|
الانغلاقات الفكرية إحدى معضلات الفكر الديني
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1431 - 2006 / 1 / 15 - 09:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أحد أكثر العناوين خداعا ً وسذاجة ً في أدبيات الفكر الديني هو تحذير وتخويف العامة من المسلمين من ظاهرة ( الغزو الثقافي ) الذي تسعى إليه العولمة في عصرنا الحالي والتي تهدف من خلاله تخريب الموروثات الثقافية الدينية وتدنيس المعتقدات الفكرية وتمييع الشباب المسلم بأفكار غريبة ( شاذة ) وهي اللافتات الكبيرة التي لا ينفك يرفعها أصحاب الفكر الديني ..
وفي الوقت الذي تتجه فيه البشرية نحو صناعة الحياة الإنسانية التي تتجاوز أطر المفاهيم الفكرية الضيقة وتتجاوز الانتماءات المذهبية السياسية والدينية المحدودة عبر تواصل الثقافات الحضارية فيما بينها وامتزاجها وتداخلها الفكري ضمن سياقاتها الثقافية الخلاقة نجد أن أصحاب الفكر الديني يتخذون موقفا ً عدائيا ً وانهزاميا ً من الأطراف التي تتشارك في صناعة الأفكار الكونية والتي تتفاعل بروح ديناميكية مع ضرورات الواقع وروح العصر ..
وفي الوقت الذي نجد فيه جماعات الفكر الديني يقبلون على الاستفادة القصوى من نتاجات العولمة العصرية في مجالات التكنولوجيا وتقنية وسائط الاتصال وغيرها ولكنهم في الوقت ذاته يشنون حربا ً عنيفة ضد العولمة الفكرية دون أن يفكروا في التنافس الفكري معها كما يقول الكاتب السياسي ( أمير طاهري ) :
( أن الرفض اللفظي المجرد للعولمة وفي الوقت ذاته قبول جميع ضروراتها وقواعدها في الممارسة ليس سوى دليل على الكسل الفكري ومحاولة تحديها بأفعال العنف من دون التنافس معها في ميزان الأفكار يصل إلى مستوى الشكلية المتدهورة التي رأينا مثالا ً لها في الهجمات التي شنتها جماعة القاعدة ضد الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر ) .
ولو رجعنا إلى زمن الحضارة الإسلامية ( الكلاسيكية ) نجد أن المسلمين قد أخذوا كثيرا ً من علوم وأفكار الحضارات التي ساهمت في بناء المشهد الثقافي العام وتفاعلوا معها دون أن يرفع المسلمون في تلك الأيام لافتات ( الغزو الثقافي ) ولكن بعد أن انتكست الحضارة الإسلامية ودخل المسلمون ظلمات التعصب الديني والانغلاق الفكري وكراهية الآخر وبالتالي لم تستطع ثقافتهم المصابة بداء الانغلاق أن تساير التطور المذهل في شتى مجالات الحياة الإنسانية وتقوقعت داخل اتجاهين لا ثالث لهما ( اللغة والفقه ) فتحولت إلى ثقافة متخشبة عرجاء لا تملك أسباب التطور والنقد الذاتي وآليات التجديد الفكري وامكانيات التفاعل الثقافي مع الآخر فكانَ أن رفع أصحاب الفكر الديني لافتة الغزو الثقافي ورددتها من خلفهم الجموع الساذجة التي لم تسأل نفسها سؤالا ً واحدا ً عن خطورة الانغلاق الفكري والاكتفاء بالعلوم اللغوية والفقية فقط والدوران في حلقة مفرغة من الأفكار التي لم تستطع تجديد نفسها أو حتى مجرد التفاعل مع ثقافات الغير وكانَ أن حكمت المسلمين ولعقود طويلة وإلى الآن عقدة ( الأفضلية ) على كل الأقوام والجماعات والأديان الأخرى وتصدرت هذه العقدة مجمل التفكير الديني عند أغلبية العاملين في الحقل الإسلامي ..
ولا يزال التعاطي مع مفاهيم الفكر ( الجهادي ) في المناهج التعليمية الحالية يتم وفق المنظومة ( الزمكانية ) المولدة لها ويتم التغاضي كليا ً عن مناقشة جدوى ملاءمتها للعصر الذي نحيا فيه ..
ولم يستطع الفقه الذي يعتبر الثقل المحوري في الاتجاه الديني أن يستوعب المتغيرات الهائلة في حركة الحياة الراهنة وعجزَ عن الانسجام مع تطورات الفكر البشري فكانَ أن توقف عند نقطة الاجترار الفقهي لكل المسوغات الفقهية التراثية الموغلة في القدم والبدائية ..
وفي دائرة وهم ( الغزو الفكري ) الخانقة استطاع المفكر علي حرب في كتابه الثري ( حديث النهايات ) أن يتناول أبعادا ً مهمة تشكل حجر الزاوية في فهم المتغيرات من حولنا ..
وصاغ من خلال طرحه رؤية ثاقبة ومغايرة للأحداث والحقائق والمشغولات الفكرية وركزَ في جزءٍ مهم من كتابه على أن الفكر الحي هو القادر على خلق الحدث وانتاجه وصياغته فيقول :
( أن الفكر الحي هو صلته المنتجة بالحقيقة ، بقدر ما هو قدرته الفعالة على قراءة الحدث وصوغه ، إنه اعتراف بقوة الحقائق من أجل المساهمة في صناعة الأحداث ، ولذا فالذي يفكر بصورة منتجة وخلاقة إنما يعيش في قلب المشهد ويكون على مستوى الحدث ، بحيث يهتم بمعرفة ما يجري بقدر ما يراهن على ما يمكن أن يحدث ، ورهاني أن أخرج من الدائرة الخانقة والتصنيفات العقيمة التي تسجن العقل داخلها بحيث أعمل بفكري على خرق السقف واختراق الحواجز بجعل وطني أوسع من مساحته الجغرافية أولممارسة هويتي الثقافية بصورة علنية )..
ويتعمد أصحاب الفكر الديني عدم الإشارة إلى ضرورة الانفتاح على الأفكار والثقافات الأخرى التي تتداخل بشكل حي وخلاق في مجالات الانتاج الفكري والإبداع الثقافي خشية أن تنكشف أفكارهم وثقافتهم على حقيقتها المقيدة بالماضوية والجامدة وغير القادرة على التطور والابتكار والانتاج وفي فصل ٍ مهم من كتابهِ انتقد ( علي حرب ) ما تطرحه توجهات الفكر الديني بخصوص الحديث الساذج عن أن الغزو الفكري هو ما تهدف إليه العولمة فيقول :
( والأهم أن قراءة العولمة بلغة الهوية ومنطق الغزو ، لا تخلو من الخداع والسذاجة ، ذلك أن الذين يحدثوننا عن الغزو الثقافي يتغافلون عن كون الثقافة الحية والمتجددة المزدهرة والفعالة إنما هي قدرتها على الانتشار والتوسع والاختراق ، على سبيل الخلق والانتاج أو الإبداع والابتكار ، هذا شأن الثقافات الخلاقة والمنتجة على ما نعرف ، إنها فتوحات وكشوفات ، تتجلى في ابتكارات ومنجزات تقنية وفنية ، أو علمية ومعرفية أو قانونية ومؤسسية ، أو اجتماعية سياسية ) ..
أن الثقافة تعني فيما تعنيه ( الذاكرة ) المشبعة بتحولات الأزمنة فعليها أن تبقى ذاكرة لها القدرة على التفاعل مع حضارة اليوم التي ترتكز على استنطاق المكان والحاضر في ارتقائها وتكاملها أما إن بقيت الثقافة منعزلة بذاكرتها عن التجاذبات في المنظومة ( الزمكانية ) المعاصرة فهي ثقافة ميتة كما هي عند تيارات التزمت الديني وبذلك تغدو عملية اجترار مقولات الغزو الفكري من قبلهم مجرد استهلاك محلي تكشف مدى العقم الثقافي في منظومتهم الفكرية ..
والثقافة الخلاقة تعني القدرة التواصلية على انتاج الرمزيات والنصوص الحية في مماحكة دائمة مع عالم الثقافات المتغير والغزير أما إن بقيت الثقافة عاجزة عن الانتاج خوفا ً من التشظي المعرفي بسبب هشاشتها الداخلية فهي ثقافة عليها أن تبقى حبيسة الماضي ورهينة الفكر المحدود الضيق كما هي عند أصحاب الفكر الديني فلذلك كان الضرب الدائم على وتر الغزو الفكري إحدى مهمات الفكر الديني ..
والثقافة في أحد أهم اتجاهاتها المعرفية تؤمن بتعددية التنوع اللوني وليست مصبوغة بالأبيض والأسود فقط فهي على هذا الأساس ثقافة تتشكل وتزدهر بالتنوع الفكري وقادرة على التفرد الخصب على المستويات الفردية وقادرة على الإبداع والخلق لأنها ثقافة غير محكومة للون واحد أو اتجاه واحد وغير خاضعة لنمط فكري واحد بل مفتوحة لفهم المتنوع من الثقافات والتداخل معها بهدف الانتاجية الفكرية والإبداع الثقافي أما إن بقيت طاردة للتنوع الثقافي وتحت سيطرة الفكر الأحادي ومجبولة على التعصب الفكري فهي ثقافة مصيرها الانزواء في زوايا معتمة تفتقر إلى الضوء والهواء النقي الذي يجدد الخلايا والأنسجة كما هي ثقافة أصحاب الفكر الديني ولذلك كان لا بد من أن يرددوا ويرفعوا لافتات الغزو الفكري
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظاهرة التدين الشكلي
-
حديث الأمكنة
-
حركة التاريخ
-
حدَثَ في لندن
-
الآخر هو أنا
-
أيها العابرون مهلا ً
-
ثقافة التلقين الديني
-
اشتهاءات الحلم
-
الانتماء للوطن وليس للأوهام
-
استبداد الصورة
-
الطغاة .. ذاكرة الماضي القبيح
-
جبران تويني في دروب الضوء والنهار
-
الشتاء وصديقتي والحزن
-
اللاعنفيون رومانسيون حقيقيون
-
ثقافة الأمنيات
-
الهويات القاتلة
-
الفكر الحر
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|