أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الخامسة















المزيد.....



محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الخامسة


محمد علاء الدين عبد المولى

الحوار المتمدن-العدد: 1431 - 2006 / 1 / 15 - 09:20
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


علااقة النقد بشعر نزار قباني
ثانياً : كتاب " النرجسيَّة في أدب نزار قبّاني " ( . )
- للدكتور : خريستو نجم -

هل يمكن أن يتساوى النقد الأدبيّ مع التَّحليل النفسي في قراءة العمل الشعري ، والأدبي بصورة عامة ؟ . من المنطقيّ رفضُ أيّ مساواة بينهما ، لأنهما ينطلقان من مرتكزاتٍ متباينةٍ تمام التّباين ، ويؤسِّسان على أرضيّاتٍ مختلفةٍ الاختلاف كله ، ويضع كلٌّ منهما منهاج عمل لا علاقة له بمنهاج العمل لدى الآخر .
ولكن ما لنا ننفي ذلك ، وأمامنا العلاّمة " فرويد "الذي كان رائد التَّحليل النَّفسي ومؤسّس علم النَّفس ، والذي لم يوفِّر حتَّى الأدب والأنبياء وإبليس والأطفال في أجنَّة أمهاتهم ، من تحليله النّفسي . وكلنا يعرف اعتراف فرويد بأن الشعراء هم أوّلُ من اكتشف " اللاّ شعور " . إذاً فثمّة إمكانيّةٌ لالتقاء النَّاقد مع المحلّل في نقطةٍ ما ، ولا سيّما أن الأب فرويد أقرَّ بأسبقيّة الشعراء في اكتشاف ما عرف عنه هو أنه اكتشفه وأحدث ثورة في الوعي الإنسانيّ . وهو اللاشعور . حسناً ، إذا كان فرويد فعل ذلك لكنه لمْ ينسَ أن يعترف بأنه هو الذي أنشأ المنهج العلميّ الذي يضع للاّ شعور أسسه ويكشف عالمه بشكل مدروس علمي ، فالشعراء والفلاسفةُ لم يتقصَّدوا أن يكتشفوا ، وأن يقوموا بفتحٍ مبينٍ ، ذلك أن عملهم كلَّه قائمٌ على استبصار النَّفس وفتح مغاليقها معتمدين على الحدوس والإشراقات والتَّخيلات وحدّة الإحساس ، وليس على دراسة طبقات اللاّ شعور وتسمية مناطقه بالأنا والهو والأنا الأعلى . إنهم كانوا يؤدّون رسالتهم الأدبية الحقيقيَّة فاكتشفوا أن الذَّات ، والنَّفس ، يشكّل كلّ منهما حقلاً غنيَّاً للإلهام . وذلك دون تكلّف ولا تخطيط مسبقٍ . حيث أن المشاعر والعواطف من حبّ وألمٍ وصراع داخليّ وخوف وأحلام وتصوّف وعبادة ورغبات متناقضة ، كل هذا كان من المواضيع الخالدة للإبداع ، ولا سيّما لدى الشعراء والفلاسفة . والذي فعله فرويد أنه أحدث قوانين لهذا كله ، وأخضعه للبحث المنهجيِّ والعلميِّ ، الأمرُ الذي لا يدخل في سياق كلامنا هنا، فهو بحاجة لتفصيل منهجي علمي هو الآخر لا مكان له في الإطار العامّ الذي تتحرّك هذه الدراسة وفقَهُ .
ولكن علينا أن نتساءل : أين حدود الناقد عندما يأخذ بالمنهج النفسي في دراسة الأدبي؟. إذا كنَّا نتّفق على أن الناقد والمحلل النفسي - كما سبق وأشرنا - يمتلكان أدوات مختلفة وغايات متباينة ، فلابدّ - والحال هذه - أن ترتسم حدودٌ بينهما بحيث لا تختلط الأوراقُ ، وبحيث لا يأخذ أحدٌ دور الآخر. وبخاصّة أننَّا أمام العمل الأدبيّ الذي لا يحتملُ أن يكون حقل اختبار لمعادلات العلم . فالعلم يتقصَّى الأسباب والنّتائج فيما بعد ، ويستقرئ الظاهرة ويحلِّلها ويركّبها ويحكمُ عليها بمنطقيّة صارمة .
وهذا ممّا لا يتواءم مع طبيعة الأدب . وإذا كان علم النَّفس عِلْماً فهو مشمولٌ بهذه الرؤية كذلك ، أي لا يمكن أن يتعامل مع الأدب كما يتعامل مع شخصيّة إنسانية مريضةٍ بحاجة إلى جلسات تحليل وفحص سريريّ ومتابعة دوريّة وعلاج ، أو مصحّ نفسيّ ! .
وإذا عدنا إلى فرويد ، فسوف نرى أن كثيراً ممّن جاء بعده ، بمن فيهم بعض تلاميذه ، انتقدوا أسلوب عمله ، ورأى بعضهم شططاً عنده ومبالغةً في تشريح نفسيَّة الطِّفل على سبيل المثال . فإذا كان علماء النَّفس الحديثون أطاحوا بكثير من المفهومات الفرويدية الأساسية ، وسخروا منها ، وهي تتعلّق بالتحليل النفسي نفسه !. فكيف الحال إذا قرأنا تحليلاته النفسية على أعمال فنية وأدبية ؟ لا شكَّ أننا سنمتعض كثيراً من شطحات فرويد الّتي فتحت المجال لأصحاب الهوس بالتحليل النَّفسي الذي لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصوها ، ويكادون يحاسبون النَّملةَ على حركاتها ويفسّرونها على ضوء
" علم النَّفس النَّملي " ! .
وقد اتّخذ عددٌ من النّقّاد علم النَّفس منهجاً نقديَّاً يطبّقونه على القصة والشعر بخاصّة . حتى ساد مثل هذا المنهج في أوساطنا النَّقديّة سيادةً واضحةً.
وقد وجد د . خريستو نجم في الشّاعر نزار قباني فريسةً سهلةً لمباضع التَّحليل النَّفسيِّ، فتفرّغ لهذه المهمة عبر كتابٍ كبيرٍ يخصِّصه لبَحْثِ موضوع النرجسية التي يرى أنّ أدب نزار قباني يمثّل خير دليل عليها .
لكنّه يحاول إقناعنا منذ البداية بأنَّ دراستَهُ " قبل كل شيء دراسةٌ أدبيَّةٌ في منطلقها ومرماها . وليست النَّاحية السّيكولوجيّة إلاّ وسيلةً لتوضيح ما لا تستطيعه المدارس الأدبية التقليدية " - ص 12 - . على أنّ هذا الإعلان عن أن المنطلق هو أدبيٌّ ، لم يكن إلاَّ لفظياً ومنتهيَ المفعول مع انتهائنا من قراءة هذه الفقرة . فقارئ الكتاب سيصل إلى قناعةٍ لا مهرب منها ، مؤدَّاها أنّ الدراسة ما هي إلاَّ دراسة سيكولوجية وليست النَّاحية الأدبية إلاَّ وسيلةً لإثبات ما هو سيكولوجيٌّ . على الرّغم من تبرير الدكتور نجم لاختياره للشاعر نزار دون سواه ، بأن هذا الشاعر لم يَلْقَ ما يستحقُّه من اهتمام الدارسين بل لَقيَ تسرّعاً في الأحكام . ويقول لم يتساءل النقّاد " لماذا كان الشّاعر يلهو مرّة ويكتئب أخرى ؟ ولماذا هو رقيقٌ كالعصفور حيناً وجارح كالسّكين أحياناً ؟ " - ص 20 - ويجد أن النّقّاد " لم يلتفتوا إلى مزاجه الزئبقيّ بل اكتفوا بالتّقويم الفنّيّ والأخلاقيّ على ضوء المناهج التقليدية " - ص 20 - . وهذا يعني ضمناً أن الدّراسة القادرة على القيام بهذا الدّور الذي أهملَهُ النقاد الَّذين اعتمدوا " المناهج التقليدية " ، هي الدراسة السيكولوجية وحدها . ولكن ما فعله د . نجم ينطبق عليه المثَلُ الشَّعبي الذي يعني أنه جاء ليكحّلها فعماها ! .
وقد رأينا في قراءتنا لكتاب محيي الدين صبحي ، أن النّاقد الأدبيَّ تمكّن من تفسير بعض الأحوال النفسيَّة والمزاجيَّة مستفيداً من الناحية النَّفسية البحتة. لكنه لم يتخذ من هذه الناحية سبباً لتعميمها على تجربة الشاعر كلّها . وهذا من أخطار الدراسة السيكولوجية التي - ويا للغرابة - يتنبَّهُ لها هذا المحلل في الدراسة النَّفسية عندما تختزل الموضوع " إلى ناحيةٍ واحدة تفسّر بها كل نزعات الشاعر وصراعاته . ومعلومٌ أنَّ الإنسان لا يمكنُ اختزالُهُ إلى حالةٍ واحدةٍ مبسّطةٍ " -ص21- .
فإذا كان د . نجم يشير علناً لمثل هذا الخطر على العمل الأدبي ، فما الذي جعله يقع فيه ؟ . ما الذي جعله لا يتنبَّه هو نفسه للخطر الَّذي يحذّر منه؟ أليس هذا دليلاً آخر على أن انتباهه ذلك ، لم يكن إلاَّ لفظياً ؟ . لقد عجز
د.نجم عن المواءمة بين عمل التَّحليل النَّفسي وعمل الناقد الأدبي ، فأثبت أنه لم يكن يعطي " الأدبيّ " الأولويَّة التي يجب أن تكون ‎حاضرةً في مثل هذه الدراسات ، وراح يركّز على " النفسي " التركيز كلَّه ، فأضاف هو الآخر تقصيراً جديداً في العلاقة النقدية مع شعر نزار قباني . وهذا ما سوف نحاول العرض له من خلال معالجتِهِ النفسية للأدب ، ومن خلال طرحنا لعددٍ وافرٍ من الأمثلة على ذلك حتَّى نرى مصداقية شعاراته المعلنة أعلاه . .
ينطلق د . نجم في فصل الشاعر الوسيم من ارتباط ( نرسيس ) بالجمال . وهو الشخصية الأسطوريّة التي يعود إليها معنى النرجسيَّة فهو كان شابَّاً وسيماً فاتناً اكتشف جمالَهُ عند تحديقه في الماء ، فأراد مرّةً أن يمسك جمال وجهه المنعكس في مرآة الماء ، فسقط في الماء بعد رحلة تعبّد لجماله الذاتي وطلعت مكان سقوطه زهرة النَّرجس . . والنّرجسّي بناءً عليه يتغزَّل بجماله ويتباهى بأناقته وبملامح جسده . وهذا ما وجده المحلّل ( وسوف نعتمد كلمة المحلل النفسي من الآن فصاعداً ) في نزار قبَّاني . ومن سمات هذا النّرجسّي بحثه عن جماله المستمرّ من خلال ابنِهِ ، فنراه يحب ذاتَهُ من خلال ابنه الذي يحمل مزاج الأب ولون عينيه ولون شعره . ولكن كيف الْتَقَطَ المحلّل النفسيّ ذلك في شعر نزار ؟ .
لقد رآه من خلال قصيدة أليمةٍ يرثي فيها ابنَهُ ( توفيق ) الأمير الدّمشقي . ومن جملة ما قاله فيه :

فما حيلتي يا قصيدةَ عمري

إذا كنتَ أنتَ جميلاً . . وحظِّي قليل

إنّ الأب المفجوع الذي من حقّه إطلاق جميع مشاعر الحزن في مثل هذا المقام الجليل ، ومن حقّه أن يجد في ابنه الشّابّ الذي كان يمثّل له فضاءً مستقبليَّاً مهمَّاً ، يتحوَّل هذا الأب إلى نرجسيّ على يد المحلل النَّفسيّ ، لأنه
- أي الشاعر - يرى في ابنه جمالاً .
أيُّ أبٍ لا يجد ابنَهُ جميلاً ؟ فكيف إذا كان هذا الأب نزار قباني ؟
وكيف إذا كان الشّاب فعلاً جميلاً ؟ هل يحتاج الأمر إلى نرجسيّة وما شابه؟ . لماذا يصادر التحليل النّفسي هنا حقَّ الرّوح المفجوع - دون أن يكون مصاباً بنرجسيّة - في رثاء الجمال الميت من خلال رثاء ابنه الشّابّ الوحيد ؟ لا أدري كيف يسمح المحلّل لنفسه بالإساءة للإحساس الكارثيِّ المشروع بتفسيره مثل هذا التَّفسير المشوَّه . ألا يعطي جمالُ الابن الميت انطباعاً أليماً أعمق عند القارئ ليشترك بكل مشاعره مع الأب الشاعر ؟ إنَّ ارتباط الفتى الميت بكونه جميلاً سيجعل استقبال اللّغة المعبّرة استقبالاً أوثق صلةً بالفجيعة. ثم إن أيّ مرثيةٍ لأي موضوع ، حتّى لو كان أرضاً ، من الطبيعي أن تتكئ في شدّة تأثيرها على وصف الموضوع بأنه جميل . ماذا في الأمر حتّى نتعامل معه على أنَّه نرجسيَّة ؟ .
قلنا إنَّ من سمات النرجسيّ أن يتباهى بأناقتِهِ . ولكن هل من الضّروريّ والقدريِّ أن يكون كلّ إنسانٍ ينشغل بأناقته ، نرجسيَّاً ؟ .
يعني : هل الأمر خاضع لقضيّةٍ منطقيّةٍ هي : كلّ أنيق نرجسيّ - نزار قباني أنيق - نزار نرجسيّ ؟ . هذه هي المشكلة الكبرى في تحليل المحلّل ، يُخضع كلّ شيء لمثل هذه القضيّة . فاهتمامُ الشاعر بأناقته وحسن مظهره تصرّفٌ مسرحيٌّ ودليل شعور بالدّونيّة . إذا كان الإنسان يصبو لأن يحترم شكله وشخصيَّتَهُ الاجتماعية ، فالويل له . كيف إذا كان هذا الإنسان شاعراً مشهوراً ، موضوعاً دائماً تحت الطَّلب والأضواء والصَّالونات والمهرجانات؟. ولا سيما أن له علاقةً مع فضاءات الأنوثة والجمال . فهل هذا أمرٌ ذو صلة بالنرجسية ؟ لماذا لا يكون نوعاً من احترام أحاسيس الآخرين والظهور أمامهم بما يبعث فيهم ارتياحاً بأن أمامهم كائناً جميلاً معطّراً أنيقاً ؟ أليس هذا أمراً يدخل في باب اللَّباقة الاجتماعية ؟ لا ، هذا هو الجواب عند المحلل النَّفسي . إن الأنيق هنا يقوم بعملية تعويضٍ عن خللٍ وجروحٍ نفسيةٍ لا واعيةٍ . فإذا لبستم أيها الناس أجمل ما عندكم من ثياب أيام الأعياد ، فإنكم جميعاً تعانون من جروح نفسية لا واعية . ولكي تشفوا من هذه الجروح اللاّواعية عليكم أن تكفّوا عن الاهتمام بأناقتكم .
إنّ من أبسط آداب العلاقات الاجتماعية أن تتمتّع بقدرٍ وافرٍ من الجمال والاحترام . ولنذكر هنا أنّ من آداب يوم الجمعة لدى المؤمنين ، ومن خصوصيّات هذا اليوم ، أن يغتسل فيه المؤمن ويتطيَّب برائحة عطرة ويلبس ثياباً جميلة ، ويذهب إلى المسجد . فلنتأمّل حالةَ المكان المقدَّس هنا وقد تحوَّل إلى حديقةٍ من العطور والطِّيب والأناقة والاحترام وتناسق صفوف المصلِّين ووحدة حركاتهم وجماعيّتها . كم في ذلك من الخشوع، والارتقاء بالروح والجسد إلى مقام الله الذي سيمتلئ ملكوته بالغبطة والنشوة فرحاً بعباده الذين يمارسون عبادته وهم في أبهى لحظات الجمال . لنتأمّل مثل هذا المشهد ، ولنعرضه على المحلّل النَّفسيّ ، فماذا سيقول ؟ وأي تشويه سيمارسه على مثل هذا المشهد ؟ .
إذا جامَلْنا هذا المحلّل وقلنا : إن الشاعر يعاني من جروح لا واعية لأنه في شبابه ورجولته - وحتى آخر ساعات حياته كان يتعمَّدُ الظهور أمام زوّاره بأبهى منظر - كان يهتمُّ بأناقته ، فماذا نقول عنه عندما كان ابن شهور وسنوات قليلة ؟ ومن المعروف عنه أنه كان مدلَّلاً ويلبس أجمل الثياب ، وكان وسيماً وجميلاً ، فهل كان الطّفل ابن السنوات الأولى كذلك يعاني من جروح نفسية يعوّض عنها بأناقته ؟ .
إنّ القراءة التي تتوخّى الانسجام مع مجمل مشروع نزار قباني ، سوف ترى في أناقته - إذا كانت هذه الأناقة ظاهرةً تستوقف النّقد - استكمالاً لهذا المشروع الخاصّ بالجمال والتنّاسق . فهو يذيع بين الناس شعراً جميلاً ، موضوعُه الأهمّ الجمالُ ، فلماذا لا يكون حامل الشعر جميلاً ؟ . لقد كان نزار يسعى إلى تغيير صورة الشاعر في أذهان الناس ، الذين يتوهَّمون أنّ الشاعر يجب أن يكون فوضويّ المنظر ، ليعكس بذلك مزاجه الفوضويَّ ، ومتّسخَ الثّياب لتظهر ملامحُه النّضاليّةُ والمعاناة اليومية . فكان الشاعر بمثل هذه الصورة نموذجاً للتّهكّم والسّخرية ، وأمرٌ مرفوض رفضاً قاطعاً أن يرتبط مفهوم الشاعر بالقذارة والفوضى و ( الشَّرشحة ) .
وقد شهدتُ شخصيَّاً تعليقات بعض الجمهور على منظر شاعرٍ ما يلبسُ نوعاً ما من الثياب ، أو ينتعل حذاءً يعلوه غبار الشارع ، أو يكرّر الثّياب نفسها في أكثر من أمسية ! فلماذا لا ينسجم الشاعر مع المناخ الاجتماعيّ العامّ الذي يفرضُ عليه أن يكون جميل المنظر ؟
طبعاً نحن لا نركّز على هذا الموضوع البسيط والذي لا يحتاج لكلّ هذا النّقاش ، فهو أمرٌ مفروغ منه ، لولا تجرّؤ المحلل النّفسي على تشويه مثل هذا الموضوع البسيط .
كذلك فإنّ توقيع الشاعر للمعجبات به على أوراقهنّ هو من باب الاستعراض والنّرجسيّة. لماذا لا يكون احتراماً لهنّ وعنايةً ورفعاً لمعنوياتهنّ. حتَّى لو اضطرّ الشاعر أن يوقّع ذات أمسية على فخذ صبيّة معجبة تجرّأت وكشفت له عن فخذها فوقَّع لها كما رغبت . إنّ المحلل النفسي يجد هذا نجوميَّة واستعراضاً يدلاّن على نرجسيّةٍ لدى الشاعر . مع أنَّ الأمر يمكن أن يمرّ مروراً عادياً إذا اعتبرناه تكاملاً بين مفهوم الشاعر عن المرأة وجمالها ، وسلوكه معها . هل كان عليه أن يصرخ في وجهها من أجل أن (تتستّر) حتى يؤدي دوره في الحفاظ على الحشمة والأخلاق ؟ . أيكون الشاعر عندها صادقاً مع قصائده عن دعوته لحرية المرأة وفرديّتها ؟ وهل ستكون هذه المعجبة بعد أن يؤنّبها الشاعر ، قادرة على تصديق ما يقول ؟
لا شكّ أن مثل هذا التَّصرّف يحمل شيئاً مهمَّاً من الجرأة ، لكنّه تصرّفٌ لا يجوز للشاعر النَّجم أن يسيء فهمَهُ ، حتّى يبرّئ نفسه من تهمة النرجسيّة ويتحرَّر من ( أناه الجسميّ ).
***
وفي فصلٍ آخر عن أثر الطّفولة ، يبحث المحلّل في أثر الطفولة في حياة الإنسان بشكلٍ عامّ وحياة الفنان بشكل خاصّ .ونرى هنا أنَّ الشاعر نزار قباني قد سَجَّل بعض وقائع طفولته في كثيرٍ من كتاباته الشعرية والنثرية ، وخاصّة في كتابه " قصَّتي مع الشعر " . والمحلّلُ هنا لا يريد أن ينطلق من الطّفولة التي تحدَّث عنها الشاعر وباح بما فيها ، فهي طفولة واعية ، كما يرى ، بل يريد المحلّل بضربة معلم أن يتسلّل إلى الطفولة اللا واعية ، لكي تتطابق وقائعها السرية ورموزها مع أهدافه في مطاردة الشاعر وفَضْح أسراره ، وإلقاء القبض على كل شاردة وواردة عنده .
فعلى سبيل المثال ، يتناول المحلل علاقة الشاعر بالأم في طفولتِهِ ، ويترصَّد آثار ذلك على علاقاته مع النساء فيما بعد . وذلك من منطلق أن الإنسان عندما يفقد أمَّهُ ، يقضي حياتَهُ بحثاً عنها في وجوه النّسوة اللّواتي سوف يتعرّف عليهنّ ، من أجل أن يعوّض عن الأمّ . ‎وخاصةً إذا كانت الأمّ مثل أمّ نزار قباني التي كانت تفرط في تدليله والعناية به . فإذا دخل الشاعر في علاقةٍ مع امرأةٍ تقول له : يا طفلي وصغيري ، وإذا مدّدتْه على زندها وداعبت شعره ، فإن المحلل يرى في هذا الوضع حالة تعويضيّةً عن الأمّ . وكأنَّ علاقةَ الحبّ لا يوجد فيها بطبيعتها مثلُ هذه الحوارات الدَّافئة التي تصل إلى الشَّفافية والحنان المتدفّق من قلب الأنثى . لماذا لا يكون الأمرُ مفهوماً في سياقِهِ العاطفيّ الذي يفرز مثل هذه الألفاظ على لسان كلٍّ من العاشقَيْن ، دون أن تقف وراء هذه الألفاظ عقدة التَّعويض . أليس للحبّ عالمُهُ المستقلُّ ؟
ومع ذلك ، ما المانع في أن تشترك الأمُّ والحبيبةُ في كيفية التَّعبير عن العاطفة تجاه الآخر ؟ . ألا تنتمي الاثنتان إلى عالم الأنوثة المشبع بالحنان ولمساتِ الطّفولة ؟ .
أمّا إذا اشتعل الحنينُ في نفس الشاعر إلى أمّه وهو بعيدٌ عنها يطوف في أرجاء الأرض، فهل هو يعبر عن نرجسيته ؟ من الذي يحقّ له أن يضع قيداً على شعورٍ كهذا الشعور ويسميه بأسماء مشوهة ؟ . حتى لو كانت هذه الأمّ أمّاً استثنائية نادرة في ترفيهها لطفلها وإغراقه في لحظاتٍ لا تنسى من الحنان.
هل من الضرورة أن يكون في الأمر عقدة ما ؟ . هل كلّ الرجال والآباء الذين يشتاقون إلى أمهاتهم مصابون بنرجسيّة ؟ . إنّ المحلل يرى النرجسية منتشرة في كل شيء . حتى إذا قال الشاعر - بعد أن صار سفيراً - لأمّه :
فكيف فكيف يا أمّي

غدوتُ أباً ولم أكبَرْ ؟

فإنّ المحلّل يعثر على سبب لإدانة الشاعر . أين ذهب المحلل بعلاقة الإبداع بالطفولة ؟ أين رمى بكلّ هذا التّداخل بين الطفولة كينبوع من ينابيع الفنّ ، والإبداع الذي قد يكون لدى البعض ما هو إلاَّ استعادة دائمة للطفولة ؟ . إن هذا دليل نرجسية وأوديبيّة معاً .
فهذا يدخل في باب عشق الأمّ وهيام بها ، وسوف يحمل الشاعر نموذج أمّه طيلة حياته ليجعله ميزان علاقاته مع النّساء .
وسوف يجد المحلل في فترة السّـتينيّات من عمر الشاعر أثـر الأوديبية" إذ هو يطلب من حبيبته أن تؤويه إلى صدرها لأنّه يشعـر بالخوف من المجهول . ويسألها أن تضمَّه بذراعيها لأنه يخشى ظلام الغرفة . ولذا نراه يتشبّث بها كي تظل معه وتغطّيه من البرد " - ص 53 - يا للعار ...!
كيف يسمح الشاعر لنفسه أن يطلب من حبيبته أن تضمه وتلتصق به في ليلة باردة موحشة ؟ ألا يعلم هذا الشاعر أن ذلك عقدة نرجسية وأوديبية ؟ . فالعشّاق - في نظر المحلّل النفسيّ العبقري - يجب ألا يطلبوا من حبيباتهم عناقهنّ ، فهذا ليس من شيم الحبّ. وبخاصّة عندما يكون عمر الشاعر في الخامسة والخمسين ، فإنّ الأمر يثير الشك أكثر .
أريد أن أتساءل بصراحة وسذاجة : هل حقاً يعرف هذا المحلل ما هو الحب هكذا في أبسط جماليّاته وتعابيره وسماته ؟ ما الذي يجعله إذاً يرى خللاً نفسياً في مثل هذه المواقف؟. هل لدى المحلل القدرة على تقبّل لحظات الحنان بعفويّتها واندفاعها دون أن يصاب بالقلق فيبحث لهذه اللحظات عن أسبابها النفسية حتى يرى في كل شيءٍ بسيط باعثاً على اختراع عقدةٍ ما ؟ .
وهكذا يتابع ملاحقّته للشاعر . فهذا هو الشاعر يصوّر كيف نقَلَتْهُ زوجته بلقيس إلى المستشفى بعد إصابته بالذبحة الصدرية عام 1973 في سيارة تقودها هي بيدٍ ، وتمسح بيدها الأخرى العرق المتصبّب من جبينه ، وتخشى عليه في هذه اللحظة المرعبة حيث يقف حبيبها وزوجها وشاعرها وشاعر الملايين ، وجهاً لوجه أمام الموت . ومع ذلك فإنَّ المحلّل النَّفسي سيبحث في مثل هذه اللحظة عن أسبابها الكامنة في طفولة الشاعر ، وسيعتبر أن حنان بلقيس هنا هو تعويض عن حنان الأمّ ! .
حسناً ، ماذا سيقول المحلِّلُ إذا كان من يرافق الشاعر هو ابنه مثلاً . وكان يمسح له العرق الناشئ عن مضاعفات الذبحة ، ويعامله بحنان ومحبّة وخوف عليه ؟ أي أمّ سيجدها ليعلّق عليها تفسيره كان على بلقيس أن تترك زوجها المذبوح يذهب وحده إلى المشفى وتذهب هي تتسوّق وتزور جاراتها وكأنّ شيئاً لم يكن .
وعندما يخسر الشاعر بلقيس وتتركه زوجاً وحيداً مع طفلين ، يصبح حنينُه إليها وبكاؤه عليها ، والوحشة التي تتملّكه بعدها ، دليلاً على عقدة نفسيّة . ويفرح المحلل بالعثور على اعترافٍ شخصيٍّ من الشاعر يدينه من خلاله عندما يقول الشاعر " أهمّ ما في نظرة بلقيس إليّ خلال اثنتي عشرة سنة ، اعتبارها إيايّ الطّفل الثالث في البيت . كانت دائماً تقول لي أنتم أطفالي الثلاثة زينب وعمر ونزار " . إن هذه وثيقة يجب أن تدخل في مختبر التَّحليل النفسيّ لمعالجة الوضع المتفاقم ! ويجب وضع الأمور في نصابها . فهذا دليلٌ آخر على التّعلّق المرضيّ بالأمّ من خلال عثور الشاعر عليها في زوجته .
هل بعد هذا الاستخفاف بالإنسان ونُبل عواطفه وإحساسه ؟ .
هكذا يرفع السيد المحلل النَّفسي الجانب الطبيعيَّ من العاطفة والانفعال ، ويحوّل أيّ موقف حنان وعاطفة وحزن من مجاله الإنسانيّ إلى " شيءٍ " ما لا يتجاوز كونه سبّةً ونقصاً أو عقدةً وانحرافاً ، بحيث ليس من حق الشاعر أن يعبّر عن أي شعور خاص فكلّ ذلك مرهون بعقدة ما وبهذا يغيب مفهوم (الشَّاعر ) ويحضر مفهوم ( المريض ) . يغيب الشاعر بواقعه الاستثنائي وخصوصيّة علاقاته مع الأشياء والعالم والمرأة ، ويسلبُه المحلل كل امتياز في شكل تعامله مع المحيط بكلّ ما فيه ، ويختزل هذا الشاعر إلى كائن يبدأ وينتهي عالمُه فوق سرير العيادة النفسية .
يقول الشاعر :

الحبّ ليس روايةً شرقيّةً بختامـها يتزوَّجُ الأبطـالُ
لكنّه الإبحار دون سفينةٍ وشعورنا أنّ الوصول محالُ

ولنلاحظ كيف يتعامل المحلّل النفسي مع هذه الكلمات . فيأخذها بشكل يفرّغها تماماً من دورها الجماليّ والتَّعبيري ، ودون الأخذ بعين الاعتبار للغة القلق والتّوتّر الشعري الذي هو من أوّل سمات الشاعر . فهذان البيتان دليلٌ عند المحلل على كثرة النّساء في حياة الشعر ، وندرتهن في قلبه . فهنَّ قليلات كحبيباتٍ ، كثيراتٌ كوجوهٍ .
" حتَّى أصبح طبيعيَّاً عنده ألاَّ يتمَّ اللقاء في آخر الأمر " - ص 57 - .
ويتّخذ من قول الشاعر " شعورنا أنَّ الوصول محال " دليلاً على عدم اللّقاء. وكأن الشاعر يريد من كلمة ( الوصول ) اللّقاء المباشر كم من السُّخفِ والتَّسطيح في نظرة المحلل ؟ وكم يخلو من الذّوق تعاملُه مع أبسط حدود اللّغة الشّعريّة ؟ . إنّ الحبّ الذي يصبح لدى الشاعر عالماً لا نهائيّاً وغير محدود ، ويأخذ صيغة الانفتاح على الاحتمالات اللاّمتوقّعة ، نظراً لطبيعتِه ولتكوينه الخفيِّ ، ونظراً لأنّ طموح العاشق لا يُحَدُّ في أطرٍ معيَّنةٍ ، بل يحسّ دائماً بأنه لا يصل إلى صبوته النهائية ، حيث لا صبوة نهائيَّة في حسابات العشق الكبير، أقول إنّ هذا الحبّ يتحوّل لدى المحلل النَّفسي العتيد إلى شيءٍ ذي علاقة بعقدة أوديب ! .فهو يرى أن الشاعر يعجز عن إتمام علاقته مع حبيبته (الوصول محال ) ، لأنه مشدودٌ إلى الخَلْف بقوّة الأمّ التي تغدو الحاجز الذي يفصل الشاعر عن هذا الوصول لأنه زاهد في حقيقة الأمر في النّساء لأن عشقه متّجهٌ إلى أمّه . هذا على الرّغم من أن الشاعر نفسه نفى عن نفسه صفة الأوديبيّة .
هذا ، ولم تَنْجُ حتّى أمّ الشَّاعر هي الأخرى من استنطاق العيادة النّفسيّة .
فهذه الأمّ الطيّبة التي تتفجر حبّاً وحناناً حول طفلها نزار المدلّل ، إنَّما تقوم بذلك لأنها تعاني من خللٍ في علاقتها بأبيه ، وتعاني من فراغٍ عاطفيٍّ ، تعوّضُه بأن تُسقط حنانها المكبوت الطّاقة على طفلها
وفجأةً يشعرُ المحلّل ، ولو بسرعةٍ ، أنّ هذه الاتّهامات خطيرةٌ ، ومع ذلك يصرّ على " أنّ في شعر نزار أثراً من التّعلّق بالأمّ ، وليس ضروريَّاً أن تكون جذور التّعلّق جنسيّةً خالصةً ، فقد تكون الحاجة النَّفسيّة إلى الحماية والعطف مصدر هذا التّعلّق الكامن في اللاّ شعور. غير أنّ هذه العلاقة الوجدانيَّة لا تمنعنا من تتبُّع مظاهر الشَّبق الجنسيّ في شعر صاحبنا ذلك أن في شعره ظاهرةً ملفتةً للانتباه لكثرة شيوعها منذ بواكيره وحتَّى آخر أعماله . وكلّ مَنْ قرأ هذا الشاعر أو درس آثاره لا بدّ أن يتوقّف ملياً عند إلحاح الرَّجل على نهدي المرأة والتّركيز عليهما بشكلٍ يكاد يكون مرضيَّاً " - ص 62 - . ويتابع " ولا نظنّ مطلقاً أنّ التّوقّف على النَّهدين في غزل نزار هو من قبيل المصادفات ، بل نحسبُهُ على العكس من ذلك ، أمراً عميق الجذور في غرائزه الجنسيَّة لأنَّه ذو دلالةٍ تعود بنا إلى سنوات الطّفولة الأولى ، وما عرفه الطّفل من متع الرّضاع على صدر أمّه " - ص 62 - .
والطّريف أن المحلّل يجد أمامه الظّاهرة التّالية :
كان فطام الشاعر عن صدر أمّه متأخّراً . وهذا أمرٌ أوقع المحلّل في إرباك وهو بصدد تحديد الأثر الذي يتركه الفطام الباكر أو المتأخّر ، في الحياة الجنسيّة للرَّجل . وينقُل لنا الشاعر كيف حلَّل واحدٌ غيره ( فؤاد دوّاره ) وجود النّهود بكثرة عند نزار .
ففؤاد يرى " أنّ إكثار النّهود في لوحات قباني سببه الفطام الباكر "
ص - 64 - . ولكن الشاعر يعترف بعظمة لسانه أنّ أمّه ظلّت ترضعه حتّى سنّ السابعة . لذلك يرى المحلّل - نجم - أن إكثار النهود لا يعود إلى الفطام الباكر ، بل إلى الفطام المتأخر . إنّ المهمّ عند المحلّلين أن النهد له علاقة بالفطام . وهذا خللٌ نفسيّ في الشاعر .
ويستغرق المحلّل في استعراض المهارات النفسيّة في تشويه صورة النهد والإساءة إلى علاقة الشاعر به .
مرّةً أخرى وليست أخيرة ، تطالعنا أمّيّةُ القارئ النَّفسيّ للنّصّ الأدبيّ برموزه وإشاراته الجمالية . ومرّة بعد مرّة يعطينا التّحليل النفسيّ أردأ الدروس وأسوأها في نظريته ( التشييئية ) للشعر الذي يبني عالمه بشكل أساسيّ على استقراء الجمال والتقاط مظاهره وأشكاله لتقديم إبداعٍ للمتلقّي الذي من حقّه أن يشبع جوعه الجماليّ المشروع للمتعة الفنية والروحية .
فالمحلّل ينتزع الجزء - بل الجزيء - من سياقه الأدبي ، وينهال على هذا الجزيء بكلّ ما أوتي من قوّة ليُظهره للقارئ باعتباره الكلَّ الكامل الذي ينزل الشاعر إلى مستواه ، فيحدث هنا خلق وهم لدى المتلقّي بأن اهتمام الشاعر بهذا الجزء هو اهتمام يدلّ على سطحيّته . وكلّ هذا يشكّل أصلاً خيانةً للعمل الأدبي واستغباءً للقارئ ، حين يتمّ إلغاء مجمل عناصر النّصّ الأدبي ومبرّراته الفنية والجمالية ، وبالتّالي إلغاء دور هذه العناصر ، وضغط دورها إلى نزوة عابرةٍ تستوقف الشاعر ، بينما هي في الحقيقة جزء لا يُفهَم إلاّ من خلال تعلّقه بسواه من الأجزاء الأخرى . ثمّ ما الّذي يقدّمه هذا الاجتزاء من تنوير وعي المتلقّي جماليّاً ؟ أليس الأدب في أبسط مهامّه ، غذاء جمالياً روحيّاً للإنسان ؟
من هنا نستغرب بشدةٍ كيفيّة فَهْمٍ المحلِّل لعلاقة الشاعر بالنّهود . ندهش كيف لا يقدر المحلّل أن يرى في النَّهد إلاّ عضواً ذا وظيفةٍ بيولوجيّةٍ تقوم بإدارتها الأمُّ من إرضاعٍ لأطفالها . وهذا العضو البيولوجي الذي يشتمل على لذّةٍ ما ، سوف يبقى بيولوجياً عندما يرد ذكره في قصائد الشاعر فيما بعد. وهذا أمرٌ يرفضه التصور الأدبي المتعلق بتحويل الألفاظ إلى رموز غير متطابقة مع الواقع المباشر . لذلك لا يمكن أن يتمّ قراءة اللفظ قراءة تفسيرية تهدف إلى التشابه مع معنى اللفظ المباشر .
فلفظ النَّهد ، الذي يشيع كثيراً في جميع أشعار نزار ، ليس لفظاً واقعياً ، بدلالة وروده عبر معان كثيرة ولا نهائية، ولا تنحصر دلالته في مؤشر واحدٍ، بل كان عنصراً متحولاً حسب المناخ النفسي والجمالي الذي ينبعث من داخل الشاعر ، أو من خلال طبيعة اللحظة الانفعالية الراهنة .
ثم لماذا لا يكون النهد - في أبسط المعاني - رمزاً من رموز جمال جسد الأنثى ، ينبوعاً طبيعياُ لاستلهام آفاق الشعر ، حاملاً لإمكانيات صياغة علاقة شعرية مع المرأة ، وفضاءً من فضاءات الحوار الشعري مع الجسد الفتي والخصيب والمثير ؟
وهذا كلّه يثري النص الشعري ويجعل قدرته على التأثير في وجدان المتلقي أكثر تحققاً . فلماذا ننزع عن عنصر من عناصر جسد المرأة كلّ ممكناته ، ونطيح بجدوى الانبهار به ورسمه رسماً أنيقاً يناسب رمزيّته ، نفعل كل ذلك ولا يبقى منه سوى أنه دليل خلل أو عقدة ؟ . ماذا يقول المحلل في رموز جسد الأنثى في الأساطير ؟ ألا نبصر كيف احتفل الإنسان بجسدها ، وتحديداً بثدييها تعبيراً عن احترام الخصوبة الكامنة فيهما ، وكيف ارتبط هذا الجسد بجسد الأرض والطبيعة بشكل عام ؟ على ضوء كون الجسد طقساً في اللحظات الأسطورية ، علينا أن نتابع توالد هذا الطَّقس في نصوص المبدعين ، مع إمكانية قراءة هذه النصوص بما تكتنزه من رموز كبرى وإشارات لم تكفّ يوماً عن حمل رؤى الإنسان وأفراحه .
فأين يكمن الخلل بعد ذلك هل في غنى دلالات النّهد وغزارة تشكيلاته الفنية ، أم في نظرة المحلل العاجز عن استبصار ما يعانيه الجسد من قَوْلٍ أسطوريّ ورمزيٍّ وجماليّ . ؟
إنّ من الضروري - من وجهة نظرٍ أخرى - أن نسجل ريادة الشاعر نزار قباني في تثويره لخطاب الجسد ، الذي شكل عبر قرون من الشعر العربي موضوعاً لا يملك تعييناً ملموساً ، بل كان جسداً هلامياً ، وكان الشِّعر العربي يمتلك نمطاً من ‎‎الجسد تم تعميمه بحيث لا يمكن ، لاعتباراتٍ كثيرةٍ ، أن يخرج أحدٌ عليه . وإذا أردنا البحث عن عدد القصائد التي اخترقت هذا النمط فسوف نجد أنها نادرة جدّاً . حتى تجرّأ نزار قباني على هذا النمط فهشَّمَهُ إلى الأبد . وقام بإعادة النظر بشكل انقلابي في هذا الجسد ، ليطلقه من وضعه الهلامي العمومي إلى حالات تخصيصية متعينة ، وذلك بأن شقَّ السّتارة الحديديّة التي كان يختفي خلفها مفهوم الجسد ، وأخرجه إلى النّور والشّمس والهواء ، فهو مفهوم لا يلبّي الكائن الحديث الذي طرح على نفسه عدداً من التحديات في وجه العصر ، والواقع الاجتماعي والقيميّ ، بثقافته المتوقّفة عن الحركة منذ عصور . ولا بدّ للشاعر الحديث نزار قبّاني أن يطوّر في خطاب الجسد كجزءٍ من تطوير أشمل كان يسعى لتحقيقه ، يخص المجتمع بصورة عامة ، وذلك حتى يغدو هذا الخطاب منسجماً مع ثقافة العصر وانقلاباته في أي مجال . كان هذا - كما أكّدنا أكثر من مرة - مفهوماً ضمن مشروع عريض يهدف الشاعر من خلاله إلى إحداث هزة في عمق البنية الذهنية التقليدية وزجّها في مواجهات مع ثوابتها ومستقراتها التاريخية . وقد نجح نزار قباني أيّما نجاح في ذلك ولكن بعد أن دفع أثماناً باهظة ، ربما ما يزال يدفعها حتى بعد رحيله .
إذاً ، خلق هذا التثوير لخطاب وثقافة الجسد ، تثويراً في كيفية التعبير عنه. فمن غير الممكن استعادة صورة الجسد عند جميل العامري ومجنون ليلى وابن الفارض ، لا بد من إحداث تغيير في هذه الصورة ، من خلال البحث عن صورة شعرية حديثة تستوعب الانقلاب الحاصل ، وهذا ما استدعى من الشَّاعر صورة عارية تنسف قيود الجسد وتشعل النار في مكبوت الخيال الإنساني ، لتحريضه على حوار مع جسد جديد لم يعد كتلة صمّاء ، وفي سياق ذلك كله تأتي صورة النهد عند الشاعر .
الآن ، أين المحلل النفسي من كلّ هذا ؟ . لنقل أنه أولى بعض الاهتمام لمثل هذا الموضوع في فصلٍ خاص بالموهبة الشعرية ، لكنه عاد مباشرة وربطه بالعقدة النفسية و ( الطور الفمّي ) . . فقد وجد المحلل أن ما جاء به الشاعر كان يمثل نوعاً من الفرادة ، أثبت من خلالها أناه الخاص وهويته المختلفة عن غيره من الشعراء . وأنّ اختياره لمملكة الجنس كان إمعاناً في إثبات فرادته ، وأنه شاعر يرفض " أن يكون توأماً سياميَّاً مع أي شاعرٍ ، إن التوائم السياميّة في الأدب تموت لساعتها ونزار يريد أن يعيش أبداً ، من هنا تمسكه بذاكرته الشخصية ورفضه النقل عن الذاكرة العربية ومحاولته الخروج على النموذج العام " - ص 96 - ، ولكن المحلل يستكثر على الشاعر أن يتابع هذه القراءة البعيدة نوعاً ما عن طاولة التّشريح النفسي، فيكتشف فجأة أن الشاعر قد أفلت من قبضته ، وعليه أن يعيد ذلك الإحساس بالتفرّد عنده إلى مصطلح نفسيّ في جعبة مصطلحاته الجاهزة لتسمية كلّ حركة باسمها الشاذ المنحرف . وبعد أن يورد الكلام ‎‎‎‎‎‎‎‎‎التالي لنزار قباني : " الحب الذي كتبت عنه هو حبّي أنا ، ومعاناتي أنا ، والأبجدية الّتي اعتمدتها في الكتابة عن هذا الحبّ هي أبجديتي أنا . إنني أوّل شاعر دخل إلى غرف الحبّ الضيقة وسمى أشياء العشق المعاصرة بدقّة عدسة التصوير " .
يقول المحلّل بعدها : " ولعل التّبجّح المنبعث من كلام نزار يدل على حقيقة الشاعر المولع بالحديث عن نفسه حديثاً لا ينقطع ، خاصَّة عندما يرتدّ نحو الطَّور الفمّيِّ ويسترجع متعة الإحساس بالكلام مثلما كان يتذوق أيام طفولته متعة الإحساس بالسّكّر " ص 97 .
لنلاحظ انتقال المحلّل من حقيقة أنّ الشاعر كان رائداً وفريداً في اختياره لموضوعات جديدة جريئة كان يريد من خلالها إثبات ذاته شعرياً وثقافياً ، وهو يعتدّ بذلك ، إلى اعتبار ذلك الاعتراف من الشاعر نفسه بريادته ( تبجحاً ) وولعاً نرجسياً بالحديث عن الذَّات . من أين استطاع المحلل هذا الربط العجيب بين حديث الشاعر عن نفسه ، وبين المرحلة الفمّيّة؟ إنه يعتبر متعة الحديث عن نفسه تشبه متعة الإحساس بالسّكّر . لماذا يكون ذلك كذلك ؟ . ولا نقبل اعترافات مبدعٍ ما ومذكراته عن حياته وطفولته وتجربته ؟ أليس لكل المبدعين حقّ في البوح بتفاصيل تجربتهم حسب رؤيتهم ؟. وهذا ليس يعني بالضرورة الموافقة على كل ما يقول فلانٌ من الشعراء ، ولكن أليس انتهاكاً لحقه أن نرى في ذلك ارتداداً إلى طورٍ فمّيٍّ ؟ . يا لغرابة هذا التّحليل النَّفسيّ . ولكن لماذا نعجب من ذلك ؟ ألم ينطلق د . نجم أساساً من فرضية مسبقة هي نرجسيّة نزار قبَّاني فعليه أن يدافع عنها مسقطاً من حساباته أي اعتبار مناقض . ولا يهم في سبيل ذلك أن يلوي عنق النّص ليجعله متفقاً مع نتائجه التي وضعها مسبقاً وراح يبحث عن كيفية استدراج القارئ ليقنعه بها . فأينما اتجه الشاعر فالنرجسية في انتظاره .
نأتي الآن إلى علاقة الشاعر بالجماهيرية لنرى كيف وجد فيها المحلل منتهى النرجسية كذلك .
كان ( نرسيس ) يرى ذاته الجميلة في الماء . أمَّا الشاعر فإنه يرى ذاته في مرآة الجمهور. ويريد أن يؤكد على أنَّه يرى وجهه من خلال آلاف الناس. ما الخلل في ذلك ؟ . ألا يستطيع المحلل أن يصدّق أن هناك أموراً خارج النرجسية ؟ . أليست هذه العلاقة إقراراً بضرورة التواصل مع الآخرين، ولا سيما بين المبدع والآخرين ؟ أليست هذه طبيعة الأمور؟ حتَّى الإنسان العادي الهامشي أصبح مدركاً منذ ( دهر الدَّاهرين ) لضرورة التّواصل والحوار مع الآخرين كيفما كان شكل هذا الحوار . فهو لا يحيا اجتماعياً دون الآخر . فكيف إذا كان هذا الإنسان مبدعاً يطرح على الناس إبداعه ؟ . على من يطرح نتاجه إذاً ؟ ولماذا اختار أصلاً الإنتاج الأدبي ؟ ألكي يغلق الأبواب عليه ويطرد الجمهور ؟. وكيف بنا ونحن أمام حالة نادرة من الشهرة ، كنزار قبَّاني ؟ . لكن هذا لا يروق للمحلل النفسي الذي يريد أن( يعمل من الحبة قبة ) . ولماذا لا يتباهى الشاعر بأن له هذا الكم الهائل من الجمهور ؟ أليس شيئاً باعثاً على القبول والاهتمام ؟ إن هذا من الطبيعي أن يثير رضا الشاعر وغروره . وهو غرور إنساني لا يحتاج إلى عيادة نفسية لفهمه . وهو شعورٌ متداولٌ بن جميع البشر . من الطفل الباحث عمَّن يمتدح أعماله ، إلى المرأة التي تنتظر من يهتم بجمالها ، إلى القائد الذي يصحو وينام على هتاف الجماهير له . ولكلٍّ مشروعيّته في ذلك . إن الكائن مشروط بآخر يصنع معه متعة أنهما موجودان على هذه الأرض .
والمحلل يعتبر أنَّ الشاعر عندما وضع عينه على 150 مليون عربي أراد أن يجتذبهم جميعاً ، فقد شفي من عقدة ( نرسيس ) الذي كان ينظر إلى ذاته عبر ذاته ، أمَّا الشاعر فقد استطاع بالفنّ أن يبرأ من هذه العقدة . لكنّ المحلل لا ينفي النّرجسيّة عن الشاعر حتَّى وهو يعترف بذلك . فمن جهة هو يثبت أنه نرجسي في الأساس ، شفي من نرجسيته ، ومن جهة يرصد طبيعة علاقته مع الجمهور على اعتبار أن الأساس لهذه العلاقة هو أساس نرجسيٌّ . فكأن الشاعر عندما أراد نفي النرجسية عن نفسه من خلال التحامه بجمهوره ، ظلّ منطوياً في ذاته على هذه العقدة التي كانت تدفعه بصورة غير شعورية نحو عيون الآخرين ووجوههم . أي أنَّه في النهاية لم يُشْفَ منها تماماً . فالمحلل عندما يجد أنَّ الشاعر ما زال مولعاً بالحديث عن ذاته وهو في مرحلة متقدمة من عمره وبعد أن قدَّم ما قدَّم من إنجازات وإبداعات ، فإنما كان يلقي عليه مرةً أخرى تهمة النَّرجسية.
على كل حال فإن المحلل يرى إلى العلاقة مع الجمهور من زاوية واحدة . فقد رأينا سابقاً في فصلٍ خاص بهذا الموضوع كم هي معقدة هذه العلاقة بين نزار وجمهوره . ولا يمكن إعادة ما قلناه مرة أخرى . ولكن لنذكر هنا بأن الشاعر كان دائم الشكوى من جمهوره ، سواء في شعره أو حواراته أو مقالاته . فهذا الجمهور لا يحقق إلى هذه الدرجة النشوة التي يتوهمها المحلل . لأنه صار عبئاً على الشاعر وقيداً على حريته . وإذا كان الشاعر هو من اختار هذا القيد ، فهذا لا يمنعنا من ملاحظة أن الجمهور لم يكن ذا وضعية واحدة تحقق للشاعر أماناً واستقراراً . وفي الحقيقة لا يمكن لأحدٍ أن يدرك معاناة الشاعر من جمهوره إلاَّ الشاعر نفسه . فهناك حالةٌ من الاغتراب الداخلي تنشأ في ذات الشاعر وهو في أوج اندماجه بالجمهور . وفي آخر انسجام في العلاقة معه . ففي الوقت نفسه يحس من أعماقه بمدى الهوة التي تفصل الآخرين عنه. ربَّما لا يستطيع هو أن يحدد سبب ذلك ، ولكن لذلك أسبابه طبعاً . وكثيراً ما يتمزق الشاعر بين فرديته وجماهيريته . وقد ينزف بكاءً داخليَّاً وغربة كلما التفَّ حوله الآخرون . فأيّ لذة ترضي نرجسية الشاعر في مثل هذه الحالة ؟
ونزار قبَّاني دفع ضريبة جماهيريته ، وعانى من حصار الجماهير له ، ورقصها على جراحه ، فهو عندما يخلو إلى نفسه يجد نفسه محاصراً بآلاف العيون تراقب عالمه الخاصّ وتتلصَّص على وحدته ، تقفز حواليه وتطالبه بأن يكتب لها عن كذا أو كذا .
وعليه أن يكون جاهزاً دائماً لتلبية نوازعها وصياغة هواجسها وأحلامها الممنوعة . ثم إن النجومية سجن داخلي للمبدع . وهو سجن لا يحس بآلامه غير المبدع كذلك . عندها عليه أن يكون مشاعاً للجميع ، مفضوحاً في كل خطواته وخلواته وعلاقاته . ليس من حقه أن يكون من أجل نفسه فقط ، فالجماهير لا تغفر له تفكيره بنفسه ، وتحشر أنوفها في لون عينيه وثيابه والكتاب الذي يقرأ وأوقات سماعه إلى الموسيقى وماذا يأكل وكيف يتناول قهوته ... إلخ . ولا أدري إلى أي حد يُرضي هذا الحصار نرجسية الشاعر .
مع ذلك سوف يقتنع الشاعر بان يدفع الضريبة . سوف يأخذ جمهوره بعين الاعتبار عندما يفكر بعرض شعره عليه أو نشره أمامه. على أن هذا سيعني لدى المحلل " لذة نرجسية يحسُّها نزار لحظة يعرض نتاجه على الناس " ص109 ؟. ويربط ذلك بقلق الشاعر من ردة فعل جمهوره " بانتظار تقدير الناس لنتاجه ، هذا النتاج الذي يكشف عن موضوع جزئي ، شرجيٍّ قضيبيّ في اللاشعور " ص109 . إنني لا أملك هنا إلاَّ التهكّم والسخرية من هذه التجليات العظيمة ، التي تسمح لتذوق هذا المحلِّل بأن يرى في لذة عرض نتاج الشاعر على جمهوره ، لذةً شرجية وقضيبية ! . وأتساءل بمرارة : كم يحمل التحليل النفسي من حقد على الإبداع ولؤم على الجمال ؟ . وأتساءل عن ضرورة وضع حدود ملزمة تقف عندها أوهام هذا التحليل ، وتحد من شهوة المحلّلين في وضع كلّ شيء جميل على طاولة تشريح تنزع شفافية الإنسان وجماليات وجوده عن كل شيء .
كيف إذاً يتحوَّل النتاج الشعري إلى موضوع شرجي قضيبي ؟ إذا كان الموضوع كله متعلقاً بشكل العلاقة المشروعة مع الجمهور ، وقلق المبدع أمام الآخرين . وهو قلق لا يمكن لمبدع حقيقي إلا أن يشعر به سواء عند نشر كتاب أو إلقاء شعره على الآخرين . وهو قلقٌ ناشئ عن أسئلة خاصة بمستوى هذا الإبداع ومدى استقبال الآخرين له . ماذا في الموضوع من انحراف نفسيّ حتَّى يشوهه هذا التَّحليل العبقري ؟ . ألا فليذهب علم النفس إلى الجحيم إذاً ... إذا كان من نتائجه ممارسة تحليل قبيح يتعمَّد تدمير الجمال والمتعة الروحية والعلاقة الإنسانية مع الأشياء .
إن من أسباب عدم قدرة التَّحليل النفسي على الخروج من هذه الدائرة التي تختزل الأدب إلى مريض بحاجة إلى عناية مشددة ، إنَّ المحلل النفسي ينظر إلى النّص الأدبي كوثيقة شخصيَّة يستنبط منها صفات الشخص وأحواله الخاصة وواقعه الداخلي . ويصبح الإبداع في مثل هذه النظرة مذكرات يومية يشرح فيها المبدع حياته ويذيع أسراره . وعلى ما نعتقد، فالأدب في أبسط أشكال التعامل معه لا يجوز اختزاله إلى مرآة عاكسة ترتسم عليها السمات الخاصة والعلامات الفارقة للأديب ، الذي يضع في حسبانه الوظائف الأساسية للعمل الأدبي ، التي يأتي في سياقها تقديم إنتاج أدبي للآخرين يكون في أساس عمله داخلاً في تكوين الشعوب ووجدانهم عبر العصور ، ليتشكل تراث إبداعي وكنز روحي يعتاش الإنسان منه ويستقي منه مثلاً أعلى على صعيد الإبداع والعطاء والحياة بصورة عامَّة . إن الأدب في هذه الحالة يخرج من إطار الشَّخص ليصبح جزءاً من تجربة المجموع ، ويغدو ملك تصوراتهم ، ورمزاً من رموزهم العليا . النص الأدبي هنا يسعى ليكون نموذجاً للآخرين يتناقلونه عبر أجيالهم ، ويعنيهم جميعاً ، ويعبّر عن عوالمهم وخبراتهم ، ويكثف حيواتهم إلى تجربة معبَّر عنها في نص لغوي مجازي متحرر من شخص منتجهِ وفرديته ، ليرى كل قارئ أنه هو المعني بهذا النّصّ ، وأنه يخصّه وحده دون العالمين .
لذلك فمن الصعوبة بمكانٍ تعليق النَّصّ بصاحبه فقط .لأنه لا يكتبه لنفسه وعن نفسه . وثَمَّةَ الْتباسٌ هنا يوقع وهماً لدى بعض القرَّاء بأنّ هذا النصّ يخصّ صاحبه ، وهو الْتباس ناجم عن كيفية فنية يصبّ الأديب من خلالها هذا النّصّ ، وذلك عندما يكتبه بصيغة الأنا المتكلم .
فيعتقد بعض القراء أن هذا الأنا هو أنا المبدع الخاصّة .
لكن هذا الوهم لا يقع إلاَّ لدى قصيري النظر الذين ليس لديهم رؤية ناضجة تخصّ طبيعة العمل الأدبي وآليَّات خطابه وتعبيراته . ومن المستحيل أن نأخذ تقييم الأعمال الأدبية وفق هذه الرؤى القاصرة .
قد يتقمَّص الشاعر صيغة المتكلم ، وقد يتقمص شخصية طفل ، وقد يختفي وراء عدد من ضمائر المتكلمين ، أو الضمائر الغائبة . وقد يتَّخذ من جنس آخر قناعاً ينطق من ورائه بهواجس الجنس الآخر . وهذا ما فعله نزار قبَّاني كثيراً عندما تحدَّث في قصائده بلسان المرأة لينوِّع في أشكاله اللغوية من جهة، وليقدّم نفسه على أنه ناطق شعري باسم المرأة كذلك . فهل يمكن أن نعتبر هذه القصائد معبرة عنه هو ، وعن سماته النّفسية ؟
لكن المحلل النفسي يعتبر حتَّى هذه القصائد بلسان المرأة ذات صلة بالوضع النفسي للشاعر . وذلك لاعتقاد هذا المحلل أن الشاعر إنَّما يقوم بتقمّص دور الأنثى ويجعلها توجه الخطاب له هو كنزار قبَّاني ! وهذا أمر عجبٌ يضيفه المحلل إلى قائمة عجائبه وفتوحه العظيمة . يقول " ولعلّ القصائد التي يتحدث فيها على لسان المرأة إنَّما جاءت كلها لتعلن ولاءها له وتبايعه بالإمارة والملك . " ص 206 . لنلاحظ هنا تأكيده على أن القصائد
" إنَّما جاءت كلُّها . . . " فهو يجزم بهذا الرأي ويقطع الطريق على الاختلاف معه . فهو هنا يجمع القصائد التي قالها الشاعر على لسان المرأة ، جميعها ، في سلة واحدة ماسحاً الفروق في عوالمها وآفاقها وعناصر تكوينها ، مذيباً إيّاها قسراً لتلائم النتيجة التي يناضل لإقناعنا بها ، في حين أنَّ هذه القصائد مختلفة في مناخاتها ، ولا يأخذ فيها الرَّجل صورة واحدة ، وليس له سماتٌ متشابهة ، ولا نمط مطلق حتَّى نزعم أنه نمط الشاعر نفسه . فالرجل المخاطب هنا مرة يكون حبيباً غائباً وفيّاً ، ومرة يكون جالساً في المقهى يذوِّب السّكّر في الفنجان ، وهي تراقبه وتستغرق في حوار داخلي معه ، ومرة يكون فاسقاً حَمَلَتْ مِنْهُ وجاء يساومها على الإجهاض ، ومرّة يكون الحبيب الغاضب الطائش الذي تهدهده وتروّض انفعاله ، ومرة نراه رجلاً مستبدّاً شرقيَّاً يستعبدها فتثور عليه ... إلخ .
إن الشاعر في هذه القصائد يحرّض المرأة على الكلام في جميع أحوالها ، ويعطي القارئة أنماطاً من النساء اللَّواتي يمكن أن يغيّرن في شكل تفكيرهنّ ، وأن يعترفن بما يجول في صدورهن من حب وثورة وتمرّد ، فهل كان نزار قبَّاني هو كل هؤلاء الرجال معاً ؟ . إن هذا استخفاف ‎بإمكانيات النص الأدبي الذي يتنقل عبر الفضاءات المتاحة له ، ليكون لدى نزار قبَّاني أكبر عدد من أشكال تعبير المرأة عن ذاتها . وليس له أي علاقة بهؤلاء الرجال. قد يكون واحداً منهم في حالة ما ، ولكنه لا يملك القدرة على أن يكون جميعهم إلا إذا كان نزار كائناً خرافيّاً ليس من هذا الكوكب ، قادراً على أن يكون كل ساعةٍ مختلفاً بالمطلق عمّا كان ، أو سيكون عليه .
كذلك هو الحال عندما نتحول إلى تعدّد ضمائر الأنا في قصائده . إذ ليس من الضرورة أن تكون كلّ قصيدة مكتوبة بخطاب أنا ، تعبيراً عن أنا الشاعر، بل قد يكون الشاعر هنا مختفياً وراء قناع ذكر ما يتكلم بلسانه . إنّ عدم الْتفات المحلل لهذا الأسلوب الأدبي أوقعه في وهم نتج عنه فهمٌ مغلوطٌ بالأساس للتقنيات اللغوية والفنية المستخدمة في النص الشعري . وهذا وحده كاف لإسقاط مجمل التحليلات النفسية من كفة المشروعية . .
على أي حال ، فقد خُدع نقاد ليس لهم صلة بالتحليل النفسي بهذه التقنية الفنية ، وظنّوا أن كلّ قصائد الشاعر إنما هي تجاربه الشخصية ، فذهبوا يحاكمون تفكيره وأخلاقه بناءً على هذا الفهم . . فلا عتب على المحلِّل النفسي. إنّ العتب على الوعي النقدي البائس الذي ينطلق مِنْهُ الكثيرون في قراءتهم للنصوص الأدبية .



#محمد_علاء_الدين_عبد_المولى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة وداع الامبراطور الأخير
- محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الرابعة
- محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الثالثة
- محاولة قراءة جديدة في شعر نزار قباني الحلقة الثانية *
- قصائد قصيرة
- حلقة أولى من سلسلة دراسات نقدية عن تجربة نزار قباني
- صحوُ القصيدة
- حِوَارٌ مع المفكّر السّوري د. برهان غليون


المزيد.....




- تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
- ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما ...
- الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي ...
- غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال ...
- مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت ...
- بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع ...
- مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا ...
- كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا ...
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في ...
- مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد علاء الدين عبد المولى - محاولة قراءة جديدة في تجربة نزار قباني الحلقة الخامسة