صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 5436 - 2017 / 2 / 18 - 17:05
المحور:
سيرة ذاتية
العصامي هو الذي تعلم من تلقاء نفسه,وكسب علمه وثقافته إعتماداً على قدراته الذاتية ,وإمتلك القدرة على بناء نفسه بكده وكفاحه وإجتهاده مستفيداً من ذكائه ومواهبه الكامنة في داخله. منتهزاً الفرص المتوفرة في بيئته لتحقيق الأهداف التي يسعى الى تحقيقها.وقد جاء الإصطلاح نسبة الى عصام بن شهير (حاجب النعمان بن المنذر) والذي أصبح فيما بعد ملكاً في الحيرة نظراً لعلو همته وحسن تدبيره وقوة عقله بعد ما كان مجرد حاجب حتى قال فيه النابغة الذيباني :-
نفس عصاماً سودت عصاما ......... وعلمته الكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماما ......... حتى علا وجاوز الأقواما
وهكذا ظهر الى الساحة الأديب الكوفي كامل سلمان الجبوري ,تلك الشخصية العصامية التي إمتلكت القدرة على الإبداع والتفكير في حل المشكلات بعد أن نال المرونة في ذلك.وقد إمتاز بالمغامرة والبحث عن المجهول وقبول التحدي متفائلاً غير متشائم, لا يعتريه الضعف ولا الوهن , فكان مثابراً مصراً على تحقيق الأهداف بعد أن إستغل قدراته بنفسه غير متكل على عشيرة ولا إرث . وغدا عالماً كبيراً لا يمكن لأي باحث أو متحدث عن الثورة العراقية الكبرى ,أو ثورة العشرين دون أن يعرج على ذكر إسم هذا المؤرخ الفذ ( الدكتوركامل سلمان الجبوري) , الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في هذا الصدد إلا وتحدث عنها ووثقها صوراً وأحاديث مسجلة ومحاضرات وإجتماعات وأسماء لجنرالات وقيادات وأماكن وكل ما يتطلب الأمر من إحصائيات.
غادر سلمان جاسم الجبوري (والد كامل) وعائلته قريتهم الصغيرة (الزرفية) التي تقع في زاوية مهملة من لواء الحلة عام (1932) والتي تحولت فيما بعد الى ناحية تابعة لقضاء الهاشمية بإسم (ناحية الطليعة) , وإختارت هذه العائلة مدينة الكوفة مستقراً لها بعد أن بدأت الحياة في هذه المدينة بالإزدهار الإقتصادي والتجاري والعمراني إذ أنشأت فيها مجارش الشلب والمطاحن وخانات خزن التمور والحبوب ومعها نمت الحركة الملاحية والسياحية من خلال مراكب النقل التي إتخذت ضفاف النهر مرسى لها الى جانب تأسيس محطة النقل بالقطارالتي تجره الخيول بعد نصب سكة الحديد الذي سهل نقل الزوار الى الأماكن المقدسة في الكوفة والنجف, فأصبحت بذلك الإزدهار جاذبة لكثيرمن الطموحين للتطور والعيش الأفضل, ومن الهاربين من ظلم الشيوخ والمتسلطين من ملاك الأرض الإقطاعيين. وفي الكوفة توزعت هذه العائلة لكسب العيش كل حسب ظرفه, فإشتغل سلمان إبتداءاً في أعمال شق نهر الغازية جنوب مدينة النجف والذي كان يصلها بمنطقة الدسم بالحيرة. ثم عمل في الملاحة النهرية في المراكب التي تمرفي المدن التي تطل على نهر الفرات لنقل الحبوب والزوارفي وقت كانت فيه المراكب هذه وسيلة النقل الرئيسة بين تلك المدن قبل إنتشار السيارات. ولما كان العمل بالمراكب يستغرق أياماً وليالي بعيداً عن الأهل ,لذا كان لابد من أحد يقوم بتحضير وتجهيز الطعام لطاقم المركب لعدم وجود مطاعم في تلك المدن ,فبرز سلمان كطباخ ماهر على ظهر المركب الذي يعمل فيه.وهذا ما منحه فرصة فيما بعد لأن يشتهر بهذا العمل بعد أن إنتفت الحاجة الى المراكب بإنتشار سيارات النقل وأصبح مطلوباً في الإشراف على تجهيز الولائم الكبيرة في الأعراس والمناسبات الأخرى وخاصة الدينية منها.وفي سنوات عمره الأخيرة أخذ يكسب عيشه بأعمال حرة بسيطة ,وهذا يعني أنه قضى جل حياته في عوز وفقر إضطر معه للعيش مع أحد إخوته في دار مستأجرة في محلة الرشادية خلف المسجد .وفي هذه الغرفة ولد (كامل) الولد البكر في 19/11/1949 من زوجته الأخيرة بعد سلسلة من الزيجات التي إنتهى كل منها بشكل مختلف. وبعد فترة إنتقلت الأسرة الى طرف السراي لتسكن في دار يقع في الشارع الخلفي لمدرسة المختارية.في هذه الدار عاش كامل طفولته وصباه مع شقيقيه (أمين ويحيى) وأختهم الذي توفيت مبكراً بعد أن أصابها مرض السكري اللعين.
عندما بلغ كامل الخامسة من عمره بادر والده لتسجيله لدى أحد الملالي (الكتاتيب) وهو الشيخ مسلم الدجيلي الذي إتخذ مسجد الجديدة مقراً له لتعليم الصغار القراءة والكتابة وأصول الدين. وبعد عام ألحقه بالشيخ حسن عبد في مسجد الرشادية.وهذا الإصطفاف وفر لكامل في عام 1956 تعلم القراءة والكتابة ( رسم الخط القرآني) ,وحفظ آيات من الذكر الحكيم قبل دخوله المدرسة الإبتدائية المجاورة لسكنه. ولما كان هذا الصبي يعاني من الفقر والعوزخلال سني دراسته في الإبتدائية والمتوسطة ,وبغية كسب بعض النقود إتجه الى تجليد الكتب المدرسية وعمل في التصوير الفوتوغرافي ,كما قام بطبع الأدعية وبعض القصائد الحسينية المشهورة حينذاك ( مثل جابر يجابر,والليلة بالخيم حنه,وزينب ياغريبة وغيرها) ثم بيعها على الزوار في مسجد الكوفة وخاصة أيام الجمع والمناسبات الدينية حيث يكتظ المسجد بهم. في تلكم السنين كان والده يحرص على إصطحابه معه الى مسجد الكوفة يومياً بعد العصر لأداء فريضة الصلاة هناك . وفي هذا المسجد كان كامل يلتقي بمعلمه (حسن الكوفي) الذي شجعه على الإستفادة من الكتب التي إحتوتها مكتبة مسلم بن عقيل والتي تأسست تواً داخل المسجد وبإشراف الكوفي نفسه الذي علمه كيفية إستعارة الكتب منها,فكان أول كتاب إستعاره كامل هو (الحقائق الناصعة في الثورة العراقية ) لكاتبه فرعون مزهر آل فرعون. ولقد أولع كامل كثيراً بهذا الكتاب وما إحتواه من وصف وسرد جميل لأحداث الثورة العراقية الكبرى (1914 – 1921) مما أثار شهيته لمعرفة المزيد من المعلومات فإندفع لإستعارة الكتب التي تتحدث عن هذا الحدث التاريخي الهام,وكانت تلك القراءات تستنزف جل وقته مما إضطره للإنقطاع عن الدروس الحوزية التي كان يتابعها بشكل متقطع حينذاك. ولما كان لايملك حتى شروى نقير فقد صعب عليه شراء الكتب التاريخية التي شغف بها,فإضطرلإشباع رغبته تلك بالبحث عنها في الصحف القديمة التي كان يحصل عليها مجاناً أو بثمن بخس. ونتيجة لهذه القراءات توسعت طموحاته فإتجه لدراسة الكتب الأدبية والتأريخية في المكتبات العامة وبرغبة وإندفاع شديدين وبالقدر الذي أسس له قدراته الكتابية فيما بعد والتي اثمرت عن إنتاج العشرات من الكتب والمؤلفات تاركة لمسات واضحة جلية في المكتبة العربية ,لا بل أضحت تلكم المؤلفات مرحباً بها وموثوقة من لدن الباحثين وطلاب الدراسات العليا في مجال الأدب والتأريخ والتراث والأنساب وغيرها. وبموازة ذلك ظهرت لديه بوادر وملامح لكتابة الشعرالشعبي والتي تطورت هي الأخرى نتيجة لملازمته مجالس كبار الشعراء الشعبيين في النجف والكوفة مما مكنه بعد حين من جمع ترا ثهم الشعري الشعبي القديم والحديث بمؤلف من (15) مجلداً.
لقد بدأ الجبوري الكتابة والنشر مبكراً بعد أن جرب ذلك في النشرات المدرسية ,ففي السادسة عشرة من عمره كتب محاولته الأولى عام 1962 فنشر كتيباً صغيراً تحت عنوان (صوموا تصحوا) ثم تلاه بعد ثلاث سنوات بآخرعن الشذوذ الجنسي ,وثالث عن مسلم بن عقيل (ع) ,وأخذ ينشر المقالات في مجلة التضامن الإسلامي التي كانت تصدر في الناصرية فكان أول موضوع نشره فيها هو العلم والإيمان عام 1965 تبعه بآخر(الإسلام والشعور بالمسؤولية ) , ثم كتب في مجلة الموعظة ومجلة النهج الصادق وجريدة البريد الأدبي البغدادية وغيرها. ثم إرتقى بكتاباته وتوسع مدى النشرمع بداية سبعينات القرن الماضي لتشمل معظم الصحف العراقية حينذاك (العدل النجفية, المجتمع الكربلائية, الجمهورية ,الثورة, طريق الشعب ,القادسية) ألى جانب المجلات (آفاق عربية, حراس الوطن, الربطة الأدبية, الذخائر, آفاق نجفية, أوراق قرآنية, السفير) .
بعد إنهائه الدراسة المتوسطة في الكوفة عام1969 إلتحق بمركز التدريب العسكري في بغداد الذي منحه شهادة (دبلوم هندسة عامة) المعادلة للشهادة الإعدادية .وبعد تخرجه من هذا المركز أخذ يمارس عمله في بغداد نهاراً ليلتحق بثانوية الزوراء المسائية (الفرع الأدبي) ومن ثم الحصول على شهادة (الإعدادية) البكالوريا . ولقد نشط الجبوري في تلك الفترة بعد أن تحسن وضعه الإقتصادي وإستطاع طباعة مجموعة من مؤلفاته وبعض الكتب المحققة . ولعل أبرز تلك المؤلفات هو كتاب تأريخ الكوفة الحديث ,والسفير(ملحمة شعرية) ,وكتاب عن شعراء الكوفة الشعبيين, وصفحات من ثورة العشرين ,وكتاب عن مساجد الكوفة. ثم قدم كتاب (قلائد الذهب في معرفة أنساب العرب) وعلق عليه ,وكتب مسرحية الرائد التأريخية ,وكتاب عن الإمام علي (ع) وغيرها . ثم قام بجمع وتحقيق ديوان فاطمة الزهراء وديوان الملا علي التركي .وفي هذه الأثناء بدأ نشاطاً واضحاً متميزاً في جمع كل ما إستطاع جمعه من كتابات تخص ثورة العشرين من خلال تجواله المضني في مناطق الفرات الأوسط ومدنها وقراها لتسجيل أحاديث مع من بقي حياً من ثوارها وأولادهم وأحفادهم فاستطاع توثيق أهم الأحداث التي خفيت على الكثير من المؤرخين الذين سبقوه في هذا المجال. ثم سعى لجمع مجموعة من الأسلحة التي كان يستعملها الثوار في حربهم مع الإنكليز وما غنموه من المحتل. كما إستطاع الحصول على كم هائل من الوثائق والمخطوطات والمراسلات والآثار الأخرى التي كانت مهددة بالضياع أو التلف. وهذه الحصيلة شجعت الجبوري لإقامة معرضه الفوتوغرافي الشخصي في 6/8/1974 الذي أفتتح برعاية وزارة الثقافة والإعلام . ثم إقامة معرضه الثاني في 3/6/1975 بمناسبة الذكرى الخامسة والخمسين لثورة العشرين والتي عرض فيها نماذج مما غنمه الثوار في معاركهم مع الإنكليز,كما عرض أشرطة مسجلة بصوت بعض الثوار الذين رحلوا ,وبعض الوثائق والمخطوطات النادرة وكل ما حصل عليه من مكاتبات ومراسلات بين الثوارفي أثناء ثورتهم.ولقد بذل الجبوري جهوداً إستثنائية ووقتاً كبيراً وكل ما إستطاع توفيره من رواتبه لتحقيق هذا الغرض.ونتيجة للنجاح الكبير الذي حضي به هذا المعرض ولكثرة عدد من زاره من المواطنين قررت وزارة الثقافة والإعلام جعله معرضاً ثابتاً مقره مدينة النجف الأشرف.ومن جانبه أهدى الجبوري كل محتويات المعرض ( وبما فيه من نفائس ) الى الدولة مجاناً . في أعقاب ذلك صدر الأمرفي 19/8/1978 بتنسيبه مديراً لمتحف يضم كل ما أهداه الجبوري أطلق عليه (متحف الوثائق) وكُلف هو بالإشراف عليه وتنظيمه وإعداد ملاكاته الوظيفية والإدارية ثم بعد ذلك تم إلغاءه عام 1981 بعد سنة من تنسيبه في الوزارة نفسها كعضو في هيئة التنقيب الأثري لطريق الحج القديم (زبيدة). ومن خلال عمله هذا إستطاع وبجهود شخصية من إكتشاف آثار معركة القادسية وإستقصاء ما ورد عنها ,وتسجيل المعلومات الخاصة بها ,ورسم الخرائط للأهتداء إليها مستقبلاً . ثم أخذ يكثف زياراته للمنطقة ويصور مواقعها فوتوغرافياً ,وبذلك تمكن من كتابة بحث مفصل لخمسة وعشرين موقعاً أثرياً للمنطقة. وقد نشرت الصحف المحلية العراقية في حينه هذا الإكتشاف وكتب الجبوري بالتفصيل عنه في مجلة الذخائر التي أصدرها فيما بعد في بيروت.وبهذا الإنجاز إستحق التنسيب كعضو في هيئة التنقيب والصيانة الأثرية في مدينة الكفل ما بين 1981 – 1986, ثم عضو في لجنة جمع التراث السياسي للجمهورية العراقية من 1914 الى 1958 مع نخبة من علماء وأساتذة التأريخ والآثار في جامعة بغداد .بعدها طلب إحالته على التقاعد ليتم له ما أراد في 25/9/1994. وفي الفترة التي أمضاها في إدارة المتحف كان يقطع الطريق الى بغداد يوميأ بعد إنتهاء دوامه في المتحف إذ إلتحق بالجامعة المستنصرية / كلية الآداب الفرع المسائي ,وحصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ عام 1984.وفي هذه الكلية توفرت له فرصة التتلمذ على أيدي كبار أساتذة التاريخ منهم رشيد عبد الله الجميلي و محمد مظفر الأدهمي و عبد الكريم إبراهيم الأمين وفوزي رشيد وآخرون مما شجعه على متابعة دراسة الكتب التأريخية التي تهتم بتفاصيل أحداث ثورة العشرين ضد الإحتلال البريطاني. والذي يتابع نتاجات الجبوري في التأليف فترة الدراسة الجامعية سيلاحظ إنخفاض واضح في ذلك لإنشغاله بدراسته الجامعية إذ إقتصرنشاطه على كتابة المذكرات والسير الذاتية لشخصيات عراقية مهمة مثل (السيد حسين كمال الدين ,السيد سعد صالح إجريو,السيد كاطع العوادي, السيد محمد علي كمال الدين, الشيخ محمد رضا الشبيبي ) وكتب أيضاً مذكرات الكابتن مان الحاكم السياسي لمنطقة الشامية. وكتب أيضاً السير الذاتية لبعض المراجع الدينية منهم السيد أبو الحسن الأصفهاني ( 3مجلدات), ومحمد كاظم اليزدي ,والشيخ محمد تقي الشيرازي,والعلٌامة الشيخ موسى العصامي . أما الفترة التي أعقبت تقاعده وتخرجه من الجامعة فقد إزدهرت بالإنتاج الأدبي والتاريخية وفي حقول المعرفة الأخرى. ثم قام بتحقيق نوادر الكتب . ونتيجة لتكدس هذا الكم الهائل من المخطوطات نضجت في ذهنه فكرة الإقامة في بيروت وتأسيس دار للطباعة والنشر هناك ,وفعلاً حقق ما كان يصبو إليه إذ إتتح (مؤسسة المواهب للطباعة والنشر) عام1999 ,وكانت إقامته في بيروت قد وفرت له فرصة الحصول على الدبلوم العالي في الشريعة والقانون من الجامعة الإسلامية ,ثم الماجستيرفيما بعد. وضمن تلك الفترة أنجز طبع ونشر العديد من كتب التراث والكتب المحققة ,ثم أصدر في بيروت مجلة فصلية تعنى بشؤون الآثار.وأصدر أيضاً مجلة الذخائر الفصلية التي تعنى بشؤون الآثار والمخطوطات والوثائق . صدر العدد الأول منها في 1/1/ 2000 والتي نشر فيها بعض من مقالاته وأبحاثه الى جانب مانشرفيها من دراسات وأبحاث لمشاهير الكتاب والأدباء. وهذا شجعه بعد سنوات لإصدار مجلة أخرى في النجف الأشرف تعنى بالدراسات والبحوث التراثية أسماها (آفاق نجفية).ثم أصدر في الكوفة مجلة فصلية أسماها (حولية الكوفة) وهي متخصصة بالدراسات والبحوث التراثية الخاصة بالكوفة ومسجدها الأعظم وعن أمانات المسجد والمزارات الملحقة به, وكان الجبوري يتولى رئاسة تحرير كل تلك المجلات. في عام 2005 عاد الى بيروت وإلتحق بكلية التاريخ والإستشراق في جامعة الحضارة الإسلامية ببيروت فنال الماجستير بدرجة إمتياز في التاريخ الوثائقي عن رسالته الموسومة (النجف الأشرف والثورة العراقية الكبرى) ,ولقد أثار الجبوري إهتمام أساتذته الذين شجعوه وشدوا على يديه للتقدم والحصول على شهادة الدكتوراه لما قدمه من وثائق وشهادات وصورفوتوغرافية وغيرها. وقد تم له ذلك إذ حصل على شهادة (دكتوراه دولة) وبدرجة إمتياز أيضاً في موضوع التاريخ الوثائقي بإطروحته الموسومة (وثائق الثورة العراقية الكبرى ومقدماتها ونتائجها) شملت 819 وثيقة. ولابد لنا من أن نشير الى إستفادة الجبوري من مؤلفاته الجاهزة التي أهلته للحصول على تلكم الشهادات العليا بأقصر مدة ممكنة وبدرجة الإمتياز.مما سبق يتضح لنا أن الجبوري لم يكن مستقراً في بيروت بصورة دائمة,إنما كان دائم التنقل بينها وبين بغداد ,وأن فترة ما بعد التقاعد ولحد الآن هي من أكثر الفترات إزدهاراً في الإنتاج الأدبي والتاريخي للجبوري كماً ونوعاً,وقد تجلى هذا واضحاً من خلال ما قدمه ونشره من مؤلفات وكتب محققة ومدققة,وما أصدره من مجلات وما نشره من مقالات ملأت الصحف والمجلات العراقية. ولعل من أشهر ما أصدره هو كتب تخص الثورة العراقية الكبرى ومجريات أحداثها وبالتفاصيل الدقيقة (خمسة مجلدات لحد الآن), وعن ثورة العشرين و تاريخ الكوفة الحديث وعن دور مدينة النجف الأشرف وعلماءها ,وعن حركة الجهاد وغير ذلك كثير. والى جانب ذلك فقد أكمل تحقيق مؤلفات مهمة من أمثال قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان لإبن الشعار الموصلي (9 مجلدات) , ومعجم الأدباء في العصر الجاهلي ( 7 مجلدات) , ومعجم الشعراء في العصر الجاهلي (6 مجلدات),وكتاب مرآة الزمان لسبط بن الجوزي (14) مجلداً,ودائرة معارف النجف الأشرف (25مجلداً) ... وغير ذلك كثير.
لقد كان منهج الجبوري في التحقيق مبنياً على آليات المنهج الأكاديمي,فهو يقوم بتمحيص الكتاب وتقديمه صحيحاً سليماً مع ضبطه والتعليق عليه وشرح مصطلحاته ,ومقابلة نصوصه على مصادرها أو على مانقله المتأخرون عنهم مع إضافة عناوين جديدة لموضوعات الكتاب مصحوبة بترجمة لبعض ما ورد فيه من أسماء لأعلام وردت فيه,والتعريف بالأماكن المذكورة ,وشرح الكلمات الغريبة . ولقد تطلب من الجبوري كتابة عدة مجلدات لتحقيق بعض الموسوعات كما حصل في تحقيق موسوعة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لأبي فضل الله العمري الذي تطلب (27 مجلداً) حقق لحد الآن( 20 ) منها.
لقد كان الجبوري مؤرخاً وباحثاً وشاعراً وكاتباً. وتوزعت كتاباته على عناوين عدة شملت دراسات في التاريخ الإسلامي وعن شخصيات إسلامية وفي التراث والشعر والدراسات الإنسانية .أما في مواضيع التاريخ فكانت مؤلفاته شاملة وافية وبالأخص موضوع الثورة العراقية الكبرى 1914 وإمتداداتها في ثورة العشرين مع كل ما نشره من وثائق ثمينة ونادرة. كما أن له مؤلفات عن المتاحف والمعارض والدواوين الشعرية. وكتب بعض المسرحيات الإسلامية ,كما إهتم بتدوين سيرحياة لشخصيات نجفية وكوفية بارزة من اللذين كان لهم دور مميز في الثورة العراقي وثورة العشرين. وله أيضاً (11) مجلداً في الخط والزخرفة ضمنها وثائق نادرة من الخط العربي. وألف كتاباً في معاجم الشعراء في فترات مختلفة ,كما نشر كتباً عن الأنساب للقبائل القديمة والعلويين وقد تطلب لأجل ذلك مراجعة مئات الكتب لهذا الغرض.وكتب دراسات في موضوع المسكوكات ,وعن المساجد وغيرذلك, الى جانب المجلات التي أصدرها والمعارض التي أقامها (12 معرضاً) بعد أن بذل لإنجازها جهوداً مضنية. وبذلك فرض نفسه كعلم من أعلام العراق والوطن العربي مما حدى بالكثير من الكتاب والباحثين والمؤلفين وطلاب الدراسات العليا من متابعة نتاجات الجبوري ومؤلفاته الأدبية والفكرية الثرة ودراستها عن كثب والإهتمام بها وعدها مصادر موثوقة.ولو حاول أحد سرد كل إنتاجات الجبوري وما ألفه ونشره من كتب لوقع في ورطة كالتي تورط بها كاتب هذه السطور.
لقد كرس الجبوري سنوات عمره المديدة في الدراسة والمتابعة, وبذل جهوداً كبيرة في جمع الكتب والمصادر والوثائق النادرة والتي ملأت كل الخزانات في غرفة مكتبته ,وعندما إمتلأت أرضية هذه الغرفة والمناضد فيها بالكتب والمصادر إضطر الى تخصيص الطابق العلوي من داره بكل غرفه وأروقته لحفضها بعد أن رتبها وبوبها.ويلاحظ كل من يلقي نظرة على هذه المكتبة الضخمة إحتوائها على آلاف الكتب والمصادر بتغليف جميل لكل ما صدر من صحف محلية ومجلات عراقية بمجلدات (50 حصيفة لكل مجلد) ومنذ ستينات القرن الماضي ولحد الآن بأعدادها المتسلسلة التي غدت الآن من النوادر.ولقد كان يقوم بتجليد كل هذه المخزونات بنفسه إذ إمتلك هذه القابلية منذ صباه. ولم يزل الجبوري يعد العدة لمشاريع كتابية ,وهو الآن يواصل كتابة موسوعته عن ادباء الكوفة وكتابها ومثقفيها وما أنجزوه على مدى تاريخ الكوفة والتي أنجزمنها عشرات من الأجزاء لحد الساعة . وهو الآن بصدد تأسيس بناية لجعلها مكتبة خاصة عامرة لتكون صالوناً وملتقى للأدباء والمثقفين والساعين الى البحث والمعرفة والبحث.
الدكتور الجبوري ومنذ عام 1971 حرص على حضور المؤتمرات التي دعي لها في بغداد وقم وطهران وبيروت إضافة الى حضوره أغلب المؤتمرات التي أقامتها جامعة الكوفة والتي كانت حريصة على دعوته لها وتعتز بحضوره. ولقد تم تكريمه من قبل رئيس الجمهورية العراقية في 11/10/1978, تكريم آخر في 22/8/1981. كما كرمه رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران الدكتور خاتمي في 24/2/2001 وقد جازف الجبوري بحضور هذا التكريم بنفسه بعد سفره الى إيران خلسة في ظرف يدرك العراقيون مدى خطورة ما قام به.ثم نال تكريم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في 12/12/2009,وآخرمن المالكي نفسه (بصفته نائبا لرئيس الجمهورية) في 2016 لرواد التاريخ والأدب والثقافة في العراق لكون الجبوري رائداً كبيراً من رواد الصحافة في النجف.وإضافة الى ماحصل عليه من شهادات تقديرية وكتب الشكر والتقدير التي فاقت حدود المعقول من خلال مشاركاته في المؤتمرات , ولرفده للمؤسسات الثقافية والمكتبات العامة بما يطبعه من مؤلفات ,ودعمه اللامحدود لكثير من الفعاليات الثقافية مادياً ومعنوياً. وأضحى الجبوري الآن معتمداً لدار الرسالة الإسلامية في الكوفة ,وعضوأً في كل من إتحاد الصحفيين والإعلاميين العراقيين في النجف, وجمعية الناشرين العراقيين, وجمعية المصورين الفوتوغرافيين العراقيين,وجمعية الخطاطين العراقيين,وغرفة تجارة النجف,وإتحاد رجال الأعمال العراقيين.
يتضح بكل جلاء ما كان يمتلكه هذا المعطاء من إصرار على التفوق والنجاح منذ صباه متحدياً كل الظروف والصعاب فشق طريقه الوعرة بكل ما إستطاع من صبر وأنات حتى نال مبتغاه وما كان يصبو إليه ,فتوج كل تلك الجهود بنيله أعلى الشهادات الأكاديمية.وهو مع كل هذا التألق والرقي والسمو وما حصل عليه من مجد يغبطه عليه الجميع فإنك لا تلمس منه لدى مجالسته سوى التواضع فلا يُسمعك ما يدل على مدح الذات ,ولا كلمة توحي بالتبجح والنرجسية,وبذلك أصبح وصف الشاعر والمؤرخ القبطي عبد الله جرجيس يليق به حينما قال:-
مُلأى السنابل تنحني بتواضع ....... والفارغات رؤوسهن شوامخ.
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟