أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - الوعي الواعي والوعي الناقص















المزيد.....

الوعي الواعي والوعي الناقص


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 5438 - 2017 / 2 / 20 - 09:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


خالد ولد الحروب
نواكشوط


كواحد من عشاق شنقيط وكنواكشوطي مخضرم عشت في المدينة قبل حوالي ربع علي اقول بأن نشوة صوفية محلقة تغمرني كلما اجد نفسي هنا. أحس بأنني عدت ذلك الشاب الذي يحج كل صباح إلى شاطىء المدينة الرملي، قبيل التوجه للعمل، يحفه شدو فيروز للمدائن كلها، وما ان يحضنه هواء البحر حتى يشرع بالركض بلا هوادة على طول الرمل المشبع بماء البحر الجازر. كنت اركض بفرح غامض وعشق عذري مُبهم، وهأنذا اعود راكضاً نحو ذات العشق. التأملات والملاحظات التي اتداولها معكم الآن حول الكتاب والقراءة والوعي لم أرد ان تكون جافة واكاديمية وتنظيرية، بقدر محاولتها مزواجة مقاربة ذاتية وجدانية بتجربة ترحالية ما مع الكتب والوعي.
سألني اصدقاء كثر ما الذي جاء بي إلى موريتانيا وكنت انهيتُ دراسة الهندسة المدنية حديثاً واصدقائي في جلهم توجهوا إلى الخليج حيث العمل الواعد بمال ومستقبل. في اوراقي القديمة إجابة من كلمة واحدة على هذا السؤال الذي سألته ايضا لنفسي قبيل قبولي بعرض العمل المتواضع آنذاك. يومها كتبت في منتصف ورقة دفتر ملاحظاتي تلك الكلمة واحطتها بدائرة كبيرة، اذهب من أجل "المعرفة". اذهب لأتعرف على الغرب العربي، على بلد ربما لن تتاح لي فرصة الذهاب إليه مرة ثانية. يا لروعة الاقدار على ذلك القرار، ولكم اعتز بتلك الإجابة الآن، وابدأ بها ملاحظاتي اليوم. المعرفة هي الكنز المجاني المنثور حولنا في الكتب وفي تجارب الحياة. هي الأغلى لكنها الأكثر وفرة والأكثر كرماً بذاتها، تمنح نفسها لروادها، بواباتها واسعة بإتساع الفضاء بين اوغاريت وشنقيط.
كلما ابحرنا في المعرفة، وركضنا في فضائها الوسيع اشتد وعينا وصار اكثر عمقاً وحدة، واقتربنا مما يمكن وصفه ب "الوعي الواعي". لا ضرورة للتبجح بمحاولة تعريف "الوعي الواعي" لكن يمكن التأمل في بعض تمثلاته، ويمكن لنا ان نعيه اكثر لدى مقارنته بضده، او ما يمكن وصفه ب "الوعي الناقص". "الوعي الواعي" هو الوعي الواعي بنقصه والذي لا يرى إكتمالاً في ذاته بل يواصل رحلة المعرفة الأبدية، اما "الوعي الناقص" فهو الوعي الموهوم بإكتماله، والذي لا يرى نقصاً في ذاته ويقفل باب المعرفة، او يكاد. لنتأمل معاً تسعة تمثلات وتقابلات بين "الوعي الواعي والوعي الناقص"، وهي ليست حصرية مطلقاً بل إنتقائية، واختيار "تسعة" على وجه التحديد وليس "عشرة" مثلاً قصدت منه الإبتعاد عن "الإقفال" الذي توحي به الأعداد المدورة، عشرة، عشرين، ثلاثين، وهكذا. "تسعة" عدد غير مُكتمل ... يقف على عتبة إكتمال عشرية لكنه لا يصلها، وهو بالضبط جوهر الوعي الواعي، اي البحث الدائم.
التمثل الاول في التناظر بين نوعي الوعي المتقابلين والذي نبدأ به هنا ليكن "وعي الرحلة مقابل وعي الوصول". هو المدخل الأولي للتفريق بين وعي يرى المعرفة والحياة والعلم والتعلم رحلة لا تنتهي، ووعي ناقص منهمك ب "الوصول". الوعي الواعي ينتقل من مرحلة وعي إلى أخرى في رحلة لا تنتهي، اما الوعي الناقص فيظن انه "وصل" وانه يمتلك الوعي المطلق والمغلق. التمثل الثاني للوعيين هو "وعي السندباد مقابل وعي السكون"، وهو امتداد لوعي الرحلة مقابل وعي الوصول، او هو رؤية له من زاوية مغايرة. السندباد هو الباحث المستديم عن الجديد، الشغوف بمعرفة الناس والجهات، المنطلق بلا بوصلة، يتلذذ بالإكتشافات الجديدة. وعلى الضد منه وعي السكون، المُتجمد، المتشكك من الآخرين، المُكتفي بالوعي الموروث والمنقول في مكان سكونه. التمثل الثالث هو "وعي الحرية مقابل وعي القسرية": في الوعي الواعي الحرية هي قلب الحياة والكون وهي الإختيار، ولا مهادنة في ذلك. اما في الوعي الناقص فالقسرية جزء منه، والإستسلام لها والإنقياد وراءها لا حيدة عنه، وهذه القسرية هي التي تقود في نهاية المطاف إلى إغلاق الوعي وإنهاء الرحلة باكراً بزعم الوصول.
التمثل الرابع هو "وعي الماضي والتواريخ المتعددة مقابل وعي التاريخ الواحد"، وهذا في غاية الأهمية لأنه يفرق بين الماضي والتاريخ. الماضي هو ما حدث فعلا وواقعا في الماضي، اما التاريخ فهو ما كتبه اشخاص عن الماضي، وتضمن انتقائيتهم، وتفسيرهم، واختياراتهم، وانحيازاتهم. نحن لا نعرف الماضي نعرف فقط التاريخ او بالاحرى التواريخ. لهذا كل امة وجماعة لها تاريخها الخاص، او قولبتها الخاصة للماضي التي تدعم حاضرها. وعي الماضي والتاريخ مركزي لأنه يفتح بوابات الأسئلة العريضة والشك الإيجابي في كل ما وصلنا، ويسهل علينا الولوج للأنسنة. وهذه الاخيرة، هي جوهر التمثل الخامس وهو "وعي الانسنة مقابل وعي الإنغلاق"، وهنا يتمدد الوعي الواعي إلى ما بعد الذات، إلى الآخر، ويستكشف فيه الجدة ومساحات التشارك الإنساني، بعيدا عن التراتبية الثقافية او الإثنية او الدينية. مقابل ذلك يتكلس الوعي الناقص عند حدود الإنغلاق، ولا يعني ذلك عدم التواصل مع الآخرين، بل يحدث رغم التواصل. الإنغلاق هو حالة ذهنية تفترض الفوقية والتفوق على الآخرين سواء صراحة او استبطاناً.
التمثل السادس هو "وعي الجمال مقابل وعي الحكم المسبق" وفيه يتبدى الوعي الواعي منحازاً للغوص في الجمال الكامن في الاشياء والناس والحياة، على الضد من شهوة الوعي الناقص بإطلاق الأحكام وفق معياريات مُسبقة الصنع ومتحفزة للتقييم. وعي الجمال يوسع ايضا نطاق الأنسنة ويخفف من صدام المعياريات والثقافات المغلقة على ذاتها. امتدادا من وعي الجمال يأتي التمثل السابع وهو "وعي التموج مقابل الوعي الخطي"، وهو التمرد على الأفكار الخطية الحاسمة، والحتميات، والسرديات "التاريخية" المتبجحة بإمتلاك اسرار الماضي وحسم خيارات المستقبل. وعي التموج هو السير "نحو المُستقبل" في منحنيات ودوائر تستكشف الجوار وتبدع في كل الإتجاهات، ولا تقع فريسة الوهم الخطي (الغيبي منه والحداثي).
التمثل الثامن هو "وعي الرمادي مقابل وعي الابيض والاسود" وهو تمثل لئن كان وضوحه يوفر شرحه، فإن تجسده في الواقع والممارسة يظل الاصعب، نظراً لإغواء ثنائية الاسود والابيض: معنا ام ضدنا، انا الصواب المطلق وانت الخطأء المطلق، وهكذا. وعي الرمادي هو الإقرار بأن هذا الرمادي هو الاكثر اتساعاً في الحياة والافكار والممارسات والماضي والحاضر والمستقبلات. اليقين بالرمادي يوفر علينا الكثير من الدم والصراعات ويعلي من نسبية "الحق".
اختم بالبحر الذي بدأت به، بالتمثل التاسع واحب ان اسميه "وعي البحر مقابل وعي النهاية"، وهو تعبير اضافي واسهاب في التمثلات السابقة ليس إلا. إنه التأمل في البحر، في اسراره، في كينونته، في صوته، في لونه، في امواجه التي تتلاحق وراء بعضها وتنهي رحلتها الميؤوس منها على الشاطىء حيث تنتحر بفرح هناك. ذلك يعني الإمتداد واللانهاية. وذلك كله يعني التضاد التام مع وعي النهاية، ووعي إغلاق الملف. إنه وعي ابقاء كتاب الحياة الزاخرة مفتوحا على كل الاتجاهات وكل الاحتمالات.

*من محاضرة القيت في "فضاء كمارا الثقافي" في نواكشوط بتنظيم مكتبة الآداب، 2 فبراير 2017
[email protected]



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صادق جلال العظم: السجالي الكبير وصانع النرد
- من هتلر والإنجيل إلى داعش والقرآن
- زيغموت باومان: اليهودي -الحالي- ما بعد الحداثي
- من القوميات -الُمدجنة- إلى القوميات الفاشية: حقبة جديدة؟
- عالم جديد: -صدام القوميات والشوفينيات-!
- الداعشيات الدينية والداعشيات الغربية وعالم جديد مخيف
- لاعبُ النرد ... مُستقبلاً صادق جلال العظم
- اعراس فاطمة المرنيسي، موريتانياً وفلسطينياً
- من يجلس على كرسي فاطمة المرنيسي الأكاديمي؟
- الإسلامويون و-فكرة الدولة-: توتر الواقع، قصور الخيال
- فلسطينيات -عائشة عودة-: الساعيات نحو الشمس!
- كيف نتفادى الحرب العالميّة في منطقتنا؟
- ماذا رأى ابراهيم نصر الله فوق قمة كليمنجارو؟
- -نكبة- الرواية الفلسطينية بين التحسر المدمر والثورة
- اغتيال ناهض حتر ... داعشيتنا الكامنة!
- أسماءُ نسائنا: -الشرف السمج- ... والقيعان المتلاحقة!
- «سيد قطب» متخفياً في كتاب «استحالة الدولة الإسلامية» (١ ...
- الحق في عدم التدين .. بين المواطنة والدعشنة الكامنة
- الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة!
- بريطانيا: شعبوية صادمة ... ثم تعود لاوروبا!


المزيد.....




- إسرائيل تكثف غاراتها على غزة وتقصف المسجد الإندونيسي
- استقبلها الآن بأعلى جودة .. تردد قناة طيور الجنة TOYOUR EL-J ...
- منظمة: 4 من كل 5 مهاجرين مهددين بالترحيل من أميركا مسيحيون
- جدل حول اعتقال تونسي يهودي في جربة: هل شارك في حرب غزة؟
- عيد الفطر في مدن عربية وإسلامية
- العاهل المغربي يصدر عفوا عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة ق ...
- المرصد السوري يطالب بفتوى شرعية عاجلة لوقف جرائم الإبادة
- عبود حول تشكيلة الحكومة السورية الجديدة: غلبت التوقعات وكنت ...
- بقائي: يوم الجمهورية الإسلامية رمز لإرادة الإيرانيين التاريخ ...
- الخارجية الايرانية: يوم الجمهورية الإسلامية تجسيد لعزيمة الش ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد الحروب - الوعي الواعي والوعي الناقص