المثقفون أيضاً يمكنهم ان يكونوا متساوين مع ممثلي الحكومات العربية والاقليمية فمثلما فعل وزراء الخارجية الذين اجتمعوا في تركيا، ألقى جمع من هؤلاء باللائمة على النظام العراقي لوحده، وهذا ما جعلهم عرضة لانتقاد سهل، خاصة بظل اندفاعة العدوانية الاميركية، كل من يقول لهم إنهم أخطأوا الاختيار ووقعوا في الفخ يضمن قبل ان يفعل اصواتا لا تحصى، ولكنه هو نفسه يمكن ان يجسد مشكلة، فالتأثر بوطأة الضغط الاعلامي حول حقوق الانسان والديمقراطية، لا تعالجه شعبوية منهارة وغير خلاقة: هنا فخ وهنالك فخ...!
من الافضل...؟ الذي يهاجم النظام العراقي واذا سئل يقول: نحن طبعا ضد الولايات المتحدة سلوا تاريخنا، هذه بداهة. ام الذين يهاجمون الاميركيين لوحدهم ثم يردون: نحن طبعا ضد الدكتاتورية والبطش؟ ربما كانت الاجابة مستحيلة ولكن لا احد يمكن ان يمنع نفسه من الشعور ازاء هذين الخيارين بوجود نقص ما او بأن النصفين المتداولين يكملان بعضهما البعض، أليست هذه هي آلية الحرب اي انعدام فعل السياسة والأفكار؟
يُقال في قيمة الثقافة والأفكار إنها لا تقبل الانشطار الأحادي، ما قيمة هذا الحيز اذا كان يتمثل في الممارسة بصورة بدائية ويعجز عن ان يطمح الى نقل العالم أبعد من حقل المتاريس؟ هذا يحدث الآن عيانياً لأن الثقافة غائبة، مأزومة وعاجزة، فالعالم الذي يحكمه منطق الحرب هو عالم تراجعت فيه الافكار، والدليل انها الحقت ولم تعد تملك حيزها الخاص: لماذا لا يستطيع هؤلاء مثلا اتخاذ موقف لا يضطرون معه الى تأكيد احتفاظهم بنصفهم الآخر؟ وعلى التوالي يمكن رهن شخص مثل ادوارد سعيد الى بدائية سياسية لا يلغيها ابدا علو كعبه الثقافي والأكاديمي ولا حتى مفهومه الذي عبر عنه في موضوع الثقافة وأحيا فينا ذكرى تعود الى ايام (عارنا في الجزائر) و(إني أتهم) فحين يعجز المثقف من موقعه عن خلق حيز ثالث ما بين الجلاد والضحية ليصبح فرنسا اخرى كما فعل سارتر، او ضميرا آخر ابان قضية درايفوس فان الانحطاط والوعي الشقي هما اللذان يحضران لوحدهما.
ولكن هنالك بالمقابل صورة مقيتة عن هذا الجمع الذي يعلي الخطابات الغوغائية منذ اكثر من عقد محوّلاً ركام الوعي الميت والمهزوم الى حقيقة ثورية بائسة تعتاش على بشاعة البطش والغطرسة الاميركيين لقد التقيت في الشهر الماضي الرئيس الجزائري احمد بن بلاّ بعد سنين افترقت فيها عنه بسبب امتعاضي من مواقفه المؤيدة تماما للنظام العراقي ولما القيت كلمتي في المؤتمر الذي يترأسه قال لي إن ما أطلبه مثالي لكن الحكومة العراقية لن تقبله!!! كنت وقتها قد تحدثت بكل مرونة وتقبّل الحضور كله ما عبّرت عنه وطالب الحضور بكسر القاعدة ومنحوني بأصواتهم حق الحديث لفترة تزيد لأربع مرات على حقي الاصلي وفي تلك اللحظة اتضح ان تلك السلسلة من المتوافقين على لا شيىء، الذي يكررون شتيمة الولايات المتحدة ويجمعون اسماء ورموزا بالية خرجت من التاريخ ليعقدوا مؤتمرات، هم ليسوا ابدا نافعين لانهم لا يقفون في حلبة الحياة والحاضر.
وفي اليوم التالي حدث ما هو اهم ففي دعوة على العشاء في النادي الدبلوماسي المصري حضرها عدد محدود كان السيد بن بلاّ والنائب البريطاني غالوي ومجموعة لا تتعدى الثمانية من بين المشاركين في المؤتمر قد أعادوا تذكّر ما حدث في الجلسة التي تحدثت فيها كمعارض وطني وقد قال السيد بن بلاّ الذي تعود علاقتي به الى عام 1985 بأن النظم القائمة في العراق وليبيا هي وراثية جمهورية وان من العبث الحديث معها عن الديمقراطية، وكان السؤال الذي تردد في الجلسة: ترى هل يبرر هذا الوضع ان نضع ورقتنا في صناديق الاستفتاءات التي يحصل فيها رؤساء من هذا النوع على نسبة مئة بالمئة من الاصوات؟ السيد بن بلاّ فعلها ولكن النتيجة ظلت كما هي ولم تتحرك قيد أنملة اقصد كما قلت له في لقاء العشاء ذاك لم تصبح النتيجة مئة وواحد بالمئة.
لا أحد يشك في أن الثقافة هي حلم وتعبير عن تشوّفات وقوة تغيير وهي حتماً ليست رداء بالياً يمكن لأولئك الذين ماتوا باسم التاريخ من ركامات عهد من أفكار القومية والماركسية ان يلبسوه وينهضوا ليحشروا انفسهم في قاطرة بلا عجلات نسيها الزمن وجاءت تجرّ نفسها تحت دواعي الفراغ وتوحش أميركا العدواني، حيث يكون صدام حسين بطلا تحرريا في غير زمنه بينما تتحوّل الافكار والممارسات المنهارة التي راكمت الهزائم والفظاعات الى وجود بحكم الامر الواقع وتالوسيلة خطابية معروفة ومملة لا تتوقف عن توجيه الشتائم للامبريالية: هذا عار لا ينبغي ان يرضاه العقل العربي حتى وهو في حالته الراهنة، وهو تهمة تحط من قيمة الثقافة الى أبعد حد.
من الذي يمكنه اليوم ان يتحمل كره الشعب العراقي وهو الذي يقدم صورة لا مثيل لها عن طلب الحرية بينما الثقافة والافكار لا تملكان من الحساسية ما يؤهلهما لان تنظرا في فرادة ظاهرة حية، الشعب فيها يخرج من ارضه الغنية بكل شيىء محتجاً باسم قضية الحرية لا الخبز وبنسبة تصل الى 20 بالمئة من اصل السكان (هنالك اليوم اربعة ملايين عراقي يهيمون في اربعة أركان الارض جوهر قضيتهم الحرية) ومع ذلك نجد مثقفين عربا يقولون إن العدوان الاميركي يبرر الوقوف الى صف الدكتاتورية، فأي احتقار للشعب ينطوي عليه هذا الرأي؟ اي تعبد للطغيان؟ وأي ايمان بجدواه بدل جدوى وفعالية الحرية وقدرة الشعب الحر الارادة والقرار على خوض المقاومة من دون استعمار داخلي، من دون فئة متسلطة تقتل الناس وتقيدهم وتذلهم، هل صدام حسين قائد وطني وثوري لأنه يتعرض للعدوان الاميركي ومعه الشعب العراقي الذي يموت بمئات الالوف في معركة لا يريدها، ولا ارادة له في قبولها او رفضها بعد ان اثبت انه يكره من يقودونها كما فعل في آذار عام 1991.
هل من المستحيل علينا ان نختار موقفا اكثر تعقيدا وأقل بداهة مما كنا قد تعودنا حتى الآن لماذا الذهاب الأبدي باتجاه واحد لماذا الركون للأحادية؟ الا ينبغي النظر الى الاشياء كما هي، هنالك معضلة اسمها صدام حسين حتى وان كانت المشكلة الأكبر هي اميركا المتوحشة المتعطشة للقتل والتدمير. نريد ان يكون لدينا مكان آخر بعيد عن الحلبة التي تضم صورة هذين المتنازلين، نريد درء الحرب عن الشعب العراقي وعن العراق من دون ان نتمسك بالبطل القومي المنتزع من مقبرة الماضي، ونظامه الذي هو معضلة عراقية سابقة على وجود العدوان الاميركي. نريد حلا لهذه المشكلة يكون فيها للشعب العراقي وقواه الحية دور حاسم من دون تمسك بالدكتاتورية ومع كل خيار يفضي الى حل سلمي يستند ولو على تسوية تاريخية تزول معها الدكتاتورية وترحل كلياً عن سماء العراق ووفق ضمانات وطنية ودولية، وكل هذا من إجبارنا على تجرع أوهام المقاومة، فالمهمة العاجلة والراهنة والكبرى الآن هي إنقاذ الشعب العراقي والمنطقة والعالم من كارثة لا مثيل لها، لا توجد مقاومة سوى في خيال المرضى، ونحن لسنا في وضع نستطيع معه مواجهة الآلة التدميرية للولايات المتحدة والنتيجة معروفة مسبقا، خراب لا يوصف وموت وتدمير يفوق ما أحدثه غزو المغول وهولاكو يجب وبلا أدنى تردد انقاذ العراق باسترخاص الدكتاتورية التي تريد تحسين شروط مفاوضاتها مع الاميركيين بحثا عن افضل الضمانات، مدعية مقاومة نعرف انها كاذبة وتافهة وان الشعب غير معني بها على الاطلاق خاصة بعد العقد المنصرم من الاستهتار ومنع الشعب من مواجهة العدوان وفق خطة مقاومة شاملة وتغيير جذري جرت المطالبة بهما من كثيرين بلا جدوى بينما النظام ينادي (دخلناها منفردين وسنخرج منها منفردين).
انه نظام عقيم لا يقيم اي اعتبار لقضية المقاومة او للانتصار وهو قد فشل تماما في امتحان حي تدل عليه سنوات الحصار التي قضاها متبطرا يبني القصور ويوزع الحصص التموينية ليمسك برقبة الناس ويقطع آذانهم ويوشم جباههم ويجز السنتهم ليجعلهم عند الحاجة يصوتون بنسبة مئة بالمئة ويبعدهم عن اي دور فعال ويساوم الشركات الاجنبية وغيرها بالعقود وبيع الاقتصاد العراقي في المزاد العلني بعقود تفضيلية مؤجلة ويوزع كوبونات النفط على الأعوان والصحفيين والسياسيين في كل مكان وهذا يكفي لأي مثقف حر لأن لا يهين قلمه بالدفاع عنه تحت اية ذريعة كانت.
يجب ايجاد السبيل لإحداث التغيير من دون حرب بقبول زوال الدكتاتورية فورا وقيام حكم انتقالي وطني ورفع الصوت في كل مكان من اجل موقف عربي واقليمي يقدم حلاً وينقذ العراق المعرّض اليوم للذبح من قبل الولايات المتحدة الاميركية، هكذا تستعيد الثقافة دورها المفقود بعيدا عن فخاخ الطرق الأحادية ومن هنا يمكن ان يلوح عالم آخر لا يمت بصلة الى ثنائية الموت والحرب (بوش صدام حسين) ليرتفع فوق العراق والعالم صوت عراق آخر هو من دون ادنى شك صوت العراقيين الذين يتحمّلون الموت والقمع الرهيب وسلسلة طويلة من الحروب ومصير كارثي مقبل: اليس هذا كما يفترض هو مكان الثقافة وخيارها الذي من اجله توجد على مرّ العصور؟
جريدة السفير البيروتية عدد 14/2/2004