نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1430 - 2006 / 1 / 14 - 10:35
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في كتابه "الموت كطريق للحياة" يكتب الأديب الإسرائيلي الأشهر دافيد غروسمان, بمناسبة زيارة البابا لمشروع الذكرى الأبدية لضحايا الهولوكست بإسرائيل, عن عمته التي جهدت و هي في إسرائيل لإخفاء ذراعها الموشومة حتى لا تثير ذكرى الأرقام الزرقاء التي وشمها النازيون على ذراع اليهود انزعاج الإسرائيليين. من هذا المشهد الذي يثير عواطف اليهود ممن تشبعوا بقصص الهولوكست, يقفز فورا إلى استنتاج: "عندئذ أدركت كم أننا جميعا هنا في إسرائيل نسير على أرض تشابه تلك الضمادة". ليس هذا فقط. يحكي غروسمان أنه لدى استماعه لخطاب على لسان أم يهودية ألقى في الاحتفال بزيارة البابا أحس فجأة أن "الضمادة الرقيقة, التي تفصل بين ال‘هنا‘, في إسرائيل و بين ال‘هناك‘ في الهولوكست قد تمزقت فجأة". أحقا لا يفصل شيء بين الإسرائيليين المحدثين و بين اليهود من ضحايا الهولوكست, هل تمزقت الحدود بينهما و أضحى كل الإسرائيليين أناساً يغطون ألمهم الرهيب القديم بضمادة كتلك؟ و كم يلزم إذن من الوقت لرواح هذا الألم, الذي لم يعانه إلا قطاع ضيق من الإسرائيليين دأبت الحكومات المتعاقبة على استغلال معاناتهم السابقة لتبرير كل شيء, كم يلزم من الوقت لأجل الالتفات إلى الآلام الآنية لشعب آخر؟
في كتابه الأحدث "عسل الأسود" يتحدث غروسمان عن قصة شمشون, بطل سفر القضاة الأشهر, و هذا في إطار سلسلة دولية من الكتب بعنوان "أساطير" يتحدث فيها كل كاتب عن أسطورة محلية في بلده و رؤيته لها. من بين المشاركين في هذه السلسة بجانب غروسمان مارجريت إتوود التي تحكي عن أسطورة بينالوب, امرأة عوليس, و جينيت ونترسون التي تحكي عن أسطورة أطلس و كارين أرمسترونغ عن تاريخ الأساطير.
غروسمان كاتب ماهر لا شك, يستطيع ببساطة هدم الحدود "تمزيق الضمادات" بين الهنا و الهناك, لذا تجيء قراءته لشمشون براقة بما يكفي لينعتها البعض بالثورية, غير أنه غالبا ما تتوقف المسألة عند البريق. يقول هو في كتابه الأحدث "عسل الأسود": "يتم النظر إلى شمشون كمخلوق عدواني.. و لكن إن تأملنا العهد القديم فلسوف نرى كم انه مثير للاهتمام, غير متوقع, وحيد. شخصية شمشون هي شخصية مختلفة تماما عن نظرة اليهود لأنفسهم, و لكن في قصته هناك الكثير من الأشياء التي تميز وجود الإسرائيليين بين الشعوب. على سبيل المثال, كم هو إشكالي توجهنا نحو القوة, و كم يصعب علينا أن نشعر أننا منغمسون في الحياة نفسها بدلا من الأسطورة". التوجه نحو القوة هو أساس حواره مع شيري ليف آري في هاآرتس, و هو أساس للعلاقة التي يقيمها بين شمشون و بين إسرائيل و الشعب الإسرائيلي, ففي رأيه إن الإسرائيليين قد ورثوا من شمشون شفرات سلوكية وفكرية. أو بتعبيره في حوار هاآرتس: "يمكننا العثور على خطوط شمشونية واضحة في الشكل الذي تتعامل بعه إسرائيل , و كذلك فينا كشعب."
و كذلك: (منذ أن امتلكنا القوة أصبحنا, كمجتمع, نختار طريق القوة بشكل مطلق, و في الغالب القوة المبالغ فيها. هذا كذلك واضح جدا في شمشون, فالقوة الهائلة و فوق البشرية التي به لم تنم داخله بالتدريج و إنما كانت شيئا ما تم استزراعه بداخله, و لم يستطع أن يتصرف معه بشكل منطقي, و لأنه يشعر أن هذه القوة لا تخصه هو في الحقيقة, فعندما تحدث فيها أزمة بسيطة, و لنفترض أن ظمآنا هاجمه بجانب صخرة عيطام, ينكسر هو على الفور و يبدأ في التضرع إلى الله. هناك شعور بأن هذه القوة تقف على هوة هائلة من الضعف. هذا هو التأرجح المهووس بين كوننا البلطجي الأعظم في الحي و بين "يا ماما إنهم يقتلوننا, الفلسطينيون ذوو العصى و الأحجار" مثلما حدث في بداية الانتفاضة).
تحليل شائق . أليس كذلك؟ لنتذكر فقط أن غروسمان نفسه هو من كان يصيح "يا يا ماما, إنهم يقتلوننا" أثناء الانتفاضة, و لنعد إلى كتابه الصادر من عامين "الموت كطريقة للحياة", يقول فيه: (جلبة. إنها الكلمة الأولى التي أعيها عندما أفكر في السنوات العشر الأخيرة. كثير جدا من الجلبة, طلقات و صراخ, كلمات مؤججة, نحيب حدادي, انفجارات و مظاهرات. و أكوام من الإكليشيهات و البث المباشرة من موقع العمليات و دعوات للانتقام وخفقان الهليكوبترات بالأعلى وصليل سيارات الإسعاف و رنين التليفون بعد كل عملية).
هل حدث في العشر السنوات الأخيرة كل هذا في إسرائيل؟ يبدو غروسمان و كأنه يصف غزة لا تل أبيب. في الحقيقة فإن العشر السنوات التي يتحدث عنها غروسمان هي من ارتفع فيها بنسبة مئات في المئة عدد أصحاب السيارات الجيب و الفيلات و الشاليهات, من الإسرائيليين, و ها هو يصرخ : "يا ماما, إنهم يقومون بعملية". هذا هو الخط المتعرج الذي يسير عليه غروسمان دوما, ما بين استثارة عطف العالم (كتابه , الموت كطريق للحياة, كتب بالإنجليزية قبل ترجمته إلى العبرية) على المجتمع الذي يعاني دائما و أبدا من هولوكست يترصده, سواء قام به النازيون أم سلالتهم من "الإرهابيين", و بين عرض شيق لقصة شمشون يمكنه من إظهاره كمعارض صلب للسياسات الإسرائيلية. يبدو أن الأساس في الاثنين لا يبعد عن الصهيونية كثيرا, فمعنى أن تقول أن شمشون أورثنا كذا, هو أننا ذات الشعب من ألفي عام, شعب التوراة, أبناء يوشع و شمشون و داود, و أن لا شيء قد صار خلال ألفي عام, سوى بعض الانقطاع البسيط عن أن نكون حاضرين في التاريخ إلا بوصفنا ضحايا, و بوصفنا فقط شهادة حية على عنصرية العالم و معاداته للسامية, فكلنا موشوم ذراعه, هذا من دون أن يسأل السؤال الأكثر جذرية عن الاستعمار و القوى العظمى. يعظم هو القصة الدينية بذاتها إلى حدود هائلة (من دون أن يتساءل عن استخدامها, و إنما عن كنه القصة فقط), و هذا بشكل يبدو علمانيا. تسأله المحاورة عن رؤيته لنهضة الشعب اليهودي باعتبارها معجزة فيقول لها: (حيث أنني لا ادخل الله في قصة نهضة شعب إسرائيل, فلن أسمي هذا معجزة دينية, و إنما ثم إحساس بأننا شعب قام من رماد ما بعد الهولوكست, و خلال سنوات معدودة أضحت لنا قوة عسكرية هائلة, كأنما بدافع ما نمت عضلات قوية في جسد ضئيل, واهن و ضعيف. قوة كتلك تحتاج لمئات السنوات لأجل استيعابها.)
لا يفهم شيء من هذا, ما الذي جعل العضلات تنمو؟ و ما الذي جعل إسرائيل تمتلك قوة عسكرية هائلة خلال سنوات, و ما الذي يميز قصته عن قصة المعجزة الشمشونية الدينية التي يتبرأ منها؟ ينتقل غروسمان على الفور إلى القصة نفسها و لا ينطق و لو لمرة واحدة بكلمة الاستعمار. هذا كله يساعد على نقد سلوك دولة إسرائيل, و لكن ليس الصهيونية, أي ليس تقويض الأساس الذي قامت عليه الدولة, وإنما انتقاد سلوك تافه قابل للتغيير بسهولة, هذا ما يدفعه في رد على سؤال من المحاورة, عن مصير دولة إسرائيل مقارنة بمصير شمشون, أن يكون متفائلا فوق العادة. يقول: (جاءت لحظة أدرك فيها شارون, و الذي كان ينظر إلى نفسه بالتأكيد كشمشون حديث, بقوته الهائلة و بميله لتخطي الحدود, فجأة, أن ثمة حدودا لقوة إسرائيل و لتوجهها إلى القوة. فجأة يتسم سلوكه بالاعتدال. الميل للقوة, التعالي, الإحساس بأننا شعب لوحده يسكن و بين الأغيار لا يُحسب حسابه, هو كارثتنا على مدار السنوات. ثم الآن عدل تاريخي يكمن في أن الرجل الذي تسبب في الضرر هو الذي عليه أن يصلحه).
حقا. لقد انصلح كل شيء, و لم يبق لنا إلا التمتمة حامدين الله على العدل التاريخي الذي تحقق و على عودة شارون, شمشون المعاصر, إلى صوابه, و ليذهب إلى الجحيم النقاش حول الضفة الغربية و السلاح النووي الإسرائيلي و المستوطنات والمياه و الحواجز و الأسرى الفلسطينيين.
وسم تأرجح كهذا بين انتقاد بلطجي الحي و بين تقديم القرابين لأن العدل التاريخي قد تحقق غروسمان سابقا. في إبريل 1995 كتب عن أوسلو:
(يتعاظم الانطباع بأن السيد رابين ينوي القيام باتفاقيات أمنية موسعة تسيج الفلسطينيين داخل مناطق مستقلة مغلقة, مسورة, و ينفصل الواحد منها عن الآخر, بواسطة شبكة متشعبة من الطرق الإسرائيلية و العوائق المستوطنات). هذا انتقاد عظيم لبلطجي الحي, و لكن, يعقبه على الفور حمد على عودته إلى صوابه, فبعد سبعة أشهر فقط, وفي أعقاب مقتل رابين, و عندما انشغل المجتمع الإسرائيلي كله بتقديس أسطورته العسكرية, إسحق رابين, و بسبغ صورة صانع السلام عليه, كتب غروسمان: (كان يمكن للعملية التي قام بها رابين – يعني أوسلو – أن تضع في مستواها الأكثر جذرية نهاية ليس للعنف بيننا و بين أعدائنا فحسب, و إنما لجراحنا كذلك).
هذا حدث فجأة, عاد رابين فجأة إلى صوابه مثلما يعود إليه شارون الآن, الأول بعد موته و في إطار تقديسه الجمعي, و الثاني بينما الصحف الإسرائيلية كانت تزف إلى قراءها بشرى فوزه الوشيك و المتكرر في الانتخابات و في إطار تقديسه الذي لم ينقطع يوما في المجتمع الإسرائيلي, منذ حرب الخامس من حزيران و حتى اليوم.
في رد آخر على المحاورة في هاآرتس يقول غروسمان عن حدود دولة إسرائيل: (كون ليس لدينا حدود فهذا أمر مَرَضي استوردناه من المنفى, من لا يملك حدودا يعرض نفسه دوما لخطر مزدوج يهدده, أن يغزو الآخرين أو أن يغزونه هم). هاهو نقد آخر يبدو جذريا. غروسمان المعارض الصلب ينتقد الميل التوسعي لإسرائيل. و لكن هل يتوقف هنا حقا؟ لا, فثم رغبة قوية في يمتزج سويا الاعتراف بأنك بلطجي الحي و الصراخ "يا ماما إنهم يقتلوننا". هل يفكر أحد حقا في غزو إسرائيل؟ و من المرشح لهذا الدور؟ و من قام بهذا فعلا على مدار تاريخ إسرائيل القصير, سوى الميل المدعي لدى المجتمع الإسرائيلي لتصوير العلميات الفلسطينية داخل الخط الأخضر على أنها حرب حقيقية تهدد إسرائيل, و من ثم تعميق صورة الضحية, ها هنا يخطو غروسمان خطوة أبعد فيتحدث عن الغزو, ويحطم بسهولة وافرة الضمادة الرقيقة التي تفصل بين ال"هنا" في إسرائيل و ال"هناك" في الهولوكست, حيث الإسرائيليين لا يزالون معرضين لهولوكست دائم, يأتي من قبل الفلسطينيين هذه المرة, و هم لا يزالون يخفون ألمهم العظيم بضمادة رقيقة تُظهرهم للأعين الشريرة و كأنهم بلطجي الحي, بينما هم الضحايا الأبديون للتاريخ.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟