أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - رؤيا رامبو















المزيد.....



رؤيا رامبو


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1430 - 2006 / 1 / 14 - 08:43
المحور: الادب والفن
    


الغائبُ الحاضر :
" وإلى أن يموت العالم القديم نهائياً ، فإنّ الفرد " الشاذ " سيكون ، أكثر فأكثر ، هو النموذج " . هذا ما كتبه هنري ميللر ، قبل نصف قرن بالتمام (1955) ، في سيرته البديعة " رامبو وزمن القتلة " ؛ السيرة المنذورة لشاعر كان يُحتفل ذلك العام ، بمئوية ميلاده ، في موطنه الفرنسيّ وأماكن اخرى من العالم . ولعله ما قدّر لأحد من أصحاب البيان ، المبدعين ، نيل الحظوة التي مُنِحَها رامبو ، ميتاً ؛ وما اوتي ، إلا له ، هذا الكمّ الهائل من المؤلفات ، الموضوعة بشتى اللغات ، والمتناولة حياته وشعره وعصره . لكننا ، أيضاً ، لا نعرف بشراً ، غيره ، إستطاع ، وحيداً منسياً منبوذاً ، تحمّل ذلك الألم الممض ، الدهريّ في إستطالته ، والذي راح ينهش جسده عضواً فعضواً ، بدءاً من الركبة المتورمة بالمرض الخبيث . وعلاوة ً على عذاباته وتوحّده ، فإن إنكار رسالته ؛ رسالة الرائي ، جعلت منه " مسيحاً " مطوّباً في هيكل الأدب ؛ ما فتيء المؤمنون به يحجونُ فوجاً إثر الآخر ، إلى معبد قيامته في " شارلفيل " . لكلّ منا ، معشر الكتاب ، إذاً ، إيقونته الرامبوية الخاصة به ، وما قد يحكيه من قصة الهداية ؛ كالمريد الشارع ِ في السير إلى الله . فوق العابدِ ودونَ الواصل ، ثمة الكتاب ، الهادي ؛ " فصل في الجحيم " : إنجيلُ الغاوين ، الهائمين في كل وادٍ ؛ إنجيلُ الأناجيل ، النورانيّ ، المفتوحة صفحاته البيضاء ، أبداً ، لأقلام حواريي النبيّ الرائي ، الطفل :

" الدم الوثني يعود ! الروح يقترب ، فلم لا يسندني المسيح بأن
يهبني النبل والحرية ؟ لكن وا أسفاه ، لقد ولى الإنجيل ! الإنجيل
الإنجيل .
أنتظر الله في نهم . إني من سلالة منحطة منذ الأزل "

بكل تأكيد ، ما كان ليجول في ذهن هذا الطفل ، وهو يعلن وثنيته رداً على ما إعتبره تخلياً من المسيح عنه ، أنّه يطوّب بذلك إلوهية كتابه بالذات ؛ كتابه الذي إنتقل منزلة ً منزلة إلى مصاف الإنجيل الهادي ، بالنسبة لمريديه . وما كانت رسالة نبوّته لتكتمل ، لولا قدَر الهجرة المغلولة به حياته وحيوات الذين سبقوه ، أو أتوا بعده ، من رسل الكلمة . كأنما فقدان الفردوس ، هو مقدور جميع الشعراء الأنبياء ؛ الفردوس الأول ، المضيّع من لدن أبينا آدم . كلّ حرف نخطه ، كما ظفرناه من معرفة رامبو ، هو إضافة لمفردات كتاب الحنين هذا . كل مسالك كلماتنا ، تنتهي إلى نقطة البداية : جنة الطفولة ؛ الجنة التي أنكرها شاعرنا ، في يأس فتوّته ، مستبدلاً بها حلم اليقظة ، المُعذِب ، عن الفردوس المفقود ؛ أو عَدَن ، بحسب التوراة . وربما كان محضُ مصادفة ، أن يوصله قدَرُ الرحيل والهجرة إلى مدينة " عدن " ، اليمنية ، المركونة في زاوية القرن الأفريقيّ ، الملتهب ؛ هذه المدينة ، التي وصف رامبو إقامته فيها ، في رسالة لأمه : " إن عدن فوهة بركان خامد مليئة برمل البحر . إنك لا ترين إلا الحمم والرمل في كل مكان ، هذه التي لا تنبت أضأل نبت . وهي محاطة برمال الصحراء . وهنا تصدّ جوانب فوهة بركاننا الخامد ، الهواءَ . وإننا لنشوى كما لو كنا في فرن جيريّ " . كأنما غدَتْ سدىً كلماتُ كتابه ، المخطوطة في زمن منسيّ ، والمناجية الفردوس المفقود ، المرتجى ، ؛ هو الذي أصرّ على هجر الشِعر ، في أوان ربيعه ، ومن أراد ركوب مركب الحياة المغامرة ، بحثاً عن حلمه :

" سأهجر اوروبا. هواء البحر سيكوي رئتي ، وستلوّح
بشرتي شمسُ المهجر . سوف أعومُ ، وأمضغ العشب ، وأصيد ،
وأدخن على الأخص ؟ .. وأنهلُ الخمور المتقدة كمعدن منصهر _
مثلما كان يفعل أجدادي حول اللهب "

الطفلُ الإلهي :

صورة ُ العذراء الأم ، المادونا ، مثلما تبعثها أمامنا إيقونتها ، بكل رقتها ونقائها وعذوبتها ؛ هذه الصورة ُ ، وجدَتْ نقيضها لدى الأمّ التي من رحمها إنسلّ إلى العالم ، مسيحُ الكلمة : كانت والدة آرثور رامبو ، قاسية ً ، جلفة ، وعمليّة في كل شيء ، حتى في الأمور المتطلبة عاطفة ما ؛ بمعنى آخر ، كانت فلاحة . لم يغفر لها إبنها ، فيما بعد ، أبداً ، حرمانها إياه من الأبّ الذي هجر أسرته ، نهائياً ، هرباً من تسلطها وشراستها . المفارقة هنا ، أنّ والدته هذه ، السيئة الطباع والموسوسة ، كانت تدعى أيضاً بإسم المادونا العذراء ؛ " ماري " ، و شديدة التعلّق بإيقونتها ، إلى حدّ إرهاق من حولها بتطلّبات عبادتها ؛ من صلوات دائبة تجبرهم على القيام بها في المنزل ، أو في الكنيسة أيام الآحاد والمناسبات . الأب ، الضابط في الجيش ، العائد لتوّه من فتح الجزائر ، كان في نيته ترك الخدمة ، والتفرغ لمحاصيل الأرض الخصبة ، في بلدته الواقعة في ريف الشمال الفرنسيّ . ولكنه سيُصدم بطباع زوجته تلك ؛ هو الهارب من صرامة الحياة العسكرية ، ومن سيهرب مجدداً في مراحل متتالية ، حتى هجر العائلة بأسرها وإختفى من حياتها . بين هذين الوالدين ، غير المنسجميْن ، أضحت طفولة إبنهما جحيماً ؛ طفولة قلقة ، لا تأنس إلا في ساعات الحرية ، خارج المنزل المضطرم . ثمة ، في البراري الشاسعة و تحت سماء زرقاء صافية ، بغيماتها وطيورها ونسائمها المتلاعبة بالخصل الشقر للطفل الهائم ، الأبهى مما يحيطه من أزاهيرالبرية وأقحوانها وبنفسجها : ما كان لرامبو ، الجميل مثل إله إغريقيّ ، وهو في تيهه وضياعه وفراره ، إلاّ أن يحتبس في داخله عِقدة البحث عن الأب ؛ العقدة التي إستحوذت مجامع نفسه ، والمتجليّة في كل مقطع من مقاطع ديوانه / جحيمه :

" وما زلنا في الحياة ! _ لو أن اللعنة كانت أبدية ! إنّ إمرءاً يريد أن
يشوّه نفسه لهو إمرؤ لعين حقاً ، أليس كذلك ؟ إني أعتقد أني في الجحيم ،
إذن فأنا فيه . بهذا يتحقق ما جاء في التعاليم المقدسة . إني أسيرُ معموديتي .
أيا والديّ ، أنتما علّة نكبتي ونكبتكما . يا لي من بريء مسكين ! _ فالنار لا تعتدي
على عبَدَة الأوثان "

ماري الأم ، وهي الوحيدة بعدما هجرها رجلها ، تحاولُ جاهدة ً إبعاد كأس الحاجة عن إسرتها المكونّة من صبيين وبنتين . كانت معتادة ، قبلاً ، على عدم وجود الزوج ، بسبب سفراته الحربية المطوّلة . على أنها الآن في وضع مختلف تماماً ؛ فعليها الإضطلاع ، لوحدها ، بصفة وليّ الأمر . وقدّر ل " آرثور " الطفل ، أن يكون مُشكل هذه الأم ؛ بأطواره الغريبة وتناقض صفاته ومسلكه ؛ فهو الحالم والنزق والمشبوب العاطفة والمستهتر والمجتهد واللامبالي ، في الآن نفسه . ها هي شقيقته الصغرى ، " إيزابيل " ، تروي عنه ما تذكره من أيام الطفولة : " كان يكتب وهو صغير ، بمتعة خالصة . لم يكن تجاوز بعدُ العاشرة من عمره ، حين كان يستثير إهتمامنا طوال سهرات مديدة بقراءته علينا أسفاراً مدهشة ، في بقاع مجهولة وغريبة وسط الصحارى والمحيطات ، بين الجبال وقرب الأنهار . وكان يعمدُ إلى تمزيق هذه الأسفار المكتوبة ، بعد قراءتها علينا " .
حلمُ السفر والخوض في المجهول ، كان ، على الأرجح ، توْقَ الطفل إلى لقاء الأب ؛ الأب المفقود ، الذي يمثل له طوق نجاة ، في الخلاص من سطوة الأمّ وهيمنتها على حياته . كان همّ ماري ، القوية الشكيمة والشديدة المراس ، أن تربي أولادها على سجيتها المحافظة والجديّة . وما كانت لتسمح بتاتاً بأن يخرج أحداً منهم عن طوعها ؛ وهي الدائبة التفكير ، والمتبلبلة بما إعتبرته دوماً " مثال الأب السيء " ، والمتجلّي بالإبن العاصي ، النكِد ، الهارب دوماً من أسر المنزل إلى فضاء حريته الشخصية . ولدينا شهادة اخرى من تلك الأيام ، بقلم أحد أتراب الشاعر ، ممن رافقوه في مغامراته خارج البيت : " كان يحدث نفسه بأسفار بعيدة ، منذ السابعة من عمره .. منذ أن إستقامت الشوارع في هذه المدينة الهندسية ، وصارت أقبية للريح والبرد والخطى العجولة . كان يمشي مستقيماً في شوارع شارلفيل ، دون أن يلتفت يميناً أو يساراً .. في مشية آلية ، الجسد فيها منتصب والرأس شامخ والعينان ثابتتان وضائعتان " .
كانت بلدته الأولى ، إذاً ، أضيق من أن تتسع لأحلامه وآماله ، فطفق يمني النفس بإرتياده لعالم الباطن ، المسحور بأغرب الخيالات والهذيانات ؛ ثمة ، روحه الضائعة متوغلة في أغوار دهاليز ومُغر وسراديب مجهولة ، سريّة وملغزة ؛ أين الومضات المنجلية عن حضور الأب ، الغائب ، وهو في مُستقره ، السماويّ أو الجحيميّ سيّان :

" من الجلي أننا خارج العالم . فما من صوت . وقد فقدت حاسة
اللمس . واحسرتاه ! على قصري وبلدتي وغابة سروي ! العشيات
والغدَوات والليالي والأيام .. يا لكللي !
كان ينبغي أن أنال جحيمي جزاء غضبي ، وجحيمي جزاء صلفي _
فضلاً عن جحيم الشهوة ، جوقة من ألوان الجحيم "

سارقُ النار :

في سنّ يفاعته ، كثيراً ما طرد التلميذ المشاغبُ " ارثور " من المدرسة ، لمسلك منحرفٍ ، غالباً . وكان يدهش معلميه بإزدواجيته ، العصيّة على الفهم ؛ فهو التلميذ المبرز والمشاكس ، في آن : الإزدواجية ، التي طبعت فيما بعد شخصيته القلقة ، المتمردة ، الباحثة أبداً عن خلاصها عبر هروب دائب ، أوعبور شائق على الصراط القائم بين الخير والشر . وما من شاعر آخر ، غير رامبو ، تلاعب في قصائده ، إلى هذا الحدّ ، بين هذين المفهومين ، خالطاً عن عمدٍ بينهما ، إلى حدّ التماهي في رمز الشيطان ، ممجداً أسلافه بصفاتهم المتمثلة فيه :

" كان الغاليّون أقل الناس براعة في سلخ جلد
الحيوان وحرق الحشائش .
وعنهم أخذتُ : الوثنية والولع بإنتهاك الحرمات ،
بل كل الرذائل ، الغضب والشبق _ يا لروعة الشبق ؟ _
وعلى الأخص الكذب والكسل "

ذلك الطفل ، بحسب شهادة صديقه ، الذي كان يمشي مستقيماً دون أن يلتفت يمنة أو يسرة ؛ نراه الآن في فتوّته ، يجتاز شوارع بلدته " شارلفيل " ، في طريقه إلى مكتبتها العمومية : من هنا ، تحتمَ على شاعرنا أن يمرّ بتواريخ العصور القديمة والمتوسطة وصولاً إلى الحديثة ، وأن يختصر قراءاته المكثفة ، المدهشة في تنوعها وإرتيادها مناهلَ عسيرة لمن كان في سنه ؛ وهنا ، أيضاً ، وجدت ذاكرته تاريخَ فرنسة ، بجذورها الوثنية خاصة ً ، والذي إستعادته ، لاحقاً ، قصائدهُ . ما كان له ، هو الموغل رويداً في " شذوذه " ، إلا أن يجد إنتماءه في ذلك التاريخ السابق للكاثوليكية ؛ في غمرة مجد أجداده الغاليين ، الوالغين في دم أعدائهم والمنذورة حيواتهم للنهب والسلب و الحرق والشبق وإنتهاك المحرمات . ورغم مناجاته للمسيح ، المتكررة في متون أشعاره ، تلمساً لخلاص ما على يديه ؛ إلا أن رامبو ، شاعراً و رائياً ، ما كان له إلا أن يهبَ نفسه لعبادة أسلافه ، المتعددة الآلهة ؛ وليُطوّب إلى النهاية ، هو نفسه ، كإله .
ما كان فتانا قد تجاوز بعدُ ربيع عامه السادس عشر ، حينما اصطكتْ دواخله برعدة شبيهة بتلك السابقة لنداء النبوءة . ثمة ، أين جذوة خمرته المعتقة ، المقدسة ؛ جمر الماضي المعتلج فيه ، والمزمل برماد معاناته ؛ والمنبعث جميعاً في لغة الشاعر ، السرانيّة ، المسحورة بسيمياء المفردات الغريبة ، الشبيهة بتمتمات الكاهن الوثنيّ . ولكي ترتب للكلمة الجديدة منزلتها ، كان لا بد لرسولها من منهج ٍ يشترعه ؛ فكانت " رسالة الرائي " ، المعرّفة طريق المهتدين به . ففي ربيع عام 1871 ، بعث شاعرنا برسالة لأحد أصدقائه ، عرَض فيها تصوّره لنظرية جديدة للشعر ، أشد عنفاً وأبعد رؤيا مما سبق وقدمتها الرومانسية ، التي كانت مترسخة في اوروبة : " أقول أنّ على المرء أن يكون رائياً _ على المرء أن يجعل نفسه رائياً . يجعل الشاعر نفسه رائياً عن طريق تشتيت الحواس كلها تشتيتاً طويلاً كبيراً ممنطقاً . كل أشكال الحب ، الألم ، الجنون : يبحث في نفسه ، يستنفد كل السموم التي في نفسه ، ليحتفظ بخلاصاتها الجوهرية فقط . عذاب لا يوصف يكون فيه بحاجة إلى الإيمان كله ، القوة الخارقة كلها ، ويصبح فيه بين الجميع المريض الأعظم ، المجرم الأعظم ، اللعين الأعظم _ والعارف الأكبر ! ". ويضيف في مكان آخر من رسالته : " الشاعر سارقُ نار حقيقي . لقد أوكلت إليه الإنسانية ، بل حتى الحيوانات نفسها ، وعليه أن يجعل الآخرين يشعرون بإبتكاراته ، يمسكونها ، يسمعونها . فإذا كان لما يأتي به من الما وراء شكل ، فإنه يعطي الشكل . وإذا كان بلا شكل ، فإنه يعطي اللا شكل البحث عن لغة _ وفضلاً عن ذلك ، لما كان الكلام كله فكرة ، سيأتي الزمان لغة كونية ! ".
في ذلك الربيع ، الشاهد على الرؤيا ، كان شاعرنا قد شهد الطعنات الأخيرة ، الغادرة ، الموجهة ل " كومونة باريس " ؛ تلك الحكومة الثورية ، المحلية ، والمشكلة من مجالس عمالية . كان رامبو ، وقتئذ ، هناك ، وأمضى مع الثائرين بعض الوقت . وفي رسالة اخرى ، سبقت " رسالة الرائي " ، كتب شاعرنا إنطباعاته عن تجربته الشخصية ، بث فيها ما إعتمل في جوارحه من مشاعر الغضب والسخط والحنق على النظام القائم ، مندداً بصمت المثقفين المخزي ، بحسب وصفه . منذ مستهل ذلك العام الدامي ، صارت الأرضُ فراشاً للشاعر المتمرد ، المتشرد ، ولحاف السماء غطاءً له . فبعد مطالعاته المكثفة في مكتبة " شارلفيل " ، والتي تعرّف فيها على أدب إدغار آلان بو ، وتأثر به بشكل خاص ؛ هاهو رامبو هائماً في طرقات باريس ، إثر فراره للمرة الثالثة من أسر البيت . ثمة ، في بقاع مشبوهة وملاه قذرة ، وغالباً في العراء ؛ كان فتانا يجرب حريته ويتحدى غائلة الجوع والبرد والمرض . هناك ، أيضاً ، سيطرد من مجالس الأدباء والفنانين ، المرموقين ، لما لاحظوه من سلاطة لسانه وإزدرائه ونزقه :

" زهوتُ منذ أمد بعيد بقبضتي على جميع آفاق الحياة والخيال ،
ولم أضمرْ لأعلام الشعر والفن في هذا العصر غير الإزدراء "

بين مراحل صعلكته تلك ، ورجوعه على أدراجه ، خائباً محنقاً وأكثر يأساً ، كانت قريحته الشعرية تتوقل به إلى عوالم سحرية وما ورائية ، لطالما كانت أثيرة على طفولته . ففي صيف العام نفسه ، تظهر مطبوعة في مكتبة محلية ، اولى قصائده الطويلة " القارب الثمل " . وبعدها بسنتين ، يكمل " الرائي " رسالته في أثره الأخير " فصل في الجحيم " ، الذي أنجزه قبيل تهيئه لرحلة الحياة المريرة ، والأخيرة . بين منجزيْه هذيْن ، المعديْن في حياته ، كان مراهقنا ، العبقريّ ، ما فتيء جوّالاً يجوبُ المدن والأقاليم ، يمارس ما إصطلح نقاده على دعوته ، بتحدي الذات وإمتحان النفس بصورة إرادية ؛ تلك الممارسة التي شاء لها أن تكون إستنزافاً لجسده ، متمادياً بها إلى حدود قصية ؛ محاولاً في غيّه ذاك ، المحط من ذاته ، الإرتقاء بروحه إلى مراق ٍ أكثر سمواً وجدّة . ولعل التجربة الجسدية ، المثلية ، مع الشاعر بول فرلين ، أوضح مثال على حياة رامبو في تلك السنوات الملتهبة ، والتي كادت أن تنتهي بكارثة. وقد نحَت بعض التحليلات النقدية ، الخاصة بقصيدة " فصل في الجحيم " ، إلا أن الشاعرَ ، في مقطع " البعل الجهنمي والعذراء الطائشة " ، إنما كان يصف علاقته بفرلين ؛ خطفه إياه من أحضان زوجه الغنية والتشرد معه في أوكار الرذيلة والأماكن المشبوهة . ويستند آخرون في تقمّص هذا الأخير لدور العشيقة ، في تلك العلاقة العابرة ، إلى تأكيده بأن رامبو : " لم يعطِ نفسه ، البتة ، سواء لإلهٍ أو لإنسان " . في ديوانه الأخير ذاك ، الذي أحب شاعرنا وسمه تارة ً ب " الكتاب الوثني " ، واخرى ب " الكتاب الزنجي " ، نجد إشارة ً فيه ، غامضة ، عن تجاربه الجسدية :

" وبعد ، لا يقف الإمتهان عند حد .
ثم إن أمانة الشحاذة تفجعني . والمجرمون كريهون كالخصيان :
أما أنا ، فلم اُمَسّ ، وكل هذا لديّ سواء .
ولكن ! من الذي جعل لساني من الغدر حتى لقد أراد وصانَ
لليوم كسلي ؟ فبدون أن أستخدم في سبيل العيش حتى جسدي ،
ومع بطالتي التي تفوق بطالة الضفدع ، عشتُ في كل مكان .
ما من أسرة في أوروبا لا أعرفها _ أعني الأسرات ، كأسرتي ،
التي تدين بكل شيء لإعلان حقوق الإنسان _ عرفتُ جميع أبناء الأسرات ! "

الرائي مصلوباً :

" الشاعر منبوذ ، شذوذ . هو في طريقه إلى الانطفاء . من يهتم الآن .. كيف جعل الشاعر من نفسه مهولاً ؟ إن الوحش طليق ، يطوف العالم . لقد أفلت من المختبر ، وهو في خدمة كل من يجد الشجاعة على إستخدامه . العالم أمسى ، حقيقة ، رقماً " . هذا ما يكتبه هنري ميللر في مأثرته عن رامبو ، مستهلاً الفصل الخاص بهجر الشاعر لأوروبا ومضيه في مغامرته الأفريقية ، الأخيرة . سيظل أمر هذه المرحلة من حياة شاعرنا لغزاً ، ومع كل التأويلات المتنوعة ، المتضاربة ، المطروحة في الكتب المتناولة حياته . وكان رامبو قد عاد لتوّه من رحلة التسكع والتشرد ، رفقة صديقه فرلين ، ليقضي في منزل العائلة ردحاً قصيراً من الوقت ، أنجز خلالها قصائد جُمعت بعد وفاته بكتاب حمل هذا العنوان الصوفيّ ، " إشراقات " . تجربته العاثرة تلك ، وكل المشاق والإمتهان والضياع المرتبط بها ، ولّدت في دواخله الثائرة إحباطاً مقيماً ، جعله يتساءل ربما للمرة الأولى عن جدوى الشعر . في " إشراقات " ، يستعيدُ هروبه الذي مضى فيه بمحض المشيئة ، غير مكترث إلا لحريته المستعادة ؛ هروبه مع من كان يمثل له الشق الآخر ، الخيّر ، من كائنه المولع بدور الشرير ، والمبثوثة رموزه في كل ثنايا قصائده :

" يا للأخ المسكين ! كم من السهرات الباهظة جرّعته ! ( لم أقبض بورع على هذا المشروع .
تلاعبتُ بعاهته . وبباعث من خطأي ، ربما عدنا إلى المنفى ، عبديْن ) . كان يفترضُ لي نحساً
وبراءة جدّ غريبيْن ، وكان يضيفُ بواعثَ مريبة .
كنتُ أردّ هازلاً على هذا العالِم الشيطانيّ ، وأنتهي إلى النافذة . كنت أبتكرُ ، في ما وراء الريف
الذي كانت تجتازهُ فرقُ موسيقى نادرةٍ ، أشباحَ الترفِ الليليّ القادم "

توارى عن شاعرنا ، وعلى حين فجأة ، كل طاقته المبدعة ، الخلاقة ، وتوقه إلى إستحداث مذهبٍ أدبيّ جديدٍ ، يطرحُ جانباً ومرة ً إلى الأبد ، ما سبقه من مذاهب ؛ ذلك الحلم المتجسّد ، فيما بعد ، بإنجاز السوريالية . كل ما أضحى شاغلاً له ، هو السفر إلى الشرق ، والذي ورَدَ كثيراً في ديوانه الأخير " فصل في الجحيم " . الشرق ؛ جنة عدن : إنه حلم كل الأفاقين و التجار والرحّالة الأوروبيين .. ثمة ، سيختبرُ رامبو حريته ، مرة اخرى ، وبطريقة جديدة . سيتقمّص ، معاً ، ما إفتقده وما نفر منه ؛ الأب والأم : مهنة العسكرية ، التي أتاحت لوالده التغرّب طويلاً في الشرق .. وعقلية والدته ، العملية والتجارية ، الصِرفة . كأنما جمعُ المتناقضات ، في كائنه ، هو قدَر هذا " الرائي " ، المقدّر له ، ومنذ لحظة تصميمه على ترك الكتابة ، أن تستهلّ رسالته على أيدي حواريين مجهولين ، كان في طليعتهم رفيقه القديم ، فرلين . ومن دواعي المفارقة ، أن رامبو ، التاجر ورجل الأعمال ، سيعلم بعد مضي سنوات عديدة على إستقراره في الحبشة ، و من مراسلته لأحد الأصدقاء ، أن قصائده تنشر في باريس في تلك الآونة ، وتقرأ ، وأنه أصبح شخصية أسطورية في أوساط المدرسة الرمزية الجديدة ، وأن محاولة قد جرَتْ لتأسيس نظام أدبيّ جديد ، إعتماداً على مقطع شعريّ له عزا فيه ألواناً متعددة إلى أحرف العلة المختلفة . لا ريب أن المقصود بذاك المقطع الشعريّ ، هو " هذيان 2 " أو كما وسمه ب " كيمياء الكلمة " ، من كتابه / فصله في الجحيم ؛ حيث نقرأ فيه تبشيره بتلك اللغة الموعودة :

" واخترعتُ ألواناً للحروف المتحركة ! _ فالألف سوداء ، والواو
زرقاء ، والباء حمراء _ وسويتُ أشكالَ الحروف الصامتة وحركتها ،
وبإيقاعات غريزية ، تباهيتُ بإبتكار لغة شعرية ستصبحُ يوماً في
متناول جميع الحواس . وبقيت الترجمة "

معرفة رامبو ، المتأخرة ، بمسألة الإعتراف بشعره من لدن النخبة الباريسية المثقفة ، قابله بإزدراء ولا مبالاة ؛ معيداً إلى الأذهان موقفاً مماثلاً ، إتخذه في حضرة ممثلي تلك النخبة ، حينما كلن فتىً ينافح عن إبداعه وبجاهد في إثبات ذاته . إنه في القرن الأفريقيّ ، إذاً ؛ التي وصلها بعد ترحال دائب ، مغامر ، أخذه إلى العديد من الدول في اوروبة وآسيا . يمارسُ هناك مهناً مختلفة ، قاسية ، إلى أن يمكنه ذكاؤه وإتقانه للعديد من اللغات الشرقية والغربية ، من العمل بخدمة ملك الحبشة كتاجر ووكيل لإستيراد المصنعات الأوروبية ؛ وربما أسهمَ ، أحياناً ، في تجارة الأسلحة والعبيد ! لم يتبقّ ، إذاً ، من روح ذلك الشاعر ، النبيّ ، سوى نفحاتٍ بيانية ، وظفها في كتابة تقارير ل " الجمعية الجغرافية " الفرنسية ، وبصفة وكالته للملك . ما كان لرامبو ، بعلامة " شذوذه " المعروفة ، إلا ممارسة حياة شخصية ، غريبة عن بيئته الغربيّة ، الأولى : فعلاوة على ضلوعه بتجارة العبيد ، إتخذ لنفسه " حريماً " على الطريقة الشرقية ؛ من نساء صغيرات السن ، كان يختارهن من أماكن متفرقة من القرن الأفريقيّ . وكأنما ، بسلوكه هذا ، يستعيد كلمات فصله في الجحيم ، والتي تنبأ فيها بحلم حياته / رحلة الشرق :

" وسأعود بأطراف من حديد ، وببشرة سمراء ، ومقلة محتدمة :
ومن سحنتي سيحكمون أني من سلالة قوية . سأملك الذهب :
سأنعم بالفراغ وأبطش . إنّ النساء ليحدبن على اولئك المقعدين
المفترسين العائدين من البلدان الحارّة . وسيصبح لي شأن في
السياسة . سأنجو "

سيؤوب شاعرنا ، فعلاً ، من مغامرته ، ببشرة سمراء ومقلة محتدمة .. ولكن هذه الصفة الأخيرة ، تسببها الحمى لا غير ؛ سيكون عليه ، أيضاً ، العودة لموطنه بأطراف متورّمة بالمرض الخبيث ، بأوجاع وعذابات الطريق الصحراويّ والبحريّ سواءً بسواء . هاهو بعد أكثر من دزينة من أعوام العمل المرهق ، المتواصل ، يوشك على تحقيق حلمه بالثروة ، ليتمكن من الزواج بفتاة فرنسية : " ليكون لي على الأقل إبن واحد أنفق ما تبقى لي من العمر في تربيته بموجب أفكاري ، مثقفاً ومسلحاً إياه بأكمل تربية يستطيع المرء الحصول عليها في هذا العصر ، وأراه يصبح مهندساً شهيراً ، قوياً وغنياً عن طريق العلم " ، كما جاء في رسالة له لأحد معارفه . ألا نمحّص في هذه الكلمات البائسة لرامبو المحتضر ، صوتَ الأمّ " ماري " ؛ المرأة الفلاحة ، العملية ، التي كانت تردد مثلها ، مراراً وتكراراً ، على مسمعه ؛ هو من كان الولد الضال ، المتمرد ؟ رامبو ، الذي كان يفضل الهرب من ملاذ البيت إلى مباءات التشرد والجوع ، كي يصمّ أذنه عن سماع مثل ذلك الكلام .. هو نفسه ، من أصدى صوت والدته بصوته ، قائلاً بسخرية ، متنبّئاً بقدره :

" أنا ! أنا الذي حسبت أني عرّاف أو ملاك ، وأني معفى من
قواعد الأخلاق جميعاً ، ها أنذا قد هويت إلى الأرض ، وأمامي
واجب أسعى إليه ، وواقع وعر عليّ أن أحتضنه : فلاّح ! "


إذا كان " طريق الجلجلة " ، اليسوعيّ ، إمتد يوماً واحداً ، طويلاً ، من الألم والمهانة ؛ فإن درب عذاب " مسيح الكلمة " ، قد تطاول شهوراً من الأوجاع الهائلة ، غير المحتملة ؛ وأيضاً وخاصة ً ، التجليات والتصورات الماورائية المدهشة ، العجيبة ، والمُذكرة بخيالات الطفولة وأشعار الفتوّة . تكتب شقيقته " إيزابيل " ، بعيد أيام من وفاته ، مسجلة الأيام الأخيرة من مكوثه في المشفى بمارسيليا ، حيث أخضع لعملية رهيبة لبتر الساق اليمنى : " في بعض الأوقات كان رائياً نبياً ، ويكتسب سمعه حدة غريبة . كانت تأتيه رؤى ساحرة ، من غير أن يفقد الوعي أبداً ( أنا أكيدة من هذا ) . كان يرى أعمدة من المرمرالمعشق ، وملائكة من الرخام والخشب ومزروعات ومشاهد ذات جمال مجهول ، وكان يستعمل لوصف هذه المشاعر تعابيرَ ذات سحر نافذ وغريب . بعد أسابيع على موته ، إرتعشت من الدهشة والإنفعال عندما قرأت " الإشراقات " للمرة الأولى . لقد توصلت عندها لتعرف التشابه في التعبير ، لافت جداً للنظر ، بين موسيقى الأحلام هذه والمشاعر التي أحسّ بها وعبّر عنها الكاتب [ أيْ رامبو ] في أيامه الأخيرة ؛ عرف بوحه الأخير، إلى ذلك ، نوعاً من الرقة البالغة وشعوراً دينياً عميقاً . أعتقد بأن الشعر كان جزءاً من طبيعة آرثور نفسها ، وأن الغرض الشعري ما فارقه أبداً ، في كل فترات حياته ، حتى الموت " . ربما بقيَ لغزاً أبدياً ، توق رامبو ، الأخير ، إلى إلهامه الشعري : بيْدَ أنّ حلول روحه في أرض الشعراء ، بين حوارييه المنتظرين ، كانت هي مأثرته الكبرى ؛ روحه المتخلصة للتوّ من رحلة الآلام ، والمتقاطعة مع ما نعرفه عن معجزة " الفصح " المسيحيّ ؛ أيْ تجلي يسوع لحوارييه ، بعيد أسبوع من صلبه :

" فكان لابدّ أن أرحل ، لأفرج عن ذهني ما تواطأ عليه من
غوايات . وفي وسط البحر ، الذي أحببته كما لو كان سيطهرني من
نجس ، رأيت إشراقة الصليب واهب العزاء . وكان قوس قزح هو
الذي جلب عليّ اللعنة . غير أن النعيم كان قدَري المحتم ، كان دودتي
ووسواسي : فحياتي ستظل دوماً أحفل وأرحب من أن تكرّس للقوة والجمال "


المصادر :

1 _ آرثر رامبو ، فصل في الجحيم / ترجمة رمسيس يونان _ بيروت 1983 : وجميع المقاطع الشعرية ، الواردة في متن المقال ، مستلة منه ، فيما عدا المقطع المأخوذ من قصيدة " إشراقات "
2 _ آرثور رامبو ، الإشراقات / ترجمة كاظم جهاد _ مجلة " الكرمل " ، العدد 43 / 1991
3 _ هنري ميللر ، رامبو وزمن القتلة / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979
4 _ رسائل الموت لرامبو / إعداد وترجمة شربل داغر : منسوخة ، غير معروف مكان وزمان الطبع
5 _ والاس فاولي ، عصر السريالية / ترجمة خالدة سعيد _ بيروت 1981
6 _ إدمون ولسون ، قلعة اكسل / ترجمة جبرا ابراهيم جبرا _ بيروت 1979
7 _ رائف بهجت ، روائع الشعر الفرنسي ( إعداد وترجمة ) _ القاهرة 1984
8 _ آلان جوفروا ، قصيدة واحدة بأكثر من خطاب / حاوره ، وترجم القصائد : كاظم جهاد _ مجلة " الكرمل " ، العدد 40 _ 41 / 1991


[email protected]














































رؤيا رامبو

دلور ميقري


الغائبُ الحاضر :

" وإلى أن يموت العالم القديم نهائياً ، فإنّ الفرد " الشاذ " سيكون ، أكثر فأكثر ، هو النموذج " . هذا ما كتبه هنري ميللر ، قبل نصف قرن بالتمام (1955) ، في سيرته البديعة " رامبو وزمن القتلة " ؛ السيرة المنذورة لشاعر كان يُحتفل ذلك العام ، بمئوية ميلاده ، في موطنه الفرنسيّ وأماكن اخرى من العالم . ولعله ما قدّر لأحد من أصحاب البيان ، المبدعين ، نيل الحظوة التي مُنِحَها رامبو ، ميتاً ؛ وما اوتي ، إلا له ، هذا الكمّ الهائل من المؤلفات ، الموضوعة بشتى اللغات ، والمتناولة حياته وشعره وعصره . لكننا ، أيضاً ، لا نعرف بشراً ، غيره ، إستطاع ، وحيداً منسياً منبوذاً ، تحمّل ذلك الألم الممض ، الدهريّ في إستطالته ، والذي راح ينهش جسده عضواً فعضواً ، بدءاً من الركبة المتورمة بالمرض الخبيث . وعلاوة ً على عذاباته وتوحّده ، فإن إنكار رسالته ؛ رسالة الرائي ، جعلت منه " مسيحاً " مطوّباً في هيكل الأدب ؛ ما فتيء المؤمنون به يحجونُ فوجاً إثر الآخر ، إلى معبد قيامته في " شارلفيل " . لكلّ منا ، معشر الكتاب ، إذاً ، إيقونته الرامبوية الخاصة به ، وما قد يحكيه من قصة الهداية ؛ كالمريد الشارع ِ في السير إلى الله . فوق العابدِ ودونَ الواصل ، ثمة الكتاب ، الهادي ؛ " فصل في الجحيم " : إنجيلُ الغاوين ، الهائمين في كل وادٍ ؛ إنجيلُ الأناجيل ، النورانيّ ، المفتوحة صفحاته البيضاء ، أبداً ، لأقلام حواريي النبيّ الرائي ، الطفل :

" الدم الوثني يعود ! الروح يقترب ، فلم لا يسندني المسيح بأن
يهبني النبل والحرية ؟ لكن وا أسفاه ، لقد ولى الإنجيل ! الإنجيل
الإنجيل .
أنتظر الله في نهم . إني من سلالة منحطة منذ الأزل "

بكل تأكيد ، ما كان ليجول في ذهن هذا الطفل ، وهو يعلن وثنيته رداً على ما إعتبره تخلياً من المسيح عنه ، أنّه يطوّب بذلك إلوهية كتابه بالذات ؛ كتابه الذي إنتقل منزلة ً منزلة إلى مصاف الإنجيل الهادي ، بالنسبة لمريديه . وما كانت رسالة نبوّته لتكتمل ، لولا قدَر الهجرة المغلولة به حياته وحيوات الذين سبقوه ، أو أتوا بعده ، من رسل الكلمة . كأنما فقدان الفردوس ، هو مقدور جميع الشعراء الأنبياء ؛ الفردوس الأول ، المضيّع من لدن أبينا آدم . كلّ حرف نخطه ، كما ظفرناه من معرفة رامبو ، هو إضافة لمفردات كتاب الحنين هذا . كل مسالك كلماتنا ، تنتهي إلى نقطة البداية : جنة الطفولة ؛ الجنة التي أنكرها شاعرنا ، في يأس فتوّته ، مستبدلاً بها حلم اليقظة ، المُعذِب ، عن الفردوس المفقود ؛ أو عَدَن ، بحسب التوراة . وربما كان محضُ مصادفة ، أن يوصله قدَرُ الرحيل والهجرة إلى مدينة " عدن " ، اليمنية ، المركونة في زاوية القرن الأفريقيّ ، الملتهب ؛ هذه المدينة ، التي وصف رامبو إقامته فيها ، في رسالة لأمه : " إن عدن فوهة بركان خامد مليئة برمل البحر . إنك لا ترين إلا الحمم والرمل في كل مكان ، هذه التي لا تنبت أضأل نبت . وهي محاطة برمال الصحراء . وهنا تصدّ جوانب فوهة بركاننا الخامد ، الهواءَ . وإننا لنشوى كما لو كنا في فرن جيريّ " . كأنما غدَتْ سدىً كلماتُ كتابه ، المخطوطة في زمن منسيّ ، والمناجية الفردوس المفقود ، المرتجى ، ؛ هو الذي أصرّ على هجر الشِعر ، في أوان ربيعه ، ومن أراد ركوب مركب الحياة المغامرة ، بحثاً عن حلمه :

" سأهجر اوروبا. هواء البحر سيكوي رئتي ، وستلوّح
بشرتي شمسُ المهجر . سوف أعومُ ، وأمضغ العشب ، وأصيد ،
وأدخن على الأخص ؟ .. وأنهلُ الخمور المتقدة كمعدن منصهر _
مثلما كان يفعل أجدادي حول اللهب "

الطفلُ الإلهي :

صورة ُ العذراء الأم ، المادونا ، مثلما تبعثها أمامنا إيقونتها ، بكل رقتها ونقائها وعذوبتها ؛ هذه الصورة ُ ، وجدَتْ نقيضها لدى الأمّ التي من رحمها إنسلّ إلى العالم ، مسيحُ الكلمة : كانت والدة آرثور رامبو ، قاسية ً ، جلفة ، وعمليّة في كل شيء ، حتى في الأمور المتطلبة عاطفة ما ؛ بمعنى آخر ، كانت فلاحة . لم يغفر لها إبنها ، فيما بعد ، أبداً ، حرمانها إياه من الأبّ الذي هجر أسرته ، نهائياً ، هرباً من تسلطها وشراستها . المفارقة هنا ، أنّ والدته هذه ، السيئة الطباع والموسوسة ، كانت تدعى أيضاً بإسم المادونا العذراء ؛ " ماري " ، و شديدة التعلّق بإيقونتها ، إلى حدّ إرهاق من حولها بتطلّبات عبادتها ؛ من صلوات دائبة تجبرهم على القيام بها في المنزل ، أو في الكنيسة أيام الآحاد والمناسبات . الأب ، الضابط في الجيش ، العائد لتوّه من فتح الجزائر ، كان في نيته ترك الخدمة ، والتفرغ لمحاصيل الأرض الخصبة ، في بلدته الواقعة في ريف الشمال الفرنسيّ . ولكنه سيُصدم بطباع زوجته تلك ؛ هو الهارب من صرامة الحياة العسكرية ، ومن سيهرب مجدداً في مراحل متتالية ، حتى هجر العائلة بأسرها وإختفى من حياتها . بين هذين الوالدين ، غير المنسجميْن ، أضحت طفولة إبنهما جحيماً ؛ طفولة قلقة ، لا تأنس إلا في ساعات الحرية ، خارج المنزل المضطرم . ثمة ، في البراري الشاسعة و تحت سماء زرقاء صافية ، بغيماتها وطيورها ونسائمها المتلاعبة بالخصل الشقر للطفل الهائم ، الأبهى مما يحيطه من أزاهيرالبرية وأقحوانها وبنفسجها : ما كان لرامبو ، الجميل مثل إله إغريقيّ ، وهو في تيهه وضياعه وفراره ، إلاّ أن يحتبس في داخله عِقدة البحث عن الأب ؛ العقدة التي إستحوذت مجامع نفسه ، والمتجليّة في كل مقطع من مقاطع ديوانه / جحيمه :

" وما زلنا في الحياة ! _ لو أن اللعنة كانت أبدية ! إنّ إمرءاً يريد أن
يشوّه نفسه لهو إمرؤ لعين حقاً ، أليس كذلك ؟ إني أعتقد أني في الجحيم ،
إذن فأنا فيه . بهذا يتحقق ما جاء في التعاليم المقدسة . إني أسيرُ معموديتي .
أيا والديّ ، أنتما علّة نكبتي ونكبتكما . يا لي من بريء مسكين ! _ فالنار لا تعتدي
على عبَدَة الأوثان "

ماري الأم ، وهي الوحيدة بعدما هجرها رجلها ، تحاولُ جاهدة ً إبعاد كأس الحاجة عن إسرتها المكونّة من صبيين وبنتين . كانت معتادة ، قبلاً ، على عدم وجود الزوج ، بسبب سفراته الحربية المطوّلة . على أنها الآن في وضع مختلف تماماً ؛ فعليها الإضطلاع ، لوحدها ، بصفة وليّ الأمر . وقدّر ل " آرثور " الطفل ، أن يكون مُشكل هذه الأم ؛ بأطواره الغريبة وتناقض صفاته ومسلكه ؛ فهو الحالم والنزق والمشبوب العاطفة والمستهتر والمجتهد واللامبالي ، في الآن نفسه . ها هي شقيقته الصغرى ، " إيزابيل " ، تروي عنه ما تذكره من أيام الطفولة : " كان يكتب وهو صغير ، بمتعة خالصة . لم يكن تجاوز بعدُ العاشرة من عمره ، حين كان يستثير إهتمامنا طوال سهرات مديدة بقراءته علينا أسفاراً مدهشة ، في بقاع مجهولة وغريبة وسط الصحارى والمحيطات ، بين الجبال وقرب الأنهار . وكان يعمدُ إلى تمزيق هذه الأسفار المكتوبة ، بعد قراءتها علينا " .
حلمُ السفر والخوض في المجهول ، كان ، على الأرجح ، توْقَ الطفل إلى لقاء الأب ؛ الأب المفقود ، الذي يمثل له طوق نجاة ، في الخلاص من سطوة الأمّ وهيمنتها على حياته . كان همّ ماري ، القوية الشكيمة والشديدة المراس ، أن تربي أولادها على سجيتها المحافظة والجديّة . وما كانت لتسمح بتاتاً بأن يخرج أحداً منهم عن طوعها ؛ وهي الدائبة التفكير ، والمتبلبلة بما إعتبرته دوماً " مثال الأب السيء " ، والمتجلّي بالإبن العاصي ، النكِد ، الهارب دوماً من أسر المنزل إلى فضاء حريته الشخصية . ولدينا شهادة اخرى من تلك الأيام ، بقلم أحد أتراب الشاعر ، ممن رافقوه في مغامراته خارج البيت : " كان يحدث نفسه بأسفار بعيدة ، منذ السابعة من عمره .. منذ أن إستقامت الشوارع في هذه المدينة الهندسية ، وصارت أقبية للريح والبرد والخطى العجولة . كان يمشي مستقيماً في شوارع شارلفيل ، دون أن يلتفت يميناً أو يساراً .. في مشية آلية ، الجسد فيها منتصب والرأس شامخ والعينان ثابتتان وضائعتان " .
كانت بلدته الأولى ، إذاً ، أضيق من أن تتسع لأحلامه وآماله ، فطفق يمني النفس بإرتياده لعالم الباطن ، المسحور بأغرب الخيالات والهذيانات ؛ ثمة ، روحه الضائعة متوغلة في أغوار دهاليز ومُغر وسراديب مجهولة ، سريّة وملغزة ؛ أين الومضات المنجلية عن حضور الأب ، الغائب ، وهو في مُستقره ، السماويّ أو الجحيميّ سيّان :

" من الجلي أننا خارج العالم . فما من صوت . وقد فقدت حاسة
اللمس . واحسرتاه ! على قصري وبلدتي وغابة سروي ! العشيات
والغدَوات والليالي والأيام .. يا لكللي !
كان ينبغي أن أنال جحيمي جزاء غضبي ، وجحيمي جزاء صلفي _
فضلاً عن جحيم الشهوة ، جوقة من ألوان الجحيم "

سارقُ النار :

في سنّ يفاعته ، كثيراً ما طرد التلميذ المشاغبُ " ارثور " من المدرسة ، لمسلك منحرفٍ ، غالباً . وكان يدهش معلميه بإزدواجيته ، العصيّة على الفهم ؛ فهو التلميذ المبرز والمشاكس ، في آن : الإزدواجية ، التي طبعت فيما بعد شخصيته القلقة ، المتمردة ، الباحثة أبداً عن خلاصها عبر هروب دائب ، أوعبور شائق على الصراط القائم بين الخير والشر . وما من شاعر آخر ، غير رامبو ، تلاعب في قصائده ، إلى هذا الحدّ ، بين هذين المفهومين ، خالطاً عن عمدٍ بينهما ، إلى حدّ التماهي في رمز الشيطان ، ممجداً أسلافه بصفاتهم المتمثلة فيه :

" كان الغاليّون أقل الناس براعة في سلخ جلد
الحيوان وحرق الحشائش .
وعنهم أخذتُ : الوثنية والولع بإنتهاك الحرمات ،
بل كل الرذائل ، الغضب والشبق _ يا لروعة الشبق ؟ _
وعلى الأخص الكذب والكسل "

ذلك الطفل ، بحسب شهادة صديقه ، الذي كان يمشي مستقيماً دون أن يلتفت يمنة أو يسرة ؛ نراه الآن في فتوّته ، يجتاز شوارع بلدته " شارلفيل " ، في طريقه إلى مكتبتها العمومية : من هنا ، تحتمَ على شاعرنا أن يمرّ بتواريخ العصور القديمة والمتوسطة وصولاً إلى الحديثة ، وأن يختصر قراءاته المكثفة ، المدهشة في تنوعها وإرتيادها مناهلَ عسيرة لمن كان في سنه ؛ وهنا ، أيضاً ، وجدت ذاكرته تاريخَ فرنسة ، بجذورها الوثنية خاصة ً ، والذي إستعادته ، لاحقاً ، قصائدهُ . ما كان له ، هو الموغل رويداً في " شذوذه " ، إلا أن يجد إنتماءه في ذلك التاريخ السابق للكاثوليكية ؛ في غمرة مجد أجداده الغاليين ، الوالغين في دم أعدائهم والمنذورة حيواتهم للنهب والسلب و الحرق والشبق وإنتهاك المحرمات . ورغم مناجاته للمسيح ، المتكررة في متون أشعاره ، تلمساً لخلاص ما على يديه ؛ إلا أن رامبو ، شاعراً و رائياً ، ما كان له إلا أن يهبَ نفسه لعبادة أسلافه ، المتعددة الآلهة ؛ وليُطوّب إلى النهاية ، هو نفسه ، كإله .
ما كان فتانا قد تجاوز بعدُ ربيع عامه السادس عشر ، حينما اصطكتْ دواخله برعدة شبيهة بتلك السابقة لنداء النبوءة . ثمة ، أين جذوة خمرته المعتقة ، المقدسة ؛ جمر الماضي المعتلج فيه ، والمزمل برماد معاناته ؛ والمنبعث جميعاً في لغة الشاعر ، السرانيّة ، المسحورة بسيمياء المفردات الغريبة ، الشبيهة بتمتمات الكاهن الوثنيّ . ولكي ترتب للكلمة الجديدة منزلتها ، كان لا بد لرسولها من منهج ٍ يشترعه ؛ فكانت " رسالة الرائي " ، المعرّفة طريق المهتدين به . ففي ربيع عام 1871 ، بعث شاعرنا برسالة لأحد أصدقائه ، عرَض فيها تصوّره لنظرية جديدة للشعر ، أشد عنفاً وأبعد رؤيا مما سبق وقدمتها الرومانسية ، التي كانت مترسخة في اوروبة : " أقول أنّ على المرء أن يكون رائياً _ على المرء أن يجعل نفسه رائياً . يجعل الشاعر نفسه رائياً عن طريق تشتيت الحواس كلها تشتيتاً طويلاً كبيراً ممنطقاً . كل أشكال الحب ، الألم ، الجنون : يبحث في نفسه ، يستنفد كل السموم التي في نفسه ، ليحتفظ بخلاصاتها الجوهرية فقط . عذاب لا يوصف يكون فيه بحاجة إلى الإيمان كله ، القوة الخارقة كلها ، ويصبح فيه بين الجميع المريض الأعظم ، المجرم الأعظم ، اللعين الأعظم _ والعارف الأكبر ! ". ويضيف في مكان آخر من رسالته : " الشاعر سارقُ نار حقيقي . لقد أوكلت إليه الإنسانية ، بل حتى الحيوانات نفسها ، وعليه أن يجعل الآخرين يشعرون بإبتكاراته ، يمسكونها ، يسمعونها . فإذا كان لما يأتي به من الما وراء شكل ، فإنه يعطي الشكل . وإذا كان بلا شكل ، فإنه يعطي اللا شكل البحث عن لغة _ وفضلاً عن ذلك ، لما كان الكلام كله فكرة ، سيأتي الزمان لغة كونية ! ".
في ذلك الربيع ، الشاهد على الرؤيا ، كان شاعرنا قد شهد الطعنات الأخيرة ، الغادرة ، الموجهة ل " كومونة باريس " ؛ تلك الحكومة الثورية ، المحلية ، والمشكلة من مجالس عمالية . كان رامبو ، وقتئذ ، هناك ، وأمضى مع الثائرين بعض الوقت . وفي رسالة اخرى ، سبقت " رسالة الرائي " ، كتب شاعرنا إنطباعاته عن تجربته الشخصية ، بث فيها ما إعتمل في جوارحه من مشاعر الغضب والسخط والحنق على النظام القائم ، مندداً بصمت المثقفين المخزي ، بحسب وصفه . منذ مستهل ذلك العام الدامي ، صارت الأرضُ فراشاً للشاعر المتمرد ، المتشرد ، ولحاف السماء غطاءً له . فبعد مطالعاته المكثفة في مكتبة " شارلفيل " ، والتي تعرّف فيها على أدب إدغار آلان بو ، وتأثر به بشكل خاص ؛ هاهو رامبو هائماً في طرقات باريس ، إثر فراره للمرة الثالثة من أسر البيت . ثمة ، في بقاع مشبوهة وملاه قذرة ، وغالباً في العراء ؛ كان فتانا يجرب حريته ويتحدى غائلة الجوع والبرد والمرض . هناك ، أيضاً ، سيطرد من مجالس الأدباء والفنانين ، المرموقين ، لما لاحظوه من سلاطة لسانه وإزدرائه ونزقه :

" زهوتُ منذ أمد بعيد بقبضتي على جميع آفاق الحياة والخيال ،
ولم أضمرْ لأعلام الشعر والفن في هذا العصر غير الإزدراء "

بين مراحل صعلكته تلك ، ورجوعه على أدراجه ، خائباً محنقاً وأكثر يأساً ، كانت قريحته الشعرية تتوقل به إلى عوالم سحرية وما ورائية ، لطالما كانت أثيرة على طفولته . ففي صيف العام نفسه ، تظهر مطبوعة في مكتبة محلية ، اولى قصائده الطويلة " القارب الثمل " . وبعدها بسنتين ، يكمل " الرائي " رسالته في أثره الأخير " فصل في الجحيم " ، الذي أنجزه قبيل تهيئه لرحلة الحياة المريرة ، والأخيرة . بين منجزيْه هذيْن ، المعديْن في حياته ، كان مراهقنا ، العبقريّ ، ما فتيء جوّالاً يجوبُ المدن والأقاليم ، يمارس ما إصطلح نقاده على دعوته ، بتحدي الذات وإمتحان النفس بصورة إرادية ؛ تلك الممارسة التي شاء لها أن تكون إستنزافاً لجسده ، متمادياً بها إلى حدود قصية ؛ محاولاً في غيّه ذاك ، المحط من ذاته ، الإرتقاء بروحه إلى مراق ٍ أكثر سمواً وجدّة . ولعل التجربة الجسدية ، المثلية ، مع الشاعر بول فرلين ، أوضح مثال على حياة رامبو في تلك السنوات الملتهبة ، والتي كادت أن تنتهي بكارثة. وقد نحَت بعض التحليلات النقدية ، الخاصة بقصيدة " فصل في الجحيم " ، إلا أن الشاعرَ ، في مقطع " البعل الجهنمي والعذراء الطائشة " ، إنما كان يصف علاقته بفرلين ؛ خطفه إياه من أحضان زوجه الغنية والتشرد معه في أوكار الرذيلة والأماكن المشبوهة . ويستند آخرون في تقمّص هذا الأخير لدور العشيقة ، في تلك العلاقة العابرة ، إلى تأكيده بأن رامبو : " لم يعطِ نفسه ، البتة ، سواء لإلهٍ أو لإنسان " . في ديوانه الأخير ذاك ، الذي أحب شاعرنا وسمه تارة ً ب " الكتاب الوثني " ، واخرى ب " الكتاب الزنجي " ، نجد إشارة ً فيه ، غامضة ، عن تجاربه الجسدية :

" وبعد ، لا يقف الإمتهان عند حد .
ثم إن أمانة الشحاذة تفجعني . والمجرمون كريهون كالخصيان :
أما أنا ، فلم اُمَسّ ، وكل هذا لديّ سواء .
ولكن ! من الذي جعل لساني من الغدر حتى لقد أراد وصانَ
لليوم كسلي ؟ فبدون أن أستخدم في سبيل العيش حتى جسدي ،
ومع بطالتي التي تفوق بطالة الضفدع ، عشتُ في كل مكان .
ما من أسرة في أوروبا لا أعرفها _ أعني الأسرات ، كأسرتي ،
التي تدين بكل شيء لإعلان حقوق الإنسان _ عرفتُ جميع أبناء الأسرات ! "

الرائي مصلوباً :

" الشاعر منبوذ ، شذوذ . هو في طريقه إلى الانطفاء . من يهتم الآن .. كيف جعل الشاعر من نفسه مهولاً ؟ إن الوحش طليق ، يطوف العالم . لقد أفلت من المختبر ، وهو في خدمة كل من يجد الشجاعة على إستخدامه . العالم أمسى ، حقيقة ، رقماً " . هذا ما يكتبه هنري ميللر في مأثرته عن رامبو ، مستهلاً الفصل الخاص بهجر الشاعر لأوروبا ومضيه في مغامرته الأفريقية ، الأخيرة . سيظل أمر هذه المرحلة من حياة شاعرنا لغزاً ، ومع كل التأويلات المتنوعة ، المتضاربة ، المطروحة في الكتب المتناولة حياته . وكان رامبو قد عاد لتوّه من رحلة التسكع والتشرد ، رفقة صديقه فرلين ، ليقضي في منزل العائلة ردحاً قصيراً من الوقت ، أنجز خلالها قصائد جُمعت بعد وفاته بكتاب حمل هذا العنوان الصوفيّ ، " إشراقات " . تجربته العاثرة تلك ، وكل المشاق والإمتهان والضياع المرتبط بها ، ولّدت في دواخله الثائرة إحباطاً مقيماً ، جعله يتساءل ربما للمرة الأولى عن جدوى الشعر . في " إشراقات " ، يستعيدُ هروبه الذي مضى فيه بمحض المشيئة ، غير مكترث إلا لحريته المستعادة ؛ هروبه مع من كان يمثل له الشق الآخر ، الخيّر ، من كائنه المولع بدور الشرير ، والمبثوثة رموزه في كل ثنايا قصائده :

" يا للأخ المسكين ! كم من السهرات الباهظة جرّعته ! ( لم أقبض بورع على هذا المشروع .
تلاعبتُ بعاهته . وبباعث من خطأي ، ربما عدنا إلى المنفى ، عبديْن ) . كان يفترضُ لي نحساً
وبراءة جدّ غريبيْن ، وكان يضيفُ بواعثَ مريبة .
كنتُ أردّ هازلاً على هذا العالِم الشيطانيّ ، وأنتهي إلى النافذة . كنت أبتكرُ ، في ما وراء الريف
الذي كانت تجتازهُ فرقُ موسيقى نادرةٍ ، أشباحَ الترفِ الليليّ القادم "

توارى عن شاعرنا ، وعلى حين فجأة ، كل طاقته المبدعة ، الخلاقة ، وتوقه إلى إستحداث مذهبٍ أدبيّ جديدٍ ، يطرحُ جانباً ومرة ً إلى الأبد ، ما سبقه من مذاهب ؛ ذلك الحلم المتجسّد ، فيما بعد ، بإنجاز السوريالية . كل ما أضحى شاغلاً له ، هو السفر إلى الشرق ، والذي ورَدَ كثيراً في ديوانه الأخير " فصل في الجحيم " . الشرق ؛ جنة عدن : إنه حلم كل الأفاقين و التجار والرحّالة الأوروبيين .. ثمة ، سيختبرُ رامبو حريته ، مرة اخرى ، وبطريقة جديدة . سيتقمّص ، معاً ، ما إفتقده وما نفر منه ؛ الأب والأم : مهنة العسكرية ، التي أتاحت لوالده التغرّب طويلاً في الشرق .. وعقلية والدته ، العملية والتجارية ، الصِرفة . كأنما جمعُ المتناقضات ، في كائنه ، هو قدَر هذا " الرائي " ، المقدّر له ، ومنذ لحظة تصميمه على ترك الكتابة ، أن تستهلّ رسالته على أيدي حواريين مجهولين ، كان في طليعتهم رفيقه القديم ، فرلين . ومن دواعي المفارقة ، أن رامبو ، التاجر ورجل الأعمال ، سيعلم بعد مضي سنوات عديدة على إستقراره في الحبشة ، و من مراسلته لأحد الأصدقاء ، أن قصائده تنشر في باريس في تلك الآونة ، وتقرأ ، وأنه أصبح شخصية أسطورية في أوساط المدرسة الرمزية الجديدة ، وأن محاولة قد جرَتْ لتأسيس نظام أدبيّ جديد ، إعتماداً على مقطع شعريّ له عزا فيه ألواناً متعددة إلى أحرف العلة المختلفة . لا ريب أن المقصود بذاك المقطع الشعريّ ، هو " هذيان 2 " أو كما وسمه ب " كيمياء الكلمة " ، من كتابه / فصله في الجحيم ؛ حيث نقرأ فيه تبشيره بتلك اللغة الموعودة :

" واخترعتُ ألواناً للحروف المتحركة ! _ فالألف سوداء ، والواو
زرقاء ، والباء حمراء _ وسويتُ أشكالَ الحروف الصامتة وحركتها ،
وبإيقاعات غريزية ، تباهيتُ بإبتكار لغة شعرية ستصبحُ يوماً في
متناول جميع الحواس . وبقيت الترجمة "

معرفة رامبو ، المتأخرة ، بمسألة الإعتراف بشعره من لدن النخبة الباريسية المثقفة ، قابله بإزدراء ولا مبالاة ؛ معيداً إلى الأذهان موقفاً مماثلاً ، إتخذه في حضرة ممثلي تلك النخبة ، حينما كلن فتىً ينافح عن إبداعه وبجاهد في إثبات ذاته . إنه في القرن الأفريقيّ ، إذاً ؛ التي وصلها بعد ترحال دائب ، مغامر ، أخذه إلى العديد من الدول في اوروبة وآسيا . يمارسُ هناك مهناً مختلفة ، قاسية ، إلى أن يمكنه ذكاؤه وإتقانه للعديد من اللغات الشرقية والغربية ، من العمل بخدمة ملك الحبشة كتاجر ووكيل لإستيراد المصنعات الأوروبية ؛ وربما أسهمَ ، أحياناً ، في تجارة الأسلحة والعبيد ! لم يتبقّ ، إذاً ، من روح ذلك الشاعر ، النبيّ ، سوى نفحاتٍ بيانية ، وظفها في كتابة تقارير ل " الجمعية الجغرافية " الفرنسية ، وبصفة وكالته للملك . ما كان لرامبو ، بعلامة " شذوذه " المعروفة ، إلا ممارسة حياة شخصية ، غريبة عن بيئته الغربيّة ، الأولى : فعلاوة على ضلوعه بتجارة العبيد ، إتخذ لنفسه " حريماً " على الطريقة الشرقية ؛ من نساء صغيرات السن ، كان يختارهن من أماكن متفرقة من القرن الأفريقيّ . وكأنما ، بسلوكه هذا ، يستعيد كلمات فصله في الجحيم ، والتي تنبأ فيها بحلم حياته / رحلة الشرق :

" وسأعود بأطراف من حديد ، وببشرة سمراء ، ومقلة محتدمة :
ومن سحنتي سيحكمون أني من سلالة قوية . سأملك الذهب :
سأنعم بالفراغ وأبطش . إنّ النساء ليحدبن على اولئك المقعدين
المفترسين العائدين من البلدان الحارّة . وسيصبح لي شأن في
السياسة . سأنجو "

سيؤوب شاعرنا ، فعلاً ، من مغامرته ، ببشرة سمراء ومقلة محتدمة .. ولكن هذه الصفة الأخيرة ، تسببها الحمى لا غير ؛ سيكون عليه ، أيضاً ، العودة لموطنه بأطراف متورّمة بالمرض الخبيث ، بأوجاع وعذابات الطريق الصحراويّ والبحريّ سواءً بسواء . هاهو بعد أكثر من دزينة من أعوام العمل المرهق ، المتواصل ، يوشك على تحقيق حلمه بالثروة ، ليتمكن من الزواج بفتاة فرنسية : " ليكون لي على الأقل إبن واحد أنفق ما تبقى لي من العمر في تربيته بموجب أفكاري ، مثقفاً ومسلحاً إياه بأكمل تربية يستطيع المرء الحصول عليها في هذا العصر ، وأراه يصبح مهندساً شهيراً ، قوياً وغنياً عن طريق العلم " ، كما جاء في رسالة له لأحد معارفه . ألا نمحّص في هذه الكلمات البائسة لرامبو المحتضر ، صوتَ الأمّ " ماري " ؛ المرأة الفلاحة ، العملية ، التي كانت تردد مثلها ، مراراً وتكراراً ، على مسمعه ؛ هو من كان الولد الضال ، المتمرد ؟ رامبو ، الذي كان يفضل الهرب من ملاذ البيت إلى مباءات التشرد والجوع ، كي يصمّ أذنه عن سماع مثل ذلك الكلام .. هو نفسه ، من أصدى صوت والدته بصوته ، قائلاً بسخرية ، متنبّئاً بقدره :

" أنا ! أنا الذي حسبت أني عرّاف أو ملاك ، وأني معفى من
قواعد الأخلاق جميعاً ، ها أنذا قد هويت إلى الأرض ، وأمامي
واجب أسعى إليه ، وواقع وعر عليّ أن أحتضنه : فلاّح ! "


إذا كان " طريق الجلجلة " ، اليسوعيّ ، إمتد يوماً واحداً ، طويلاً ، من الألم والمهانة ؛ فإن درب عذاب " مسيح الكلمة " ، قد تطاول شهوراً من الأوجاع الهائلة ، غير المحتملة ؛ وأيضاً وخاصة ً ، التجليات والتصورات الماورائية المدهشة ، العجيبة ، والمُذكرة بخيالات الطفولة وأشعار الفتوّة . تكتب شقيقته " إيزابيل " ، بعيد أيام من وفاته ، مسجلة الأيام الأخيرة من مكوثه في المشفى بمارسيليا ، حيث أخضع لعملية رهيبة لبتر الساق اليمنى : " في بعض الأوقات كان رائياً نبياً ، ويكتسب سمعه حدة غريبة . كانت تأتيه رؤى ساحرة ، من غير أن يفقد الوعي أبداً ( أنا أكيدة من هذا ) . كان يرى أعمدة من المرمرالمعشق ، وملائكة من الرخام والخشب ومزروعات ومشاهد ذات جمال مجهول ، وكان يستعمل لوصف هذه المشاعر تعابيرَ ذات سحر نافذ وغريب . بعد أسابيع على موته ، إرتعشت من الدهشة والإنفعال عندما قرأت " الإشراقات " للمرة الأولى . لقد توصلت عندها لتعرف التشابه في التعبير ، لافت جداً للنظر ، بين موسيقى الأحلام هذه والمشاعر التي أحسّ بها وعبّر عنها الكاتب [ أيْ رامبو ] في أيامه الأخيرة ؛ عرف بوحه الأخير، إلى ذلك ، نوعاً من الرقة البالغة وشعوراً دينياً عميقاً . أعتقد بأن الشعر كان جزءاً من طبيعة آرثور نفسها ، وأن الغرض الشعري ما فارقه أبداً ، في كل فترات حياته ، حتى الموت " . ربما بقيَ لغزاً أبدياً ، توق رامبو ، الأخير ، إلى إلهامه الشعري : بيْدَ أنّ حلول روحه في أرض الشعراء ، بين حوارييه المنتظرين ، كانت هي مأثرته الكبرى ؛ روحه المتخلصة للتوّ من رحلة الآلام ، والمتقاطعة مع ما نعرفه عن معجزة " الفصح " المسيحيّ ؛ أيْ تجلي يسوع لحوارييه ، بعيد أسبوع من صلبه :

" فكان لابدّ أن أرحل ، لأفرج عن ذهني ما تواطأ عليه من
غوايات . وفي وسط البحر ، الذي أحببته كما لو كان سيطهرني من
نجس ، رأيت إشراقة الصليب واهب العزاء . وكان قوس قزح هو
الذي جلب عليّ اللعنة . غير أن النعيم كان قدَري المحتم ، كان دودتي
ووسواسي : فحياتي ستظل دوماً أحفل وأرحب من أن تكرّس للقوة والجمال "


المصادر :

1 _ آرثر رامبو ، فصل في الجحيم / ترجمة رمسيس يونان _ بيروت 1983 : وجميع المقاطع الشعرية ، الواردة في متن المقال ، مستلة منه ، فيما عدا المقطع المأخوذ من قصيدة " إشراقات "
2 _ آرثور رامبو ، الإشراقات / ترجمة كاظم جهاد _ مجلة " الكرمل " ، العدد 43 / 1991
3 _ هنري ميللر ، رامبو وزمن القتلة / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979
4 _ رسائل الموت لرامبو / إعداد وترجمة شربل داغر : منسوخة ، غير معروف مكان وزمان الطبع
5 _ والاس فاولي ، عصر السريالية / ترجمة خالدة سعيد _ بيروت 1981
6 _ إدمون ولسون ، قلعة اكسل / ترجمة جبرا ابراهيم جبرا _ بيروت 1979
7 _ رائف بهجت ، روائع الشعر الفرنسي ( إعداد وترجمة ) _ القاهرة 1984
8 _ آلان جوفروا ، قصيدة واحدة بأكثر من خطاب / حاوره ، وترجم القصائد : كاظم جهاد _ مجلة " الكرمل " ، العدد 40 _ 41 / 1991



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الميلاد والموت
- القصبات الكردية
- المهاجر الكردية الأولى
- كي لا ينام الدم
- سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
- المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري


المزيد.....




- عــرض مسلسل ليلى الحلقة 24 مترجمة قصة عشق
- نبض بغداد.. إعادة تأهيل أيقونة العاصمة العراقية شارع الرشيد ...
- فنانة شابة في علاقة حب مع نور خالد النبوي؟ .. يا ترى مين ضيف ...
- إيران.. 74 جلدة لنجم شهير حرض على خلع الحجاب!
- سلي أولادك بأفضل أفلام الكرتون.. اضبط أحدث تردد لقناة كرتون ...
- انتقادات واسعة للمسلسل العراقي -ابن الباشا-.. هل هو نسخة من ...
- فنان مصري مشهور يفقد حاسة النطق.. وتامر حسني يتدخل
- شاهد.. مغني راب يصفع مصارعا قبل نزالهما في الفنون القتالية
- -أشغال شقة جدا- كاد ألا يرى النور.. مفاجآت صادمة عن المسلسل! ...
- معرض للفنان العراقي صفاء السعدون بين جدارن جامعة موسكو الحكو ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - رؤيا رامبو