|
تجربة الغياب: عن سميرة ورزان ووائل وناظم
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 5428 - 2017 / 2 / 10 - 14:18
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لغياب سميرة مع رزان وائل وناظم خصوصية من ثلاثة وجوه، تتفرد بها عن حالات الاختطاف أو الاعتقال والتغييب القسري الكثيرة في سورية. يحيل وجه أول إلى هوية الأربعة، والثاني إلى ما يحيط بالقضية من إنكار، والثالث بغياب الأربعة المستمر طوال ثلاث سنوات وشهرين. من ارتُكِبت الجريمة بحقهم هم امرأتان ورجلان، اختطفوا في ضربة واحدة، وتجمعهم قضية واحدة لا تتجزأ. لكن لكل من الأربعة فرادة شخصية، مثلما لكل منهم اسمه الخاص غير القابل للاختزال. سميرة معتقلة سابقة ومناضلة طول 30 عاماً قبل خطفها، ويميزها حس إنساني نادر، على ما ظهر في نصوص كتابها: "يوميات الحصار في دوما 2013"؛ ورزان مناضلة وناشطة حقوقية وكاتبة متميزة، وأبرز رموز جيلها من الجنسين؛ ووائل معتقل لمرتين عند الأسديين، وناله منهم تعذيب وحشي، و"منشق" عملياً عن حزبه المهاود الموقف من النظام؛ وناظم شاعر ومحام كان يفضل التفرغ للشعر والعشق، لكنه تكرس حتى خطفه لثورة مواطنيه. والفرادة الشخصية للمرأتين والرجلين تضفي بعداً جمالياً على المجموعة، يُثري رمزيتهم السورية العامة. وهذه صفة استثمرتها وأبرزتها ملصقات ورسوم غرافيتي عديدة، معروفة. والأربعة أصدقاء قبل الثورة بسنوات طويلة، جمعتهم الرفقة الشخصية والقضية العامة المشتركة. وبينما لا يشبهون بعضهم، فإن توزعهم مناصفة على الجنسين، وتواريخهم الشخصية والعامة المختلفة، وانحيازاتهم الديمقراطية والعلمانية، ودورهم الشعبي أثناء الثورة، يجعل المرأتان والرجلان أصلح رموز الغنى السوري المهدور وإمكانيات مستقبل مغاير. وجه الخصوصية الثاني يحيل إلى مثابرة فصيل "جيش الإسلام"، المشتبه به الأول والوحيد حسب كل القرائن المتاحة، على الإنكار، إنكار مسؤوليته عن الجريمة، وإنكار معرفته أي شيء عنها. لا تنشغل هذه المقالة بإيراد ما يظهر تهافت هذا الإنكار، فقد خصصت لذلك رداً مطولأ نشر قبل نحو شهرين http://aljumhuriya.net/36366. الجماعة كاذبون دون أدنى ريب، وكماكيافلليين أصلاء لهم حيل وفتاوى من أجل الكذب المشروع. يفرق الإنكار قضية سميرة ورزان ووائل وناظم عن حال المغيبين عند دولة الأسديين أو عند داعش، حيث لم يُعنَ أي من الفصيلين الإجراميين الأخيرين بنفي مسؤوليته عن جرائم مماثلة كثيرة. وبينما يرجح أن يكون الإنكار آلية دفاعية من قبل التشكيل المشتبه، فإن الاعتصام به طوال أكثر من ثلاث سنوات يعطي انطباعاً بجسامة ما يخفيه، ويثير في نفوس أهالي المغيبتين والمغيبين وأصدقائهم هواجس قاتمة. ووراء جدار الإنكار سراً أو أسراراً، لا بد أن تعرف في يوم غير بعيد، وتوضع في متناول العموم. لا بد أيضاً من أن تروى كسيرة عامة تتداول على نطاق واسع ويُفصّل فيها ويبنى عليها. سيرة المغيبين كما سيرة المحرضين والجناة كوجهين لفصل بارز من فصول السيرة السورية المأساوية. هذا يحفزنا إلى ملاحقة لا تنتهي لهذا التشكيل، نتطلع إلى أن تثمر قضائياً وسياسياً في وقت ما. لكن لهذه الملاحقة أبعاد فكرية وأخلاقية ورمزية لا يمكن أن تستنفد في أي وقت قريب. وهي تندرج أيضاً في سيرة الثورة السورية التي لن ينتهي القول في شأنها طوال عقود. الوجه الثالث لخصوصة القضية هو الغياب. يتعلق الأمر بانقطاع الأخبار والمعلومات طوال 1155 يوماً، باحتجاب طويل ومستمر لسميرة ورزان ووائل وناظم، بما يسبغ على اختفائهم ملمحاً أسطورياً. كل وقائع الاختفاء والغياب المديدة فيها هذا البعد الأسطوري، بقدر ما إنها مساحة لعمل الخيال وللاشتباك مع الانتظار والقلق وعدم اليقين. فيما يخصني مباشرة، تحدى غياب سميرة خلال ثلاث سنوات وشهرين خيالي: يحاول ملء المسافة بينها وبيني، التسلل إليها والاتصال بها وإيناس وحشتها والاطمئنان عليها. سميرة التي في خيالي تحاول أن تكون سميرة التي في محبسها، ولا تستطيع، ولا تكف عن المحاولة. هذه تجربة تتكرر كل وقت. ليس فقط أن حدتها لا تتراجع، بل هي تزيد قوة وكثافة. في غياب سميرة ما يشبه طبقة "دينية" (لا أجد كلمة أنسب)، تتمازج فيها على نحو متكرر وخلال وقت طويل مشاعر الفقد والأسى، والغضب والمرارة والسكينة، والانتظار والأمل واليأس، والحب والواجب، والذنب والتكفير، والديْن، والصبر ونفاد الصبر، والشجاعة والاستسلام، والسر والخفاء، والجريمة. أفترض أن التجربة الدينية تتميز بكثافة المحتوى الشعوري العالية، وأن في الاشتباك المستمر مع الغياب/ الغيب، ما يضفي كثافة أعلى بعد على هذه التجربة. وما يزيد التجربة قسوة أيضاً هو أنه ليس هناك دليل لكيفية التصرف في مواجهتها. لا أعرف تجارب مشابهة، على الأقل لم أطلع على سجلات شخصية للتعامل مع تجارب مشابهة. كان من شأن ذلك أن يساعد في نزع شوك التجربة ولو جزئياً، والاندراج في سجل معلوم لخبرات إنسانية مماثلة. غياب هذا السجل يجعل التجربة "أصلية"، لا وقاء منها ولا حماية في مواجهة قسوتها. وهذا يتقابل مع عالم التشكيل المشتبه بارتكاب الجريمة، حيث ثمة "سُنة" تكفل التكرار اللامتناهي والحماية من التجربة، وحيث كل جهد يبذل من أجل إيجاد سوابق لكل ما يستجد، وأن يكون الجميع نسخاً ثابتة متماثلة من أصل سابق معطى. والصفة الدينية الجوهرية للتشكيل المشتبه به إذا تعزز الخاصية شبه الدينية الملفعة بالسر والغيب لمعاناة تجربة الخطف، فإنها تجعلها تجربة مضادة، تؤسس لمساءلة جذرية لدين وتدين الخاطفين. ومن هذا الباب يصلح تغييب وغياب سميرة ورزان ووائل وناظم ركيزة لحركة قطع فكري وثقافي أساسي يتجاوز السجال الإيديولوجي والسياسي مع الإسلاميين، باتجاه تقويض الأسس العقدية والفكرية للإسلامية السياسية والعسكرية المعاصرة، وتأسيس عالم مغاير من التفكير والحساسية والمعنى والاعتقاد والانتماء. تقويض معنى مرتكبي الجريمة وعالمهم الرمزي والخيالي هو ما يبدو لي مستحقاً للجهد، وأن يكون ميدان عمل للفكر والخيال، وإنتاج المعاني والرموز. الكثافة الرمزية للواقعة تؤهلها لأنو تكون ركيزة تحول ثقافي. وهو فيما يخصني معركة فرضت بأعلى كلفة شخصية، وفي أقل الشروط العامة ملاءمة، فلا بد من خوضها إلى النهاية. لدي كل الأسباب الشخصية والعامة لطلب الانتقام من مرتكبي الجريمة، لكن تحطيم قضيتهم ومعناهم، الدين الفتوي الإكراهي، المجبول بالكراهية والعابد للسلطة، أهم بكثير من تحطيمهم كأفراد أو كتشكيل. كأفراد، هم مثل الأسديين تافهون ومعدومو القيمة، وإن يكونوا حقودين وقادرين على الإيذاء، مثل الأسديين أيضاً. رمزية سميرة ورزان ووائل وناظم، وغيابهم المتمادي، وجهان لتجربة استثنائية، تحفز نحو الطي التاريخي لصفحة الشرعيين والهيئات الشرعية، المليئة سلفاً بالمخازي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أجل سياسة ديموقراطية جذرية في شأن المسألة الإسلامية
-
حرب بالإجماع بلا قضية عامة
-
المسألة الإسلامية والعالم
-
سورية والعالم في أواخر العام السادس
-
البحث عن اليقين والقربان في -مراجعات- سورية
-
سميرة التي وراء سبعة جدران
-
صادق جلال العظم بين حزيرانين
-
2013، عام الخسيسين
-
ثورة بين سلطتين، أسدية وسلفية
-
ما بعد الاستعمار؟ ما بعد الاستبداد؟ أم ما بعد الديمقراطية؟
-
فلسطنة السوريين وتحولات موقع القضية الفلسطينية في الوعي السو
...
-
مقدمة الطبعة الثانية لكتاب -بالخلاص، يا شباب!
-
حافظ الأسد والدولة الأسدية
-
... فلننتخب رئيسنا الأميركي!
-
المركزيات الإسلامية والتاريخ
-
السياسة والثورة، رد على ماهر مسعود
-
سميرة وكتابها -يوميًات الحصار-، كتاب -الثقافة كسياسة- و-هامش
...
-
امقدمة كتاب: الثقافة كسياسة، المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية
...
-
وجوه الجلاد وعالمه
-
السياسة كصنع للمشكلات العامة
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|