوا فيه إستنزافه لذاته وفقدانه مبررات وجوده الدستوري والسياسي وتخلف وضيق قاعدته الاجتماعية.
وعند العودة إلى البحث في ماهيات برامج كتل ضباط الأحرار, سنصل إلى مدى واقعية الإستنتاج أعلاه. إذ لم يُعثر على برنامج موحد متفق عليه بين هذه الكتل, بل حتى عند أعضاء اللجنة العليا, إذ إنهم لم يدونوا برنامجاً مكتوباً لغائيتهم المستهدفة, بل تمت مناقشات عامة شفهية لبعض الأهداف المرجوة والتي صُيغت من خلال إستنطاق الحدث اللاحق الذي تزامن مع الأمنية الآنية. لذا أصبحت أهداف الحركة موضع جدل بين قادة اللجنة العليا والكتل المتحورة حولها والقريبة منها. وينفرد محسن حسين الحبيب, وإلى حدٍ ما عبد الوهاب الأمين, في نشر برنامج متكامل كُتِبَ بعد ربع قرن من قيام الثورة وهدوء النفوس الجامحة وإنكماش الفكرة الانقلابية والإحباط الذي أنتشر بعد فشل المشروع الفكري السياسي الذي حاربوا قاسم به. لقد حدد الحبيب حسب قراءته ما يقارب من عشرين هدفاً ضمتها ثلاثة مستويات هي:
1- الداخلية: إلغاء النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري؛ القضاء على الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين؛ إسترداد حقوق العراق النفطية وإقامة صناعة نفطية عراقية؛ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير الإقتصاد من التبعية؛ تحقيق الوحدة الوطنية والحل العادل للقضية الكردية؛ تضييق الفوارق الإجتماعية وتأمين العدالة الاجتماعية.
2- العربية: الخروج من الإتحاد الهاشمي؛ التقارب الوثيق مع الجمهورية العربية المتحدة والدول العربية المتحررة؛ إسناد الشعب الفلسطيني في إستعادة أرضه؛ الوحدة العربية هدف مصيري يجب السعي لتحقيقها على مراحل, إلا إذا تعرض العراق إلى غزو خارجي يستهدف إعادة النظام الملكي, حينئذ يمكن المناداة بالوحدة الفورية مع ج.ع.م.
3- الدولية: الخروج من حلف بغداد؛ إزالة السيطرة البريطانية على القواعد العسكريةفي العراق؛ إتباع سياسة الحياد الإيجابي؛ إقامة علاقات مع الدول الإشتراكية؛ سياسة العراق الخارجية تبنى على أساس الإحترام المتبادل والمصلحة المشتركة. هذا البرنامج يطبق من خلال تأليف: مجلس قيادة الثورة من أعضاء اللجنة العليا والذي هو بمثابة السلطة التشريعية: ومجلس وزراء أغلبه من المدنيين؛ ومجلس سيادة يقوم مقام رئيس الجمهورية؛ وتحديد فترة إنتقالية يشرع بعدها الدستور الدائم .
هذا الطرح للإهداف يضع الباحث في محل إستفهامات وتساؤلات عن مدى مصداقية هذا البرنامج شبه المتكامل للجنة العليا, في وقت كان ضباط المؤسسة العسكرية يعانون من ضعف في مقوماتهم الفكرية والسياسية, علاوةً على كون البرنامج كان أرقى مما سطرته القوى السياسية المؤتلفة بجبهة الإتحاد الوطني آنذاك, في برنامجها المستهدف ذو النقاط الخمس , من حيث:
- الشمولية والسعة؛
- في المدى الآني والمستقبلي؛
- بصدد المضامين الاجتماعية والسياسية؛
- والتحالفت الإقليمية والدولية؛
- طبيعة النظام السياسي؛
- وآلية تداول السلطة.
وإزاء هذه الحالة وشفوية ما تردد على ألسن الضباط الأحرار التي دللت على عدم إتفاقهم على ماهية برنامجهم, لا يسعنا سوى التأمل في ما طرحه الحبيب من برنامج والقول أن فيه: تضخيم كبير للذات المهنوية للضباط؛ وللإيحاء بكونهم قادرون على إستعادة مكانتهم و(دورهم التاريخي) في السلطة ولهم الأولوية في إدارتها, ليس لكونهم يتصرفون بوسائل العنف المادي حسب, بل (لمشروعهم التنموي !!) ذات الأبعاد الشاملة للمعضلات الاجتصادية/السياسية والثقافية. وهذا ما يتبين من تبنيهم لمشروع نهضوي لم يأخذوا رأي الشعب فيه, كما ليس من حق بعضهم أن يسطروا مبادئ معينة ويدعون إنها تمثل رأي الكل, خاصةً في غياب القادة الكبار أو صمتهم المكره. في وقت بدأت المهنوية العسكرية إستيعاب ذاتها وإستنهاضها بعد ما أصابها من تحلل في أعقاب فشل حركة مايس 1941, وبالتالي لم يكن في وسعها أن تطرح مثل هذا البرنامج الواسع الشامل لأغلب المعضلات الاجتصادية/السياسية التي كان يعاني منها المجتمع العراقي, وعلى الأقل, لدى العديد من أعضاء اللجنة العليا.
أن هذا التعدد الكبير للأهداف, كما جاءت في مذكرات الحبيب, توحي بأنها مستوحاة مما طبقته حكومة تموز/قاسم في عمرها القصير (الجمهورية الأولى1666 يوماً),وبالتالي يحاول الحبيب الإيحاء بأنها كانت من بنات أفكار اللجنة العليا وليس قاسم, الذي نفذ أغلبها المطلق, بما يقارب 85% من مجموع الأهداف المذكورة ؛ أو أن الحبيب, وبصورةٍ لا شعورية, أراد بذكرها بهذا الشكل, إدانة كل الذين خرجوا على قاسم من الضباط الأحرار وغيرهم, وهو من أولهم, وإستلموا السلطة من بعده ولم يستكملوا بقية الأهداف غير المنجزة والتي مثلت منطلق محاربتهم لقاسم, والمتمثلة في :
- عدم إستكمال المشوار بالنسبة لحل القضية القومية وبالأخص الكردية منها؛
- عدم تشكيل مجلس قيادة الثورة؛
- عدم تحديد نهاية فترة الإنتقال وتشريع الدستور الدائم.
كما يلاحظ على الأهداف التي سطرها الحبيب, أنها تتعارض مع معتقدات أغلب أعضاء اللجنة العليا وكذلك ضباط بعض الكتل ذات التوجه القومي أو تلك ذات الولاءات الدنيا, الذين لم يستطعوا الخروج من محيطهم الضيق, والذين لم يملكوا الرؤية الكلية ولا الترابط الجدلي بين الأهداف الداخلية والعربية والدولية. . يبدو أن الحكم على قاسم من قبل البعض في اللجنة العليا وغيرهم, بكونه إنحرف عن الثورة لا مجال لطرحه, وكان قاسياً وغير عادلاً. التساؤل هنا هل أستطاع الناقدون لقاسم إستكمال غير المنفذ من الأهداف وخاصةً ما يتعلق بالوحدة العربية التي كثرت إتهامهم لقاسم بعدم تنفيذها ؟ سندع لسان التاريخ الاجتماعي ينطق, والضرورة الموضوعية توضح مدى التطابق بين هذا الهدف والواقع المادي المعاش آنذاك!!.
إني أميل إلى أن ما سطره الحبيب من أهداف مستقاة مما نفذته حكومة قاسم من برامج عملية على كافة الأصعدة الداخلية والخارجية, وفي المناحي الاجتصادية والسياسية وما أعلنت عنه من مشاريع مستقبلية ونادت به من مبادئ يسترشد بها, ليس كأبعاد نظرية مجردة قدر كونها برامج عملية نفذت فعلاً وأحدثت إنعطافاً في بنية وتركيبة الواقع الاجتصادي السياسي العراقي.
وسار على هذا النهج عبد الوهاب الأمين في مخطوط مذكراته, حيث يشير " إلى وجود ميثاق وطني يشتمل على المبادئ الجوهرية وعلى المقررات التي أقرها الأربعة عشر ضابطاً دون قيد أو شرط والتي أقسموا اليمين على التقيد بها... ". وهذا الميثاق لا يخرج في محتوياته العامة عما ذكره الحبيب, إلا في التفاصيل والجزئيات و فهم ذاتية المتلقي من ضباط اللجنة العليا وسعة إدراكه المعرفي للموضوع المطروح في نقاشاتهم الداخلية المتعلقة ببلورة الأهداف المبتغاة.
وتأسيساً على ذلك طرحت كثيراً من الآراء المتقاربة المتضاربة حول ماهية برنامج اللجنة العليا, التي تمحورت, حسب قراءتنا, في المجالات التالية في تشابكها الجدلي والواقع العراقي وتفاعلها مع محيطه الإقليمي والدولي:
- الحفاظ على الوحدة الوطنية العراقية في علاقتها الجدلية مع الإنتماء للأمة العربية؛
- تحديد حدود للحريات الديمقراطية (الحزبية, النقابات, الصحافة, وسائل التعبير...الخ)؛
- معالجة المسألة القومية وخاصةً الكردية والتكوينات القومية والدينية الصغيرة؛
- القيام بالإصلاحات الأجتصادية لصالح الفئات الوسطى والفقيرة في المدن والفلاحين في الريف؛
- إقامة علاقات متميزة مع العربية المتحدة ومناصرة حركات التحرر العربية وبالأخص فلسطين؛
- الخروج ما أمكن من تبعية العراق للعالم الغربي وأحلافه العسكرية؛
- إتباع سياسة الحياد الإيجابي وعلاقات دولية قائمة على التعاون المتبادل والمصالح المشتركة.
الخلافات داخل اللجنة العليا:
يشير الباحث ليث الزبيدي إلى جملة من الخلافات الكثيرة والمتشعبة التي رافقت عمل اللجنة منذ تشكيلها ولغاية 14 تموز, ومرجعها يكمن في الإختلافات الفكرية/ الفلسفية وفضاءات تصوراتها المستقبلية وفي الممارسة العملية العضوية والقضايا التطبيقية للقرارات الشفوية المتفق عليها. ولا نستبعد كذلك البعد الذاتوي بينهم وخاصةً للكبار ذوي الشخصيات المحورية. علماً بأن بعض هذه الخلافات كانت ذات طابع مستديم رافقت نشوء الحركة منذ بدايتها في نهاية الأربعينيات, والبعض الآخر كان نتيجة الدمج بين كتلتي المنصورية والقادة في مطلع 1957 وتصادم وجهات النظر, و البعض الثالث كان نتاج للتحالفات الوقتية التي يعقدها بعض أعضاء اللجنة العليا مع الكتل الأخرى , أو للإرتباطات المزدوجة للبعض الآخر. وهكذا كانت الخلافات, المستنبطة من تاريخية تطور هذه الصيرورة, دارت, كما يذكرها الباحث ليث الزبيدي حول:
رئاسة اللجنة العليا؛ كيفية تنفيذ الثورة؛ وضع خطة الثورة؛ مصير العائلة المالكة؛ عضوية عبد السلام عارف في اللجنة العليا؛ الإتصال بالأحزاب السياسية؛ مسألة الإتصال بالدول العربية والأجنبية؛ عدم الإنسجام الفكري والفلسفي بين أعضاء اللجنة العليا؛ إختيار أعضاء اللجان المتفرعة؛ عدم الإلتزام بمبادئ اللجنة العليا .
هذه الخلافات كانت أحد الأسباب الأرأسية وراء الكثير من الصراعات والمحاولات الإنقلابية التي حدثت أثناء حكم الزعيم قاسم. كما لعبت المطامح الذاتوية والشهوة للسلطة والمكانة الاجتماعية دوراً في تسعير هذه الخلافات وديموميتها, سواءً قبل الثورة أو بعدها, وآلت في أحد نتائجها إلى القضاء على هذه التجربة الغنية, وقضوا على أنفسهم نتيجة الأنوية العالية للمغامرين منهم. من جانب آخر رافقت هذه الخلافات مشادات كلامية بعضها كان حاداً أدى إلى إنسحاب مؤقت لبعض الأعضاء, وبعضها الآخر ولد حساسية متبادلة, حتى تبلور رأي " ووردت معلومات نقلاً عن طاهر يحيى مفادها إن الجماعة غير جادة وإن كل الإجتماعات تفتقر إلى الجدية وتنتهي, كما تبدأ, إلى لا شيء فهي لا تتعدى إستعراض الأخبار العامة التي يبلغ بها كل واحد منهم, ولا شيء غير ذلك... ".
أما كيفية تنفيذ عملية التغيير المادي وخطته والتي ناقشتها اللجنة العليا في أكثر من محاولة, فقد أظهرت هي الأخرى عمق الإختلافات بل والتناقضات في: الرؤى والكيفيات؛ في الترددات والتأجيلات؛ في التكتلات والإستفرادات, التي وسمت نشاطها منذ تكوينها ولغاية 14 تموز, نجم عنها نشوء "... حالة مؤقتة من التطير بالنسبة لبعض القادة الذين طالبوا بتجميد العمل لمدة شهرين, وقد وصل إلى علم الحزب وقتذاك أن الفريق المعارض لتجميد العمل قد طالب المباشرة بالثورة فوراً, ولكنه لم يفلح. وهنا إستحوذت على قاسم فكرة قد تكون راسخة في ذهنه من قبل هي أن يأخذ على عاتقه والقوات التي كانت تحت إمرته والأنصار المقربين إليه زمام المبادرة وهذا ما تم فعلا... " فكان التغيير وكانت الثورة وكان التجسيد المادي للأهداف التي وردت في إذهان الضباط الأحرار أو تلك التي لم يتوقعوا تحقيقها فكانت تمثل حالة نهضوية حضارية حقاً وفق كل المعطيات, وكان قاسم يضفي عليها روؤيته الفلسفية للحياة عامة ولواقع العراق خاصةً.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟