|
العفيف الأخضر : من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ
أسامة سليم
الحوار المتمدن-العدد: 5418 - 2017 / 1 / 31 - 05:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ قراءة للقرآن بما هو وثيقة طبية واعترافات محمدية.
العفيف الأخضر
مقدّمة
"في القرن الـ 20، على فقهاء الإسلام أن ينجزوا مهمة أخرى: عليهم تقليد العمل الذي أنجزته أوربا في القرن الـ 19، بفضل اللاهوت العلمي، ليرفعوا بذلك مستوى الفكر الديني، لجعله متفقاً مع المعرفة التاريخية". (المستشرق المجري جولد زيهير)
***** هدف هذا البحث، القصير، كبير: انتزاع نبي الإسلام من التخاريف وإعادته إلى التاريخ. عبر القرون، تكونت لنبي الإسلام 3 صور:صورة الرسول المبلغ الأمين لرسالة الله عبر جبريل؛صورة المفتري،الذي يدعي النبوة،التي حصرتها التوراة في ذرية اسحاق، والحال أنه من ذرية إسماعيل، إذن هو طريد منها؛صورة الزعيم الماكر الذي أراد الرئاسة وجمع المال؛وهذا ما لخصه المعري: أفيقوا، أفيقوا يا غُواة فإنما / ديانتكم مكر من القدماء أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا /وماتوا وبادت سنة اللؤماء
هذه الصور التقليدية الثلاث لمحمد مغلوطة، وأحد أهدافي من هذا البحث هو تصحيحها،على ضوء المعارف النفسية،لتقديم صورته الحقيقية،التي تجعله لا يختلف عن جميع أسلافة وأخلافه من الأنبياء، من أنبياء معبد عشتار، في القرن 7 ق.م.، إلى أنبياء ساحل العاج وافريقيا وأمريكا اللاتينية،في القرن العشرين، مروراً بأنبياء إسرائيل. فهم يشتركون جميعاً في كثير من الخصائص النفسية والأعراض السريرية الأساسية خاصة:"هذيان النبوة"،كما يسميه الطب النفسي.
الذهنية العتيقة،ذهنية التقديس الساذج لنبي الإسلام، السائدة إلى اليوم ،لم تعد ملائمة للذهنية الحديثة النقدية.التقبل الأعمى لكل ما ترويه السيرة من معجزات محمد، ينبغي أن يُخلّي مكانه للإرتياب،للبحث والتنقيب؛ لإكتشاق أن التصديق بهذه المأثورات هو من تأثير الإنبهار الأعمى بها، واستقالة الفكر النقدي أمامها، اللذين يُلغيان كل مسافة نقدية منها.حتى المؤمنون يليق بهم منذ اليوم أن يجددوا أُسس إيمانهم؛الباحث المؤمن عليه أن يفصل بين الباحث والمؤمن فيه.كي لا يطغى الثاني على الأول.هذا الفصل الضروري متواتر جداً عند الباحثين اليهود والمسيحيين المؤمنين،فضلاً عن باحثي الأديان غير التوحيدية.فلماذا يبقى الإسلام متخلفاً عن الأديان الأخرى في هذا المجال؟. لماذا؟فتش عن العلمانية،التي تغلغلت في الوعي الجمعي حتى للمؤمنين بهذه الأديان،التي ُأصلحت وُكيفتّ مع متطلبات الحياة والعقل؛لذلك لم يعد يشعر المؤمنون بها،بأنها تتنافى مع عقائدهم الدينية الإنتقائية.قلما يتبنى المثقف،وحتى المتعلم منهم،دينه ككل،ككتلة صماء.بل ينتقي منه ما يلائمه. إنه هو الذي يملك دينه،ويتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.في الإسلام،الذي لم يُصلح بعد،العكس!.
لهذه الغاية نزّلت بحثي عن محمد التاريخ،من الزاوية النفسية،في مناخ الحقبة التي نعيش.من عقاب الذات الآثم، أن نتقاعس عن دراسة محمد بالمعارف العلمية المتاحة اليوم،مثلما دُرس أنبياء اليهودية والمسيحية، مثلاً ولازالوا يُدرسون بها.كل بحث جدي، يستمد شرعيته من روح الحقبة وممارساتها وكشوفاتها المعرفية.فلماذا يبقى نبي الإسلام مغبوناً بين الأنبياء؟ لا يحتل إلا مكاناً ثانوياً جداً في الدراسات العلمية، وتقريباً لا شيء في الدراسات النفسية!.
استشهدت في: "إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان"، بكتاب أستاذ تاريخ الأديان المقارن بالكوليج دو فرانس، طوماس كرومور في كتابه: "موسى الذي عرفه يهوه وجهاً لوجه"، بأن موسى، مؤسس اليهودية، الذي جاء ذكره في القرآن 136 مرة، شخصية رمزية. كتب كرومير: "قصة ميلاد موسى تشبه عن قرب قصة ميلاد الملك الأسطوري الآشوري، سارجون. الإثنان لا يعرفان أبيهما؛ أمهاتهما أخفتهما أول الأمر ثم ألقتهما في نهر. الإثنان وضعا في صندوق طُلي بالقار. كلاهما عثر عليهما وتبناهما فاعلا خير. هذا التبني شرعن ملكية سارجون وأدخل موسى إلى بلاط فرعون (...) قصة سارجون كتبت على أكثر تقدير في القرن 8 ق. م. تاريخ موسى الأول لا يمكن إذن أن يكون متقدماً عن هذه الحقبة. بالمثل، أصدر البابا، بنوا 16 ،سنة 2007 كتابه "يسوع الناصري"، استعار فيه من الإخصائيين في "مسيح التاريخ" بعض العناصر، اللواتي كفرهم الفاتيكان في القرن الـ 19 بسببها، مثل أن المسيح،لم يلقب نفسه في حياته بـ"المسيح"،اي الممسوح بالزيت المقدس بما هو "المشيح" العبري، أو المهدي المنتظر،الذي بشرت به التوراة؛ولم يسمي نفسه"سينيور"،أي السيد أو الرب؛ولم يقل أنه"ابن الله".هذه العناصر القليلة من مسيح التاريخ تقوض اللاهوت الكاثوليكي القرووسطي من أساسه.فكيف سيكون الحال،لو أن بابا آخر يذهب في الشجاعة شوطاً أبعد،متبنياً جميع حقائق البحث عن مسيح التاريخ،من نفي الحبل بلا دنس،والولادة العذرية إلى القيامة؟صحيح،أن البابا بنوا 16،وقّع كتابه باسمه كأستاذ جامعي باحث، جوزيف راستينجر،ولم يوقعه باسمه كبابا،حتى لا يتحول إلى وثيقة رسمية ملزمة لجميع الكاثوليك. لكن ذلك مجرد احتياط بروتوكولي،لا يغير من جوهر اعترافه.فهل سيتشجع شيخ الأزهر يوماً،ويعترف ببعض عناصر محمد التاريخ،كما هم في هذا الكتاب؟ربما.ولكن ربما ليس غداً.
من أهداف هذا البحث أيضاً، سد هذا الفراغ الذي أعاق حتى الآن نزع الأسطرة عن النبي الوحيد، محمد،الذي لا شك في وجوده كشخصية تاريخية،عكساً لكبار الأنبياء السابقين،الذين بدأ يتضح أكثر فأكثر،عبر البحث التاريخي والأركيولوجي، منذ كتاب فرويد:موسى والتوحيد،أن بعضهم على الأقل شخصيات رمزية أكثر مما هم شخصيات تاريخية.
ماذا عسى أن تقدم علوم الأديان الحديثة عن محمد؟ رحلة البحث عن محمد التاريخ تهدف إلى العثور،وراء محمد الإفتراضي، كما تقدمه السيرة،على محمد الحقيقي بمقاييس علوم الأديان المعاصرة.طبعاً الرحلة ليست سهلة وليست مأمونة.لكن لا بديل عنها، للعثور على محمد كما عاش في التاريخ،أو على الأقل ـ في بعض جوانبه ـ كما كان يمكن أن يعيش، في مكة والمدينة من سنة 570(؟) إلى 632.
أحياناً تقدم علوم الأديان،عن الأديان ومؤسسيها،حججاً مقنعة، وأحياناً أخرى تقدم لنا فقط شبكة من المؤشرات المتضافرة لترجيح فرضية على أخرى؛وفي كلا الحالين لا غنى عنها.عدم استخدامها يجعل الباحثين في كل واد يهيمون ويهرفون بما لا يعرفون، مثلما هي الحال اليوم، كثيراً وغالباً، في الكتابات عن فجر الإسلام ونبي الإسلام، التي يكثر تفصيلها ويقل تحصيلها.
لماذا فكرت في كتابة هذا البحث عن محمد؟ لأسباب عدة منها مثلاً ،أن ما سأكتبته عنه لم يكتب من قبل على حد علمي، بل لم أقرأ شيئاً عن نبي آخر كُتب عنه بها؛وأيضاً لأن أمة حية هي امة متعطشة لمعرفة الماضي، ولتحويل الحاضر، لإعطاء معنى للمستقبل.ومنها أيضاً أن فرضيات وحقائق هذا البحث، تركتها اعواماً تنضج في رأسي، قبل إقتراحها على الجمهور عشية رحيلي؛عسى أن تكون خير هدية وداع.
وأيضاً لكسر محرم غليظ:هو هذا الإجماع المريب والمخيف حول شخصية محمد، التي لا يجوز مقاربتها نقدياً، حتى همساً.تماماً كما كان البدائيون يعتبرون الـ"فيتيش"،أو الصنم،هو إلاههم المتجسد الذي لا يرقى إليه الهمس؛ويحكمون بالموت على كل من يدنسه، بكلمة أو بفعل يشكك في قداسته.كذلك فعل ـ وللأسف مازالوا يفعلون ـ المسلمون بـ"صنميهما" نبي الإسلام وقرآنه، اللذين تنعقد أمامهما الألسن وتنشلّ العقول.هذا البحث هو نداء ملح للنقاش والتفكير فيهما معاً، بعلوم الحداثة.هذا الفعل التاريخي كفيل بفتح الإسلام على حضارة عصره، وأخيراً دمجه فيها،إنهاءاً لمنزلته الهامشية الحالية.لن نخرج من هذه المصيدة،إلا إذا تشجعنا ففتحنا ورشة للتفكير في محمد والقرآن،لكسر تحريم النقاش الحر والمتعارض فيهما. من دون ذلك سنبقى ندور حول أنفسنا،كبغل الطاحون المعصوب العينين،يدور حول نفسه وهو يظن انه يتقدم.وحده،هذا النقاش كفيل بأن يقودنا إلى تشخيص دقيق وعميق لأمراض الإسلام.التشخيص للمرض هو نصف العلاج.
معرفة شخصية محمد النفسية، على ضوء العلوم المعاصرة خاصة علوم النفس،يخدم هذه الغاية: جعْل القرآن لأول مرة قابلاً للفهم فهماً علمياً أي بما هو،في جزء منه، أعراض للأمراض النفسية، التي كابدها نبي الإسلام من المهد إلى اللحد. والحال أنه اليوم بالطلاسم أشبه.هذا وحده كاف ليعطي مبرراً لهذا البحث.
السعادة هي أيضاً لذة الإكتشاف،الذي يتجلى في شعور المرء، بأنه بعد بحث طويل قد وضع قدميه على الطريق،ورفع قليلاً الستار عن شخصية محمد النفسية،التي ظلت حتى الآن لغُزاً.هذا الاكتشاف قد يساهم في تغيير،لا فهم نبي الإسلام،ولا فهم القرآن والحديث، ولا حتى فهم الإسلام بما هو دين. بل قد يساهم أيضاً في تغيير الذهنية الإسلامية الخرافية السائدة، لدفعها إلى مزيد من التعقل، بل والعقلانية الدينية.هذه العقلانية هي نموذج التدين الوحيد الملائم للقرن الـ 21 ،الذي بات نفوراً من اللامعقول ،خاصة الهاذي، مثل اللامعقول الديني.هذه العقلانية ضرورية لفهم مؤسس الإسلام ونصه المؤسس.هذا الفهم العلمي هو الذي يُنير الطريق أمام الممارسة المعقولة ويمهد لظهور العقلانية الدينية،التي لا تقبل من الدين كل ما يتعارض مع قيم الحداثة الكونية، وحقائق العالم الذي نعيش فيه؛ويسمح أيضاً للمسلم بأن ينظر إلى نصه المؤسس بشكل مختلف؛وربما أدّى كل ذلك أخيراً ،مع عوامل أخرى تربوية،اقتصادية وسياسية واجتماعية،إلى تهميش التعصب الديني المستشري اليوم في المجتمعات الإسلامية، إستشراء السرطان في الجسد.
ولماذا أكتب هذا البحث؟
للقطيعة مع التفسير العامي،أي تفسير عامة المؤمنين، بمن فيهم قطاع من النخب التقليدية أو ذات الذهنية التقليدية،للنبوة لإدخال التفسير العلمي،الطبي النفسي، لها.مفهوم النبوة العامي بما هو"صوت من الغيب"،حامل لحقائق عابرة للتاريخ،أي صالحة لكل زمان ومكان،لا يستطيع العقل البشري إلا التقيّد بها وإلا ضاع وأضاع!.اما مفهوم النبوة العلمي، الطبي النفسي،فهو أن النبوة هي هذيان التأثير،أي هذيانات وهلاووس صادرة عن دماغ بشري مستوجب للعلاج.علماً بأن الشفاء من هذيان النبوة هو اليوم نسبياً في المتناول، خاصة إذا كان في بداية المرض.
هذا الفهم العامي للنبوة ترسخ في وعي،لا جمهور المسلمين فقط،بل وحتى في وعي قطاع واسع من النخب المسلمة. فشكّل، عند الجميع عائقاً دينياً وابستمولوجي مازالا يعيقان الانتقال من الفهم العامي إلى الفهم العلمي للنبوة.يقول فيلسوف العلوم ومؤرخها باشلار:"على الكيميائي[العلمي] أن يحارب في داخله الخيميائي[السحري]ليتغلب على العائق الابستمولوجي"،كذلك على الباحث المسلم أن يحارب في داخله المسلم المؤمن،إيمان العجائز، ليتغلب على العائق الديني، الذي يعيقه عن الوصول إلى التفسير العلمي للظاهرة الدينية، أو على الأقل إلى التسليم به.هذا التفسير العلمي للنبوة سيساعد، إذا عممه التعليم والإعلام والخطاب الديني المستنير،على ترشيد الخطاب الديني، بتنقيته من الهذيان الديني ،الذي جعل المسلم غارقاً حتى أذنيه في الفكر السحري، ومنتهكاً صفيقاً لمواثيق حقوق الإنسان؛ وتنقيته من المعجزات والخوارق والقضاء والقدر"المكتوب"، ومن الشريعة وحدودها الدموية والجهاد بما هو"قتل مقدس"،وكل ما يتحدى قوانين العقل وقوانين الطبيعة وقيم حقوق الإنسان الكونية، أي الصالحة لجميع الأمم،لأن الحق في الحياة وفي السلامة الجسدية وفي الحرية وفي الكرامة...حق مقدس لا تفريط فيه لكل إنسان.
تأخّر العالم الإسلامي التاريخي،يعود في جزء أساسي منه،إلى هذا الهذيان الديني، الذي غذّى على مر القرون التواكل [فاتاليزم] الإجتماعي والإرهاب الديني ـ السياسي. معيقاً هكذا الوعي الجمعي الإسلامي، بما فيه وعي قطاع من النخب، عن تبني العقلانية في العلوم والقيم، والبرجماتية في الاقتصاد والسياسة.العقلانية والبرجماتية هما اليوم رافعتا التقدم، والاندماج الضروري في العالم الذي نعيش فيه.
أبتغي من هذا البحث،في أرض بكر،فتح منظورات جديدة قد تساعد،من الزاوية النفسية،على فهم ظاهرة النبوة عامة ونبوة محمد خاصة.كما أبتغي أيضاً انقاذ محمد التاريخ من شانئيه، حقداً دينياً أو ايديولوجي عليه، ومن عابديه، طمعاً في شفاعته لهم يوم الحساب.إنقاذ محمد التاريخ من محمد الإيمان،بخطاب معرفي عن محمد، من خلال تحليل القرآن بعلوم النفس بما هو وثيقة طبية،وسيرة ذاتية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.
أتوقع من تقدّم العلوم النفسية، في تشخيص الأمراض العقلية،أن يساعد باحثي الغد، على التمييز شبه الكامل للسيرة الحقيقية لنبي الإسلام، من السيرة التخييلية، التي نسجتها له رغبات المؤمنين وتخييلاتهم الجامحة،الميالة للإرتفاع بالأسلاف إلى مرتبة المثال،بل إلى مصاف الكائنات الفوق ـ طبيعية.لأن ذلك يرضي نرجسيتهم الجمعية الدينية، ويعطيهم خاصة تعويضاً وعزاء عن الذات الفردية والجمعية، المنطرحة أرضاً، منذ سقطوا في الإنحطاط،الذي بدأت بعض البلدان رحلة الخروج منه،مثل تركيا الكمالية،منذ إلغاء الخلافة في 1923،وتونس البورقيبية،منذ إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 1956،التي حررت المرأة من رق قانون الأحوال الشخصية الشرعي،كبداية جدية على طريق إصلاح الإسلام.
"كيف ترقى رقيّك الأنبياء / يا سماء ما طاولتها سماء" (البوصيري)؛ أو "ولد الهدى فالكائنات ضياء / وفم الزمان تبسم وثناء (أحمد شوقي).
وهكذا فالرواية التي تقدمها السيرة،التي يلخصها هذان البيتان أفضل تلخيص، هي في مجملها ميتاتاريخ.الميتاتاريخ تخضع التاريخ لحتمية لا تاريخية،أي للتدخل الرباني في التاريخ،هذا التدخل الإلهي الذي يرفع الأسلاف إلى مصاف الأبطال، إلى أنصاف آلهة ،منزهين عن الوقوع في الخطأ والخطيئة.وهذا ما فعلوه بمحمد من المهد إلى اللحد،بل منذ أن كان جنيناً في رحم أمه! .هذه الرواية ارتفعت به، من شرطه البشري، إلى مقام المختارين، الذين رصدتهم الأقدار لتحمّل رسالة النبوة، حتى قبل أن يعلن هو نفسه نبياً. فهي إذن أبعد ما تكون عن التاريخ،أي الوقائع التي وقعت فعلاً أو كان يمكن منطقياً ان تقع.
محمد ليس إستثناء لشخصيات تاريخية أخرى؛بوذا أيضا،كان في بدايته شخصية تاريخية.لكن الميتاتاريخ،التي تتطلبها دائماً النرجسية الجمعية،سرعان ما حولته إلى شخصية أسطورية:عُلوقه في رحم أمه وحمله كانا بمعجزة.وولادته كانت عذرية. كما سيكون ُعلوق وحمل وولادة عيسى بعده بـ 650 عاما!يبدو أن الأسطرة هي قدر كثير من الشخصيات التاريخية، خاصة الأنبياء.
مراجعي، العلمية والدينية، لهذا البحث مبثوثة في ثناياه.لكن المرجع الأول هو القرآن،في قراءة غير مسبوقة، بما هو سيرة ذاتية لنبي الإسلام.وقد استخدمته أيضاً كوثيقة طبية لتشخيص هذياناته وهلوساته وحالاته النفسية.القرآن هو لاشعور محمد، وهو ايضا ضميره الأخلاقي القاسي والخاصي.لا شعور العصابي مغطى بمحدلة الكبت،لذلك يحتاج محلله النفساني إلى أحلامه، لفكّ شفرتها، للوصول عبرها إلى مكونات ومكنون شخصيته النفسية.أما لا شعور الذهاني وضميره الأخلاقي فهما عاريان لا يحتاجان لفك أي رموز مستعصية.
القرآن هو لا شعور محمد،بكل متشابهاته،والتباساته وتناقضاته الوجدانية،وتقلبه من النقيض إلى النقيض،من التسيير إلى التخيير،من الضمير الأخلاقي الجائر في مكة،إلى الضمير الأخلاقي الغائب في المدينة.من نبي وشاعر في مكة إلى مشرع ومحارب في المدينة.لا نستطيع الدخول إلى أدغال الشخصية النفسية المحمدية إلا عبر 6236 آية.
رحلة شاقة وممتعة في آن.الممتع فيها على نحو خاص، هو لذة الإكتشاف.كشف الغطاء عن جذور مآسي حاضرنا في أحافير ماضينا،في طوايا وخبايا تراثنا،في 6236 آية وآلاف الأحاديث"الصحيحة"، تراثنا الذي لم نتشجع حتى الآن على تصفية الحساب معه؛ لم نقطع معه حبل السرة،هذه القطيعه التي هي رمز التحرر من عوائقه الدينية.
كما لا يستطيع الفرد أن يصبح فرداً إلا إذا قطع حبل السرة مع عائلته،المشتقة من عال يعول، أي جار وبغى، وهذا بالنسبة لي تجربة معاشة،دشنتها بهجرتي من تونس في 10/01/1961 ،هجرتي التي كانت تاريخ ميلادي الثاني؛كذلك لا تستطيع أمة أن تصبح أمة حديثة إلا إذا قطعت حبل السرة مع ماضيها المكبّل لإبداعها،وهذا في حالة الأمم الإسلامية حقيقة تفقأ العيون!.
من خلال القرآن،بإمكان كل باحث جدير بهذا الاسم،أن يزيح ركام الخرافات، التى راكمتها السيرة والمتكلمون والمفسرون،رداً على نصارى بلاد الشام ،منذ القرن 8،الذين عقّدوهم بالسؤال المحرج: كيف يكون محمد نبياً وهو بلا معجزات؟رداً عصابياً على هذا الإحراج، اختلقوا أطناناً من المعجزات والخوارق،بدأت منذ كان محمد جنيناً في رحم آمنة الوثنية:بل وحتى قبل خلق العالم" أخذ الله قبضة من نوره وقال لها كوني محمد" كما يقول حديث؛ويوم ميلاده تزلزل عرش كسرى وقيصر و"طلع نجم أحمد"، كبشارة على أن نبياً جديداً قد وُلد؛ونسبوا لأمه،آمنة،أنها قالت:"(...) لإبني هذا لشأن (...):حملت به، فما حملت حملاً قط أخف منه، فرأيت في النوم، حين حملت به، كانه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام.ثم وقع حين ولدتُه وقوعاً ما يقعه المولود:معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء(...)"(1). هذيان مستوفى الشروط !.
نبي الإسلام لم يتردد في التصريح بأن أمه وأباه وكل أعضاء عائلته،الذين لم يؤمنوا به، في النار. فكيف يكونون قد اكتشفوا باكراً نبوته، أو على الأقل بركته، ومع ذلك فضلوا الكفر على الإيمان والنار على الجنة؟!.
القرآن وثيقة طبية صادقة عن نفسية نبي الإسلام،أشبه ما يكون باعترافات روسو،كشف فيه حتى لحظات شكوكه المتكررة في إيمانه برسالته، وعن ضيق صدره بالقرآن:"فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك،وضائق به صدرك"(12 هود)؛بل وحتى نيته في"افتراء"قرآن آخر، على غرار الآيات الشيطانية، طمعاً في استرضاء مثقفي مكة، الذين طالما أحرجوه بسؤال المعجزة،عسى ان يستريح من شقاء العزلة النفسية، التي لا تلطف وقعها الأليم على نفسه الجريحة إلا الهلاوس؛إذ أن وظيفة الهلاوس هي تطمين المهلوس لتخفيف عزلته وقلقه.لذلك يكون انقطاعها،أي انقطاع الوحي،مصدر شقاء ما بعده شقاء له.إذ تتركه وجهاً لوجه مع عذابه النفسي،ومع العنف النفسي،الذي كان يكابده يومياً،بسبب استهزاء قريش به،كما سجل ذلك بنفسه في القرآن:"إذا رأوك،إن يتخذونك إلا هزوءاً:أهذا الذي بعث الله رسولاً؟!"(41 الفرقان)،:"فأغروا به سفهاءهم فكذبوه وآذوه،ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون(...)[ذات مرة] أقبل [محمد] يمشي (...) فلما مر بهم طائفاً بالبيت غمزوه[=عيّروه] ببعض القول.فعرفت [=الراوي] ذلك في وجه رسول الله (ص)"(2). وهذا ما يعطي اليوم القرآن مصداقية الوثيقة التي لا شك فيها، والصالحة لتكون مرجعاً لمعرفة ما مر به نبي الإسلام من حالات نفسية غالباً مريرة؛واستهزائهم بأصحابه،الذي ولا شك أثّر في معنوياتهم وأصابهم بالحزن والخوف:"إن الذين أجرموا،كانوا من الذين آمنوا يضحكون؛وإذا مروا بهم يتغامزون؛وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين؛وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون."(29،30،31،32،المطففين)؛أو: "وأذكروا إذ أنتم قليل مسضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس(...)"(26 الأنفال).
القرآن وثيقة تاريخية أيضاً ذات مصداقية عالية؛فمن بين،مصاحف جامع صنعاء،التي أكتشفت في 1972 ،إثر تهدم سقف الجامع،عُثر على نسخة تعود إلى سنة 65 هجرية، لا تختلف عن نسخة عثمان المتداولة اليوم .وما يقال عن أن جمع عثمان للقرآن لم يكن نهائياً،بل جمعه بعده عبد الملك، وراجعه للمرة الأخيرة المهدي العباسي،هي فرضية ضعيفة.توجد احتمالية جدية في أن يكون عبد الملك قد جمع المصاحف المتداولة في خلافته،لكن لا ليعيد كتابتها،ولكن لينقطها ويشكلها، نظرأ إلى أن نصر بن حجاج قد اضاف،بأمر من الحجاج،التنقيط والتشكيل، اللذين لم يكونا موجودين في النسخة الأصلية. اما أن يكون المهدي قد راجعة للمرة الأخيرة،فهذا لا تشهد له مخطوطة 65 هجرية.طبعاً توجد شكوك واحتمالات قوية في أن يكون عثمان،الذي حاول تزوير آية"والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله"(34،التوبة)بحذف الواو العاطفة، لولا عتراض أُبي بن كعب، حسب رواية السيوطي في تفسيره،قد تلاعب بحذف ما لا يروق له من المصاحف، التي أحرقها، مثل مصحف أبي نفسه، ومصحف ابن مسعود، ومصحف علي ومصحف ابن عباس.يبدو أن عثمان لم يدخل في الإسلام اقتناعاً به؛أحد مؤشرات ذلك هو تخلفه،بلا عذر،عن أول غزوة مجهولة العواقب:بدر.بل دخل حباً في رقية، بنت محمد التي تزوجها.مصحف ابن عباس،بشهادة الطبري، عند تفسير آية نكاح المتعة:"فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة"(24 النساء)،يقدم رواية أخرى مختلفة للآية، تبيح نكاح المتعة،أي الدعارة الشرعية،التي كانت شائعة في المعابد الوثنية في بابل وآشور وأثينا والهند وفي مكة نفسها.فالكعبة كانت ماخوراً(انظر كتاب الأصنام للكلبي).
يؤكد الطبري أن الآية في مصحف ابن عباس هي"فما استمتعتم به منهن ـ إلى أجل مسمى ـ فأتوهن أجورهن فريضة"؛لكن الطبري يضيف: لا نستطيع العمل بهذه الآية، لأن مصحف اين عباس لم يصلنا. طبعاً لأن عثمان أحرقه.يروي الطبري عن الإمام علي،الذي قال آسفاً:"لولا أن عمر نهى عنه[= نكاح المتعة]ما زنى إلا شقي".وبإختصار، يبدو أن قرار،عمر نسخ آية نكاح المتعة،في خلافته، قد تبناه عثمان. بالرغم من كل شيء،سواء بزيادة بعض الآيات أو حذف البعض، يبقى القرآن إذن سيرة ذاتية لمحمد ووثيقة طبية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.
أتمنى أن يساهم هذا البحث في وضع اللبنات الأولى، لتدارك النقص الفادح في دراسة شخصية نبي الإسلام النفسية من جميع جوانبها، ولتحليل النبوة تحليلاً طبياً نفسياً.طبعاً فهم النبوة علميا، ليس مضاداً لفهم المؤمنين لها على طريقتهم الخاصة،شرط عدم السقوط في التعصب والعنف الشرعي،والنكوص إلى اللّامعقول الديني المعادي للمجتمع،مثل عداء المرأة،وغير المسلم،وتكفير العقل والعلم،الذي تجاوزته البشرية المتحضرة منذ زمن بعيد: هكذا يصبح محمد التاريخ،أو القريب من الحقيقة التاريخية، في متناول أجيالنا الصاعدة، التي يفيدها كثيراً أن تعرف تاريخها على حقيقته، لتتعامل معه بالعلم،لا بالفانتازم.ليكون لها ينبوعاً لمعرفة تاريخها وتاريخ تشكّل وعيها الجمعي،وليس مجرد ملاذ بائس من بؤس حاضرها وانسداد آفاق مستقبلها. وكما قال الزهاوي: أإذا كان حاضرنا شقياً / نسود لكون ماضينا سعيدا؟!.
لأول مرة،على الأقل من الزاوية النفسية،ستكون بين أيدي الباحثين محاولة علمية تحمل نظرة نقدية محايدة للموضوع المدروس،في موضوع بالغ الحساسية مثل نبي الإسلام.وهكذا يمكن أن تقدم للقارئ والباحث قدراً أكبر من المعطيات، ومن المعرفة الموضوعية، بعيداً عن القدح والمدح؛الموتور دينياً أو فكروياً من محمد والمؤمن،إيمان العجائز الساذج به، لا يريان فيه إلا ما يريدان أن يريا، قبل أي فحص موضوعي:"وعين الرضا عن كل عيب كليلة /كما أن عين السخط تبدي المساويا". الأول لا يرى فيه إلا القائد العسكري أو رجل الدولة الماكر، الذي أراد توحيد عرب شبه الجزيرة في دولة عربية، تدين لها الأعراب"وتدفع لها العجم الجزية"،كما يقول حديث موضوع على الأرجح؛والثاني، المؤمن، لا يرى فيه إلا"الإنسان الكامل"،الذي أعدته العناية الإلهية، لختم النبوة و لتبليغ آخر الرسالات التوحيدية، التي صححت ـ وفي رواية أكثر تطرفاً نرجسياً ـ نسخت الرسالات التوحيدية السابقة لها،أي رمت جميع الأديان،التوحيدية والوثنية،إلى مزبلة التاريخ!.
العائق الإبستمولوجي الأول،الذي سأحاول عدم الوقوع فيه هو ادعاء الموضوعية الصارمة،الإدعاء بأن البحث في سيرة محمد موضوعي،لا ظل فيه للتحيز الذاتي اللاشعوري على الأقل،كاذب.الموضوعية غير متحققة بالكامل حتى في العلوم الطبيعية.أما في العلوم الإنسانية فهي صعبة المنال،خاصة في موضوع شائك كالدين.لكن مخاطر التحيز غير القصدي،مهما كانت جدية، لا ينبغي أن تُصيب العقل بالشلل، فيستقيل من مهمة الحفر والبحث الشاقة،مع الإضطلاع بإمكانية الخطأ.ذلك سيكون جريمة في حق المعرفة وفي حق البشرية،المعنية بترشيد الإسلام،عبر تنقيته من ثقافة العنف والتعصب والكراهية؛وإدخال البشرية كافة فيه.ليس بالتبشير السلمي،فهذا حق من حقوق الإنسان،بل بجهاد الطلب،أي فتح العالم كله لأسلمته!.
كل شمعة تضاء في ليل الثقافة العربية، تفتح نافذة فُرص أمام أجيال الغد،التي لها علينا حق أن نترك لها معالم، تساعدها على فهم تاريخها الديني والسياسي، عسى أن يساعدها ذلك على العيش في بلدان تطيب فيها الحياة.النقيض المباشر لهذه البلدان، التي تكتوي فيها اليوم أجيالنا بنار التعصب الديني والفوضى الخلاقة للفوضى الدامية،وفتاوى القتل،أو الإيعاز به.
قارئان سيتأكدان من هذه النظرة،المحايدة لمحمد التاريخ:القارئ الخبير والقارئ النابه.وإليهما كتبت هذا البحث، الذي كشف عن جوانب من الحقيقة:حقيقة نبي الإسلام؛عسى أن يساعدهما على المضي قُدماً لكشف جوانب أخرى من حقيقة أوسع وأعمق برسم الاكتشاف،سواء في شخصية نبي الإسلام أو في شخصيات خلفائه الراشدين،وخاصة عمر.الذي هو المؤسس الحقيقي للإسلام، مثلما كان بولص هو المؤسس الحقيقي للمسيحية.عمر نشر الإسلام، خارج شبه الجزيرة العربية، بالسيف. أما بولص فقد نشر المسيحية،خارج فلسطين،ببناء الكنائس.
كلمة حق لابد منها في حق المستشرقين،لتفنيد التشنيع بهم الشائع لدى مثقفي الإسلام التقليدي وأقصى اليمين الإسلامي،ورثاء الإنغلاق الديني الحنبلي،الذي حرّم منذ 8 قرون تدريس "العلوم اليونانية الدخيلة"عن القرآن والسنة، بما هما شرطان ضروريان وكافيان لفوز المسلم بالسعادة في الدارين!في نظرهم، المستشرقون هم ورثاء"العلوم الدخيلة"المعاصرة،التي يعتبرها أقصى اليمين التقليدي و الإسلامي علوماً دخيلة،بل هي في نظره أشد خطراً على الإسلام من العلوم الدخيلة القديمة.المستشرقون عندهم،هم طابور خامس في حرب"الغزو الفكري"على الإسلام. والحال أن المستشرق يقدم خدمة جليلة بدراسته القرآن وصاحب القرآن،على ضوء العلوم الحديثة،خاصة الفيلولوجيا[= علم تاريخي موضوعه دراسة معرفة الحضارات الماضية عبر الوثائق المكتوبة، التي تركتها وقد دُرس بها العهد القديم]،بعيداً عن الهم الجدالي القديم.
وقد ارتكب إدوارد سعيد خطأ تاريخياً فادحاً وربما مغرضاً،عندما اعتبر المستشرقين،عدا قلة منهم جاك بيرك، طابوراً خامساً لجيوش الفتوحات الإستعمارية،مقدماً بذلك خدمة مجانية لأقصى اليمين الإسلامي، الحساس، حتى الرهاب، لمقاربة تاريخ الإسلام بالعلوم الحديثة،التي يحرمها ويجرمها.
الطريقة التاريخية النقدية الإستشراقية،هي التي درسوا بها تراثهم وبعض تراث الإسلام في القرن الـ19 ،والتي أنتجت لاهوت يهودياً ـ مسيحياً مستنيراً .
كان المستشرقون يعملون على ظهور لاهوت إسلامي مستنير،على صورة الاهوت اليهودي ـ المسيحي المستنير، يرفع من مستوى الفكر الديني الإسلامي، ليتطابق مع معارف العصر العقلانية والعلمية؛كانوا يطمحون لمساعدة المثقفين المسلمين، على الإنتهاء من طريقة التقريض العقيمة، التي يكتب بها المؤمنون للمؤمنين،والتي كانت غالبية المثقفين المسلمين ـ وإلى حد كبير مازالوا ـ يقاربون بها تراثنا الديني بمنطق:ليس في الإمكان أبدع مما كان!.
الطريقة الإستشراقية التاريخية النقدية،أثرت في النخب الثقافية العربية والإسلامية في القرن الـ 20 ،الذين حاولوا،بنجاح متفاوت،انتاج لاهوت إسلامي مستنير ورؤية لتاريخ الإسلام مختلفة عن الرؤية التقريضية التقليدية العقيمة؛ مثلاً طبق طه حسين،بإحتشام أحياناً،هذه الطريقة التاريخية النقدية خاصة في كتابيه:في الشعر الجاهلي والفتنة الكبرى؛وطبقها منصور فهمي في رسالته الجامعية عن المرأة:"أحوال المرأة في الإسلام"؛وطبقها أحمد أمين في ثلاثيته:فجر ،وظهر،وضحى الإسلام؛وطبقها الدوري في دراساته عن تاريخ الإسلام وفي كتابه"علم التاريخ"(3)؛وطبقها لويس عوض في اسهاماته المتعددة وخاصة كتابه"فقه اللغة"الذي منعه الأزهر،وكتابه عن الأساطير الشعبية الهلالية؛وطبقها هشام جعيط: في الفتنة الكبرى...
ستكون ترجمة ما كتبه المستشرقون، وما قد يكتبونه عن القرآن وعن محمد وعن الإسلام إسهاماً أساسياً، في فهم القرآن ومحمد والإسلام فهماً تاريخياً،يقطع مع التمجيد الورع(بكسر الراء) السائد في الكتابة، عن هذه الموضوعات،اليوم،والذي يكثر غثّه ويقل سمينه.
لولا أمثال نولدكه،وبلاشير،واط،رودينسون،لكي أكتفي بأشهر الكلاسكيين،لبقي القرآن ونبيه لُغزاً. بالرغم من أنه مازالت توجد 3 كتب، بالألمانية عن محمد تعود إلى القرن 19، لم تترجم بعد؛لولا الدراسات السياسية والسسيولوجية، الغربية المعاصرة، لظاهرة الإسلام السياسي،وخاصة لأقصى يمينه،لما استطاعت غالبية النخب، في ارض الإسلام ،مقاربة الظاهرة وتحليلها.تحليلات أمثال جيل كيبال وجان بييار فيليو،وغيرهما من الخبراء الأوربيين والأنجلو سكسانيين،تشكل مصدراً ثميناً لفهم الظاهرة الإسلاموية في كثير من جوانبها.والحال أن بعض ما كتب عنها بالعربية لا يستحق حتى عناء القراءة.
وكيف ننسى عشرات الأسماء الأخرى،التي ألقت إضاءات علمية ثمينة على الإسلام وتاريخه وشخصياته؛وفضلاً عن ذلك كوّنوا أجيالاً من الجامعيين المستنيرين في ارض الإسلام.من هؤلاء المعلمين الكبار أذكر، عفو الخاطر، جولد زيهير،الذي حلل تفاسير القرآن بالمفاهيم العلمية الحديثة، وبلاشير،الذي قدم أول ـ وللآسف ـ آخر ترجمة فيلولوجية للقرآن،وماسنيون،أهم وأول من عرّف الإسلام الصوفي بكتابه"صلب الحلاج"،فضلاً عن اضاءاته الأخرى التي سلطها على الفن الإسلامي والمنطق الإسلامي والنحو العربي؛وجيب،قد يكون أول من أكتشف عجز المثقف العربي عن الكتابة بالمفاهيم العقلانية،الوحيدة المنتجة للعقلانية الفلسفية والعلمية وللأخلاق النفعية.لكنه فسر ذلك بخاصية الفكر السامي التذريري، أي العاجز عن السانتاز.لكنه في نظري عائد بالأحرى إلى تأثير القرآن الذي يغيب فيه الرابط المنطقي بين السور والآيات.فضلاً عن رمزية الله،الفعال لما يريد،كيف يريد ومتى يريد. سلاحه الوحيد هو الفكر السحري:"إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون"(82 ياسن)،أي إرغام الواقع على إعطاء نتائج مخالفة لقوانينه.هذا المناخ الديني مضاد للتطور العلمي؛ وآدم ميتز، الذي حلل في كتابه"الإمبراطورية العربية"،كيف أعاق الإستهلاك الترفي التبذيري للخلفاء مراكمة رأس المال وظهور اقتصاد منتج،وهنري كوربان،الذي حلل الفكر الشيعي على ضوء العلوم الحديثة، ولاووست،الذي قدم بتحليله لإبن تيمية نموذجاً للدراسة الحديثة للشخصيات الإسلامية،وكلود كاهان،الذي كان أول من حلل الأزمة المالية التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية، ولوي جارودي، الذي فسر كيف أن الفلاسفة العرب كانوا متكلمين،أكثر مما كانوا فلاسفة،والصديق جاك برك، الذي، فضلاً عن إسهاماته الثمينة الأخرى،قدم أول ترجمة أدبية للقرآن، مع مقدمة تحليلية،تقريضية إلى حد ما، إذ رأى في ورود فعل"يعقل"40 مرة في القرآن دليلاً على حثه على استخدام العقل، وتناسى مجاملة على الأرجح، كل الفكر الغيبي والسحري المبثوث في معظم آياته.لكنه قدّم في مدخله التحليلي ملاحظات فقهية وسسيولوجية وتاريخية مهمة؛(4) وشوراكي، الذي قدم ترجمة طريفة للقرآن أعادت مصطلحاته الدينية إلى أصلها التوراتي،وفان إس، الذي نفضَ نقدياً الغبار على مكاسب العقلانية الإعتزالية وثغراتها،وبرنارد لويس،الذي قدم مقاربة نقدية ثرية للإسلام والناطقين المعاصرين بإسمه،جدير بكل مسلم،ناضج لتقبل النقد بصدر رحب وممارسة النقد الذاتي بشجاعة،أن يستفيد منها للإفلات من مصيدة النرجسية الدينية المنغلقة على نفسها، والتي أدخلت الإسلام في الإنحطاط ،والتي مازالت تلحق بصورة الإسلام،في مرآة الرأي العام العالمي،وبمصالح المسلمين أذى بليغاً.
هدف هذا البحث ليس مسح طاولة الماضي لكتابة تاريخ بِكر.فعل صبياني!الحضارة مسار تراكمي ثقافي مديد.بدأ منذ بدأ أجدادنا القرود،بعد أن انتصبوا على ارجلهم،محررين هكذا قوائمهم الأمامية ومحولينها إلى ايدي،ستتفرغ شيئاً فشيئاً إلى العمل اليدوي، إلى نحت الصوان.ونعرف من تاريخ التطور ان العمل اليدوي والفكر الرمزي[=الفكر السحري،ثم الفكر الأسطوري ثم الفكر الديني]، هما اللذين حولا القرد إلى إنسان.منذ بدأ يصنع أدوات الصوان إلى أن انتهى،على مسار التطور اللانهائي، إلى صنع الكمبيوتر.الطور الأخير من تطور القرد إلى بشر بدأ، يوم شرع القرد ـ البشر يعبد موتاه،أي يدفنهم تحضيراً لإنتقالهم إلى عالم آخر،كما تؤكد الإنثروبولوجيا.
مطلوبي، من استعادة نبي الإسلام من الأسطورة إلى التاريخ، هو تدشين تصورات جديدة لتاريخ الإسلام،تحرر عقولنا ومخيلاتنا من الرق النفسي لأساطير الماضي،بتحليلها علمياً، لفهمها بما هي أساطير مؤسسة،جديرة بالإحترام الواجب للأساطير المؤسسة،ولكن ليست حقائق تاريخية أو أوامر ونواهي إلاهية؛إذا إلتزمنا بها،رغم تناقضها مع متطلبات عصرنا،فزنا في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة، وإذا خالفناها،لأن حقائق العالم الذي نعيش فيه تفرض ذلك،بؤنا بالخسران المبين في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة،التي هي خير وأبقى:أما الدار الدنيا"فمتاع الغرور"!.
من حق"المسلم الحزين"،كما سماه حسين أحمد أمين،أن يُنهي حداده طامحاً،كمعظم معاصريه،في أن يكون سعيداً هنا والآن؛وأن يتصرف بحرية في جسده لتحريره من ملكية الله ـ ألم يفتى[للتذكير لا أجزم بلم لحاجة العربية إلى الحروف الصوتية الفقيرة فيها] الشيخ الشعراوي بحرمة نقل الكلى من شخص إلى آخر، لأن جسده ليس ملكاً له بل ملك لله؟!،وملكية ظلال الله على الأرض:العائلة و المجتمع التقليديين والدولة الدينية؛وأن يعترف له هذا الثالوث المخيف بحقه في تقرير مصيره في حياته اليومية،وبجميع حقوقه التي اعترفت له بها وثائق حقوق الإنسان؛وبحقه في انتقاء ما شاء من دينه وطرح ما لا يرضيه منه؛وبحقه في تعليم ينمّي فكره النقدي ويعلمه التجديد العلمي والتكنولوجي،الذي لا مستقبل لأمة معاصرة من دونه،بصرف النظر عن محرمات دينه المتقادمة.
احترام الماضي؟نعم.لكن شرط ألا يكون عائقاً لبناء الحاضر وتحضير المستقبل؛التراث يجب أن نجعل منه،كما تتطلب منا الحداثة وعلومها، رأس مال رمزي برسم البحث والإكتشاف. نتأوّله تأويلات شتى تخدم حاضرنا بتكييفها مع العقلانية الدينية،وننسخ منه كل ما يشكل عائقاً، دينياً أو ذهنياً ،يمنعنا من أن نكون معاصرين لمعاصرينا،لا أن نحوله إلى قيد على عقولنا،أي إلى عقيدة جامدة يحكم بها الأموات من وراء قبورهم حياة الأحياء،كما تريد القراءة الحرفية له!.
يجب،مرة وإلى الأبد، أن نكّف عن كوننا كائنات تراثية لنصبح، من الآن فصاعداً، كائنات لها تراث، تحررت من رقه النفسي،فغدت قادرة على دراسته و تدريسه بعلوم عصرها لتعرفه على حقيقته التاريخية، وتتعرّف خاصة على استمرارية عوائقه الدينية والذهنية في ممارستنا الدينية والدنيوية.هذه الممارسات التي جعلتنا، لا أفراداً مبدعين لأنماط حياتنا، بل قروداً مقلدين لأسلافنا،منبتّين من حاضرنا وصماً وعمياناً عن مستقبلنا هنا والآن،الذي يجب أن نضحي به على مذبح مستقبلنا بعد الموت!كأنما كُتب على المسلمين وحدهم، أن يدخلوا الجنة جياعاً وجهلة وأميين،لأنهم أساساً مازالوا يتناسلون كالأرانب؛مثلاً مصر تضاعف سكانها 4 مرات في 60 عاماً بدلاً من 4 مرات كل قرنين، وتضاعف معهم،بذات النسبة،الأمية،والمرض والفقر وسوء التعليم والجنوح والإرهاب وسوء صناعة القرار...
نكابد،وستكابد الأجيال التي لم تُولد بعد هذه الكوارث، لأن آية قرآنية تحرم علينا وعليهم، اعتماداً على القراءة الحرفية العقيمة لها، تحديد النسل:"ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق"(23 الإسراء).منع الحمل أو التخلص منه بالوسائل العلمية،لا علاقة له بوأد البنات أو بقتل الأطفال خشية الفقر!.
عندما قرر جمال عبد الناصر في بداية الستينات، في لحظة صحوة وعي نادرة، تحديد النسل، تقليداً للحبيب بورقيبة على الأرجح، الذي حدده منذ 1961.تصدى له شيخ الأزهر،شلتوت، بسلاح ضارب:ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق،نحن نرزقكم وإياهم"!وهكذا طُويت صفحة إصلاح ديموغرافي مهم وملح معاً تتجرع مصر اليوم عواقبه الوخيمة!.
نحن اليوم وجهاً لوجه أمام مشاكل مستقبلنا.فإما أن نحجب وجوهنا حتى لا ترى المخاطر الماثلة أمامنا.وإما أن نتشجع ونسمي هذه المخاطر بأسمائها، عسى أن نجد حلولاً لهن.بعد وقوفنا أمامهن عاجزين طوال قرنين.لأننا جَبُنا أمام فتح ورشة نقاشهن الحر والمتعارض.لماذا؟لأن السؤال في ثقافتنا الدينية محرم.لماذا أيضاً؟لأننا تعودنا على مر القرون مهادنة الواقع بدلاً من مجابهته،ومجاملة الجمهور بدلاً من مصادمته لتوعيته وتنويره،والمحافظة على استمرارية الماضي بدلاً من القطيعة معه. دفعتنا البارانويا الجمعية، إلى اتهام "المؤامرات"الخارجية بالمسؤولية عن جبننا، عن صناعة قرار شجاع، سياسي، اقتصادي وديني؛يكشف لنا أن مآسينا منا وإلينا، ولا أحد مسؤول عنها سوانا:وكما قال المتنبي: نعيب زماننا والعيب فينا / وما لزماننا عيب سوانا! حسبنا الآن أن نفتح ورشة نقاش هذه المآسي في المدرسة،في الجامعة،في الجامع وفي جميع منابر الإعلام... عسى أن نصل أخيراً إلى قرار صحي:يجعل من كل شيء علماً وتكنولوجيا، ومؤسسات ديمقراطية وقيماً إنسانية بدلاً"من كل شيء دين"السائد اليوم! الإسلام يحتاج إلى اصلاحات استراتيجية وليس إلى نصف إصلاح؛يحتاج إلى ثورة ثقافية برسم التدشين:تخرج المسلمين من إنحطاطهم الأخلاقي، المتجسد في تطبيق الحدود الشرعية الدموية، أو المطالبة بتطبيقها، تجعلهم يتبنون القيم الأساسية لحقوق الإنسان،والقانون الوضعي المشتق منها،وتخرج المسلمين من إنحطاطهم الإقتصادي، وتدخلهم إلى الحضارة الصناعية،وتجعلهم يتشربون ذهنيتها الحديثة، بالتنمية المستدامة، التي تحافظ على حقوق اجيال الغد في موارد وفيرة وبيئة نظيفة؛و تخرج المسلمين من إنحطاطهم السياسي، بإدخالهم مؤسسات الحداثة الديمقراطية والعلمانية إلى دولهم؛ تخرج المسلمين من إنحطاطهم الديني، بالفصل بين الدين والدولة والمؤمن والمواطن، محررين هكذا العقل البشري من وصاية العقل الإلهي،أي الأوامر والنواهي الدينية المتقادمة؛ وبإختصار، إعادة تأسيس ثقافية تخرج المسلمين من عجزهم عن معاصرة عصرهم مؤسساتيا وأخلاقياً وإقتصادياً وسياساً وسكانياً وعلمياً ودينياً، ما لم يُصلحوا دينهم، أي يعيدوا تأسيسه بإدخال العقلانية الدينية إليه، وإدخالها عبره، إلى مجتمعاتهم الغارقة في اللامعقول والخرافي إلى الأذنين،فسيظلون واقفين حيث هم الآن امام جميع المخاطر!.
هذه العملية الإصلاحية الشاملة طويلة ومؤلمة. ولكن لا بديل لها غير الغوص المتواصل، منذ قرون، في رمال الإنحطاط المتحركة. وقد لخص هيجل فلسفة التاريخ في جملة سديدة "لا ولادة عظيمة من دون ألم": من دون إصلاح، ومن دون نقد ومن دون إعادة تأسيس، جارحة جميعاً لعبادة الأسلاف وللنرجسية الدينية الجمعية.لكن جروحها صحية.
المقاربة النقدية للتراث الإسلامي ورموزه، بعلوم الحداثة، هي الخطوة الأولى على الطريق المؤدية إلى هذه الولادة العظيمة والمؤلمة.
وها انا ذا أدشّنها بكل راحة ضمير، وبكل أمل في مستقبل باسم للعرب والمسلمين وللبشرية كلها.
في 1939، في مناخ عداء متصاعد واضح للسامية،إستأنف فرويد تفكيره في موسى والدين التوحيدي، كان مرض السرطان قد أثر فيه كثيراً.وهكذا أخذ كتابه مظهر وصيته الفكرية،معتذراً للمؤمنين بانتزاع موسى منهم وإعادته إلى أصله المصري.فكان كتابه حجر الأساس في الدراسات التطبيقية التاريخية المقارَنة لرموز التاريخ الديني. ولم يكن تخريفاً، كما وصمه بخفة هشام جعيط في كتابه عن محمد!
في بداية 2013، أنا أيضاً، وفي مناخ إسلاموفوبيا مخيف، أكتب هذا البحث عن محمد التاريخ، في مرضي الأخير بالسرطان، الذي أثّر، خاصة في الشهور الأخيرة، على جميع قواي عدا الفكرية، جاعلاً منه أيضاً وصيتي الفكرية للباحثين بعدي. عسى أن ينطلقوا منه نقدياً، لتوسيع، وتعميق، وتعميم الموضوعات الأساسية فيه، وفي إصلاح الإسلام، بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان.سواء في رسائل جامعية أو في أبحاث ومقالات علمية على الشبكة العنكبوتية، وعلى الورق ما أمكن ذلك، لتأسيس دراسة رموز ديننا بالعلم، غير معتذر للمؤمنين،لأنني لم انتزع محمد منهم،بل من الميتاتاريخ لإعادته إلى التاريخ. وكما قال أريطوطاليس، وهو يدشّن نقد معلِّمه أفلاطون: "أفلاطون حبيب إلينا، ولكنّ الحقيقة أحبّ إلينا منه".
مراجع المقدمة
1 ـ سيرة ابن اسحق ص 102. 2 ـ مختصر سيرة ابن هشام، ص ص 47،46. 3 ـ تعرفت على د.عبد العزيز الدوري في 1969 ،عند ناشري د.بشير الداعوق في دار الطليعة.ومنذ أول لقاء تصادقنا. عندما قلت له: أراك خائفاً من الغوص في أعماق التراث. سأل: كيف؟ فقلت: "لماذا لم تقترب من محمد؟ سأكتب عنه كتاباً، ليس فيه من الدين إلا بسم الله الرحمن الرحيم، أما الباقي فسيكون كله علم"أجاب.لست أدري إن كان استطاع، أن يكتب أو ينشر هذا الكتاب في عمان، حيث كان يدرس في جامعتها، وحيث كان سيف الإخوان المسلمين مسلطاً على رقاب المثقفين النقديين. ذات يوم رآنا الأمين العام للجبهة الديمقراطية، نايف حواتمة، في صيف 1969 جالسين معاً في فندق الدوري. لم يقترب منا. ما إن إلتقينا بعد ذلك، حتى بادرني مستغرباً: "أتجلس مع عبد العزيز الدوري الرجعي؟": "بل مع عبد العزيز الدوري المؤرخ"أجبت.الدوري هو تلميذ وصديق برنارد لويس.
بالمناسبة طلب مني بعض الأصدقاء الرد على تصريح نايف حواتمة لـ "لحوار المتمدن" القائل بأني عندما التحقت بالمقاومة في 1969، كنت ضد الكفاح المسلح. وهذا صحيح. فقد كنت ولا زلت اعتبر الكفاح المسلح نسخة حديثة من الجهاد القديم، الذي كان منذ القرن الـ 16، عندما امتلكت أوربا السلاح الناري، كارثة على المسلمين، لتجاهله موازين القوة واعتماده على الإستراتيجيا الدينية الإنتحارية: "الجهاد فرض للفوز بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة".
هدف النضال السلمي، الذي كنت أنادي به، كان كسب الرأي العام الإسرائيلي لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي، والكفاح المسلح، كان ولازال في نظري، ليس الطريق المؤدي إلى ذلك.لهذا السبب،حللت في كتاباتي في "الحياة" وفي حواراتي في "الجزيرة "مخاطر تحويل حماس، ومنافسَةً لها فتح،الإنتفاضة الثانية إلى عمليات انتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، بشعة أخلاقياً وكارثية عسكرياً وسياساً.وإني اليوم لسعيد، أن أرى أن لا أحد يطالب بالكفاح المسلح، حتى في صفوف حماس.لقد انتصر غاندي على ماو.
4 ـ قبل موته بأسابيع،أرسلت له رسالة ضمنتها تصحيح بعض الأخطاء في الترجمة،كما طلب مني ذلك،أذكر منها"ذروه في سنابله"(47 يوسف)فقد ترجمها بتشديد الراء،أي التذرية والحال أن المقصود هنا:دعوه في سنابله و"لمن جاء به حمل بعير"(72 يوسف)ترجمها:حمل عير أي حمار.والحال أن المقصود حمل جمل. غالب الأخطاء،حوالي 30 ،ثانوية وناتجة غالباً عن خطأ في قراءة الكلمة.لست أدري إن كان استطاع تداركها في الطبعة التالية أم عاجله الموت؟.لكن "الإخوان"شنوا عليه في مصر حملة ضارية،متهمين إياه بتزوير القرآن،لمجرد أنه تبنى نظرية على عبد الرازق في كتابه"الإسلام وأصول الحكم" في أن الإسلام دين وليس دولة وأن محمد "ُمبلغ"،أي رسول، وليس"ُمسيطر" أي ملكاً.قاد الحملة محمد عمارة،الذي لا يعرف الفرنسية، على حد قول برك.
حلم لقائي بمحمد
في أواخر السنوات 1970، كنت أتردد بين حين وآخر على دروس الفيلسوف والمحلل النفسي، كاستوياديس. كنت أتدخل باستمرار في مناقشات أعمال طلبته،الذين كانوا يحُضّرون دبلوم مدرسة الدراسات العليا العملية.كانت تدخلاتي تستأثر باهتمامه نظراً لتعدد أعمال موضوعات طلبته.ذات يوم اقترحت عليه الجلوس في مقهى قريب من المعهد.خلال اللقاء سألته، إن كان بالإمكان أن يحللني رحب وحدد لي جلسة أولى،طالت على غير المعتاد.سألني ماذا تكتب؟:بحوثاً أجبت.فعلق: نفسيتك كان يمكن أن تكون مصدراً ثرياً للكتابة الأدبية، الرواية أو الشعر.قلت:الشعر حاولته مراهقاً وتوقفت.أقرأ الرواية،لكن كتابتها لا تغويني،فيبدو أني لست من أحفاد ألف ليلة وليلة.في النهاية قال لي:تحليلك قد يتطلب 5 أو 6 سنوات.سألته عن السعر قال:300 فرنك للجلسة.قلت له:دخلى الشهري 1000 فرنك. اندهش: وكيف تستطيع أن تعيش بهذا المبلغ؟:كمعظم عمال أجر الحد الأدنى وأأكل أحياناً في مطاعم الفقراء.قال:التحليل المجاني غير مثمر... واصل قراآتك النفسية،وأضاف مبتسماً:بإمكانك عمل تحليل ذاتي؛فرويد،في النهاية حلل نفسه؛ شخصياً،لست مقتنعاً كثيراً بجدوى ذلك، لأن التحويل، الضروري في العلاج،يغيب فيه.لكن شيء أحسن من لا شيء . شرعت في تحليلي،عبر تسجيل أحلامي،بمجرد ان أستيقظ.
كنت منذ موت أبي، أحلم أسبوعياً به قادماً نحوي، على حماره الشهير، ووجهه أزرق،كما كان عندما مات مختنقاً، في سن الـ 49 عاماً،بعد اسبوع من دون علاج بمرض مجهول. كلما حاولت أن أسلّم عليه ينعقد لساني،كتعبير عن الشعور الساحق بالذنب،فيمر عليّ من دون أن ينظر إليّ.
في آخر تحليلي الذاتي،اختفى هذا الحلم الكئيب،وفي المقابل حلمت بنبي الإسلام يدخل فجأة في الأستوديو، ويعانقني ويقبلني من فمي كما كان أبي يفعل، وهو يلاعبني ،لما كنت طفلاً.اختفى حلم أبي وبعد ذلك عاد في التسعينات،مع أمي بعد موتها، ومسّدا ظهري الموجوع بالإنزلاق الغضروفي... عادة في التحليل النفسي الناجح يتصالح الإبن مع الأب عبر شخصية محبوبة ترمز للأب:ملك أو رئيس...أنا تصالحت مع أبي ـ وأمي أيضاً ـ في شخص محمد!.
قصصت الحلم على كاستورياديس فكان رده:لا أستطيع إلا معاينة ذلك. كنت أفكر في كتابة هذا الحلم في نهاية هذا البحث.لكن محللة نفسانية اقترحت عليّ أن يكون أول فقرة فيه.
الفصل الأول
طفولة محمد
"لا سبيل لفهم شخص من دون معرفة طفولته" فرناند دُلينيى، عالج وعاش مع الأطفال الفصاميين.
*********
لا نكاد نجد في السيرة عن طفولة محمد، منذ زواج عبد الله بآمنة إلى عودته من مرضعته الأخيرة حليمة السعدية، إلا ميتاتاريخ، أي ـ كما يتطلب ذلك منطق النرجسية الدينية الجمعية ـ محاولة للإرتفاع به، من شرطه التاريخي، إلى مرتبة المثال البعيد المنال، إلى مرتبة" الإنسان الكامل"، الذي رصدته الأقدار ليكون نبي هذه الأمة، التي كرمها الله به لتكون آخر وخير أمة أخرجت للناس.
ماكسيم رودنسون محق، عندما يؤكد في كتابه عن محمد: "لو جمعنا كل ما هو تاريخ عن محمد لما تجاوز صفحة ونصف من كتاب." أما الباقي فأساطير!، الميتاتاريخ هي الحفرة السوداء في السيرة. لكن لا ينبغي للباحث أن يلقي أمام المصاعب السلاح.
كما يحاول الأركيولوج، بمسعى حدسي، إعادة بناء إناء إنطلاقاً من شقفة، كذلك سنحاول نحن، بفضل حدوس وفرضيات والحقائق السيكلوجية، محاولة إعادة اكتشاف العوامل، التي أثرت في نفسية الطفل محمد، انطلاقاً من شقفة هنا وشقفة هناك،أي من الوقائع القليلة التي تركتها لنا السيرة. هذه الوقائع، التي غدا بإمكاننا اليوم، بفضل تقدم المعارف النفسية،أن نميز بها قليلاً أو كثيراً التاريخ من الميتاتاريخ،والمسكوت عنه خلف المتحدث فيه. من الصعب فهم الشخصية النفسية لفرد، من دون معرفة العوامل التي ساهمت في صياغتها، خلال طفولته ومراهقته.والحال أن السيرة لا تذكر تقريباً شيئاً عن هاتين الفترتين، سوى المعجزات والخوارق التخييلية طبعاً.
"التطور النفسي للرضيع، المنُتزع بالولادة من النعيم النرجسي لحياته في الرحم،سيكون تحت رحمة نظرة أمه له.هذه النظرة هي أول تأكيد نرجسي، يتطلبه الطفل المحتاج إلى تأكيد نرجسي كامل،أي إلى حب غير مشروط ،حصري ولائق به، من الأم.(...)المرأة،التي يستطيع الطفل بواسطتها معرفة سلامته النرجسية، هي قبل كل شيء الوالدة، التي تؤكد نرجسية طفلها بحبها له. افتقاد الطفل، منذ الطفولة الباكرة، للتأكيد النرجسي يسبب له جرحاً نرجسياً، أي خصاء فعلياً وإذلالاً ما بعده إذلال، يعيده إلى حالة من العجز، سيكون تكرارها مؤذياً له. غياب التأكيد النرجسي، ستكون عاقبته أن الطفل لن يعود قادراً على قبول الترضيات النرجسية، ولا على السعي وراءها على نحو سديد وناجع" (رونيه دُنيس، النرجسية ص 90 دار نشر بوف).
العلاقة الباسمة مع وجه الأبوين، خاصة الأم، منذ الطفولة الباكره تقدم للطفل الحب والحنان والأمن. هذا الحب هو الذي سيساعده على تحقيق "الوثبة"، أي الإفلات من كماشة المحن، التي قد يقع فيها في مجرى حياته، بلا عقد أو جروح؛وتقيه من السقوط في الغيرة النرجسية،والثأر النرجسي، والسُعار النرجسي،والهذيان النرجسي،كمحاولات دفاعية لترميم ثقته الكسيرة بنفسه،التي هي مثل الزجاج كسرها لا يُجبر.
"الطفل في حاجة إلى عيني الأم"، كما يقول النفساني كوهوط. غياب هذا الحب، يترتب عنه، كما يقول أيضاً، ظهور ميلين متعارضين؛ أحدهما ينفي الآخر:مثلاً شعور بالعظمة الصبيانية،جنون العظمة المفصوم من شخصية نفسية مصابة في الصميم، بضعف تقدير الذات،وبالميل إلى الشعور بالعار والإكتئاب.
ماذا عسى أن تكون علاقة عيني آمنة بالطفل محمد؟ حتى نستطيع تخمين ذلك،لنتساءل أولاً عن الحالة النفسية لآمنة عندما حملت بمحمد:"حملته أمه وهناً على وهن"(14 لقمان)وهي تنتقل من ضعف إلى ضعف؛قد تكون هذه الآية صدى لذكرى بعيدة، للصورة، التي ترسبت في ذاكرة أو لا شعور الطفل محمد،من قصص أمه له عن متاعب شهور حمله، أو قصص الأسرة بعد موتها على مسمعه. "مِلستر، كتبت بأن هؤلاء الأطفال الأوطيست(1)يولدون عموماً في فترة يكون فيها الأبوان منفصلين، أو غير متفقين،وهي مواقف تتجلى غالباً بإنهيار عصبي يصيب الأم".(2)لا شك أن آمنة المراهقة،دون العشرين على الأرجح،كانت عندما مات زوجها،عبد الله،بعد أقل من عام من زواجهما في حالة انهيار عصبي.لا شك أيضاً انها كانت في حداد دائم على الزوج الفقيد، ومستقبلها كزوجة، الذي ضاع منها،في سن تكون فيها الرغبة الجنسية أقوى ما تكون،وعلى جنينها الذي سيعيش يتيماً في عائلة فقيرة.وأكثر من ذلك فقد تكون تشاءمت منه؛في القبائل العربية قديماً وحتى الآن،الطفل الذي يموت أبوه قبل ولادته يُدعى"أحرف"،أي مشؤوم ،ومن الممكن أن آمنة قد راودها هذا الهاجس؛عادة الأم، خاصة في مثل سن آمنة،تتمنى أن يكون مولودها البكر بنتاً،تحقيقاً لرغبة إعادة الإنتاج النرجسية.فإذا كان ذكراً كان، شعورياً أو لا شعورياً، طفلاً غير مرغوب فيه.فهل لهذا السبب سرعان ما تخلصت منه للمرضعات؟:أولاً لمولاة عمه الشهير أبو لهب،ثويبة، التي أعتقها أبو لهب عندما بشرته بميلاد ابن أخيه محمد،ثم لحليمة السعدية وربما أيضاً لآخريات.وهذه فرضية ليست مجانية تماماً. ففي حنين، قال مقاتلوا هوازن المهزومين، متسعطفين المسلمين،الذين كانوا يعاملونهم بفظاظة:"إن لصاحبكم فينا مراضع"؛هل مراضع هو جمع مبالغة، أم ان نساءً أخريات،في هوازن،غير حليمة أرضعنه أيضاً؟.
محمد كان كل شيء إلا طفلاً محبوباً.إذن سعيداً. لماذا؟قد لا يكون الطفل محمد ولد فصامياً،لكنه صار فصامياً.وبالتأكيد ولد مكتئباً؛لا شك أن آمنة كانت في انهيار عصبي ارتكاسي،تجسد في حالتها،في انهيار عصبي حدادي على فقد زوجها بعد أشهر من الزواج،ومن المرجح أن يكون انهيارها العصبي الحدادي طال أكثر من المعتاد،على غرار حداد الخنساء على صخر أخيها: يذكّرني طلوع الشمس صخراً / وأذكره في كل غروب شمس، ولولا كثرة الباكين حولي / على إخوانهم لقتلت نفسي!.
ولا شك أن حدادها تسلل إلى فصوص دماغ الجنين محمد؛مثلما تسللت إلي فصوص دماغه الضغوط النفسية،التوترات، والمخاوف، والهواجس، والفواجع، والكدمات والصدمات المتكررة، اللواتي كابدتهن آمنة وهي حامل.تأثير الحالة النفسية للأم ،على جنينها ،هي اليوم حقيقة بيولوجية أكدتها الملاحظة العلمية؛وهذا التأثير هيّأ الطفل محمد ليكون شخصية نفسية اكتئابية وفصامية.
لا شك أن صدمة فراق محمد منذ الأسابيع الأولى لأمه كانت عنيفة، ليسقط في أحضان مرضعات مأجورات،من الصعب تصور أنهن انحنين عليه ونظرن إليه،وهو يرضع،بعينين مبتسمتين، تبثان في عينيه رسالة حب امومي لا تُعوّض، ليشعر الرضيع بالأمن.
لماذا فراق الأم يشكل دائماً صدمة؟لأن الرضيع يتخيل نفسه، في الشهور الأولى، امتداداً بيولوجي لأمه.لذلك يبكي احتجاجاً على فراقها بمجرد أن تغادره بعد ارضاعه. مثلاً خلال السنة الأولى،يعي الطفل إهتمام وحب والديه له،لا بما هو واجب عليهما،بل لأنهما يرغبان في طفلهما.وهكذا يكتسب الطفل شعوراً قوياً بأنه محبوب وذو قيمة عند أبويه.مناخ الرضا،مناخ الأمن العاطفي يسمح للطفل باستدماج العالم الخارجي،وفي هذه الفترة تتكوّن شخصيته النفسية عبر هضم وتبني مواقف، ومشاعر والرموز اللفظية الصادرة عن الأم.إذا كان موقف الأبوين ،وخاصة الأم،غير مناسب تصبح علاقة الطفل مع محيطه العائلي مزيفة،منذ البداية،بفداحة الإحباط وغياب الحب.اتضح من البحوث النفسية، أن والدا الفصاميين،عاجزان عن تقديم علاقة عاطفية مستقرة ومنطقية مع طفلهما، خاصة في اللحظة التي تكون فيها هذه العلاقة أساسية، لتأمين إنسجام تكُوّن الشخصية النفسية. كما أثبتت الأبحاث النفسية عن أسر الفصاميين،أن دور الأبوين لم يكن على ما يرام:الأب غالباً ميت أو غائب، مستقيل أو سلبي.المقصود هنا هو الأب المربي وليس الأب البيولوجي طبعاً.
كيف عاملته المرضعات؟على الأرجح معاملة سيئة.نعرف اليوم كيف يعامل كثير من المربيات الأطفال معاملة قد تصل أحياناً إلى القتل.عن حالة محمد نملك مؤشراً قوياً على سوء هذه المعاملة؛في غزوة حنين أسّر المسلمون الشيماء وأساءوا معاملتها فقالت لهم:"تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها، حتى أتوا بها رسول الله(ص)(...)فقالت:يا رسول الله اني أختك من الرضاعة.قال:ما علامة ذلك؟ قالت:عضة عضضتَها في ظهري وأنا متوركتك[=حاملة لك على وركي]فعرف العلامة (...)" خيّرها في أن تعود معه أو أن يمتعها ويعيدها إلى قومها.ففضلت أن يرجعها إلى قومها. (3)
واقع أن أخته من الرضاعة خرجت مع قبيلتها لمحاربته، وكاد أن يموت في هذه الحرب،مؤشر قوي على أن الطفل محمد لم يترك ذكرى طيبة، لا في عائلة مرضعته ولا في قبيلتها.الذكرى الوحيدة، التي احتفظت أخته له بها هي عضته،وهذا مؤشر إضافي على احتمالية هذه الفرضية.ونعرف من العضة، رغم صعوبة تصديق تفاصيلها،بقاء أثر عض طفل دون السنتين لأكثر من 50 عاماً، أنها كانت مؤلمة وأن الطفل محمد كان عدوانياً.في الواقع الإحباط العاطفي، الذي كابده الطفل محمد، والصدمات العنيفة، التي مر بها جنيناً ورضيعاً وطفلاً، تهيؤه للعدوانية:العداونية ضد الذات و العدوانية ضد الآخر.وسيمارس محمد النبي شاباً وكهلاً وشيخاً الإثنين معاً.
عدوانية الطفل محمد،لا شك أنها جلبت له مزيداً من عدوانية محيطه عليه.شيماء التي عضها محمد؛ ماذا كان رد فعلها؟ابتسمت له،قبلته،ضمته بحنان إلى صدرها؟احتمالية متدنية.الأرجح أنها ردت الفعل بعنف: ضربته أو دفعته بعيداً عنها،أو استنجدت بأمها طالبة القصاص منه.
نعرف من السيرة، أن لمحمد إخوة من الرضاعة. لكن يبدو أن لا أحد منهم قد فكر في زيارته، لا في مكة ولا خاصة في المدينة، عندما أصبح "ملكاً"، قادراً على تمتيعهم، كما متّع الشيماء في حنين. وهل شاركوا في هذه الحرب؟الإجابة الإفتراضية:أن محمد،الذي عرفوه طفلاً،لم يشجعهم على معاودة معرفته كبيراً.ذكَر ابن اسحق أخوين من الرضاعة، فضلاً عن الشيماء هما: عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث، من دون أن يضيف أي خبر عنهما! وهذا مؤشر على أنهما لم يلتقيا بأخيهما، محمد النبي،ولا أقاما معه أية علاقة!.
من المرجح أن الطفل محمد كابد العدوانية من الأمهات اللواتي أرضعنه، ومن آباء وإخوان الرضاعة. والحال أن الرضيع يحتاج،في هذا الطور من تطوره النفسي،إلى إشباع واستقرار عاطفيين تحيطه بهما الأم، أو من يقوم مقامها،وهكذا افتقد محمد باكراً الأمن الداخلي والإستقرار العاطفي،مصدري الثقة بالنفس وإحترام الذات الضروريين، للخروج بأقل الخسائر من جراح الحياة.
طفلاً ومراهقاً، لا شك أنه شعر بالذل أي بالذنب من كونه يتيماً.وهو ما نجد صداه في القرآن: "ووجدك يتيماً فآوى". المنّ عليه بالمأوى، قد يفيد أنه كان طريداً شريداً، خاصة بعدما آلت رئاسة العائلة إلى عمه وعدوه أبو لهب، فوفر له المأوى ربما عند خديجة.بعد أن كان يهيم مع روقة، وينام او ينامان معاً في غار حراء أو غيره من الغيران، على غرار ما كان يفعل بعض فقراء أنبياء إسرائيل حسب رواية الكتاب المقدس. مما أورثه الشعور بالهوان، الذي سيعبر عنه، يوم أُستقبل في الطائف شر استقبال، في الزفرة المؤثرة: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس".
جفوة عاطفية من الأم ـ الأمهات أورثته عقدة هجران أمه له، رضيعاً وطفلاً. قطعت الروابط العاطفية معه، تاركة إيّاه وحيداً في عالم خطِر؛ الهجران بالعربية القديمة هو "التوديع"؛ الآية التي طمأنته بعد انقطاع الوحي: "ما ودعك ربك وما قلى" هي على الأرجح صدى لذكرى قديمة أليمة، هي توديع أمه وقلاها [= كراهيتها] له، إلى درجة فراقه السريع بإعطائه للمرضعات، كما لو كانت تريد التخلص من عبء ثقيل، أي من طفل لم ترغب فيه!.
كل ما اختلقته السيرة، من معجزات نسبتها لآمنة عن جنينها: "لم أحمل حملاً أخف منه (...)"، والحال أنه كان حملها الأول على الأرجح رغم ما يقال عن وجود إخوة له!، و "النور" الذي خرج منها عند حملها به، والذي أضاء قصور الشام،والتنبؤ بأنه سيكون له"شأن"...إلخ،هو لا شعورياً التوابل الضرورية لصناعة البطل،رجل الأقدار.بل وقد يكون محاولة شعورية لإخفاء المسكوت عنه:حقيقة أن آمنة لم ترغب في ابنها محمد؛كما تتضافر على ذلك قرائن عدة تشهد لها حقائق علم النفس.
"الأم التي لا تشعر أنها لا آمنة ولا سعيدة، عاجزة عن إعطاء رضيعها الشعور بالأمن؛ عندما يكون الرضيع قلقا قلقاً شديداً،ينمّي قلقه عنده حالة من اليأس"(4)والشعور بالذنب.هذه هي بذور الشخصية الإكتئابية طوال رحلة الجنين والرضيع والطفل محمد:"فترة الحزن والحداد[عند الرضيع] التي،وهذا ما أنا على يقين منه،تسبق وتُدخل دائماً القطيعة:قطيعة الذهاني الكاملة مع الواقع"(5). فترة الحزن والحداد عاشها الطفل محمد، في فراق أمه رضيعاً، وبعد موتها في سن 6 سنوات.ولا شك أنه كان موتاً فاجعاً بالنسبة لطفل:فقد ماتت وهما في طريق العودة إلى المدينة.وشاهد مرعوباً على الأرجح، عيني أمه الميتتين،كما شاهدت أنا،وعمري 8 سنوات،عيني جدتي في الكفن قبل إنزالها للقبر، برعب لم أنساه، ذكّراني بعيني النعجة المذبوحة!.جدتي التي أحبتني بدلاً من أمي.وترك ذلك كله في نفسية محمد الغضة جروحاً لم تندمل.
شخصّت الطبيبة النفسانية توستين حالة طفل، عالجته زميلة لها(1960)من أوطيزم فصامي:"عبر عن فصله رضيعاً عن أمه بـ"خلع ،تمزيق"مضيفاً: قُطعتُ من جذوري"،في المادة التي قدمها الطفل ديفيد رأينا أن بعض العمليات النفسية غدت مفرطة، بحيث أخفت القطائع المؤلمة التي حدثت في حياته.بهذه الوسائل حاول ديفيد ان يحس بأنه مرتبط على نحو لا انفصال له مع أمه المرضعة(...) وهكذا فإن مجهوده القاسي لإمتلاك الأم،ينتهي بأن يصبح هو نفسه مملوكاً لها.ديفيد فُصل عن أمه جغرافياً،لكن توجد أيضاً عوامل أخرى يمكن أن تنجر عنها صدمة مشابهة،عائدة إلى الشعور بالإنتزاع من الوهم البدائي: أنه وامه يشكلان جسداً واحداً(...).الحساسية المفرطة[عند الطفل ديفيد]يمكن ان تكون ناتجة عن تجربة مبكرة في الانفصال الجسدي عن الأم، الطبيبان برهنا على الآثار الكارثية للإنفصال قبل الأوان عن الأم.جميع الأطفال الذين فُصلوا عن أمهاتهم حدثت لهم نفس الإضطرابات: الإنهيار العصبي الذهاني"(6).
هذه"الآثار الكارثية" للإنفصال الجسدي عن الأم منذ الولادة، تركت بصماتها على شخصية محمد النفسية، وأملت عليه تصرفاته طوال حياته. مثلاً غيرة محمد الهاذية على امتلاك زوجاته حتى بعد موته، عندما حرّم عليهن الزواج من بعده، قد تجد جذورها في قسوة صدمة الإنفصال باكراً عن جسد أمه، فضلاً طبعاً عن الإنهيار العصبي الذهاني. الزوجة تذكّر لا شعورياً بالأم.الرجل يتزوج عادة لا شعورياً صورته عن أمه في زوجته.فهل يكون نبي الإسلام قد عوض، لا شعورياً، فشله في امتلاك الأم حياً، بامتلاك رموزها حيّا وميتاً؟
فقدان الحب في الطفولة يعيق استقلال الشخصية النفسية.وهكذا وجد محمد نفسه، في الطور الأوديبي، في مواجهة صدامية مع الأب المربي، الأب الحقيقي ليس الوالد بل المربي، بل الآباء المربيين، الذين مر بهم محمد طوال طفولته.مثل هذه المواجهة الصدامية أورثته أنا اعلى، أي ضميراً أخلاقياً قاسياً وخاصياً، سنرى عواقبه الوخيمة في هذيان الشعور الساحق بالذنب عند محمد النبي. تنقّل الطفل محمد بين المرضعات، وبين مكة والمدينة في أسفار شاقة، وفي كل مرة كان يُنتزع من محيطه، كنبتة غضة تُقتلع من جذورها، ما كان ليساعده على التكيف مع المحيط الجديد الذي يُنقل إليه.
ربما كان كل هذا العذاب النفسي الأليم هو، الذي نجد صداه وتخييلاته في عذاب جهنم الأليم، كما وصفه في القرآن؛فهل ما كابده طفلاً من عذاب نفسي،أراد لا شعورياً،تكبيده لأعداء دينه في نار جهنم؟.
هذه السلسلة من الكدمات والصدمات النفسية صاغت عالم محمد النفسي، والذهني وزلزلته وهيأته للأمراض النفسية، من الإكتئاب الإنهياري إلى الفصام مروراً بالعصاب الوسواسي القهري، الذي تجلى في الشعائر القاسية والمكلفة التي فرضها على نفسه وعلى امته.
يعطي كتاب: "أوطيزم وذهان الطفل"لوحة مقارنة بين الطفل الأوطيست والطفل الفصامي.سأنتقي من قائمة الطفل الفصامي بعض الأعراض، التي قد تكون عند الطفل محمد،[في حالة الطفل الفصامي] :"تظهر أعراض خطيرة بعد فترة سوية"،تجلى هذا"العرَض الخطير" في"تعاقب النوبات الإكتئابية والنوبات الإهتياجية[في الذهان الإهتياجي الإكتئابي ]عند الطفل(...) لكنها كثيراً ما تختفي تحت اضطرابات السلوك:سرعة الغضب،و العداونية والهلاوس السمعية والبصرية هن علامة مميزة لهذه الحالة"(7).
نعرف من السيرة أن محمد كان سريع الغضب، إلى درجة أن غضبه كان يتجلى"بظهور عرق بين عينيه"!ويوم سخر المكيون منه وهو يطوف بالكعبة و"تغامزوا"مشيرين إليه بأعينهم هددهم في نوبة غضب مسعور:" أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"!( سيرة ابن هشام ج 1 ص 289".
هلاوس الأطفال السمعية والبصرية، هن معاينة سريرية في الطب النفسي الحديث:"الطفل جون عامان، مصاب بالأوطيزم.تعتريه أزمات صراخ ليلي:تعتريه هلاووس خلال أزماته،فيعتقد أنه كان يرى عصافير في غرفته(...)العصافير كانت تهدده بنقره وتثير رعبه"(8). وعندئذ تكون سرعة الغضب والهلاوس قد رافقت محمد منذ الطفولة الباكرة.وهذا ما يرجح أن "حادث شق الصدر"، إذا كان قد حدث،فقد كان هلووسة بصرية ؛سورة" ألم نشرح لك صدرك "لا تتعلق بشق الصدر،بل بشرح الصدر،أي إدخال السرور عليه وليس تشريحه أي شقه؛كما ظن بعض من كتبوا عن محمد بالفرنسية.
في رواية ابن اسحاق، التي يختلط فيها القليل من التاريخ بالكثير من الميتاتاريخ: أعادت حليمة الطفل محمد بعد ارضاعه حولين كاملين،ثم استردته من آمنة،لأن الطفل محمد كان عليها خيراً وبركة.لكن الحقيقة التاريخية،المجهولة أو المسكوت عنها،قد تكون أن أمه المكتئبة قد فضلت إبقاءه عند مرضعته، بدلاً من تحمل أعباء تربيته، هو الذي لا شك أنه أصبح طفلاً صعباً.وهيهات أن يتعرّف عن امه فيها ،هي التي ودعته وقَلتَه [= هجرته وكرهته] رضيعاً! وكيف يستطيع رضيع مرّ، منذ الولادة، بأميّن أو 3 ، عاملنه، على الأرجح، معاملة سيئة، أن يتعرّف على أمه في واحدة منهن؟.
"حادثة شق الصدر:فأقمن به شهرين أو ثلاثة[بعد العودة به ثانية]فبين نحن خلف بيوتنا،وهو مع اخ له من الرضاعة في بُهم[=المواشي]جاءنا أخوه يشتد[=يركض ]فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءني [جاءه]رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاه، فشقا بطنه،فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً، منتقعاً لونه،فاعتنقه أبوه،وقال:أي بني،ما شأنك؟قال:جاءني رجلان عليهما ثياب بياض، فأضجعاني وشقا بطني،ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه،ثم رداه كما كان.فرجعنا به معنا فقال أبوه:يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد ُأصيب[بالجنون]،انطلقي بنا،فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما يُتخوف"منه (9).تكرار"ابني"من زوج حليمة السعدية، قد يكون أيضاً محاولة من السيرة،لإخفاء معاملة"أبيه" السيئة له .قراره الفوري بإعادة "ابنه"لأهله،خشية أن يتحمل مسؤولية "إصابته بالجنون"،مؤشر آخر على محاولة السيرة المريبة.
أحمد ابن حنبل اكتشف له "معجزة"شق ثاني للصدر وعمره 10 سنوات،كررت سيناريو الشق الأول.
فماذا يمكن أن تكون فرضيات الطب النفسي في حادثة شق الصدر؟
الإحتمال الأول أن يكون ابن اسحاق قد انتحل، كعادته ، اسطورة "الملوك المجوس"،الذين أخبرهم نجم أن المسيح الموعود قد ولد، فشدوا الرحال لزيارته، كما يرويها انجيل متى؛طلوع نجم أحمد،في السيرة،هو ولا شك محاكاة لطلوع"نجم عيسى"في أسطورة الملوك المجوس:"سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة[حصن] بيثرب:يا معشر يهود! حتى إذا قالوا له: ويلك! مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به".(10)؛ الملكان اللذان أجريا جراحة صدر محمد،قد لا يكونان إلا بديلين متخيليّن للملوك المجوس؛
الإحتمال الثاني أن تكون حادثة تخييلية، بمعنى أنها حدثت نخييلاً، كهلوسة أو صرع "أزمة الصرع الجزئية الحميدة، تحدث في الطفولة وتُشفى تلقائياً"(11).
مما يرجح أن حادثة شق الصدر عائدة للميتاتاريخ، أو أن الميتاتاريخ تغلبت فيها على التاريخ،رواية ابن اسحاق لرواية نبي الإسلام لها:"عن أصحاب رسول الله(ص)أنهم قالوا:يا رسول الله اخبرنا عن نفسك،فقال:[أنا]دعوة أبي إبراهيم،وبشرى عيسى،ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصره من أرض الشام، وأُسترضعت في بني سعد بن بكر،فبين أنا مع أخ في بهم لنا،أتاني رجلان عليهما ثياب بياض،معهما طست من ذهب مملؤة ثلجاً،فأضجعاني، فشقا بطني،ثم استخرجا قلبي فشقاه،فأخرجا منه علقة سوداء،فألقياها،ثم غسلا قلبي وبطني بذاك الثلج،حتى إذا أنقياه،رداه كما كان،ثم قال أحدهما لصاحبه،زنه بعشرة من أمته،فوزنني بعشرة، فوزنتهم،ثم قال:زنه بألف من أمته،فوزنني فوزنتهم، فقال :دعه عنك،فلو وزنته بأمته لوزنهم."(12). الفرق بين الرواية المنسوبة للطفل محمد،البسيطة كما تليق بطفل من عمره،ورواية نبي الإسلام، التي انتجتها ولا شك المخيلة الهاذية للمؤمنين،واضح.
2 ـ المقارنة الثانية بين الطفلين الأوطيست والفصامي هي أن:"حركة الجسد غير مترابطة[عند الفصاميٍ]،سيئة التناسق وغالباً ثقيلة"(13).
هذا العرَض الجسدي للفصام حاضر بانتظام عند الفصامي.وقد وصفه الإمام علي ابن أبي طالب، حسب رواية السيرة:"إذا مشى تقلّع[لم يثبّت قدميه لأنه يمشي على مشط قدميه]كأنما يمشي في صَبَب[كأنه نازل في منحدر]وإذا التفت،إلتفت معاً[=التفت بكل جسده]".(14) في حيي أخوان توأمان مغاربيان، من أتباع الشيخ بن باز، يظهر عليهما العرض ذاته.سُرّ أحدهما لما قدمت له صفحة السيرة،التي تصف مِشية النبي؛سألته أن يجلس معي في المقهى للإجابة عن بعض الأسئلة حول مرضه،فرفض.
3 ـ :"غالباً ما يكون الفصامي واعياً باضطرابه الذهني"(15)عكساً للطفل الوطيست.لا نعرف شيئاً عن محمد الطفل،لكن محمد الشاب كان واعياً بإضطرابه الذهني،لذلك همّ بإلقاء نفسة من قمة جبل حراء، بعد حادثة الغار، ظناً منه انه أصيب بالجنون. لم أذكر الأعراض الأخرى،لأنه غدا من المستحيل التحقق منها في حالة محمد.وعلى كل حال عرض واحد كافي لتشخيص مرض الفصام،كما يؤكد الطب النفسي.
منذ الطفولة لا يستطيع الفرد أن يبني ذاته،إلا إذا مر بتقمصات متتالية للآخرين."أنا"هي في الواقع "أنوات"(جمع أنا)الآخرين،الذين نسجوها على مر الأيام .أنوات الآخرين هن قيمهم، تقاليدهم، أخلاقهم،معتقداتهم وتصرفاتهم.باختصار:نمط تفكيرهم وتدبيرهم. لا نملك مؤشرات جدية على الشخصيات التي قد يكون محمد تماهى معها،منذ الطفولة والمراهقة. قد تكون في طفولته شخصية جده أبو طالب،الذي لا شك أنه أحبه،كما يحب عادة الجدود أحفادهم، ثم شخصية ورقة،وربما عبره أنبياء إسرائيل وعبسى.لكن يبدو أن شخصية ورقة غدت مَثله الأعلى في المراهقة.لكن ماذا نعرف عن ورقة؟معطيات قليلة:أنه كان قساً نصرانياً،أو يهودياً نصرانياً من فرقة الأسونيين، أصحاب مخطوطات قمران، والتي يقول البابا بنوا 16، في كتابه عن المسيح، أن المسيح كان ينتمي إليها. إلا أن بعض إخصايي "مسيح التاريخ" شكك فيما قال البابا.
بالرغم من تطمين ورقة لمحمد، حسب رواية السيرة، بأنه نبي وليس مجنوناً، فإنه لم يدخل في دينه. لكن يبدو أن محمد لازمه إلى أن مات. وأقام عليه حداداً اكتئابياً، أي طويلاً. وقد يكون حاول الانتحار حداداً عليه.من المعقول إذن أن محمد تقمص شخصية ورقة الدينية، أي تماهى بمعتقداته وسلوكياته جاعلاً منه قدوة حسنة: أباً بديلاً.لم نعرف لا من التاريخ ولا من السيرة تفاصيل كافية وشافية عن شخصية ورقة.فهل يمكننا أن نخمّنها من خلال شخصية محمد المكي؟ قد يكون ورقة رئيس دعاة النصرانية، أو أحد أنبيائها المكلفين بترويجها في مكة. وقد يكون "الأحناف"، الذين قالت السيرة والسنة أن محمد الشاب كان أحدهم، والذين لا ذكر لهم في القرآن،هم دعاة ورقة النصرانيين.وهكذا قد يكون ورقه الأب الروحي للإسلام المكي، الروحي بدوره. وهو الذي كان يترجم من العبرية والسريانية الكتب النصرانية، أي "الإنجيل"، الذي هو اسم نوع لمجموع الأناجيل، كما كان يترجم من التوراة، التي هي أيضاً، في القرآن، اسم نوع للكتاب المقدس العبري. وبصمات السريانية والعبرية واضحة في القرآن.
استشهد مكسيم رودنسون في دراسة له، في "إسلاميكا"، بكردينال كاثوليكي من القرن الـ 14 قال: محمد كان ممثلاً للبابا في مكة ثم ارتد! فهل يكون المقصود هو معلمه ورقه، بعد اعتناقه المحتمل للبدعة الأريوسية، التي أدانها المجمع المسكوني في نيقه سنة 325 بما هي زندقة؟ لأننا لا نجد في القرآن صدى، لسفارة محمد البابوية ولا لردته عنها. ولأن محمد المكي ظل مسيحياً أريوسي، أي من التابعين للقس الإسكندراني اريوس، الذي نفى أن يكون الأب والإبن من طبيعة إلاهية واحدة.في نظره المسيح مخلوق الله الأول ونبيه.عيسى القرآني لا شيء غير ذلك.
انقطع الوحي عن النبي بعد موت ورقة ففي صحيح البخاري: "(...)ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفَتَر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله، فيما بلغنا، حزناً غدا[=ذهب] منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، كي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقاً، فيُسكن بذلك جأشه وتقّر نفسه. فيرجع فإذا طالت عليه فترة انقطاع الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك".
في السايكولوجيا، طريقة الانتحار،تخبر عن علاقة الإنسان بجسده.واضح من الطريقة الفظيعة، التي اختار بها نبي الإسلام محاولات الانتحار:إلقاء جسده من شواهق الجبال،أنه كان يكره جسده حتى الموت؛أي أن شعوره بالذنب كان ساحقاً، وهو ما سنعالجه في فصل "أفكار أو هذيان الشعور الساحق بالذنب".
فما هي أسباب هذا الانقطاع؟ هل موت المترجم، الذي كان محمد يكتب ويحفظ ما يترجمه له من الإنجيل والتوراة ثم يستعيده، بذاكرته النسّاءة، في القرآن عبر نوبات الإهتياج والهذيان والهلاوس؟أم يكون موته قد سبب صدمة لنفسية محمد الهشة،فأصيب بالصمت المؤقت،الذي أصيب به قبله حزيقال وإشعيا؟ الفرضية المعقولة والأكيدة، هي أن القرآن المكي كان مسيحياً وبصمات ورقة، كما قدمته السيرة والسنة،مقروءة عليه.
من المعقول أيضاً، أن محمد تقمص الشخصية الدينية لمن اتهمته قريش بأنهم كانوا معلميه. بصدق الأنبياء، لا ينفي محمد الواقعة.بل نفى فقط أن يكون معلموه يكتبون له أو يملون عليه القرآن كما نزل: "لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"(103،النحل).فعلاً القرآن كان من انتاج محمد نفسه، بالطريقة المذكورة أعلاه، لكن مضامينه اليهودية والنصرانية والزرادشتية وغيرها كانت من انتاج معلميه: ورقة،بلعام الرومي وسلمان الزرادشتي وربما غيرهم. معلموه ما كانوا يملون عليه،بل كانوا يترجمون له.آثار ذلك واضحة في القرآن:ليس في المصطلحات الدينية فحسب بل أيضاً في تعابيره العادية،وحتى في نقل أخطاء الكتب المقدسة الأخرى اللغوية، مثل دخول الجمل في سم الخياط بدل دخول الحبل، في آية"(...)حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ" (40 الأعراف).وسنوضح ذلك في المكان المناسب.
يبدو أن أبو عبيدة ابن المثنى(ق.9)،كان أول من تقصّى في تفسيره "مجازات القرآن"الكلمات التي اقتبسها المعجم القرآني من العبرية،والفارسية، والسريانية،والبربرية،والنبطية والحبشية...إلخ،مثلاً كلمة "مصحف"حبشية. بعد 7 قرون، حاكاه السيوطي في "الإتقان". ثم تقريباً لا شيء. ربما تحت تأثير التقوقع على الذات، الذي ترجم نفسه في: محال وجود كلمات أجنبية في كلام الله!. فهل يبدأ البحث منذ الآن على تلاقح"اللسان العربي المبين"مع كثير من الألسنة "الأعجمية" الأخرى التي عاصرته؛ وخاصة العبرية،التي استعار منها القرآن قصص الأنبياء والرموز والشريعة،والمصطلحات الدينية وحتى الألفاظ العادية؟؛ قال لي البروفسير مناحم ميلسون: عندما أقرأ القرآن أشعر وكأنني أقرأ التوراة!.
على من سيؤلفون معجم الإشتقاق القرآني ـ وهو ضروري ـ ، أن يكونوا مختصين في العبرية والسريانية، ليكون عملهم علمياً حقاً. حتى أن مستشرقاً سويسري معاصر، أبو سهيلة، الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية حسب نسخة ترتيب النزول، افترض أن القرآن كتبه حبر يهودي. وهي احتمالية متدنية.فجميع القرائن من السيرة والتاريخ وعلوم النفس، تتضافر على أن مؤلف القرآن هو محمد، بمساعدة هذياناته وهلاوسه ومعلميه. خاصة ورقه في مكة وسلمان الفارسي في المدينة، أو في مكّة والمدينة معا، اللذين كانا يتسامران إلى الهزيع الأخير من الليل؛ مما أثار احتجاج زوجات النبي.ولا شك ان تفاصيل أساطير الجنة والصراط في القرآن، التي لا وجود لها في الكتاب المقدس، مستعارة من الزرادشتية عن طريق سلمان الفارسي.
القرآن، بإحتمالية عالية جداً، أملاه محمد على كتّابه المعروفين. لكن التشابه المذهل بين المعجم القرآني والكتابي، يتطلب فتح ورشة للبحث لكشف سر هذا التشابه بين المعجمين، بل وبين الديانتين أيضاً. فقد أكد فيلسوف الحضارات، ارنولد تونيبي: "أن الإسلام هو الديانة اليهودية الثانية". وهو تأكيد في محله.
إثنان من معلمي محمد جديران بتخصيص بحوث أكاديمية عنهما لتأثيرهما القوي في القرآن: ورقه وسلمان. ما نعرفه عن سلمان من السيرة،هو ميتاتاريخ، مرصود لإثبات الاسطورة الشهيرة،أسطورة اعتراف كهنة المسيحية باقتراب ظهور محمد بما هو نبي،فهو إذن بلا مصداقية.لكن تأثير الماجوسية،التي كان سلمان أحد كهنتها، في القرآن شاهد لا تجريح فيه.حديث:"سلمان منا آل البيت"(الطبري)،تمكن قراءته بما هو اعتراف بالجميل من نبي الإسلام لسلمان،الذي علمه كثيراً من أساطير الجنة الماجوسية. هذه الأساطير لا وجود لهن في الجنة اليهودية أو المسيحية: في الجنة القرآنية الأخيار: "عليهم ثياب من سندس خُضر واستبرق [=حرير]"، (21، الإنسان)، تكررت أيضاً في الكهف (الآية 31). وهي تبدو ترجمة لثياب الأخيار في الجنة الماجوسية: "بمناسبة نهاية كل عام ،تُقدَّم للمرء ثياب جديدة .في نهاية العالم سيقدم [الإلاه] أُوهرامزدا، لمن بعثوا من قبورهم ثياب مجد وفَخار"(16)؛ أسطورة "الصراط"، أي الجسر، الذي يمر عليه الأموات المبعوثون من قبورهم للوقوف أمام الله يوم الحساب، بالتأكيد موجود في المسيحية، لكن تبدو في صيغتها القرآنية، أن نبي الإسلام قد رواها عن سلمان: "جسر سينافات" (17)؛ فكرة مركزية في القرآن، جعل منها المعتزلة جواد نزالهم مع السنة، هي فكرة التخيير، أي أن الإنسان مخير، بفضل حريته، بين الخير والشر ولا شيء مقدّر عليه سلفاً من الله،وهي لا وجود لها في اليهودية،التي أخذ عنها نبي الإسلام، بالعكس، الفكرة النقيض: آيات التسيير التي تسلب الإنسان من حرية الإختيار. هذه الفكرة من المرجح أن يكون تعلمها محمد من سلمان: "أُوحي إلى أوهرامزدا: الإنسان حر في اختيار الخير والشر" (18)؛ مفهوم"الدين الحق"، الذي أدخله القرآن المدني لنسخ"الأديان الباطلة"،اللواتي اعترف بهن الإسلام كطريق للخلاص الروحي للمؤمنين بهن، هو أيضاً مزدكي:"أوهرامزدا، [المؤمن] المزدكي يختار الخير على الشر والدين الحق على الدين الباطل" (19)؛ أسطورة الحور العين جاءت للقرآن من الماجوسية: "ثلاثة ايام بعد الانفصال عن الجسد، تصل الأرواح إلى جسر سينافات، حيث ممارسة الدين الحق، تَظهر لهن في صورة عذراء في سن الـ 15 [كجزاء للمزدكي الصالح، وعجوز شمطاء للمزدكي الطالح]" (20)؛ كما في القرآن: "بعد حكم الآلهة الثلاث ميثرا، سراووشا،راشن،تقطع أرواح المؤمنين بالدين الحق الجسر.أما أرواح المؤمنين السيئين فيسقطن في النار(...)"(21)،نجد صدى هذه الأسطورة في سورة القارعة: "فأما من ثقلت موازينه،فهو في عيشة راضية[=الجنة]،وأما من خفت موازينه،فأمه هاوية[= في النار]" (القارعة،6 ـ 8)؛كما أن جنة القرآن في السماء،خلافاً لجنة الكتاب المقدس على الأرض،كذلك الجنة الماجوسية في السماء:"الروح تصعد إلى السماء على 3 مراحل:الكواكب،اللواتي يتطابقن مع"الأفكار الصالحات"،القمر،الذي يتطابق مع "الكلمات الصالحات "وأخيراً الشمس التي تتطابق مع"الأعمال الصالحات"،للوصول أخيراً إلى مملكة الأنوار اللانهائية[= الجنة ]".(22)حتى اسطورة المهدي المنتظر، السنية والشيعية،نجد لها أصلاً في الماجوسية: "خلال 1000 عام لا وجود للموت ولا للألم والناس يبقون في شباب دائم" (23).
* ملاحظة مهمة بخصوص سلمان(24) (انظر المراجع).
مراجع الفصل الأول
1 ـ الأطفال الأوطيست: الأوطيزم: هو نمط حياة خاص بمرض الفصام يشتمل على مظهرين: فقدان العلاقة مع الواقع وسيطرة الحياة الداخلية، أي سيطرة الشطر السقيم من النفس على الشطر السليم منها. 2ـ فرانسيس توستين، الأوطيزم وذهانات الأطفال ص 34 دار سوي باريس. 3 ـ سيرة ابن هشام ص 246 . 4 ـ أوطيزم وذهان الطفل ص 36. 5 ـ نفس المصدر والصفحة. 6 ـ نفس المصدر ص 56. 7 ـ ميشيل هانوس، طب نفس الطالب، دار مالوان باريس 1991 ص 75. 8ـ أوطيزم وذهان الطفل ص 24. 9 ـ سيرة ابن اسحاق ص 102. 10 ـ سيرة ابن هشام ص 24. 11 ـطب نفس الطالب ص 332). 12 ـ سيرة ابن اسحاق 103. 13 ـ نفس المصدر نفس الصفحة . 14 ـ سيرة ابن هشام ص 36 . 15 ـ أوطيزم اللوحة الثالثة ص ص 40 ،41 مرجع سابق. 16 ـ مرسيا إلياد،تاريخ المعتقدات والأفكار ،ج. 1،ص 347 . 17 ـ نفس المصدر ص 326. 18 ـ نفس المصدر ص 323. 19 ـ نفس المصدر ص 327. 20 ـ مرسيا إلياد،معجم الأديان،ص 304. 21 ـ نفس المصدر نفس الصفحة. 22 ـ نفس المصدر ص 305 . 23 ـ تاريخ الأفكار الدينية ج. 1،ص 345 مصدر سابق. 24 ـ السيرة تقول سلمان لم يلتقي بالنبي إلا في المدينة.لكن قصة ترحال سلمان في السيرة من بلد إلى آخر،حتى حط رحاله في يثرب،وبالصدفة كعامل زراعي عند يهودي فظ،غير موثوقة إذ أننا نجد أن آية الثياب الخضر لسكان الجنة موجوده في سورتين مدنية ومكية(الكهف)؛وآيات الحور العين موجوده في 3 سور مكية،الدخان،الطور والواقعة.وأيضاً في سورة مدنية واحدة هي الرحمان.مما يجعلنا نفترض كذب رواية السيرة عن استقراره في يثرب،لأن الكهنة المسيحيين،كما تزعم السيرة، الذين خدمهم في بلدان عدة،أخبروه بأن زمان نبي عربي قد حان؛أو أن سلمان كان عبداً في مكة منذ دخل الحجاز؛وإما أن تكون الآيات،كالعادة،بُعثرت في سور لا مكان لها فيها،ودونما اعتبار لزمان ومكان النزول.ونعرف أن سورة يونس مثلاً ليس فيها عن يونس إلا آية واحدة من 109 آية،بينما يونس مذكور 8 مرات في سورة أخرى لا تحمل أسمه!.وضعنا هذه الفرضيات، لأن دخول آيات المجوسية المذكورة ،عدا ربما الصراط،في القرآن هي إحتمالية عالية.
الفصل الثاني
ما النبوة وما الأنبياء؟
"إذا قلت أنك تكلم الله فأنت تصلي؛ وإذا قلت إن الله يكلمني فعندك أفكار هاذية" (النفساني الفرنسي ناكط)
أنبياء إسرائيل
دراسة انبياء إسرائيل أساسية لفهم نبي الإسلام
النبوة بما هي وحي، ليست خاصة بأنبياء إسرائيل أو بنبي الإسلام، بل هي ظاهرة عامة عند جميع الأنبياء والنبيات في الديانات الوثنية والتوحيدية، ربما منذ ليل التاريخ، وتحديداً منذ القرن الثامن عشر ق.م. حتى اليوم.
تأكيد ماكس فِبير، الذي استشهد به هشام جعيط، "في السيرة النبوية": "أن نبوة الوَجد [= اكستاتيك: حالة من الهذيان الهلوسي تعطي الهاذي انطباعاً بسعادة قصوى؛ وقد شاهدتها في القيروان واسطنبول عند المتصوفة] لم توجد إلا في إسرائيل وفي البلاد العربية مع محمد". هذا التأكيد غير دقيق.ربما يُفسّر بأن اكتشافات الأركيولوجيا عن انبياء بابل وآشور، كانت مازالت في طي النسيان عندما كتب فبير نصه.وواضح منها اليوم أن الوجد الصوفي وُجد عند جميع الأنبياء في العالم بما في ذلك عند الشامان [= السحرة]. يلاحظ مرسيا إلياد، في حديث عن: "الإكستاز الشامانيك، أن بعض الشامان يدخلون في الإكستاز بالغناء لوقت طويل" (1). وأنبياء إسرائيل يدخلون في الإكستاز بالرقص والغناء. قد يكون فبير معذوراً في جهله لهذه الاكتشافات. أما هشام جعيط فملوم لأنه قصر في البحث عنها!
أنبياء ونبيات الكتاب المقدس العبري، لا يختلفون في وحيهم عن أنبياء ونبيات الشرق الأوسط القديم؛ النبوءات كانت مطلوبة خاصة في الأزمات: تهديد بحرب خارجية أو أهلية، أو في لحظة خلافة الملك.
وهكذا كان الأنبياء أشبه ما يكونون بالمستشارين في البلاط الملكي،أو بصناع القرار المعاصرين، خاصة في أرض الإسلام،حيث مازال يُصنع القرار،بل أكثر القرارات خطراً،كالحرب، بالأحلام وصلاة الاستخارة!.
دراسة سيرة أنبياء إسرائيل ضرورية لفهم سيرة محمد لسببين:
1 ـ رغب محمد منذ مراهقته،من خلال معاشرته الطويلة لورقة، وربما أيضاً لمبشرين مسيحيين آخرين، مثل بلعام، الذي يذكره الطبري عند تفسيره لآية (103 النحل)،أن يكون نسخة من أنبياء إسرائيل. الذين صدّق في القرآن المعجزات المنسوبة إليهم،واطلع على أسفارهم وحاكاها في كثير من سور وآيات القرآن؛كما تأثر بموسى الذي ذكره في القرآن136 مرة،والذي كان يسميه"أخي موسى"؛أول بداية الوحي،حسب السيرة، قال ورقة،مطمئناً لخديجة وللنبي نفسه، الذي ارتاع من "نداء النبوة": "هذا هو الناموس الذي نزل على موسى".
تأثر محمد أيضاً بالشاعر والنبي،أشعيا،واستلهم قصيدته عن بابل في سورتي الزلزلة والتكوير مثلاً. يقول شراح الكتاب المقدس:"هذه القصيدة مرثاة لبابل التي سقطت تحت ضربات الميديين. عنوان هذا التصريح المعلن ضد بابل رآه إشعيا بن عاموس في رؤيا،وهو على جبل من الصخور الجرداء"(2) انتقاماً من يهواه منها بإرسال هؤلاء الغزاة عليها لظلمها شعبه.
:"استمع!صوت ضوضاء ممالك الأمم المجتمعة، رب القوات[=الجيوش] يستعرض جيش القتال. من أرض بعيدة،من أقاصى السموات، يأتي الرب وأدوات سخطه، لتدمير الأرض كلها. ولولوا فإن يوم الرب قريب،[= في القرآن:"اقتربت الساعة(1 القمر)] قادم قدوم اجتياح من الرب القدير. لذلك سترتخي كل يد، ويذوب قلب كل إنسان (...)سيفزعون ويأخذهم الطلق والمخاض، ويتوجعون كالتي تلد، وينظر بعضهم إلى بعض مبهوتين، ووجوههم مثل اللهب، هذا يوم الرب قد حضر قاسياً، يوم سخط واضطرام وغضب، ليجعل الأرض خراباً (...)
لأن كواكب السماء ونجومها لا يبعثن نورهن، والشمس تظلم في طلوعها، والقمر لا يضيء بنوره، سأعاقب الأرض بشرها، والأشرار بآثامهم، (...)لذلك سأزعزع السماء، وتتزلزل الأرض من مقرها، في سخط رب القوات، في يوم اضطرام غضبه. (...)
أبيات هذه القصيدة هي التي استلهمها، كما هو واضح، نبي الإسلام في سورة الزلزلة: "وتتزلزل الأرض من مقرها"تصبح "إذا زلزلت الأرض زلزالها"؛ واستلهمها أيضاً في التكوير"لأن كواكب السماء لا يبعثن بنورهن، والشمس تظلم في طلوعها، والقمر لا يضيء بنوره. لذلك سأزعزع السماء". غدت على لسان نبي الإسلام: "إذا الشمس كُورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال ُسيرت وإذا العشار عطلت (...)".
كما تأثر نبي الإسلام في قسمه بالتين والزيتون بالكتاب المقدس العبري.تأول المفسرون التين والزيتون القرآنيتين تأويلات شتى، لا يبدو أنها سديدة: فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن: التين هو بلاد الشام والزيتون فلسطين، وقيل التين والزيتون هما المسجدان: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، الذي لم يكن موجوداً في زمن محمد.
يبدو لي أن القسم بالتين والزيتون، استلهمه نبي الإسلام من أسطورة سفر القضاة القائلة:"ذات يوم،ذهبت الأشجار لتكريس[لمسحه بالزيت المقدس ]ملكاً عليهن؛فقالوا للزيتونة:كوني ملكة علينا.لكن الزيتونة قالت لهم:عليّ إذن أن أتخلى عن زيتي الذي نمجد به الله والناس؟!(...)عندئذ طلبت الأشجار من التين:"تعالي أنت لتكوني ملكة علينا."فأبت ،وطلبوا من الكرمة فأبت هي أيضاً... وهكذا سَمى الكتاب المقدس التين والزيتون والكرمة أشجاراً"كريمة"،لأنها رفضت المَلكية.علماً بأن غالبية أنبياء الكتاب المقدس معادون للملكية؛وهو ما استعاده محمد في آية:"وقالت[=النملة]أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون"(34 النمل).لماذا عادى أنبياء إسرائيل ملوكهم؟لأن الملوك كانوا يحتقرون الأنبياء الذين يشطحون تحت وطأة وجدهم [اكستاز] في الشارع، كما يؤكد ماكس فبير: "كان الملوك يحتقرون أنبياء الإكستاتيك، الذين كانوا يصرخون في الشارع".
أرهق أمثال يوحنا الدمشقي ،متكلمي الإسلام وفقهاءه في القرن الـ 8 بسؤالين:كيف يكون نبيكم نبياً ومحارباً؟وكيف يكون نبيكم بلا معجزات،والحال أن المعجزات هي برهان نبوة أنبياء الكتاب المقدس، والقرآن نفسه يؤكد ذلك؟ردوا،ضمناً عن السؤال الثاني على الأقل، بانتحال معجزات أنبياء إسرائيل وبعض معجزات المسيح، مثل تكثير الخبز،لنبي الإسلام.بالرغم من أنه هو نفسه نفى عن نفسه في القرآن أية معجزة، باستثناء واحدة:القرآن.متحدياً قريش بالإتيان بمثله.وهو طبعاً سؤال تعجيزي.لماذا؟لأن لا أحد يستطيع أن يكتب ديوان المتنبي،أو المعري،أو أبو تمام أو أبو نواس ... إلا هم أنفسهم؛:"فالأسلوب يجعل الأشياء الأكثر تفاهة فريدة"،كما قال فولتير.فعلاً،فالأسلوب هو الإنسان، كما يقول المثل الفرنسي،أي شخصية الإنسان النفسية والذهنية،ببصماتها، السليمة والسقيمة، كالشخصية العصابية أو الشخصية الذهانية أو الشخصية الواقفة على تخوم العصابي والذهاني مثلاً.لم يكن يوجد في مكة،في حياة محمد،شخص ثاني[للتذكير،لا أضحي بالحروف الصوتية الضرورية للفهم من أجل نحو نخبوي عقيم] له ذات البصمات الأسلوبية والنفسية التي تميز بها القرآن،والتي تساعدنا اليوم أيضاً،بعد أكثر من 14 قرناً،على البحث عن محمد التاريخ،من وراء ركام التخاريف عن محمد الإيمان، التي غطت محمد التاريخ من أم رأسه إلى أخمص قدمية.
بصمات محاكاة سيرة محمد لسيرة أنبياء إسرائيل والمسيح واضحة: ملكا شق الصدر،قد لا يكونان إلا محاكاة لأسطورة الملوك المجوس الذين،بمجرد أن رأوا"طلوع كوكب عيسى"حتى شدوا الرحال إليه. حاكتها السيرة أيضاً في أسطورة اليهودي الذي شاهد طلوع"كوكب ميلاد أحمد"!.
قصة "إقرأ" في غار حراء، قد تكون أيضاً محاكاة لمثيلتها عند إشعيا سواء من السيرة أو من نبي الإسلام نفسه:إقرأ الكتاب المفتوح والكتاب المختوم؛موسى،في الرواية التوراتية، رعى الغنم،وكذلك يجب أن يرعى محمد غنم حليمة السعدية وعمره سنتان!موسى بُعث في الـ 40 عاماً،وكذلك محمد بُعث في سن الـ 40 ،والحال أن هذيان الذهان الإهتياجي الإكتئابي، الذي قد يكون هو بداية الوحي المحمدي، يبدأ بين سن 18 و 20 عاماً!.
يوجد مؤشر على أن محمد لم يُعلن نبوته في الأربعين، التي كانت يوم ذاك سن بداية الشيخوخة، بل ربما أعلنها وهو في الثلاثين أو دونها. فقد سخر شيوخ قريش، أو كما تُسمّيهم السيرة "ذوو الأسنان"، من كون: "غلام بني عبد المطلب، يدّعي أن السماء تكلمه" (سيرة ابن هشام، ص 217). غلام في فم عجوز، قد يعني أنّ عمره دون الثلاثين
زعمت السنة والسيرة أن جميع الأنبياء، عدا يوحنا المعمدان والمسيح، بُعثوا في الـ 40؛ رقم الـ 40 سحري في الأساطير البابلية، مثلما أن رقم 7 سحري فيها:7 آلهة تداولوا على خلق العالم في 7 أيام. وقد تبني القرآن،نقلاً عن التوراة،هذا الرقم السحري: 7 سموات و 7 أراضين...إلخ.
يبدو أن نبي الإسلام ،نقل عن ترجمة ليست دقيقة للكتاب المقدس العبري أو أنه،كعادته كثيراً وغالباً، نسي ما حفظه، وهو موضوع سنعالجه في هذا الكتاب:لذلك اعتبر آدم،نوح،إبراهيم،اسحاق، يعقوب، يوسف وسليمان أنبياء،والحال أن الكتاب المقدس العبري يعتبرهم بطارقة[=آباء مسنين وولودين] وليسوا أنبياء.
هؤلاء "الأنبياء"، برهنت الدراسات التاريخية والأركيولوجية، خاصة في إسرائيل، أنهم شخصيات رمزية وليست تاريخية.
ومع ذلك يوجد شبه حقيقي بين كثير من أنبياء إسرائيل ونبي الإسلام؛ مثل إدعاء الأمية لدى بعضهم ولديه، رغم أنهم ونبي الإسلام نفسه كانوا ذوي ثقافة دينية واسعة، من الصعب على من لا يعرف القراءة مراكمتها.
بعض المثقفين المسلمين، الذين يعتقدون، غالباً، أكثر مما يفكرون، مُصرون على أنه أمّي، وأنه تلقى القرآن بواسطة جبريل من عند الله كما هو؛ وبعض المستشرقين يقولون أنه تلقن الكتاب المقدس العبري، وكذلك الأناجيل عن طريق السماع .وهكذا يفسرون النقل التقريبي عن الكتاب المقدس، والأخطاء الكتابية والتاريخية في القرآن. المرجح ان نبي الإسلام كان يعرف القراءة والكتابة، رواية للبخاري تؤكد ذلك: "عن ابن عباس عندما قال أئتوني [بقلم] أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي"؛أو قد يكون حفظ الكتاب المقدس العبري والأناجيل،خلال السنوات التي قضاها في رفقة ورقة،لكنه نسيهما عندما أصيبت ذاكرته، كما يرى ذلك النفساني، فتحي بن سلامة، في كتابه"ليلة الفلق".
لكن هل كان يسمع فقط، هو ذو الذاكرة الضعيفة،أم كان يكتب ما يسمع، ويعيده في القرآن عن طريق الهذيانات والهلاوس؟.
يوجد أيضاً شبه نفسي حقيقي بين حزيقال ومحمد؛ كلاهما شاعر ونبي،لكن النبي الهاذي فيهما عجز عن تنظيم هذيانه الشعري،فكان لدى كليهما متشابهاً،أي ملتبساً وقلما يكون مفهوماً.ثلاثة شعراء، كثير من شعرهم متشابه هم:حزيقال،محمد والشاعر الأمريكي إدجار ألان بو!.
كما كان أنبياء إسرائيل يدعون "الشعب الخاطئ"، النسّاء للشريعة، إلى تذكر الحلف بين الله وشعبه، وإلا عاقبه يهواه بإرسال الشعوب الغازية عليه؛ بالمثل كان نبي الإسلام يدعو"عشيرته الأقربين" إلى توحيد الله، توحيداً خالصاً لا يشاركه فيه شريك، وإلا عاقبهم بإرسال "الساعة [=نهاية العالم]" عليهم بغتة وهم لا يشعرون، وحتى إذا طلبوا من الله تأجيلها ليتوبوا إليه، فهم "لا يُنظرون"، كما توعدتهم الآية 40،الأنبياء.
وجه شبه آخر محتمل.إذا كان"الشعب الخاطئ"لم يسمع لأنبيائه،فهل لأنه كان"وثنياً"،كما كان شعب مكة؟وتالياً،هل كان دينهم جديداً على شعبهم،كما كان دين نبي الإسلام، التوحيدي الصارم،جديداً على شعبه؟.
كانت رسالة أنبياء إسرائيل، تأنيب الشعب الذي تناسى الشريعة،ودعوته إلى إقامة العدل.كانت رسالة نبي الإسلام تأنيب شعبه المكي على إشراك بنات الله الثلاثة،اللات والعزى ومناة،مع الله في تقرير مصيرهم ودعوته لهم للعدل أيضاً.
كما كان يهواه يتدخل في التاريخ،كمحارب، لينصر شعبه في حروبه،فإن الله هو أيضاً، محاكاة ليهواه، يتدخل في التاريخ، لنصرة من ينصره، ويرسل جيوش الملائكة لنجدة نبيه! .
لا شك أن نبي الإسلام تأثر أيضاً بهذيان نهاية العالم،الذي انتشر لدى انبياء إسرائيل خلال السبي البابلي،أكثر من نصف قرن،فاستخدمه هو أيضاً،في نوبات هلاوسه،كسلاح لتهديد مشركي مكة به،كعقاب رباني فوري لهم، إذا لم يؤمنوا برسالته:"اقتربت الساعة(...)"(1 القمر).فضلاً طبعاً عن سببه المرضي: الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي.
لعل أكثر ما جعل نبي الإسلام يتماهى بأنبياء إسرائيل، هو أنه تعرف على نفسه فيهم: أي على هلاوسه السمعية والبصرية والنفسية...إلخ، التي كانوا يعلنون بها نبوءاتهم، وكان هو أيضاً ينقل بهن إلى المكيين "خبر السماء".
كما كانوا هم مبشرين ونذيرين لشعبهم، كان هو أيضاً نذيراً وبشيراً: نذيراً للمشركين بـنهاية العالم وعذاب "نار حامية" وبشيراً للمؤمنين بـ "جنة عرضها السماوات والأرض".
كما كان يهواه مهتماً جداً بكل تصرفات "شعبه المختار" في حياته اليومية، من مشرب ومأكل وملبس ومَنكح، وكان يُسيِّره بأوامره ونواهيه، كذلك جعل نبي الإسلام الله ليس أقل تدخلاً من يهواه في الحياة اليومية لـ "خير أمة أخرجت للناس"، فقد قدّر لها جميع حركاتها وسكناتها حتّى قبل خلقها
وأخذ عنهم أيضاً "المكتوب"، يقول جرميا: "إذا كان يهواه أراد أن يُخضع الشعب لنبوخا نصر [ملك بابل وصانع السبي البابلي الشهير]، فعلى الشعب أن يسمع ويطيع". اقتبس نبي الإسلام هذه الآية في آيات عديدة منها آية: "وما أصاب من مصيبة في الأرض [= في أملاككم] ولا في أنفسكم إلا في كتاب "[مكتوب] من قبل أن يبرأها [= من قبل خلق هذه الأنفس]. إن ذلك على الله يسير" (22 الحديد). عقلاء اليهود تخلصوا من هذيان إرميا المازوشي. أما المسلمون...
أنبياء إسرائيل
"أنبياء إسرائيل،ينتمون إلى أسرة،"حاملة الكلمة"،الذين نلتقي بهم أيضاً في الشرق الأوسط القديم، وفي اليونان وفي آسيا الوسطى"(2) "أنبياء إسرائيل(...)الذين أرسلهم الله كناطقين باسمه(...)،كان لهم رُواد في الشرق الأوسط القديم، في القرن 18 قبل الميلاد، أو لاحقاً في مدينة نينيف في بلاد الرافدين؛في القرن 7 ق.م حيث كانوا الناطقين باسم الآلهة لدى الملك(...)بعضهم يُوحى إليهم بالرؤى[رؤيا الآلهة وجهاً لوجه وتلقي الوحي منها]والبعض بأحلام رائدة،تتنبأ بالأحداث قبل وقوعها، وآخرون يعبرون عن وحيهم أثناء الهذيان الهستيري فهم،للملوك،إما منذرون أو شفعاء(...)كانوا ممثلين رسميين لمختلف الآلهة، يوجهون رسائل إلى الملك، يتولى لاحقاً تفسيرها"(3).
الأسماء التي كانت تُطلق على النبي،في الشرق الأوسط القديم،عديدة لكن المفضل منها هو وصفه بأنه"مملوك من الآلهة"."رسالتهم إلى الملك تُعلن بصوت عال،وهم في شطح الوجد[اكستاز] الصوفي،في حالة اتصال مع الآلهة، يستفتونها فيما سيُستجد من أحداث؛وكانت نبؤاتهم تكتسي أحياناً شكل أحلام رائدة تنذر بما سيتحقق في المستقبل(...)تُثبت الوثائق الآشورية أن معبد عشتار، في ارابيل(=مدينة اربيل في كوردستان العراق)كان يضم أنبياء ونبيات:من 13 نبوة موثقة في هذا المعبد،4 لأنبياء رجال و8 لنبيات نساء، إحداهن كانت على الأرجح خنثى.كان بعض الأنبياء يحرصون حرصاً شديداً على إعادة كتابة وحيهم بكل أمانة، وكان رواة نبوءاتهم يقسمون بأنهم كتبوها بكل أمانة(4) ".
في بحثه عن"جذور النبوة في الكتاب المقدس"،يؤكد بيير جيبير،مفسر وأستاذ التاريخ بأن:"شريعة أنبياء إسرائيل تقتصر على مبدأين:إحترام وحدانية الله،والإهتمام الفعال بالمستضعفين في مادة العدل؛كانت تُطلق على الأنبياء أحياناً أسماء مرادفة للنبي مثل"بصار"،ورجل الله.أسماء الأنبياء والنبيات تمتلئ بها التوراة.فما هي الملامح المشتركة بين شاؤول، الذي ُدعي"نبياً"في مشهد غريب حيث كان يهذي وسط "أنبياء"آخرين هاذين(شاؤول الأول،الإصحاح 12 الآية 10)،وصمؤيل،الذي دُعي هو أيضاً نبياً، إثر نداء من الله، وكان يتحدث بلغة واضحة لمستمعيه، بدءاً من شاؤول نفسه؟أو كيف نخلط بين إليا و إليزيا في القرن 9 ق.م اللذين نقل عنهما الرواة حكايات خارقة من نوع خرافي،واللذين لم يتركا أي أثر مكتوب،وعاموش وهوشع اللذين،بعدهما بقرون،قدما ملخصاً مكثفاً مكتوباً لنبوءاتهما بعبارات تجهل الأسلوب الخرافي،مفضلين عليها تنديداً صارماً بخطايا الملك والأغنياء؟"(5).
"أنبياء إسرائيل يقولون أنهم استمدوا رسالتهم من يهواه،لكن أين تعلموا التعابير الأدبية،البلاغية والشعرية؟في هذه المجالات الثلاثة.الأنبياء يدعون بأنهم أميون أو جهلة.لكن مهما كان الطابع الفطري لبعض خصالهم،ومهما كان إلهامهم الديني فإنهم يكشفون بلا جدال عن خبرة دقيقة؛مما يجعلنا نفترض أن لهم تكويناً لاهوتياً،سياسياً ودينياً حقيقاً"(6).لكن مفسر واستاذ التاريخ يعترف بأنه لا يمتلك وثائق عن مصادر تكوينهم الأدبي والخطابي والشعري.
كيف كان أنبياء إسرائيل يتنبأون؟:"بعضهم كانت لهم رؤى إلاهية وأحلام رائدة سرعان ما تتحقق" (7) ،كان عدد هؤلاء الأنبياء في عهد الملك أشاب وحده حوالي 400 نبي:"كان يجمعهم ويسألهم:"هل بإمكاني أن أحارب راموث جلعاد أم علي أن أتراجع؟فيعطيه الأنبياء رأياً ملائماً"(8).جل الأنبياء،بل كلهم،يعتزون بـ"رؤية" أولى تدشن نبوءتهم،أي بنداء خاص آت مباشرة من يهواه ،دعاهم فيه لأن يكونوا انبياء؛تجربتهم مع الله تتجسد هنا، حتى ولو كانوا يحضّرون أنفسهم للنبوة، بسوابق دينية محددة مثل العبادة والمحافظة على الشريعة(...)؛ الشريعة بالنسبة إليهم تُختزل في أمرين:وحدانية الله وإقصاء كل شكل من أشكال عبادة الأصنام (...) والاهتمام بالفقراء والمستضعفين"(9).
أنبياء إسرائيل صنفان:من يتكلمَون بوضوح ومن يهذون بكلام متشابه لا يفهم.مثلاً أسلوب اشعيا مقتضب ودقيق، لا نجد عنده مواعظ طويلة أو توصيفات مبهمة،كما نجدها عند حزيقال،رغم أنه معدود بين أنبياء إسرائيل الكبار.كيف تلقى الوحي؟:"كنت بين أسرى وادي كبار،انفتحت أمامي السموات فحصلت لي رؤى إلاهية"(ح.الإصحاح الأول الآية الأولى). في القرنين 1و2 ق.م حدث تغير في اليهودية في الموقف من النبوة:فقد أكد الحكماء أن زمن النبوة قد إكتمل،أي ختموا النبوة، فارضين وجوب تأويل التوراة التي أعطيت لموسى."(10)."منذ موت حاجي وزكريا ومليخا،آخر الأنبياء،توقف الروح القدس في إسرائيل"(11).
قيل أن نبي الإسلام قد أستعار ختم النبوة،عبر سلمان،من المزدكية.لكن يمكن أن يكون استعارها من اليهودية أو من المسيحية، فكلاهما أعلنتا ختم النبوة.وقد لا يكون استعارها من أحد.ختم النبوة عنده،كما عند أسلافه،قد يكون تعبيراً عن هذيان ذهان العظمة،الذي هو أعدل الأشياء قسمة بين الأنبياء: فكل نبي يتخيل بما هو عُظامي، انه آخر سفير من الله للناس نذيراً وبشيرا.
كيف نفهم النبوة وأنبياء إسرائيل؟
في السطور التالية أقدم، كخلاصة طبية نفسية للنبوة في الكتاب المقدس، وأيضاً كإضاءة نفسية لإشكالية النبوة عموماً تحليلاً نفسياً لظاهرة النبوة.وحدة الظاهرة الدينية، التي تؤكدها الفيونومولوجيا، تتجلى ليس في الشعائر والإيمان بالغيب وحسب،بل وأيضاً في وحدة البنية النفسية للأنبياء في جميع العصور وجميع الثقافات،التي تعبر عن نفسها بهذيان النبوة كما يسميه الطب النفسي.
يؤكد الطبيب النفسي الفرنسي، شارل بريسى، في تحليله لهذيان النبوة في الكتاب المقدس العبري، أن مؤسسة النبوة لعبت في تلك العصور، من اجل حماية الأنبياء، ذات الدور الذي تلعبه اليوم مستشفيات الأمراض العقلية.بدلاً من النظر إليهم بما هم مرضى، يشكلون خطراً على المجتمع، فإنهم أُعتبروا أنبياء، كما في افريقيا وأمريكا اللاتينية اليوم أيضاً.وهكذا كانوا يعاملون غالباً باحترام. "بدأت النبوّة تنطفئ بسرعة في إسرائيل (...) منزلة النبوة كمستشفى للمجانين (...) النبوة ليست خاصة بالعبرانيين (...) العصور القديمة السامية، كانت تشاطر الأنبياء العبرانيين الكبار نفس مفهوم النبوة بما هو: "اقتحام قوة خارجية لجسد كائن بشري". (...) هذا المفهوم نجده في كل مكان وعلى مر العصور، عندما لا تعود سيطرة العقلاني قادرة على خنق الزوائد الطفيلية، التي تنتجها المخيلة. (...) جماعات الأنبياء، التي يصفها الكتاب المقدس،في القرنين 9،10 ق.م. تعطي أحسن صورة عن النبوة الشائعة بين عامة الأنبياء؛فهؤلاء هامشيون،يعيشون في جماعات،بضع عشرات أحياناً، يسكنون بعيداً عن الشعب،في مغاور(...)،هذه الجماعات تتجمع أحياناً حول معلّم مثل صمؤيل في القرن 11 أو ايليزيا في القرن 9.(...)مهما كانت الحقبة،فقد حافظت ظاهرة النبوة في الكتاب المقدس على طابعها الإحتجاجي على الوضع السائد.في فترات التوتر حيث يتكاثر الأنبياء،يغدو كل السياق الاجتماعي،السياسي،الديني موضوع احتجاج(...)،والقناعة باقتراب خراب إسرائيل،والنداء للعودة إلى الحياة القبلية البسيطة لبني إسرائيل، وتصبح البداوة مثلاً أعلى.وهكذا فالنبوة هنا نوع من الأصولية الدينية حيث نلتقي(...)بنبرات نهاية العالم!وأيضاً بآمال مضيئة.(...)ومهما تنوعت المظاهر النفسية ـ الاجتماعية،فإن ظاهرة أساسية تميز جميع الأنبياء،من أصغرهم إلى أكبرهم،هي أن قابلية الاكستاز هي الشرط الضروري للنبوة،(...)إنها اللحظة للتذكير بأن"تَنبّأ"و"هذى"هما كلمة واحدة وحيدة في الكتاب المقدس. الشطح [=طرانس]الكامل وإلى حد ما الدائم.وهو غالباً يُستثار بالمحاكاة، بالموسيقى أو بالرقص.(...)الشطح يشتمل على هياج عصبي وينتهي غالباً بنوم عميق وفقدان للذاكرة.بين شطح شاؤل ووحي داوود، توجد مجموعة من الحالات ُدرست جيداً:يقدم داوود مثلاً جيداً للشطح الرصين، عندما كان يرقص أمام تابوت العهد.لقد أثار سُخط زوجته،ميكال، لأنه كان يرقص عارياً"دائراً على نفسه بكل قوته"، كدرويش دوار.داوود كان يبحث برقصته المتحكّم فيها عن الوحي الشعري.ما يقوله أفلاطون عن الحماس الديني،مشابه تماماً.الكلمة نفسها تشير إلى المس الإلهي.الاكستاز يمكن تنزيله بين الشطح الكامل(...)قريباً من الحلات السقيمة، والوحي بالمعنى الذي قصده أفلاطون.لكن الوحي فردي وإبداعي.أما الشطح فجماعي(...)غير إبداعي(...)(12) ".
الرؤيا النبوية أو الأونيريزم، كمحرر للمخيلة.لا شيء أكثر توضيحاً للمفهوم الطبي النفسي أو أونيريزم (12).الانقلاب الإنفعالي الذي يحدثه الوجد"الإكستاز"يكتسح الوعي ويتركه عائماً في حالة وسيطة، بين النوم واليقظة،وهو ما يُنتج بالتحديد انتاجات المخيلة(...)مهزوزاً اكثر من اللازم لكي أسمع، ومضطرباً أكثر من اللازم،لكي أرى"،كما تقول آية إشعيا.لأن إظلام الحواس تُحضّر وتبشر بالرؤيا.عديد من الأنبياء عبروا عن القلق الذي يستولي عليهم في هذه اللحظة،التي يسقط فيها الوعي الواضح، وحيث يصبحون ممزقين بين الظلام والنور.دانيال،اشتكى من رؤياه: "بقيت مريضاً لعدة أيام ومازلت،من دون أن أفهم سر ذلك"؛ حزيقال، الأكثر مرضاً من الجميع، تعتريه حالات من الشلل والصمت."الانتقال بيد يهواه مكلف جداً،مؤلم مثل الولادة".
الأونيرزم ، هي حلم هاذي يخرج بقوة من نور الوعي الخافت.يمكن أن ُنكون عنه فكرة من الصور النعاسية،اللواتي يعرفهن كثير منا، بشكل طبيعي عندما يكون على حافة النوم. في الأونيريزم، التجربة تستمر طويلاً بما فيه الكفاية،حتى تنتظم الصور في رؤى،مع كثافة دراما ملأى بالإنفعالات. في تسلسل يسمح بروايتها في ُرؤى.المريض يعيش اقتحام عالمه الخيالي،كعملية خلع لباب وعيه،من منتجات مسرحية لا يتعرّف على نفسه فيها،فينسبها لقوة خارجية.هنا نلتقي بما يقوله رودس عن التجربة النبوية:"إقتحام قوة غريبة لكائن بشري".
نتعرّف هنا أيضاً على موديل الإكستاز عند جميع المتصوفة وجميع الُملهَمين [= الأنبياء،الشعراء والمتصوفة]في جميع الثقافات:عنف خلع باب الوعي،صدمة الفرد الذي يلعب،بكل غرابة،دوراً سلبياً في المغامرة:"يهواه أخذني من وراء القطيع،كما قال عاموس،وإليكم ما أراني يهواه:"لقد عنفّتني"، كما قال جرميا،الذي هو أكثر وضوحاً من الجميع في هذه النقطة.ينبغي قراءة الإصحاح 20 لجرميا، اعتراف حقيقي لنبي: "كان يهواه كنار تلتهم قلبي". النبي لا يستطيع الإحتفاظ بالرسالة التي تخترقه، آتية من الخارج(...)فكر النبي يعبر عن نفسه، عبر الرؤى،أو يمتد بين الرؤى.والرؤى ليست متواترة جداً، 5 أو 6 عند إشعيا أو حزيقال.لكن الطابع النبوي يظهر في المضمون الشعري للكلمات، اللواتي هشّمتهن أحياناً الإنفعالات،وأحياناً ينمو كلوحة جدارية أو كخطاب محموم.
الطابع الفردي يظهر في الأسلوب:السحر الساذج عند عاموس؛الشعر الغنائي العظيم عند إشعيا؛ هز المشاعر عند إرميا؛ورتابة الجمل عند حزيقال،الذي يشرح مطولاً حكاياته...(...)دراسة الظاهرة النبوية يمكن الوقوف بها هنا بما هي ظاهرة.تُوجد إستمرارية بين طرانس[= تقريباً الشطح]المبتذل والإكستاز[= الوجد]الصوفي.لا وجود لعلاقة ملحوظة تفصل النبي الأكثر شهرة والمُلهم الأكثر خمولاً في"الهذيان المقدس".إذن قد لا يكون مفيداً النقاش حول الطابع المرضي أو غير المرضي لحزيقال؛ أو اعتبارهم(...)مفكرين أعطوا شكلاً شعرياً متحمساً لصياغة حكمتهم.قامتهم الحقيقية وعبقريتهم، يظهران في المضمون، الذي أدخلوه في القالب العام لثقافة الشرق الأوسط في زمانهم:هذا المضمون هو الأونيريزم كمحرر للمخيلة.
بما هي مؤسسة على الأونيريزم ،يمكن للظاهرة النبوية أن تؤدي إلى نتائج قريبة من الحالة السقيمة، أو على الأقل، التي تعالت عليها بالإلهام الديني(...)الرحلة الروحية للشعب العبري،الذي حمله العمل التدريجي الذي مارسته الوحدانية على نفسها،هو الذي أعطى للنبوة،التي هي في حد ذاتها ظاهرة مبتذلة،قيمة حركة إكتشاف وتعميق ديني.
رودس،على حق،عندما كتب:قرن قبل كنفشيوس،قرنان قبل الشاعر اليوناني إيشيل،وعلى نحو أكثر جزماً من هؤلاء المصلحين أو المفكرين الدينيين،صرّح الأنبياء بأن الله يطلب طهارة الحياة وليس الأضاحي والقرابين.(...)أما الجنون،فيمكن القول،بأنه من دون الإلتصاق به ما كان لمثل هذا التحول أن يحدث(...)(13).
بولس الرسول،أول نبي اعترف بجنون الأنبياء،و أول من برّره ببراءة شاعرية:"الجنون في نظر الناس، هو الحكمة في نظر الله".
نعم،يبدو أن الجنون والنبوة متلازمان.بل وربما العبقرية نفسها والجنون متلازمان أحياناً.أما المحللة النفسانية الفرنسية،فرنسواز دولطو،فترى:"يوجد بُعد اوطيسط،يسكن كل واحد منا".والأوطيزم هو أقسى أنواع الجنون!.
الجنون ـ والجنون فنون ـ هو غالباَ ضريبة الموهبة.وقد لا ينجو منه حتى الإنسان العادي، ولو للحظات عابرة. يقول طبيب نفسي:"كل إنسان يمر مرة كل اسبوع على الأقل بلحظات جنون يطلق فيها العنان للهذيان.الطبيب النفسي فيليب برونو يؤكد:"إن تغير المزاج العنيف هو الذي قدّم لجميع هؤلاء الأفراد الموهوبين محرك الإبداع".
هؤلاء الأشخاص لا يكادون يحصون، من إبراهام لينكولن إلى تشرشل مروراً بفان كوخ ونيتشه وجوته وروبير شومان ومعظم الفنانين والشعراء. كان سقراط نبياً مهلوساً، يسمع الهواتف من السماء،يمشي في آثينا حافياً،ويغسل يومياً تماثيل المدينة من زق الحمام ،ويستوقف المارة في الشارع ليطرح عليهم أسئلة أبو الهول. وهكذا فمؤسس الفلسفة وشهيدها كان نبياً مهلوساً! ولم يخطأ الدروز ولا الشهرستاني في "الملل والنحل"عندما اعترفوا بنبوته. وقد يكون يونج، تحدث عن نفسه عندما كتب:"الجنون هو لُب المغامرة البشرية"،أي فاعل الحضارة البشرية. لكن "الجنون"يوجد في علاقة خاصة مع أحد مناطق الدماغ،تحديداً فص الصدغ الأيمن، وليس خارج الدماغ،كما يدعي، معذُوراً،كل مجنون.
أنبياء المسيحية:
يبدو أن المسيحية لم تعترف بختم النبوة.وهكذا ُفتحت أمام عديد الأنبياء،الذين كانوا تاريخياً هم جندي المسيحية المجهول،فهم الذين أسسوها طوال قرن،ولولاهم ما انتشرت المسيحية بين الجمهور العريض خاصة في القرن الأول."ميّز بولص بين الأنبياء الذين يقولون كلاماً غير مفهوم،أي متشابه، والأنبياء الذين يتحدثون بكلام واضح(...)كان الرجال والنساء يتنبأون في الكنائس التي أسسها الرسول بولص(...)في كورنثه.النزاع الشهير حول الحجاب، الذي اندلع عندما قرر النبيات التوقف عن ارتداء الحجاب عندما كن يتنبأن"(14).
انتهت النبوة في المسيحية بعد قرن من تحول الكنيسة إلى مؤسسة؛اعتبرت المسيحية أن النبوة في إسرائيل خُتمت بعد يوحنا المعمدان،بفضل ميلاد المسيح ثم قيامه من القبر،كشهادة على قهر الموت وتأكيد القيامة بعد الموت،كما تأول ذلك رجال الدين.
القاسم المشترك بين الأنبياء،الوثنيين والموحدين،هو الهذيان والهلاوس،عبر الرؤى والأحلام لإنتاج الوحي.
وماذا عن نبي الإسلام؟
نبي الإسلام،لا يختلف نمط وحيه عن نمط وحي أنبياء الشرق القديم، في معبد عشتار،أو انبياء إسرائيل.الفرق الوحيد أننا نمتلك وثائق أكثر مصداقية عن كيفية تكون الوحي المحمدي:"بل قالوا أضغاث أحلام؛بل هو افتراه؛بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون"( الأنبياء 5).يفسرها الطبري: "قال بعضهم هو أهاويل رؤيا رآها في النوم؛وقال بعضهم هو فِرية إفتراه واختلقه من قبل نفسه؛وقال بعضهم:بل هو شاعر وهذا الذي جاءكم به شعر(...)"(انظر الطبري في تفسير هذه الآية).
باستثناء الافتراء،لأن الهلاوس لا مجال فيها للإفتراء،"التهم" الأخرى،من الحلم إلى الشعر صحيحة كما رأينا في الاستشهاد بالنفساني شارل بريسى أعلاه، وكما سنرى عند تحليل الهلاوس بعد قليل.
تؤكد الآية 27 من سورة الفتح أن نبي الإسلام، يوحى إليه كأنبياء إسرائيل،بالرؤيا:"لقد صدق رسول الله الرؤيا بالحق:لتدخلن المسجد الحرام(...)".
القرآن لم يوضح كيفية لقاء جبريل، بنبي الإسلام،جبريل الذي هو في الواقع اسم مستعار لهلاوسه السمعية والبصرية والنفسية، سواء في صيغة قرآن، أو حديث قدسي أو مجرد همس في الأذن ينذره أو يبشره ...، نجد في السنة تفاصيل عدة،لكن غيابها في القرآن يجعلها مصدراً ثانوياً لا يمكن الإطمئنان إليه، إلا إذا تطابق مع حقائق الطب النفسي.تحدثت السنة عن بُرحاء،أي آلام الوحي،مثل ُبرحاء الحمى.قدمت لنا السنة والسيرة توصيفات شتى لبرحاء الوحي، فسأنتقي منها واحدة:"لما نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله(...) فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة(...)"،دعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً(...)فقال له أكتب وخلف النبي ابن أم مكتوم:قال يا رسول الله إني ضرير فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر(...)قال زيد:كنت إلى جنب رسول الله فغشيته السكينة [الغاشية هي ما أفقد الحس والحركة(المنجد)]،فوقعت فخذ رسول الله(ص)على فخذي،فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله،ثم سُرّي عنه[=أفاق من غشيته]فقال اكتب:غير ذوي الضرر(...)" (انظر السيوطي "الدر المنثور في التفسير المأثور" النساء 95).
بُرحاء الوحي المحمدي كما وصفها زيد بدقة هي الـ "كاتالابسي" كما يشخصها الطب النفسي ويعرفها معجم روبير:"توقف كامل للحركة الإرادية للعضلات في حالتي الفُصام والتنويم المغناطيسي". الكاتالابسي هي ما عاينه الباحثون الذين درسوا أنبياء ساحل العاج في السنوات 1970، مثلاً، أحد الأنبياء كان يتحدث بإيجابية عن إنجازات الرئيس هفوات بوانيي:"ثم فجأة سقط في الكاتالابسي". (15).
تطابق برحاء الوحي مع الكاتالابسي، في الطب النفسي، تصحيح مزدوج لوهم المؤمنين،الذين يعتقدون بأن الوحي أتى من خارج النبي،من الله والحال أنه أتى من الدماغ، تحديداً من فص الصدغ الأيمن،وتصحيح أيضاً للذين، قالوا إن محمد مجرد مفتري، يختلق أي كلام ويسمّيه وحياً،والحال أن هذيانات وهلاوس الوحي قهرية لا حيلة له فيها. ومن هؤلاء المعري القائل:
ولا تحسب مقال الرُّسل حقاً / ولكن قول زُور سطّروه وكان الناس في عيش رغيد / فجاؤوا بالمحال فكدّروه ومازال الملحدون، أو الشكّاك المعاصرون، غير المستنيرين بحقائق علوم النفس، يعاملون الأنبياء بما هم كذبة، لا بما هم مهلوسون ُهذاة.
أنبياء ساحل العاج وأفريقيا:
يقدم انبياء ساحل العاج لوحة نفسية لا تكاد تختلف عن أنبياء الشرق الأوسط القديم،أو أنبياء إسرائيل أو نبي الإسلام،أو عن تشخيص النفساني شارل بريسى.
أنبياء ونبيات ساحل العاج يحبون بلادهم.وفي فترة الاستعمار، تبنوا شعار الحركة الوطنية:"ساحل العاج للعاجيين".لكن رسالتهم ليست محلية،باستثناء نبي واحد حصر رسالته في قبيلته.أما الآخرون فرسالتهم كونية لـ:"الأسود والأبيض"؛وكنيستهم،ككنيسة الرسول بولص،هي"كنيسة جميع الأمم".
هذيان النبوة قوى عندهم جميعاً.غداة الإستقلال، حقق ساحل العاج "معجزة"تنموية.لكن المعجزة سرعان ما تبخرت،بسبب تحكيم الإرادوية السياسية في المسارات الاقتصادية الموضوعية،وعدم صنع القرار الإقتصادي بالعلم.لكن الأنبياء أعادوا السبب إلى"اعتناق ساحل العاج لدين الشيطان"،الذي عاث فيه فساداً، فنشر الزنا واللواط والرشوة...إلخ.ولن تعود لساحل العاج معجزته،حسب نبؤتهم، إلا إذا عاد مجدداً واعتنق "دين الله"،أي"الدولة المسيحية التي تجمع بين الدين والسياسة".
رسالاتهم، كرسالات أسلافهم الأنبياء، مسكونة بالتشابه والتناقض:يدعون جميعاً إلى المصالحة الوطنية كخلاص من النزاعات الطائفية.لكن كيف تقوم للمصالحة الوطنية قائمة،بين المسيحيين والمسلمين والإحيائيين[= عبدة الشجر والحجر مثلاً] في ظل" الدولة المسيحية"،التي لا يرون خلاصاً لساحل العاج، من دين الشيطان إلا بها؟.
وحده الرئيس هوفوات، الذي يعتبرونه نبياً مثلهم،أسس دولة علمانية لجميع مواطنيها دون استثناء. واليوم أيضاً استطاع أول رئيس مسلم علماني،الحسن وطارا،لهذا البلد الذي مر بحرب أهلية،ان يساعده على إسترداد عافيته بعد عامين من رئاسته،وأن يشرع في تنفيذ مشروع مجتمعي طموح ومدروس يضاعف الدخل القومي خلال عقد ويخفض الزيادة السكانية في الوقت نفسه إلى أدنى المستويات الممكنة. تحقق هذا الإنجاز التاريخي، 8.5% نمو اقتصادي سنوي منذ سنتين، بفضل قيادة جماعية قديرة،ُكفأة وعلمانية؛نجحت في تحقيق مصالحة وطنية شاملة وفورية بين جميع نخب البلاد المسيحية،الإسلامية والوثنية.فغدا بذلك ساحل العاج الجديد قدوة حسنة لشرق إفريقيا وغربها وجنوبها وشمالها. آخر نبي من أنبياء ساحل العاج مات سنة 2009.
سأقدم هنا مقتطفات من كتاب الإخصائي الفرنسي في الإنثروبولوجيا، ج.ب.دوزون (ج.ب.دوزون في كتابه"قضية الأنبياء:سياسة ودين في إفريقيا المعاصرة").
"لا وجود للظاهرة النبوية من دون أفراد أقوياء، ومن دون شخصيات خارجة عن المألوف،تمتلك في وقت واحد القدرة على التخيّل،وعلى الخطابة وعلى التصرف، والذين غالباً ما يكوّنون جماعة دينية (...)ويجمعون حولهم كوكبة كاملة من الحواريين والأصحاب(...) لتهيئة أماكن عبادة،لفرض احترام الضوابط والشعائر(...)قياساً على تحليلات ماكس فيبير لشخصية النبي، فإن الظاهرة النبوية في ساحل العاج، وبشكل أوسع،في إفريقيا،لا تقدم شيئاً جديداً عن تحاليل ماكس فيبير لشخصية النبي"(16)عبر التاريخ.
لماذا لا يختلف أنبياء ساحل العاج وأنبياء أمريكا اللاتينية المعاصرون عن شخصية النبي في آشور، أو النبي في إسرائيل أو نبي الإسلام؟ لأن "هذيان التأثير، أي هذيان النبوة" كما يشخصه، الطب النفسي، هو واحد عند جميع الأنبياء: الهلاوس كميكانزمات والهذيان كعرض.
كيف يدخل أنبياء ساحل العاج وافريقيا إلى "حلقة الأنبياء"؟ يجيب دوزون: "فقط عندما يقول النبي (...) أنه عرف حدثاً أو أحداثاً طارئة وحاسمة في حياته، لحظات وحي مرادفة للجنون" (17): "عندئذ يحق له أن يمتلك لقب نبي يتمتع بسلطة خارج المألوف(...)مثلاً النبي كوكا هنبا، أو كودو (...)عند كوكا هبنا(...)كل شيء، بما في ذلك ولادته على صندوق قمامة،ومع كودو،الحدث الحاسم حصل عندما كان مراهقاً،فتملكته روح أخيه الأكبر المتوفى"(...):"وكلهم،خاصة إذا تكاثر مستمعوهم، مقتنعون بأن نبوتهم يقين لا شك فيه،ولكنهم يملكون قدرة فائقة على الإيحاء والإيحاء الذاتي، والمؤشرات التي يقدمونها قابلة لأوسع التآويل"(نفس المصدر ص ص 191،192).كما في الكتاب المقدس أو القرآن أو مصاحف الفيدا الهندوسية الأربعة ...إلخ(18)،النصوص الدينية العالمية قابلة جميعاً"لأوسع التآويل"، لإفتقادها للوحدة العضوية الداخلية،كما يقول المحلل النفساني الفرنسي دانيال سيبوني،لإفتقادها للتماسك المنطقي،لأنها صادرة عن أنبياء ذوي شخصية نفسية غالباً مفككة ووعي غالباً متفسخ.
:"أنبياء إفريقيا وساحل العاج،كما يقول كتاب"قضية الأنبياء"،معظمهم من أصول اجتماعية متواضعة، ولم يُحظوا بتكوين ثقافي عميق إلا نادراً، وفي أحيان كثيرة لم يُحظوا بأي تكوين.لكنهم خطباء مقنعون (...)جبريل أيضاً لم يغب عنهم،النبي"هاريس"،قال أن الملاك جبريل زاره خلال سجنه ومحنته في مونورفيا ونصّبه في السجن نبياً".(19).
"أنبياء الشرق الأوسط القديم،وأنبياء إسرائيل الكبار،كانوا يُساقون إلى النبوة بقوة خفية،بنداء داخلي" (20).بالمثل،كانت هذه هي حالة نبي الإسلام،الذي ظنّ بنفسه الجنون عند أول هلوسة عبرت عن نفسها في زيارة جبريل له؛كذلك أنبياء ساحل العاج وإفريقيا، يؤكدون بأنهم قاوموا طويلاً نداءات الرؤى الإلهية ولم يستسلموا إلا بعد نداء رباني صارم"(21).فرضها عليهم فرضاً.وهذه أيضاً حالة نبي الإسلام، الذي كان يضيق صدره بالقرآن،القرآن الذي فرضه عليه "هذيان التأثير" غصباً عنه:"إن الذي فرض عليك القرآن(...)"(85 القصص).
السيرة والسنة، يخبراننا بأن محمد ظهرت عليه ملامح النبوة قبل إعلان نبوته، وكذلك يخبرنا أنبياء ساحل العاج وإفريقيا:"أنهم رأوا مقدمات النبوة قبل أن يصبحوا أنبياء"(22). فماذا يعني ذلك؟ أن الله دخل في رأس النبي، وامتلك فكره، وغدا يوجهه حسب مشيئته.لذلك كان يقول الآشوريون عن النبي:"امتلكته الآلهة"،هذا الإمتلاك،يسميه الطب النفسي:"أفكار التأثير"، أو:"هذيان التأثير"أو"هذيان النبوة"،الصادرة جميعاً عن الدماغ البشري.
وكنبي الإسلام،اتهمهم مواطنوهم بـ "السحر"و بـ"الجنون"،لحظة قطيعتهم مع ماضيهم"الجاهلي"؛ وبدأت نبوتهم:"بمشهد وحي تتنزل عليهم فيه الآيات".(23).وكالأنبياء السابقين يعلنون:عودة الأسلاف،عودة الأموات الوشيكة من قبورهم"،وفي الوقت ذاته حدوث فترة فوضى [=جهنم؟] تسبق رحيل البيض وظهور عهد"الرخاء" [=الجنة؟]"(24).
أنبياء أمريكا اللاتينية أنبياء أمريكا اللاتينية، سواء من اصول أوربية أو أصول هندية،لايختلفون عن أنبياء ساحل العاج، وطبعاً عن أسلافهم الأنبياء على مر العصور:منذ أنبياء بابل في القرن 18 ق.م. إليهم هم أنفسهم،مروراً بالباقين.
يتضح من العرض الثري،الذي قدمه عنهم كتاب جماعي،تحت اشراف أندريا فوشيز(25):"الأنبياء والنبوة". المناطق والطبقات الاجتماعية،التي تزدهر فيها النبوة في أمريكا اللاتينية،تشبه المناطق والطبقات التي تنتشر فيها حركات أقصى اليمن الإسلامي في أرض الإسلام؛هي المناطق والطبقات الفصامية،أي المفصومة والمشطورة إلى شطرين:الغنى الفاحش في شطر، والفقر الفاحش في الشطر الآخر،السلطة والثروة والتعليم والحداثة وتحديد النسل، في شطر،والبؤس المادي والأمية والجهل والتخلف والقدامة والإنفجار السكاني، في الشطر الآخر؛الحداثة والعلمانية في شطر، والعصور الوسطى وموكب خرافاتها الدينية في الشطر الأخر.،كما يقول الكتاب كخلاصة لأبحاثه.
"أنبياء البرازيل،كما برهن على ذلك الباحث قيروز،ليسوا محررين لشعب مقهور،بل معيدون للنظام الاجتماعي التقليدي،الذي شوشه انتشار الحداثة الاقتصادية والسياسية.نعثر أيضاً على هذه الخاصية في حركتين أخريتين نبويتين في المكسيك والبيرو(...)وُلدتا تحت تأثير الانفجار الديمغرافي".(26).أليس هذا ما يجري أمام عيوننا في مصر وتونس؟.
أنبياء أمريكا اللاتينية هم أيضاً،كالغالبية الساحقة من أنبياء ساحل العاج وافريقيا،من أصل متواضع: "كنيسة مملكة الله، أسسها في 1997 في ريودوجانيرو، النبي ايديرمايدو،وهو موظف صغير في اليانصيب؛أصبح اليوم الرئيس الروحي لمنظمة متعددة الجنسيات تضم حوالي 3 ملايين عضو"(27).
كالعادة،الحكومات والمؤسسات التي لا تصنع قرارها بالعلم لا تنتبه لحركة التاريخ، التي تدور أمام ناظريها. وهذا ما حدث لمؤسسة الكنيسة الرسمية في أمريكا اللاتينية:"الكنيسة الكاثوليكية، أخذتها هذه المنافسة المفاجئة بغتة وهي لا تشعر".(28)."حسب البلدان،10 إلى 20 % من السكان انضموا لهؤلاء الأنبياء(...)المعتقدات الساذجة في المعجزة،المفرطة في الخرافي، وغير المسبوق وتحويل أحداث طبيعية إلى أحداث فوق طبيعية،تبيض وتفرخ جميعاً في المناطق والطبقات التقليدية،نعثر فيها على موضوعات أخروية، مثل نهاية العالم وانتظار مملكة الله على الأرض [=الجنة] والمهدي المنتظر،وهي موضوعات خاصة بالحركات المهدوية في العالم الثالث".(29).
يبدو أن نبيين أبيضين أمريكيين شماليين،وليم ميلر و جوزيف سميث، لم يجدا عدداً كافياً يصدقهما من سكان أمريكا الشمالية الحديثة والعلمانية والغنية، فهاجرا إلى مناطق الهنود الحمر، في أمريكا الشمالية، حيث وجدا الجمهور الساذج الذي يبحثان عنه، فأصبحا نبيين معروفين ومعترفاً بهما وبلّغاه الرسالة، التي ينتظرها:"نهاية العالم اقتربت"(30).
واضح من هذا العرض المقتضب لنماذج من الأنبياء منذ 4 آلاف عام إلى اليوم،أن الأنبياء جميعاً يكابدون هذيان النبوة،أي هذيان التأثير الصوفي،الذي ُيخيّل للهاذي الديني أن قوة،غالباً إلاهية،قد تسللت إلى دماغه، لتوجه سلوكه وفكره باستقلال عن إرادته.لم يعد يتصرف في نفسه،بل اصبح الله هو الذي يتصرف فيه،وفضلاً عن ذلك ليس فيه هو وحده بل في الجميع:"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين"(29،التكوير).هذيان التأثير أعم من هذيان النبوة،ويمكن أن يتجلى في حالات بسيكو باثولوجية،نفسية مرضية،مختلفة،سواء على نحو متقطع أو مزمن.موضوعات الهذيان،في هذيان النبوة، دينية وخاصة هذيان نهاية العالم.
حركات أقصى اليمين الإسلامي هي،في العمق،حركات نبوية.معظم زعمائها ـ أنبيائها مهلوسين هاذين؛ويؤمنون بصدق هذيانهم،شعاراتهم ووعودهم الدنيوية والأخروية خيالية،ومع ذلك يجد هؤلاء الأنبياء جموعاً ساذجة تصدقهم ولو إلى حين:كثيرون جداً من الذين صوتوا، في انتخابات ما بعد "الربيع العربي"،لأقصى اليمين الإسلامي في تونس ومصر،فعلوا ذلك غالباً بتوجيه من أئمة المساجد للحصول على بسبور لدخول الجنة!.
التنمية الاقتصادية، والتوعية الثقافية ونزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، وإصلاح التعليم، صناعة القرار وأخيراً إصلاح الإسلام هن المدخل إلى الحداثة والعلمانية، لوضع نهاية للطبعة الأخيرة من الأنبياء"مرشدي" أقصى اليمين الإسلامي. "والحداثة والعلمانية هما ترياق النبوة" كما يلاحظ مؤلفو الكتاب.
مراجع الفصل الثاني
1 ـ تاريخ الأفكار الدينية ج.1 ص 322. 2 ـ الكتاب المقدس ص 1550 دار الشروق ـ بيروت. 3 ـ روبير أشارد،في موسوعة يونوفيرساليس،في مادة أنبياء إسرائيل. 4 ـ فرنسوا جوأناس،استاذ التاريخ القديم في جامعة باريس 1، في كتاب من هو النبي؟ ص 25 ،في الفصلية لوموند دو لابيبيل. 5 ـ جون لوك بوتييه،في كتاب من هو النبي؟ص 20 ، لوموند دو لابيبل. 6 ـ نفس المصدر ص 32. 7 ـ نفس المصدر والصفحة. 8ـ جون بوتييه،نفس المصدر ص 20 . 9 ـ نفس المصدر والصفحة . 10 ـ نفس المصدر ص 7 . 11 ـ النبي امتصه الحكيم، ه.كوزيس من هو النبي ص 19 . 12 ـ نفس المصدر ص 20 . 13 ـالأونيريزم نشاط ذهني، يشبه الحلم،لكنه يحدث خارج النوم؛قوامه رؤى،وغالباً يحدث بعد حادث صرع مثلاً. 14 ـ شارل بريسى،فيزاج دو لابسيكيترى ص ص من 88 إلى 94 . 15 ـ لو نوفيل اوبسرفاتير، 7.2.2013 . 16 ـ د.مارجير،أستاذ العهد الجديد جامعة لوزان نفس المصدر ص 27 . 17 ـ ب. دوزون،في كتابه،قضية الأنبياء،السياسة والدين في افريقيا المعاصرة ص 12،دار سوي 1995. 18 ـ المرجع السابق ص 191 . 18 ـ نفس المصدر ص 191 . 20 ـ بالمناسبة قرأت في مقدمة لإحدى الطبعات الفرنسية، لمصاحف الفيدا البرهمية المقدسة، استشهاداً بـ 3 آيات قرآنية، لإثبات أن القرآن هو أيضاً يعترف بتناسخ الأرواح التي تقول بها الهندوسية:"(...)وكنتم امواتاً فأحياكم، ثم يميتكم،ثم يحييكم(...)(28 البقرة). 21 ـ نفس المصدر ص 194 . 22ـ يونفرساليس مصدر سابق . 23 ـ كتاب قضية الأنبياء ص 195 . 24 ـ نفس المصدر نفس الصفحة . 25 ـ نفس المصدر ص 197 . 26 ـ نفس المصدر والصفحة . 27 ـ اندرية فوشير ،الأنبياء والنبوة، 475 صفحة،دار سوي، 2000 باريس. 28 ـ نفس المصدر ص 404 . 29ـ نفس المصدر ص 108 . 30 ـ نفس المصدر والصفحة . 31 ـ نفس المصدر ص 409 . 32 ـ نفس المصدر ص 424 .
الفصل الثالث
ما الهذيان؟
"الهذيان هو تشويه ذاتي للواقع، مترافق مع قناعة الهاذي العميقة به. الهذيان هو خطأ غير قابل للتصحيح، هو إحساس أو حكم أو عاطفة جميعهن مغلوط، لكن الهاذي لا يستطيع أن يجعلهن موضع تساؤل وشك، ويتمسك بهن بقوة كبديل عن الواقع الخارجي". (ميشل هانوس، طب نفس الطالب، ص 73).
********* الهذيانات السريرية هن: هذيان الحدس،هذيان المخيلة،هذيان العظمة،هذيان الغيرة،هذيان التأويل وهذيان الهلاوس.شخصنا باقي الأعراض المذكورة في هذا البحث،بما هي هذيان،لتعارضها الصارخ مع الواقع.مثلاً،نسيان نبي الإسلام،قريب من هذيان الذاكرة؛والأعراض الاكتئابية والفصامية الدينية، لا تختلف عن الوهم بما هو تصور مشوه للواقع.نعرف أن فرويد أعطى لكتابه عن الدين عنوان:"مستقبل وهْم".
نلتقي بالهذيان في كثير من الذهانات، مثل الإكتئاب الهاذي، تفاقم الذهان المزمن، البرانويا،الذهان الهلوسي المزمن وهذيان العظمة والهذيانات الفصامية.
اهتمام البسيكوباثولوجيا المركزي اليوم، متمحور حول الذهان والهذيان. الهذيان هو مجرد عرض لمرض، لبعض الذهانات، اللواتي أفقدن الذهاني توازنه. الهذيان إذن ليس هو سبب الذهان، بل هو عرَض هام لإختلال توازن الشخصية النفسية ومحاولة من الذهاني لإعادة ربط علاقة مشوهة مع الواقع.
الذهاني يستثمر كل طاقته الوجدانية في واقعه النفسي، أي في قناعاته ومعتقداته الذاتية، التي تستأثر بكل اهتمامه، بدل الواقع الخارجي الذي لا يعود يعني بالنسبة له شيئاً. الهذيان هو انتصار الذاتي على الموضوعي، والهذيان على البرهان والخرافة على الحقيقة: الهاذي يصدق هذيانه ويكذب الواقع: معزة ولو طارت. وهكذا فكل حوار معه، في موضوع هذيانه هو حوار طرشان؛ أما خارج موضوع هذياناته فهو غالباً كالآخرين.
عنصران أساسيان في الهذيان: تشويه الواقع واللّاهتمام بالواقع الخارجي، لأن الواقع النفسي الداخلي احتل محله. تشويه مدلول الواقع الخارجي هو الإضطراب المبكر، الذي يصيب الحياة العقلية، والذي يشكل قلب البنية الذهانية. في الحالة السوية، يعي الإنسان الفرق بين واقعه النفسي والواقع الخارجي. لكن في الحالات الذهانية، يتلاشى الفارق بين الواقعين، النفسي الداخلي، والموضوعي الخارجي، بين الرغبة والحقيقة.
الذهانات بعضها غير فصامي، أي لا تنفصم ولا تنقسم فيها الشخصية النفسية إلى شطرين، سليم وسقيم، كما في معظم الذهانات وبعضها الآخر فصامي، انقسامي، أي تنقسم فيه الشخصية النفسية إلى شطرين:سقيم وسليم.
التمييز بين الذهانات ضروري، عندما يكون المطلوب هو تحديد نمط العلاج، لكنه ثانوي عندما يكون المطلوب هو تحديد الأعراض، والآثار الدينية والسلوكية التي سببتها. وهذا هو همنا الأساسي في حالة نبي الإسلام.
لنوضح الآن مدلول الهذيان الفصامي، الذي هو،إلى جانب الهذيانات الأخرى الإكتئابية وغيرها، ملحوظ في القرآن.
الهذيان هذيانات وكذلك الفصام فصامات؛الأشكال الشائعة منها هي مجموعة الفصامات الهبفرني (بكسر الهاء والباء)، التي عُممت على أشكال الفصامات الأخرى العديدة،اللواتي يبقى معها الشطر السليم من الدماغ متحكماً إلى حد كبير في مجرى الفكر.وقلما يطغى فيها الشطر السقيم على الشطر السليم في مجالات مهنية عديدة:"الفصامي له حياة فكرية ثرية،الطبيب النفسي بلُرر عرف كيف يلحظ خلف الفوضى النفسية ـ السلوكية، وجود حياة فكرية وعاطفية غنية.الفصامي قادر على الإحساس، والتفكير والحب"(1).
وحتى في أشكال الفصام الهبفرنيك،لا ضرورة لاجتماع جميع أعراض هذا الفصام،بل يكفي عرض واحد منها لتشخيص المرض.المغزى:أن الفصامي الهبفرنيك يمكن ان يحتفظ بشطره السليم في حالة اشتغال،في موضوعات عدة.مثلاً،الشاعر التونسي الصديق ،منور صمادح،كان بعد ان أصبح فصامه سريرياً،يمشي في الشوارع متحدثاً مع نفسه وأحياناً مشوراً بيديه.عندما أحييه يرد التحية برسم ابتسامة.لكن اخاه القاضي أخبرني بأنه في أول كل شهر يذهب إلى مستأجريه لتحصيل الإيجار.
"معاينة تدهور الفكر شائعة في مجموعة أشكال الفصام الهبفرنيك.أما معدلات الذكاء في أشكال الفصام السريري الأخرى فتبقى سليمة".(2).
أشكال الفصام الهبفرنيك تتميز بظهور حالات متتالية أو متناوبة،من الحالة الإكتئابية أو النرجسية أو الإلتياث الذهني"كونفوزيونيزم"،أي الفوضى الذهنية،أو اللخبطة،تظهر بعد سن البلوغ(12 عاماً) وسرعان ما تتطور إلى ضعف نفسي وفقر ذهني يمكن أن يصل إلى الغباء الكامل.وهذا لا يحصل في أشكال الفصام الأخرى.
"ينبغي أيضاً أن نعلم بأنه،حتى ولو كان الفصام مرضاً معيقاً،ألماً فظيعاً،فمن الممكن في بعض الحالات أن يكون منقذاً.مثلاً لقد أقيم البرهان على أن المرضى الفصاميين يحققون،في مهام التدليل المنطقي الصعبة،تفوقاً عالياً جداً بالقياس إلينا نحن،وينجحون بفضل مرضهم في معاجلة المعلومة من خلال سياقها. يبدو أن ذلك يسمح لهم بقدرة كبيرة على التجريد.نعرف المثل الشهير لأحد الفصاميين، جون ناش،رياضي استثنائي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 1994"(3).
على أن مصطلح الفصام مرن يغطي حقولاً باثولوجية عدة؛يؤكد المحلل النفساني، وأستاذ الأمراض النفسية في جامعة رين الفرنسية مالفال:"في نظر بلُرر،مفهوم الشيزوفرينيا يغطي بعض أشكال البارانويا، وبعض أشكال الهيستيريا مروراُ بعصابات وسواسية،وانحرافات نفسانية وحالات اهتياجية ـ إكتئابية.حتى أن بلرر يقول بأن الأعراض العصابية يمكن أن تشتمل على فصام حميد".(4).
ويقول بلرر نفسه: "في الفصام الواضح،أي عندما تتواجد أجزاء الشخصية مُنضّدة،الجزء بجانب الجزء، بينما يبقى اتجاهها جيداً في وسط المحيط(...)في الفصام، أي انشطار الشخصية النفسية إلى شطرين سقيم وسليم،يبقى الشطر السليم سليماً.وهو ما يسمح لنا بالتمييز بين الفصام وبين ازدواج الشخصية الهستيري.في هذا الأخير،الإنشطار يكون قوياً بحيث يصبح وعي المريض،أثناء عوارض الهذيان،تحت التحكم الكامل للجزء السقيم من الشخصية النفسية(...)بينما يحتفظ الفصامي،مع هذيانه،بنوع من الجزء السليم من الأنا"(5).
معظم من كتبوا عن الفصام، أكدوا مراراً بأن الذكاء يبقى سليماً:"تقنيات التصوير الحديث مثل اسكانير والتصوير بالرنين المغناطيسي(...)تؤكد وجود تشوهات دماغية بنيوية أو وظيفية.هذه التشوهات مسؤولة عن اضطراب معالجة الدماغ للمعلومة،وعن العته المعرفي،الذي،وهذا أمر لابد من تدقيقه، لا يصيب الذكاء ولا القدرات الإبداعية،لكنه يضعف بعض أنواع الذاكرة،ويضعف كذلك القدرات الانفعالية، والوجدانية،والقدرة على التكيف مع السياق العام،مثل صعوبة قراءة حساب لما يفكر فيه الآخر وما يشعر به الآخر،هي أيضاً إحدى التشويهات الدماغية التي من شأنها أن تنطوي على أعراض فصامية شتى مثل الهذيان."(6).
قلنا أعلاه أن عرضاً واحداً من اعراض الفصام الهبرفنيك كافية لتشخيص المرض.مثل الخروج عارياً أمام الناس؛أو الفكر السحري، الذي يلغي قوانين الطبيعة وقوانين العقل؛أو اضطرابات الذاكرة، مثل النسيان عند نبي الإسلام،أو ابتكار كلمات جديدة لا معنى لها.كهيعيص مثلاً...إلخ،كما سنرى ذلك تفصيلاً.
ينبغي أيضاً التأكيد على الحقيقة الطبية النفسية القائلة، بأن الهذيانات قد تتبادل الأدوار فتنتقل من هذيان إلى آخر.مثل تبادل الأدوار بين الهذيانات الاكتئابية والهذيانات الفصامية مثلاً:"ليست الموضوعات هي التي تحدد أنواع الهذيانات البارنواياك،التي يمكن أيضاً العثور عليها في الذهانات الهلوسية المزمنة، مثلما قد نعثر عليها في الفصامات،ويمكن،استثنائياً،أن نرى هذه الميكانيزمات تتعايش في حضن نفس اللوحة السريرية.في حالة العكس، يمكن أن نفكر في إمكانية الانتقال من هذيان إلى هذيان آخر:مثلاً البارنويا قريبة من الشكيزوفرينيا أو الفصام"كما يقول أحد الأطباء النفسانين.
مقومان أساسيان للهذيان:مِيكانيزماته وموضوعاته.مكانيزمات الهذيان هي العملية، التي ينبني بها الهذيان وينتظم ويأخذ شكله؛بمعنى آخر،المكانيزم هو الأداة التي تجسد الهذيان.مثل الحدس، المخيلة، العظمة، الغيرة ،التأويل والهلاوس...للإقتصار على بعض المكانيزمات التي لها علاقة بموضوع البحث.سواء في القرآن أو في سيرة نبي الإسلام.
موضوعات الهذيان،أي مضامينه،متعددة:الاضطهاد، توهم الهاذي أنه ُمطارد من مضطهِد وهمي له؛ نهاية العالم،أي إسقاط شعور الهاذي الخاص بأن نهايته قد اقتربت،على نهاية العالم والبشرية انتقاماً من الله منهما،هذيان العظمة.مثلاً:"أنا نبي أو أنا الله"؛الهلاوس السمعية والبصرية وغيرها؛ والتأثير، اعتقاد المريض بأنه مسيّر لا مخيّر من خارجه في كل ما يقوله او يفعله.سواء أكان فاعل التسيير الله أو الشيطان.
بنية الهذيان، البنية هي مصطلح معماري. يعني الشكل الذي يقع به تنسيق وتنضيد وترتيب الأشياء الواحد بجنب الآخر ليعطيها شكلها وتماسكها، كما في المعمار.
بنية الهذيان، هي إذن الشكل الذي يعبر به الهذيان عن نفسه، في الخطاب الهاذي. الخطاب الهاذي نوعان: الأول يكون فيه الخطاب متسقاً، منظماً، مفهوماً.المنطق الذي يستخدمه المريض متماسك، وقادر على اجتذاب الآخر إليه.موضوع الخطاب هو غالباً واحد وحيد،و في حالة تعايش موضوعات عدة، يكون تسلسلهن منطقياً مثلاً:لأني عبقري لذلك أنا مضطَهد(...)هذا الهذيان المُنسق موجه إلى هدف واحد،يخص الحياة المهنية،أو الإجتماعية،أو في هذيان البارانويا وهذيان المطالبة بحق وهمي، أو يخص الحياة العاطفية كالغيرة مثلاً(...).أما النوع الثاني، فيكون فيه الخطاب الهاذي غير متسق،غير منظم،غير مرتب وغير مفهوم،بسبب تعدد موضوعاته،أي تعدد أشكال موضوعات الهذيان وميكانيزماته، المتعايشة والمتزامنة مع بعضها بعضاً، وغياب التسلسل المنطقي بينها.عندئذ يكون الهذيان غير متماسك،غير منطقي،ضبابياً وغير مترابط: "الهذيان البارانواييد،أي الفصامي،هو مثله الجيد.(...) هذيان المهتاج وهذيان المكتئب قلما يكونان متسقين".(7 ).
القرآن بما هو هذيان،يندرج في هذا النوع الثاني من الهذيان،غير المتسق وغير المنطقي والمتعدد الموضوعات الهاذية.من الـ 114 سورة،التي يضمها المصحف الحالي، لا توجد إلا سورتان،يوسف ونوح، ذات موضوع هاذي واحد.ربما لأنهما مترجمتان عن الكتاب المقدس العبري.نوح ترجمة عبرية،في سفر التكوين،لمقطع من ملحمة جلجامش الشعرية الشهيرة. أما الـ 112 سورة الباقية فغالبيتهنّ هذيان غير متسق، غير مترابط، غير منظم وغير منطقي؛ومتعدد الأشكال، لا ترابط بين موضوعاته. لأن موضوعاته وآياته تولدت، تحت ضغط الهذيان والهلاوس، بالتداعي الحر للكلمات الموقّعة، والمسجوعة، والأفكار ،والخواطر والفانتزمات الهاذية؛حتى لتبدو غالبية السور مؤلفة من شِقف وشظايا لا علاقة منطقية بينها.
معنى هذا أن من 6236 آية، التي تشتمل عليها نسخة المصحف الحالية، بعد حرق عثمان للنسخ الأخرى،لا توجد إلا 138 آية (=آيات يوسف ونوح)في شكل هذيان منتظم. أما الباقي، 6198 آية، فمعظمه هذيان اكتئابي وفصامي. ينطبق عليه إلى حد كبير قول السيوطي في"الإتقان في علوم القرآن":"وقيل متشابه كله"،أي غير مفهوم كله.بالرغم من أن السيوطي استثنى من الآيات المتشابهات آيات الأحكام،أي أقل من 400 آية.
كل قراءة علمية للقرآن،مطالبة منذ اليوم،بأن تقرأ حساباً لبنيته العميقة بما هو هذيان غير منظم:لا يوجد أي رابط سردي أو منطقي بين سورة وسورة،ولا أي رابط سردي أو منطقي بين الآيات أو مجموعة الآيات يربط بعضها ببعض!.
هذيان الحدس
الحدس عملية نفسية،تجعل الفكر يتعرّف على موضوعه مباشرة، أي يكتشف معرفة جديدة، من دون المرور بالمقدمات المنهجية الضرورية عادة لذلك،مثل التجربة والإستنتاج. ولا يستطيع الحادس تقديم برهان علمي عليها كما لا يستطيع غيره تفنيدها علمياً.والحدس شائع عند الشامبانزي والطفل. طفلاً،نجوت بفضل الحدس من لدغة أفعى قاتلة:كنت أحفر جحر يربوع لصيده،لما اقتربت من نهاية الجحر هممت كالعادة بمد يدي لإخراجه منه،ارتعدت فرائصي وارتعشت يدي،فضربت ضربة أخرى بالفأس فإذا الفأس قد قطع رأس أفعى،التي يبدو أنها كانت قد افترست صغار اليربوع ثم نامت . والحدس ملحوظ لدي العلماء؛عالم الرياضيات، بوان كارري،أكد:"لا رياضيات بلا حدس"؛أزمة 2008 لم يتوقعها إلا 4 اقتصاديون.توقعوها بحدسهم لا بالمعادلات الرياضية.الحدس أدخله تشومسكي في اللسانيات بما هو ميكانيزم معرفة حدسية للنحو، تجعل المتكلم بلغة مّا،يتكلمها بسليقته بلا أخطاء.وقد عبر عن هذا الحدس أعرابي: ولست بنحوي يلوك لسانه / ولكن سليقي أقول فأعرب
فمتى يتحول الحدس، رفيق أسلافنا البدائيين بالأمس ورفيق الشامبانزي والطفل والعالم اليوم، إلى هذيان؟ عندما يُصبح:"فكرة مغلوطة ولكنها مقبولة من دون تحقق من صحتها،ولا تقديم برهان منطقي عليها، خارج كل معطى موضوعي أو حسي يبررها،مثلاً:كيف عرفت أنك نبي أو مهدي منتظر؟أعرف ذلك، هي كِيدا "( سي كوم سا).(8 ).وهكذا فهذيان الحدس من أكثر الهذيانات الدينية انتشاراً!.
الإصرار على الحدس،حتى بعد البرهنة على خطئه، يميّز الحدس الهاذي من الحدس الصادق. "التصديق"الذي يعتبر الركن الركين للإيمان في الإسلام،إيمان العجائز الساذج طبعاً،هو نموذج الحدس الهاذي؛لأنه يقين أعمى،يتعامى عن الحقائق العلمية وشواهد الواقع،مكذباً الواقع ومصدقاً النص الحرفي.مثلاً،قل لمؤمن بـ"التصديق الأعمى"لا صحة لتأكيد القرآن لوجود 7 سماوات و7 أراضين؛وأن الشمس لا تغرب في عين حمئة،أي ماؤها ساخن، أو مخلوط بالطين الأسود، كما يقول المفسرون،في كوكبنا الصغير،الذي هو أصغر من الشمس بمليون و 300 ألف مرة ،خلافاً لآية الإسكندر ذو القرنين:"حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوماً قلنا: يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا"(86 الكهف)!. فسيكون حواركما حوار طرشان: سيبقى مصرّا، ضدّ الحقيقة العلمية، على وجود 7 سموات و7 أراضين، وعلى أن الشمس تغرب في عين حمئة أو حامية في الأرض تصديق النص وتكذيب الواقع ثابت عند ضحايا "إيمان التصديق" الساذج والهاذي
هذيان المخيلة
المخيلة التذكرية هي القدرة على تشكيل وتنشيط الصور الذهنية؛ سواء لإستعادة ذكريات أحداث قديمة وإعادة بنائها؛أو قدرة المخيلة الإبداعية على توقع الأحداث قبل وقوعها. وهي عادة ميزة الممارسة السياسية الرشيدة. مثلما هي أيضاً زاد كبار المبدعين في جميع المجالات الفنية والفكرية. ما كان للإبداع الأدبي والفني والفكري، وحتى العلمي، أن يوجد من دون هذه المخيلة. الأهرمات قبل أن تُبنى، لا شك أنها نضجت سنين في خيال المعماري، الذي بناها والذي عُثر مؤخراً على اسمه وقبره. فمتى تتحول المخيلة من سليمة إلى سقيمة،من مبدعة للثقافة إلى منتجة للهذيان؟ عندما تخلق عالماً خيالياً كبديل عنيد للعالم الواقعي؛عندما تستولي عليها الهذيانات.الغريبة وأحياناً الغرائبية،فانتاستيك.يُعرّف الطب النفسي خاصية هذيان المخيلة:"هذيان المخيلة يتميز بإنتاج روايات خرافية يلعب فيها المريض الدور المركزي.مثلاً:أنا ملكة الكواكب،إمبراطورية المجرات هي مملكتي، أعبر الفضاء بشراع ذهبي.( 9)".
المثل الأبرز لهذيان المخيلة، في القرآن، هي قصة الإسراء والمعراج. شراع النبي الذهبي، الذي عبر به الفضاء، هو البراق. السماوات الـ 7، اللواتي قطعهنّ 9 مرّات جيئة وذهابا، بين الله في الـ 7 وموسى في الـ 1، مفاوضا الله على تقليص الصلوات من 50 إلى 5، هنّ مملكته.
هذيان العظمة
يختلط هذيان المخيلة بهذيان العظمة. هذيان العظمة يجعل الهاذي، ينسب لنفسه قوة أو مواهب استثنائية لا يملكها: وهكذا يبدأ هذيان العظمة، من المبالغة في تقدير القدرات الجسدية والفكرية والجنسية، لتصل، في حالة الهذيان الديني، إلى ادعاء النبوة أو الألوهية. يقول الطبيب النفساني سوسان: "هذيان العظمة هو الانطباع لدى المرء أنه موعود بمصير عظيم: كأن يكون نبياً، أو مهدي منتظر أو صاحب ثروة عظيمة(...) يظهر هذيان العظمة (...) في حالات الإهتياج والبارانويا والباراافرينيا (...) وساندوم الجنون (...). غالباً ما تختلط موضوعات هذيان العظمة بموضوعات الإضطهاد: يكرهونني لأني عبقري"(10 ). موضوعات هذيان العظمة، عند نبي الإسلام، جنسيّة ودينيّة. جنسيّة: "أوتيتُ قوّة 40 رجلا" في النكاح، الذي سنشرح سببه في فقرة الهذيان الإهتياجي. دينية: فقد جعل محمد طاعة الله شرطا لطاعته هو: "وما كان لمؤمن أو مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن تكون لهم الخيرة من أرهم. ومن يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا" (56، الأحزاب)؛ وأنّ: "الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما" (37، الأحزاب). كما خصّص سورة كاملة لنفسه: "محمّد". إدّعاء النبوّة، هو كما أكدّ الطب النفسي في حدّ ذاته، تعبير عن هذيان العظمة.
هذيان الغيرة
هذيان الغيرة ملحوظ عند محمد. كان يخشى، رغم سكوت السيرة والسنة عن ذلك، خيانة زوجاته له. لكن القرآن كشف السر الذائع. لذلك حرم على أصحابه سؤالهن إلا من وراء حجاب، وحرم على نسائه الزواج بعد موته:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ؛ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا؛ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا، فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ. ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا. ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا." � الأحزاب﴾ ،مضمون الآية: أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي،إلا بعد أن يأذن لكم،ولا تنتظروا طبخ الطعام داخل بيته،فإذا دعيتم إليه فادخلوا.وبمجرد أن تأكلوا اخرجوا. ولا تتحدثوا مع نسائه.فذلك كان يؤذي الرسول.لكن الحياء يمنعه من قول ذلك لكم.لكن الله[=ضميره الأخلاقي]لا يستحي من قوله لكم.وإذا كنتم تريدون طلب حاجة من نسائه، فاسألوهن حاجتكم، لكن من وراء حجاب.فذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن.حرام عليكم ان تؤذوا الرسول،في نسائه،حياً أو ميتاً، بالزواج من زوجاته.مثل هذا الصنيع سيكون عند الله خطيئة كبرى.!
في أسباب نزولها،قيل أن يد أحد المدعوين لامست يد عائشة... وقيل في تحريم زواج زوجاته بعد موته:أن طلحة ابن عبيد الله قال:"إذا تُوفي رسول الله تزوجت عائشة"(ابن سعد الطبقات ج 8 ص 201) (11)وقيل أنه وجد ذات يوم طلحة، خارجاً من بيت عائشة،فأنبه النبي على الدخول عن عائشة في غيابه؛فرد عليه طلحة:"سأتزوج عائشة بعد موتك يا رسول الله".وهكذا دفعت غيرة نبي الإسلام الهاذية على نسائه إلى فرض الحجاب عليهن وعلى تحريم إمكانية"خيانتهن"له في حياته وحتى بعد مماته.
لكن ذلك لم يضع حداً لحب طلحة لعائشة.فقد تزوج،كما يقول ابن سعد،أختها،أم كلثوم،وسمى ابنته منها عائشة.وبعد موت النبي كان،كما يقول ابن سعد،يرسل لها غلة العام كل سنة. وأرادت هي تنصيبه خليفة بعد مقتل عثمان،الذي شاركت فيه بقوه؛ومن الممكن أنها خرجت لقتال علي بطلب من طلحة، في ما سُمي بحرب الجمل التي قتل فيها 15 ألف مسلم،وكان بينهم طلحة، الذي قتُل وهو واقف بجنب جمل عائشة ذوداً عنها:"(...) بلغني أن مروان بن الحكم رمى طلحة يوم الجمل وهو واقف إلى جنب عائشة بسهم فأصاب ساقه(...)فمات" .( ابن سعد الطبقات ج 8 ص 223).
غيرة نبي الإسلام، كانت تعبيراً هاذياً عن امتلاكه امتلاكاً مطلقاً، لأجساد زوجاته حتى بعد مماته! برهنت الدراسات النفسية الحديثة،أن أكثر من ثلث الذهانيين المصابين باضطرابات البارانويا،أو أحياناً باضطرابات الفصام،مصابون بجنون الغيرة، وأن نصفهم مصابون باضطرابات عصابية، والباقون مصابون باضطرابات عضوية أو كحولية؛ وقد أكد المؤرخ التونسي، محمد الطالبي، أن نبي الإسلام لم ينقطع عن الخمر. وقيل أن عائشة اتهمته بشرب الخمر مع مارية، التي كان يشتري لها الخمر بما هي مسيحية. وعملاً بسنته، أمر الفقهاء المسلم المتزوج من مسيحية أن يقدم لها الخمر والخنزير، ولكن يمنعها من تقديم ذلك لأبنائه التابعين له في الدين. يبدو من هذه الآية والآية 56 من سورة الأحزاب، أنّ الحياء، أي الإحجام خجلا عن إبداء فكرة أو إتّخاذ قرار، هو أحد طبائع نبيّ الإسلام. الحياء يظهر غالبا في كلّ ما يخصّ الجنس، كما هي في حالتي نبيّ الإسلام؛ في الأولى، استحى النبيّ من نهي مدعُوّيه عن الحديث مع زوجاته، الذي كان يؤذيه، أي يؤجّج غيرته عليهنّ؛ وفي المرة الثانية، كان الموضوع أيضا جنسيّا، إخفاء رغبته في تطليق زينب، من ابنه بالتبنّي، زيد، والتظاهر بانّه لا يريد تطليقها منه ولا الزواج منها بعد ذلك: "وإذ تقول [لزيد] امسك عليك زوجك (...) وتخفي [حياءً] ما الله مبديه"، أي رغبة محمّد العارمة في تطليقها وزواجه منها. للحياء تفسيرات عدّة، قد يكون ترجمة لشعور الحيّي بالعار لنفسه، إذا عبّر عمّا يشعر به حقّا، وقد يكون نتيجة الشعور بالدونيّة من عيب أخلاقي أو خِلقي. ومحمّد كان، كما نعرف من السيرة، معقّدا من مشيته الفصاميّة "كأنّما يمشي في صَبَب"، أي كأنّما ينحدر في منحدر، التي يعتبرها الطب النفسي عَرضا جسديّا للفصام. مهما يكن التفسير، فحياؤه واقعة لا شكّ فيها. عسى أن تُعمِّقها الدراسات النفسية القادمة لشخصيّة محمد النفسية.
هذيان التأويل
"ما في الكون كلام لا يُتأوّل"
ابن عربي
لغة المصطلحات العلمية، الحاملة عادة لمعنى واحد، معرّف بدقة، حتى لا يمتد من حقل معرفي إلى آخر، دقيقة. أما اللغة الدينية، فتغلب فيها الرموز والمجازات الحاملة لمعاني عدة. وأحياناً مجرد ألغاز غير قابلة للفهم،كما في القرآن، المليء بالمتشابهات والمتناقضات والقراءات (14 قراءة) المختلفة، والكلمات الجديدة، والتي غالباً لا معنى لها في سياق الآية.مثل" فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا "(24 مريم) المفسرون يقولون"سري"هو جدول،والحال أن مريم لم تلد جدولاً بل طفلاً اسمه عيسى؛وحسب الآية كلمها من تحتها،بمجرد خروجه من رحمها،ليطمئنها قائلاً لها بانها ولدت سرياً!.
النصوص الدينية لا يمكن قراءتها من دون اللجوء إلى التأويل، لفك رموزها ومجازاتها وهذياناتها وهلاوسها،التي قلما تفارقها.يوجد لذلك علم خاص، الهرمنو طيقا،أي علم تأويل النصوص الفلسفية والدينية؛تلجأ الهرمنوطيقا، لتأويل النص الديني مثلاً، إلى الشروط التاريخية،التي تم فيها انتاجه،أي إلى سياقاته الظرفية والزمنية،التي أسماها المفسرون"أسباب النزول".هذه العملية المعقدة ضرورية لإنتاج معنى مقبول للنص.
يتحول التأويل من سليم إلى سقيم،من بحث عن معنى للنص، متكيّف مع حاجات المتلقي.عندما يتسمّر في معنى متكيف فقط مع رغبات الهاذي الشخصية،المقطوعة جذرياً من الواقع، الذي تم تأويله بليّ عُنقه.
عندئذ يُصبح التأويل هذياناً،أي قناعات ذاتية متشنجة لا تقبل النقاش،واستنتاجاً مغلوطاً يعتقد الهاذي، صادقاً طبعاً،أنه الوحيد الصحيح،بالرغم من أنه قد تنجرّ عنه نتائج وخيمة، مثل قتل الهاذي للشخص الذي يتوهم أنه "يضطهده" أو" يخونه" في تأويل البارانويا. التأويل الهاذي ينطلق عادة من واقعة صحيحة ليستنتج منها نتائج مغلوطة مثلاً: "كيف عرفت أنك المهدي المنتظر؟ لأنه بالأمس أيضاً في الشارع، زمرت سيارة" (11). لا رابط منطقي بين المبرَهن به والمبرهن عليه. نلتقي بهذا التأويل الهاذي في البارانويا، في الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي وفي الفصام ...
مراجع الفصل الثالث 1 ـ عش وافهم الفصام ص 5 . 2 ـ طب نفس الراشد ص 259،مصدر سابق . 3 ـ أوليفييه هودي،المائة كلمة من السيكولوجيا، ص 108،دار بوف. 4 ـ بلرر، الجنونات الهستيرية والذهانات الفصامية،ص 290،دار بايو،باريس. 5 ـ بلرر:الجنون المبكر،ص 104. 6 ـ عش وافهم الاضطرابات الفصامية،ص 11،بالفرنسية،دار ايلبس،باريس 2004 . 7 ـ الطب النفسي،سوسان،ص 275 ،طبعة 2001 و 2002. 8 ـ سوسان،الطب النفسي 2001 ، 2002 ،ص 72 . 9 ـ الطب النفسي 2001 و 2002 ،ص 72. 10 ـ سوسان الطب النفسي 2001 2002 ، ص 274 . 11 ـ (سوسان ،الطب النفسي ص 272.
الفصل الرابع
ما هذيان الهلاوس؟
"الهلوسة: إدراك أو احساس بلا وجود موضوع يُدرك أو يُحس؛ حالات الهلاوس تشكل إحدى المناطق الأكثر أهمية للفكر السقيم" الطبيب النفسي ييي في كتابه "الهلاوس والهذيان" ص 167.
******* من بين جميع ميكانيزمات الهذيان، أي الآليات الحاملة له، الهلوسة هي أهمّهن جميعا، للوصول إلى فهم عقلاني لظواهر الخارج عن المألوف. مثل المعجزات وكلّ ما يخرق قوانين الطبيعة او قوانين العقل. عندما يعرف المرؤ أن هذه المعجزات والخوارق، هنّ موجودات فقط في عالم الهلاوس، في عالم الفكر السّقيم، في عالم الدماغ المعطوب، ولا وجود لهنّ في عالم الأعيان المحسوس والملموس. المهلوس لا يكذب، وهو ليس مُهلوِسا إلاّ لأنّه يعتقد، كلّ الإعتقاد، بأن هلاوسه حقيقة مطلقة، عاشها لحظة بلحظة، رأى صورتها بعينيه وسمع صوتها بأذنيه. وذلك هو مصدر عناده. عندما يقول نبيّ الإسلام، في سورة النجم، أنّه رأى جبريل بـ: "الأفق الأعلى، ثم دنا فتدنّى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى (7، 8، 9، 10، النجم)، فما رآه هو عنده حقيقة مطلقة: "ما كذّب الفؤاد ما رأى". وهو صادق تماما. لكنّه كما يقول التعريف الطبي النفسي للهلوسة: كانت رؤية لجبريل بلا جبريل يُرى، وكانت سماعا لصوته، من دون وجود صوت يُسمع. المثال التالي يوضح بما فيه الكفاية هلوسة نبيّ الإسلام: "زكريا لطفي إمام، 30 سنة، قتل والده بطلب من هاتف الجنّ. يقول أنّه كان يحب والده (...) وذات ليلة كان جالسا وحده، فسمع هاتف الجنّ يطلب منه قتل والده فارتاع. ذات ليلة قرّر أن ينام في حضن والده، كما كان يفعل ذلك وهو طفل، عسى أن يسمع والدُه صوت هاتف الجنّ الذي يأمره بقتله عسى أن يساعده على التخلص من صوت الهاتف: "ذهبت ذات مرة لأنام في حضن والدي (...) لكنّ الهاتف لم يتركني لعدّة أيام. وكنت أسأل والدي في كل مرّة هل تسمع أحد يتحدّث؟ فينفي. فألتزم الصمت وجاهدت نفسي لعلّ الهاتف يتركني وشأني، لكنّ الصوت ملأ مسامعي (...) فقمت بذبح والدي وفصل رأسه عن جسده". (القدس العربي، 30/31 مارس 2013). زكريا كان في حالة نبيّ الإسلام، يسمع صوت هاتف الجنّ، الذي لم يكن موجودا، لذلك لم يسمعه والده وهو في حضنه. لقد كان مثله ضحيّة هلوسة سمعيّة: "بما هي خطأ، يضفي كذبا على عمليّات نفسية ذاتيّة، حقيقة موضوعية". (نفس المصدر، 172). لو كان عند نبي الإسلام مصوِّرة أو مسجّلة، لما صوّرت جبريل أو سجّلت صوته. لأنّهما لا وجود موضوعي لهما. بالمثل، لو فتح زكريا مسجّلة، لما سجّلت صوت هاتف الجنّ. صورة جبريل وصوته وصوت هاتف الجنّ، لم يكن لهم وجود إلاّ في الواقع النفسي لنبيّ الإسلام وزكريا، هذا الواقع الذي تم اسقاطه خارج الذات بسبب تدمير الوعي. سيتأكّد القارئ من ذلك، عند الإطلاع خلال هذا العرض، على الحالات السريريّة لمهلوسين مرّوا بمستشفيات الأمراض العقلية. تفكيك ميكانيزم الهلوسة وفهمه، كفيل بتحرير العقل، في أرض الإسلام، من سيطرة الخرافي والإعجازي والخارق للمألوف، المُسترقَّة له حتّى اليوم. تقول موسوعة طبية نفسية: "الهلوسة أنواع: قد تكون احساسيّة، ذوقيّة وشمّية، سمعية، بصرية، وهما الأكثر أهمية وانتشاراً. الهلاوس البصرية نادرة عند المجانين، الذين تكثر لديهم، في المقابل، الهلاوس السمعية، النادرة عند سليمي العقول. الهلاوس السمعية، يمكن ان تكون بسيطة: ضجيج، أصوات غامضة، أزيز صائت متواصل. الأونيريزم، أو الحلم الهاذي، بين النوم واليقظة، يمثل الشكل الأكثر اكتمالا للهلوسة البصريّة.
(...) الغالب على الهاذي هو الشكوى من هلوسة الكلمات السمعية ـ اللفظية. المقصود هو أصوات تقلق عادة من يكابدون هذيان الإضطهاد. أصوات تُحدّث المريض في الأذن، خلف المهلوس، فوقه (...) في الجو (...)أحياناً أصوات غنائية (...) الإيقاع [= ريتم] متواتر جداً في الهلاوس السمعية المنغمة والمسجوعة؛ تكون الهلاوس أحياناً محادثات مباشرة مع المهلوس.
موضوع المحادثات: يمكن أن يكون ترهات، ألحاناً متكررة شعارات، كما يمكن أن يكون بالعكس خطاباً طويلاً في شكل حوار بين المهلوس وهلاوسه. غالباً ما يكون صدى للفكر والقراءة ونادراً ما يكون للكتابة (...) أو صدى للتعليق على المواقف، وأحياناً صعب الفهم أو غامضاً، أو في لغة غير معروفة، وقد يكون تقديم أخبار ومعلومات للمهلوس. الكلمات قد تكون شتائم أو مدائح أو نصائح. هذه المحادثات تقع في فترات نادرة،في بعض المواقف ليلاً أو نهاراً(...)ويمكن أحياناً أن يبحث عنها المريض بنفسه لتحقيق رغباته.
(...) الهلاوس النفسية، أو الهلاوس الزائفة هن هلاوس بلا صوت مسموع، وشوشات، همسات، مناجاة، إلهامات، أي حديث داخلي، مثل قلبي يحدثني. [الأحاديث القدسية هي من هذا النوع. جميع ما هو بين معكوفين هو من المؤلِّف]
مضمون الهلاوس النفسية اللفظية، لا يختلف عن مضمون الهلاوس السمعية. هن مثلهن مفهومات أحياناً ومتشابهات، أي مغلقات عن الفهم، أحياناً؛ أخبار هاذية.
(...) مجموع هذه الهلاوس السمعية، البصرية والنفسية تشكل الأساسي من ساندروم [= مجموع اعراض مرض] هذيان التأثير أي تسلل الأفكار [= من الله أو الشيطان] للإنسان من خارجه. هذيان التأثير متواتر في هذيانات مستحضري الأرواح، أو هذيانات المس أو الهذيانات الدينية. وقد تكون الهلوسة تلبية لرغبة مكبوتة (...).
الهلوسة ليست ميكانيزم الهذيان الوحيد، فالحدس والتأويل يلعبان فيها أيضاً دوراً كبيراً، فهي المرافق المألوف للهذيان،وحتى الغالب في هذيان الذهان الهلوسي المزمن.
الإشتراكات المتعددة للظواهر الهلوسية: "هذه الظواهر تظهر في أمراض ذهنية عديدة، من النوبة الهذيانية العابرة، إلى الذهان المزمن، ولا يمكن تفسيرها بسبب واحد. أسبابها عديدة: تدمير الوعي وانخفاض درجة اليقظة الذهنية، أي درجة النعاس، وهي اللحظة المناسبة للهلوسة وخاصة للحلم الهاذي [الذي يأتي كفلق الصبح]، هذه اللحظة يمكن أن تستدعي الهلاوس. بالمثل، قد تستدعيها رغبة مكبوتة، أو تسببها إصابة بنيوية عميقة للشخصية النفسية كما في الفصام، ويمكن أيضاً أن تتسبب فيها الخلوة الكاملة [في المغاور والجوامع].
قال طه حسين في الأيام: "وكنت أسمع صوتاً للصمت". فمن الثابت أن العزل المطلق للفرد، في الظلام، عن سماع أي صوت يستثير عنده الهلاوس (...) يبدو أن غياب الحافز الصوتي ينجر عنه انخفاض في اليقظة،ويفتر نشاط الدماغ فيثير نوعاً من النشاط العصبي المستقل والهلاوس. وقد عُثر في بعض أمراض الفصام على انخفاض النشاط الوظيفي الدماغي."(1).
ارتباط الهلاوس بالخلوة يفسر حالات المتصوفة،الذين يسكنون وحيدين في زواياهم،وحالات بعض المساجين المعزولين في زنزناتهم،فقد اعترف الصادق المهدي، عندما سجنه الترابي في زنزانة مغطاة بالصفيح في عز الصيف،أنه نجا بفضل الإلهامات الروحية أي الهلاوس الروحية؛كما تفسر حالات ظهور الأشباح في هدأة الليل أو القيلولة،خاصة إذا كان الفرد وحيداً ويعتقد في وجودها.
لنستعرض الآن عيّنات من هلاووس الأنبياء، وحالات سريرية تساعد القارئ على فهم أعمق لتأثير الهلوسة على المهلوس،إلى درجة لا تكاد تُصدق،ممن يجهلون قوة تأثير الهلاوس على الدماغ البشري.
كتب ماكس فبير، يصف هلاوس أنبياء إسرائيل: "يصفون هلاوس بصرية وسمعية،بل وأيضاً إحساسات مختلفة ذوقية شاذة[=الهلاوس الذوقية والشمية]يُخيل إلى النبي أنه يحلق في الجو(...)ويسمعون ضجيجاً وأصواتاً،وكلمات معزولة أو حوارات، غالباً كلمات وتوصيات موجهة إليهم.في هلوساتهم،يرون بروقاً(...)"(2).
أليست هذه هن الهلاوس التي شخصها الطب النفسي في المرضى الذهانيين المهلوسين المعاصرين؟
اشتكى أنبياء إسرائيل من آلام الهلاوس، أو من "بُرحاء الوحي" أي آلامه المبّرحة. وقد رأينا في فقرة "كيف نفهم أنبياء إسرائيل"أن النبي إرميا وصف برحاء الوحي وصفاً دقيقاً: "يهواه نار تأكل قلبي". إكتوى أنبياء إسرائيل، منذ حوالي 28 قرناً، بهذيانات الوحي وهلاوسه، من دون فهم مدلولهن، بما هن إحساس أو إدراك لما لا يُحس أو لا يُدرك. الهلوسة تختلف عن الوهم؛ الهلوسة إدراك لموجود غير موجود. أما الوهم فتأويل مغلوط لواقع حقيقي. مثلاً الإسراء والمعراج ليس وهماً، كما ظن البعض، بل هن هلاوس وهذيانات المخيلة، التي إبتدعت رحلة خرافية، لعب فيها نبي الإسلام الدور المركزي. فوصل، بقيادة مرشده السياحي جبريل، إلى سدرة المنتهى التي أنكر الشيخ حسن الترابي وجودها. عندئذ تراجع جبريل إلى الوراء مفسحاً الطريق لنبي الإسلام كي يقترب من الله.
كيف حدثت هلوسة الإسراء والمعراج؟ عن ابن هشام : قال النبي بينما كنت في حالة بين النوم واليقظة: "قدم لي جبريل البراق" وهذه هي اللحظة التي تأتي فيها الهذيانات والهلاوس.
فماذا عن هلاوس نبي الإسلام وصلتها الوثيقة بإنتاج القرآن، وبعض الحديث واتخاذ قراراته السياسية خاصة في المدينة؟
الهلاوس السمعية:
*الطب النفسي: قد يكون موضوع المحادثات مع المهلوس: "تقديم أخبار ومعلومات هاذية" للمهلوس. السيرة والقرآن:حروب نبي الإسلام على اليهود،كانت"أخباراً ومعلومات"هاذية قدمها جبريل لنبي الإسلام!
* الطب النفسي: (...) الهلاوس السمعية، يمكن أن تكون بسيطة مثل ضجيج، أصوات غامضة،أزيز صائت متواصل".
ـ السيرة:"يقول اين هشام سُئل رسول الله(ص) كيف يأتيك الوحي؟ فقال(ص) يأتيني في مثل صلصلة الجرس "( سيرة ابن هشام الصفحة؟ ).للتذكير مثل صلصلة الجرس = رنين صائت متواصل.
* الطب النفسي:"(...)أصوات تحدث الهاذي في الأذن،خلف المهلوس،فوقه(...)في الجو"، السيرة:"فَقَالَ النَّبِيُّ(ص): " فَخَرَجْتُ[من غار حراء] ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ الْجَبَلِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَا جِبْرِيلُ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ لأَنْظُرَ ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍ قَدَمَيْهِ فِي أفق السماء"." في أفق السماء"= في الجو".
* الطب النفسي:"(...)الهلاوس تكون أصوات منغمة(...) .
السيرة:كان رسول الله (ص) يطلب من بلال أن يقرأ عليه القرآن، فيقول له بلال كيف أقرأه لك وقد نزل عليك؟ فيقول له: انك تقرأه رطباً كما نزل"،أي مرتلاً،والترتيل غناء مقدس. * الطب النفسي:"(...) الإيقاع [ريتم]، هو كما يعرفه معجم روبير:"ما يميز الشعر عن النثر"، متواتر جداً في الهلاوس السمعية البصرية المّوقعة والمسجوعة"أسفار الكتاب المقدس العبري في معظمها شعر موقع وموزون؛ والقرآن المكي وجزء من القرآن المدني، آياته منغمة ومسجوعة. إليكم هذه العينات الـ 4 الدّلالة؛
ـ القرآن: سورة التكوير:"إذا الشمس ُكوّرت،وإذا النجوم انكدرت [=اندثرت]،وإذا الجبال ُسّيرت[=بدأت تمشي]، وإذا العِشار عُطّلت[=أي عندما يترك المالكون نياقهم الحبلى في شهرها العاشر مهملة]، وإذا الوحوش ُحشرت،وإذا البحار سُجرت[=احترقت](...)"(الآيات من 1ـ6)؛
ـ القرآن الإنفطار:"إذا السماء انفطرت [= تصدعت] ،وإذا الكواكب أنتثرت[=تبعثرت]،وإذا البحار فُجرّت [= اي عندما تجعل البحار مياهها تتدفق]،وإذا القبور بعثرت(...)،(الأيات من 1 ـ 4)؛
نلاحظ أن البحار سُجرت أي احترقت، في هول نهاية العالم،ولكنها،في الهول ذاته،فجرّت،أي فاضت مياهها في جميع الاتجاهات!فكيف تحترق البحار في آية وتتدفق مياهها في أخرى؟.
ـ القرآن: الزلزلة:"إذا ُزلزلت الأرض زلزالها،وأخرجت الأرض اثقالها،وقال الإنسان ما لها،يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها(...)"(الآيات من 1 ـ 5) ؛ ـ القرآن: المسد:"تبّت يدى أبي لهب وتب،ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب،في جيدها جبل من مسد"(الآيات من 1 ـ 5).
* الطب النفسي: تكون الهلاوس:"أحياناً محادثة مباشرة مع المهلوس". ـ القرآن كله حديث مباشر بين جبريل، ونبي الإسلام نفسه. و إليكم عينات من السيرة:" كان النبي في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ (...) أن يكون ابن اسحاق هو الذي لفق حادثة الغار احتمال ضئيل؛ الاحتمالية العالية، هي أن يكون محمد نفسه قد قرأ ذلك اليوم أمثولة الكتاب المفتوح والكتاب ا لمغلق لإشعيا،التي سبق الإستشهاد بها، ثم حلم بها حلماً هاذياً تحول إلى كابوس. مما يرجح ذلك أن محمد كان في الغار يقضي خلوته الشهرية كل عام؛والخلوة،كما رأينا، مولدة للهلاوس؛
اتهم هشام جعيط ابن اسحاق باختلاق أسطورة غار حراء .اتهام مجاني لم يقدم عنه فرضية مقنعة. (3).
مثال ثاني عن المحادثة المباشرة مع المهلوس: قتْلُ جميع رجال يهود بني قريظة، كان أيضاً بناء على لقاء مباشر مع جبريل:" يقول الطبري حديث رقم 657:" فَلَمَّا كَانَتِ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) (...)، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ ، فَقَالَ : أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ السِّلاحَ ، وَمَا رَجَعَتِ الآنَ إِلا عَنْ طَلَبِ الْقَوْمِ ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّدُ ، بِالسَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ . وَأَنَا عَامِدٌ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) مُنَادِيًا، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: إِنَّ مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ "(4).
ـ الطب النفسي أو مدائح القرآن: أنظر الفقرة السابقة عن هذيان العظمة.
ـ الطب النفسي نصائح: المزمل: "يا أيها المزمل قم فأنذر، وثيابك فطهر، والرجز [= الأصنام] فاهجر" (الآيات من 1 ـ 3) فقد نصح الله، أي الهلوسة السمعية، نبيه بهجر عبادة الأصنام التي يبدو أنه كان مازال يعبدها حتى نزول الآية، وآيات النصائح للنبي والمؤمنين لا تكاد تُحصى.
*الطب النفسي: "وقد يكون موضوع الهلاوس أحياناً صعب الفهم، أو غامضاً أو في لغة غير معروفة". ـ القرآن، بسبب الآيات المتشابهات التي سنحللها بعد قليل، "صعب الفهم وغامض" وأحياناً في لغة غير معروفة حتى قال السيوطي في "الإتقان": "وقيل متشابه كله" عدا آيات الأحكام، أي صعب الفهم وغامض، وأحياناً في لغة غير معروفة.
* الطب النفسي:"(...)"وقد تكون الهلاوس للتعليق على المواقف"؛ ـ القرآن في معظمه تعليق على مواقف النبي أو المؤمنين أو المشركين أو أهل الكتاب.
* الطب النفسي:"(...)" ويمكن أحياناً أن يبحث المريض بنفسه عن الهلاوس لتحقيق رغباته (...)" ـ القرآن: شرّع نبي الإسلام، عبر هلاوسه، لرغباته الحقيقية المكبوتة والواعية في القرآن: مثل الرغبة في تعديد الزوجات إلى ما لا نهاية. والحال أنه أباح لأمته 4، وفضلاً عن ذلك بشرط العدل المستحيل: "وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة (...) ولن تعدلوا مع النساء ولو حرصتم"، أي أنه في النهاية فرض عليهم الزواج بواحدة كما فعل هو في مكة. لم يكتف بتعديد الزوجات، لأن انفجار شهوته الجنسية القهرية في المدينة، بسبب هذيان الإهتياج، جعلته يرغب في نكاح كل امرأة ترغب فيه في الواقع يرغب هو فيها. تحقيقاً لهذه الرغبة استنزل، بواسطة هلاوسه التي هي في خدمته، آية هبة النساء أنفسهن له وحرّم ذلك على أصحابه وأمته: "يا أيها النبي إنا أحللن لك أزواجك (...) وامرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي، إذا أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين" (الأحزاب، الآية 50).
أدركت عائشة، بحدسها النسائي النافذ، أن الآية لم تنزل عفواً بل أُستنزلت تلبية لرغبة نبي الإسلام النَّكوح؛ فقالت له بدعابة سوداء: "إن ربك يسبقك في هواك"! ما كان بإمكان أم المؤمنين أن تعلم، قبل 14 قرناً من الآن، أن من وظائف الهلوسة، فضلاً عن تطمين مخاوف المهلوس، تلبية رغباته الصريحة أو المكبوتة، الطيبة أو الشريرة. سارع بعض المفسّرين، الذين استشهدوا بعائشة، إلى التأكيذ، وكأنّهم حدسوا بما كانت تريده أمّ المؤمنين، فأكّدوا: قالتها (...) غيرة منها لا تشكيكا في الوحي
بعد نزول الآية، بدأ الواهبات أنفسَهن يتقاطرن على النبي.
لا نعرف كم نكح منهن، لكنه توفي عن 9 أرامل و5 نساء ممنّ وهبن أنفسهن إليه، كما لا نعرف عدد جواري ملك اليمين، التي أباحت له هذياناته وهلاوسه الإستمتاع بهن: "وما ملكت يمينك". لكن نعرف أن السيرة هي دائماً شحيحة لكل ما يُشتم منه شبهة نقد للنبي!
*الطبّ النفسي: "وقد تكون الهلاوس تحقيقا لرغبة مكبوتة": الإسلام المدني تحقيق لرغباته التي كبتها في مكّة، من العنف إلى تعديد الزوجات والخليلات إلى ما لا نهاية، إلى التهالك على الغنائم ونسخ جميع الديانات... وباختصار، نسخُ الإسلام المكي كان تحقيقا لرغباته المكبوتة. حرّم على نفسه العنف ضد الآخر في مكة، مكتفياً بالعنف الفعلي والرمزي ضد الذات؛ فقد كان كلما أراد أصحابه الانتقام من بعض المكيين ردعهم عن ذلك: "ما أُمرت بذلك". أما في المدينة فحقق رغبته المكبوتة في الانتقام، محللا لنفسه العنف ضد الآخر، التعذيب والقتل. فقد أصبحت الظروف الموضوعية ملائمة لتحقيقها.قتل من؟ قتل الشعراء والأسرى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى (...)" وهكذا قتل بعض أسرى قريش ويهود بني قريظة، بين 700 إلى 900 أسير، كما قتل الشعراء (انظر كتاب: التعذيب في الإسلام، هادي علوي)، وانظر خاصة كتاب ابن تيميه، الذي أحصى فيه، عديد حلات القتل والتعذيب والتمثيل بمن شتموا محمد: "الصارم المسلول على شاتم الرسول".
إليكم حالات سريرية لمرضى مهلوسين، تساعد القارئ على فهم عمق تأثير الهلاوس على تفكير وسلوك المهلوس:
1 ـ الحالة السريرية الأولى: "حالة هذيان ديني فصامي؛ الإدخال الثاني إلى المستشفى في 1993،كان بعد أن حاول المريض كسر تابوت ممياء في متحف اللوفر.قائلاً أن الله هو الذي أمره بذلك.ذهابه إلى اللوفر كان تنفيذاً وطاعة لأمر إلله المنصوص عليه في القرآن:"إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا".كما تظهر عليه أيضاً أفكار المس الشيطاني. ولوحظ عليه أنه يؤدي الصلوات بانتظام، لمكافحة "الشيطان الرجيم"؛
"الإدخال الثالث إلى المستشفى كان في 1995، بسبب أفكار هاذية سببها البارانوييد [= هذيان فصامي متهافت] موضوعه ديني،وأيضاً هذيان العظمة او المس. ميكانيزمات الهذيان هن الحدس، التأويل والهلاوس.(...)كما توجد هلاووس سمعية ـ لفظية(أصوت شريرة)،أفكار اضطهاد (...)مع تهديد بالعقاب الداهم.(...)المريض يؤمن كلياً بهذيانه.(...)شخصنا حالته بأنها اضطراب اسكيزو عاطفي. (5).
2 ـ الحالة السريرية الثانية:" هلاوس سمعية دينية؛ فحصنا مريضة تنتمي إلى حركة البانتكوتيسم [حركة بروتستانتية تؤمن بأن الروح القدس، الذي تقول الأناجيل أنه نزل على الحواريين وعلمهم جميع لغات العالم مازال فعلاً حتى اليوم]وتزعم بأنها تتحدث جميع اللغات تحت تأثير الروح القدس.
(...) كانت تبدو عليها هلاوس سمعية موضوعها ديني.(...)وتشعر أنها في حالة اكستاز،كانت تركع وتسمع الروح القدس يتحدث إليها،وكانت تصلي مرددة جارغونوفازي،لغة لا تُفهم.رغم أعراضها المرضية الواضحة، نجحت في التأثير بقوة في جاراتها"(6).
معروف في الطب النفسي أن أمراض الذهانيين الهذاة تَعدي أفراد محيطهم،الذين يتأثرون بهم غالباً تأثراً أعمى.وهذه حالة جميع الأنبياء تقريباً. بهذيان التأثير استطاعت الحركة الإنجيلية أن تدخل فيها في وقت قصير،من المسلمين أكثر مما أدخلت منهم الكنيسة الكاثوليكية في قرنين،كما كتب اوليفي روا!. نجد كثيراً من الهذاة،وخاصة هُذاة البارانويا،يؤثرون في محيطهم كحالة صدام حسين، الذي أثر في حاشيته، فلم يفكر أحد منهم في التنكر له أمام المحكمة ، بل أشادوا به.تماماً كجارات المريضة المذكورة وكذلك كانت حالة حاشية هتلر وستالين وماو وبول بوط!:"هذيان البارانويا، هو هذيان منطقي، لأنه ينطلق دائماً من الواقع،التأويلات فيه تمتلك طابعاً قابلاً للتصديق،إلى درجة ان هذيان البارانويا،تشاطره غالباً حاشية المريض.وهذا ما يُسمَى الهذيان بين إثنين أو أكثر" (طب نفس الطالب ص 141).
عدوى المجنون لمحيطه، يسميها الطب النفسي "الجنون بين إثنين"، تصديق الحاشية السريع لجنون المجنون متواتر، خاصة إذا كان نبيّا كاريزمائي أو طاغية يرمز للأب القاسي والخاصي، المرغوب والمرهوب في الوقت ذاته. مثل هؤلاء الأشخاص، هم عادة سريعوا التصديق، يعتقدون أكثر مما يفكرون. لأنهم في حاجة نفسية ماسة لكل ما يطمئنهم ويسكّن قلقهم ويكونون منذ الطفولة قد تعوّدوا على تصديق الابوين الأعمى. لذلك يصدقون كل تأكيد أو واقعة دونما حاجة للبرهنة الموضوعية المقبولة على صحتها. حسب رواية السيرة أبو بكر لُقب بالصديق لسرعة تصديقة لكل ما يسمعه من النبي؛ والحال أن عمر، كما قدمته السيرة، كان كثيراً ما يعارض النبي عندما لا يجده مقنعاً.
3 ـ الحالة السريرية الثالثة،نبيه فصامية:"الآنسة أ...،20 عاماً مصابة بفصام مع هلاوس سمعية، وأفكار هاذية،توقفت عن العمل وحاولت الانتحار مراراً.لم تكن أبداً عملياً متدينة ولا مؤمنة بشكل خاص.خلال حالتها المرضية، تسمع إبراهيم الخليل يتحدث إليها،ثم تسمع الله يكلمها.ليقول لها انها "المهدي الجديد"،وأنها "المظهر البشري لله".وتصرح بصوت رتيب:"كل ما أفعله أو أقوله،الله هو الذي يفعله أو يقوله...". إبراهيم أسرّ إليها بأنها خادمته،موسى أعلمها بأنها"تعلمه التواضع".صرح لها الله بأنه: "جعلها تتألم لغسل المظالم البشرية"ويُظهر لها"أشياء مخجلة"ليجعلها ترى الحياة الخاطئة...". ما إن شُفيت من هذا العارض المرضي،حتى استعادت المريضة كل فكرها النقدي،وتبتسم كلما تذكرت تصريحاتها السابقة،قائلة: كل هذا لم يكن له أي معنى،معتبرة نفسها ملحدة منذ زمن بعيد". (7).
4 ـ الحالة السريرية الرابعة،هذيان ديني:"الآنسة ب...،قُبلت في المستشفى إثر حادث في كنيسة حيث زعمت أنها كانت موضوع معجزة إلاهية.تحدثت بذلك إلى القس الذي أرسلها فوراً إلى الطوائ المختصة.فقد شاهدت هالة من النور فوق رأس تمثال العذراء،وتعتقد أن العذراء المقدسة قد ظهرت لها.وتعتقد بأن الله شفاها بمعجزة.وفضلاً عن ذلك،فهي تعتقد بأنها كانت قديماً حبلى بجنين خلصها الله منه،عند تعميدها في حوض اللورد [= ماء مقدس يقصده الحجيج في فرنسا].كل محاولاتنا لإقناعها بعكس معتقداتها ذهبت أدراج الرياح، واصطدمت بجدار قناعتها الهاذية،المريضة مُصرة بأنها شُفيت بمعجزة.إذا لم نؤمن بذلك (...) فنحن ضحايا وهم (...) واقع أنها مرت بأفكار هاذية، وبحالة انهيارية عصبية أثارت عندها هذيان اهتياجي مفرط .ُعولجت بالأدوية،مع تدّخل مرشد المستشفى، الذي أرادت لقاءه سمح بتهدئة قناعتها." (8).
جدير بالملاحظة، أن القس أرسلها فوراً إلى الطوارئ المختصة بالأمراض النفسية؛ولم يفكر في تدخل الشيطان أو الله في مرضها،كما هو الحال غالباً في ارض الإسلام!.
5 ـ الحالة السريرية الخامسة، هلوسة بصرية ـ سمعية فصامية هاذية: "بعد الموت المفاجئ لطفلها أثناء حادث مرور،واصلت مريضة فصامية حياتها وكأن شيئاً لم يكن.لم تشعر بأي ألم (...).واصلت التحدث إلى ابنها وتقديم وجبات طعامه اليومية له كالمعتاد (...) وهكذا أنكرت الحادث (حادث الطريق وموت ابنها). إنه إنكار جزء من الواقع لا يحتمل،وثانياً أنكرت الألم الذي يمكن أن تشعر به أم لفقد ابنها...إنه رفض للمشاعر الإكتئابية والحزن (...) المريضة،بعد انكارها للواقع الواقعي، خلقت واقعاً جديداً أكثر احتمالاً :هو ان ابنها هو هنا وقريباً منها،حياً يرزق.هذا الواقع الجديد مؤلف من هذيان ومن هلاوس [= أنها تراه وتسمعه قريباً منها]"(9).
ما هو الدرس الذي ينبغي استخلاصه من الهذيان والهلاوس؟ أن عالم الهذيان والهلاوس، يجعل الأنبياء والمتصوفة وغيرهم من المرضى نفسياً،ينكرون الواقع الماثل أمامهم، من أجل واقع تخييلي أستدعته غالباً رغباتهم.واقع لا وجود له في عالم الأعيان،لكنه موجود بقوة في عالم الأذهان: عالم الهذيان والهلاوس. يفعلون كل ذلك دونما أدنى نية احتيال، أو تضليل.المهلوسون مرضى وليسوا محتالين أو مضللين إلا نادراً. وعندئذ يكون مجرد مدعي للهلوسة والهذيان وتنكشف غالباً بسرعة.
غداة عودة خميني من فرنسا إلى إيران، اعترت الإيرانيين حالة هستيرية جماعية، وصفها مراسل اليومية الفرنسية لوموند: شاهد 36 مليون إيراني صورة خميني على وجه القمر، فقط نحن المراسلين الأجانب لم نشاهدها!طبعاً الهلاوس لا يشاهدها إلا المهلوس.
عندما يكتب الغزالي في"الإحياء"أنه توضأ للظهر في بغداد، وصلى العصر في مكة،وهو ما يسميه المتصوفة"طي المسافات"؛فأول ما ينبغي أن يتبادر للذهن ليس تكذيبه؛بالمثل،عندما يؤكد ابن عربي في"فتوحاته"بأنه:"رابع أربعة يحملون عرش الله"على أكتافهم،فمن الجهل بتأثير الهذيان و الهلاووس تكذبيه.
بالمناسبة "الفتوحات المكية"، التي ُتقرأ عادة كما لو كانت كتاباً مألوفاً، هي وحي، أي هلاوس سمعية وبصرية هاذية كتبها ابن عربي، وهو في حالة وجد صوفي مكثف، عندما كان يطوف بالكعبة مسجلاً بكل أمانة، كل ما كانت تمليه عليه هلاوسه. أنبياء الفتوحات، لم يكن يتحدث عنهم ،بل كان يتحدث معهم، ومن بينهم جميعاً تماهى مع هود وأحبه .لقد أعاد ابن عربي في مكة كتابة القرآن المكي الذي، هو أيضا، أملته الهلاوس والهذيانات على نبي الإسلام؛ عندما يؤكد بولص الرسول بأنه التقى بالمسيح، الذي لم يلتق به في حياته، فآخر ما يمكن أن يفكر فيه ملحد مستنير، بعلوم النفس، هو تكذيبه؛ وعندما يتحدث نبي الإسلام، حسب السيرة،عن لقاءاته مع جبريل،فهو كان يروي بصدق هلوسة بصرية،أرته الموجود الوهمي:جبريل؛عندما نقرأ عن الظواهر الخارجة عن المألوف،كالمعجزات وكرامات الأولياء والمتصوفة، وحكايات المحتضرين، الذين أعادهم الطب إلى الحياة ،وكانت روحهم جاثمة في سقف غرفة الإنعاش تراقب عملية"إعادتهم إلى الحياة"! ،فأول ما ينبغي التفكير فيه هو أنها هلوسات فصامية هاذية، وليس التكذيب الفج؛ في سن 4 أو 5 ،كلفتني أمي كالعادة بحمل خبز غداء أبي، الذي كان يحرث على بعد كيلومتر تقريباً،عندما وصلت إلى صخرة،مازلت أذكر حجمها وموقعها جيدا، حملتني "عجاجة"[=هبة ريح قوية] رفعتني فوق الصخرة ثم أنزلتني برفق؛عندما حكيتها لأمي،المسكونة بالخرافي من أم رأسها إلى أخمص قدميها،سارعت إلى القول:أعمامك الصالحين[عمُايا وعمتي كانوا فصاميين، عمي عباس كان يتجول عارياً] انتزعوك من يد عبيثة [= روح شريرة لقتيل، تعود لتقتل الأبرياء انتقاماً لقتلها]؛ فماذا عسى كانت العجاجة؟قد تكون حلماً،فالطفل في هذه السن، لا يميز بين أضغاث الأحلام و الواقع، أو تكون هلوسة بصرية، خاصة وأني قبل ذلك بشهور نجوت بأعجوبة من إلتهاب الأذن، الذي تحول إلى التهاب السحايا، وهو غالباً ما يتسبب في ظهور الهلاوس، مثلما قد يتسبب فيه ارتجاج الجمجمة.
ملائكة بدر وحنين مثلاً، الذين قاتلوا مع المسلمين بـ "جنود لم يروهم"، هم هلوسة بصرية عاشها محمد، في واقعه النفسي، لكن لم يوجدوا في واقع المعركة.
تماماً مثل هلاوس الأم، التي كانت تحادث ابنها الميت، وتطعمه وتسقيه يومياً! هلوستا بدر وحنين، عن تدخل الله لنصرة المسلمين بجنود لم يروها، أسستا بقوة لا تقاوم، كما هي دائماً قوة الهذيان والهلاوس، لهذيان التدخل الرباني في التاريخ، الذي مازال المسلمون يكابدون عواقبه حتى الساعة! في حرب 73 عادت خرافة مشاركة ملائكة بدر مع الجيش المصري!
القراءة الحرفية الهاذية والهذيان الديني دفعا، منذ عقود قليلة، مهندسين مسلمين في الولايات المتحدة، إلى تأسيس جمعية مرصودة لإحصاء ملائكة بدر بالكمبيوتر، فوجدوا أن عددهم 120 مليون ملاكاً وطالبوا الدول العربية بتجنيدهم لمحاربة إسرائيل!
لقاء جبريل، أو لقاء الله، الذي طالما تحدث عنه الأنبياء والمتصوفة، منذ عشرات القرون إلى اليوم، هو هلاوس سمعية أو بصرية لا وجود لها في الواقع المعيش، ولكنها موجودة بقوة في عالم الهذيانات والهلاوس،المؤثرة بقوة على الفكر والسلوك. المغزى: أن المطلوب علمياً هو فهم الهاذي وتحليل هذياناته وهلاوسه وليس تكذيبه.
ليس في القرآن وصف لكيفية استيلاء الهلاوس على نبي الإسلام. لكن السيرة والأحاديث تقدم حشداً منها؛ أول الهلاوس،لم تظهر في غار حراء، بل قبل إعلان النبوة:"أول النبوة عند رسول الله(ص) هي الرؤيا الصادقة،لا يرى(...)رؤيا في نومة إلا جاءت كفلق الصبح(...)ولم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده(...)وكان(ص)لا يمر بحجر أو شجر إلا وقال:السلام عليك يا رسول الله (...) فيلتفت حوله، وعن يمينه وشماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجر(...)"(10).
رواية السيرة ليست هذه المرّة ميتاتاريخ بل تاريخ؛الطب النفسي عاين سريرياً هذه الهلوسة السمعية،حالة سريرية مشابهة لحالة نبي الإسلام: "يسمع المريض أصواتاً تناديه،فيلتفت خلفه فلا يرى شيئاً" وإليكم هذه الحالة السريرية:"مارينات،لم يعاودها طائف هذيان المرض ثنائي القطب:الإهتياجي ـ الإكتئابي منذ 3 سنوات.لكنها تشعر باستمرار باسمها يُنطق خلفها، حتى وهي وحيدة في غرفتها.هي نسبت هذا الأمر إلى حضور الملاك الذي سمعته يناديها عندما كان عمرها 17 عاماً.لم تنسحب من الحياة الاجتماعية ولم تفشل في دراستها.شُخصت حالتها بأنها سكيزو ـ عاطفية [=اضطرابات هي مزيج من هذيان الإكتئاب وهذيان الفصام]"(11).
تقدم لنا السيرة رواية أخرى عن الهلاوس المحمدية، مرجحة الوقوع: جاء في تفسير السيوطي للآية الأولى والثانية من سورة الفتح: "إن فتحنا لك فتحاُ مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" (...) أخرج البخاري(...)عن عمر ابن الخطاب قال: كنا مع رسول الله(ص)في سفره، فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد.(...) فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس (...) فسمعت صارخا يصرخ بي، فرجعت (...) فقال النبي(ص): "لقد نزلت علي سورة أحب إليّ من الدنيا وما فيها".(السيوطي تفسير الآيتين 2،1 من سورة الفتح، جزء 6 ص 57).
ما حدث لمحمد وعمر،حدث أيضاً لعبد الوهاب وشوقي.يروي عبد الوهاب في سيرته الذاتية ـ سمعته يرويها بنفسه في إذاعة الشرق في السنوات 1980 :أول مرة تعرفت فيها على أمير الشعراء،كنت أغني في الأوبيرا فجاءني الحاجب وقال لي:البيه عايزك.دخلت اللوج وسلمت عليه فلم يرد ،خرجت حزيناً وقلت للحاجب:ليه البيه ماكلمنيش.فقال:"ابقى،ابقى البيه جاءته قصيدة".لحظة نزول الوحي النبوي على محمد والوحي الشعري على شوقي،دخل كل منهما في هلوسة سمعية:دخل نبي الإسلام في مناجاه هامسة مع حبيبه جبريل؛ودخل أمير الشعراء في نجوى هامسة مع حبيبه شيطان الشعر.وهي إحدى الحالات التي عاشها الأنبياء والشعراء على مر العصور؛وكابدها الشعراء الحقيقيون،"أي المجانين"منذ شعراء العصور الغابرة إلى السوريالي ارطو، الذي مات في مستشفى المجانين،والرومانسي الشابي.بالمناسبة، قال في الستينات شقيق الشابي،الأمين الشابي،واصفاً حالة الوحي الشعري خلال النوم عند الشابي:"طلب الأطباء من الشابي التوقف عن كتابة الشعر في مرضه الأخير،ذات يوم كان نائماً وكان جبينه يتفصد عرقاً،فتح عينيه وطلب مني احضار قلم وكراس،قلت له: لكن الأطباء نصحوك بعدم الكتابة،فرد:"هي مكتوبة في رأسي"والقصيدة هي "إرادة الحياة"وهي نيتشويه،من أجمل وأعمق قصائدديوانه الوحيد:"أغاني الحياة".
وهكذا فالوحي القرآني والشعري ينزل أيضاً خلال الأحلام؛الطب النفسي يدقق خلال:"أحلام اليقظة" أو"الأحلام الهاذية"، عندما يكون النائم في حالة وسط بين النوم واليقظة.
مراجع الفصل الرابع
1 ـ موسوعة لاروس النفسية:مادة هلوسة ص ص 418،419 . 2 ـ ماكس فبير،اليهودية العتيقة،ص ص 362ـ363 . 3 ـ هشام جعيط"السيرة النبوية".اتهام هشام جعيط ابن اسحاق باختلاق غار حراء،لا يستند إلى أي فرضية تاريخية فضلاً عن أن تكون مقبولة.والحال أن القرائن النفسية والتاريخية تتضافر معاً على احتماليتها العالية.ميل الفصامي"إلى الإنطواء والخلوة ثابت في حالات الفصام"(هانوس،طب نفس الطالب،ص 126).لا لوم على جعيط إذا لم يشخص نفسية محمد،فليس من أهل الإختصاص في ذلك.لكن كيف ينسى هشام جعيط المؤرخ،أن كثيراً من أنبياء إسرائيل كانوا ينامون في المغاور كما تقول التوراة؟وكيف نسي أن النبي يوحنا المعمدان، الذي عمّد المسيح في نهر الأردن وتنبأ له، حسب الرواية المسيحية، بأنه سيكون المهدي المنتظر،كان يعيش في غار؟وكيف نسي أن الفيلسوف الفصامي والرياضي والمنطقي الكبير،فيتجينشتاين،الذي رفض حصته من تركة أبيه،ووزع ثروته على عابري السبيل، كما يفعل كثير من الفصاميين "الكرماء"،قضى حياته في كوخ ريفي معزول بناه بنفسه في إحدى الغابات؟،وكيف نسي اعتكاف الكهنة في الأديرة،في قلب الصحراء احياناً،أو اعتكاف المتصوفة والأولياء في مقاماتهم النائية والمعزولة غالباً مدى الحياة؟هذه الشخصيات العصابية أو الذهانية، ذات شخصية نفسية قلقة ومكتئبة،تحدوها إلى الإعتزال، بعيداً عن ضوضاء الحياة اليومية، لركوب قاطرة أحلام اليقظة في الخلوات، المساعدة على انتاج الهلاوس الضرورية لتطمينهم في خلواتهم.اليوم أيضاً كثير من الروائيين في أوربا يلجأون،عند كتابات رواياتهم طلباً للخلوة،إلى بيوتهم الريفية. 4 ـ تاريخ الطبري ص 101 . 5 ـ انظر أيضاً مختصر سيرة ابن هشام ص 179 . 6 ـ إدوارد ماهيو، هذيانات دينية ص 7 انترنت. 7 ـ الطبيب النفسي مارشِ،في كتابه السحر والأسطورة في الطب النفسي ص 189 (دار نشر ماسون)1977،باريس . 8 ـ نفس المصدر ص 185 . 9 ـ نفس المصدر ص 184 . 10 ـ ج.ل.بيدينيللى وجى جمنار،ذهانات الراشد ص 36 ،دار نشر يونيفرسيتي. 11 ـ مختصر سيرة ابن هشام ص 37 . 12 ـ عش وافهم الإضطرابات الفصامية ص 56 ،دار الليبس باريس 2004.
الفصل الخامس
هذيان التأثير والمس الدينيين
* "أفكار التأثير تجعل المريض يعتقد أنه خاضع لقوى خارجية توجه أو تُرغم فكره، تتحكم في حكمه، تدين أفعاله. هذه الإعاقة للحياة النفسية يضعها المريض على حساب قوى خارجية، على حساب تجارب التلباثي [= التأثير أو الرؤية عن بعد]. موضوعات التأثير متواترة بكثافة في الهذيان النبوي أو الصوفي: الإلهام الرباني والمس" (لامبيرتر و فلينى، في كتاب طب نفس الراشد، ص 37 ـ 38 ، دار ماسون،1991 باريس).
*هذيان التأثير: "شعور المريض بأنه ُمسيّر لا مُخّير من قوة خارجة عن إرادة المريض، فهو لا يتحكم فقط في أقواله وأفعاله ومشاعره، بل هي مفروضة عليه" (نفس المصدر ص 275).
********** هذيان التأثير
أفضل من عرّف هذيان التأثير، تعريفاً دقيقاً، هو الرسول بولس عندما أكد: "لست أنا الذي أحيا، بل إن المسيح هو الذي يحيا فيّ".
المرض الأول لنبي هو النبوة. رأينا أن الآشوريين كانوا يسمون النبي: "مملوك الآلهة"، أي ممسوس. وهذا مفهوم دقيق يغطي مفهوم هذيان التأثير.وهذا ما يقوله لاشعور محمد لشعوره:"إن الذي فرض عليك القرآن(...)"(85 القصص).القرآن بما هو هذيان مفروض على نبي الإسلام فرضاً،أي غصباً عنه. فمن فرضه؟ الطب النفسي يجيب: هذياناته وهلاوسه.
هذيان التأثير الإلهي، أو هذيان المس الشيطاني، على توجيه أفكار النبي وسلوكه،تنهض عليهما شواهد عديدة من القرآن والحديث والسيرة معاً.ليس صدفة أن الطب النفسي يؤكد أن:"موضوعات التأثير متواترة[في الإلهام الرباني والمس]وبكثافة في الهذيان النبوي والصوفي".
يُعرف معجم روبير النبي بأنه:"شخص يدعي كشف حقائق خفية باسم إلاه يقول أنه يلهمه"أفكاره وأفعاله.وهكذا فالنبي يُعلن الإستقالة من وظيفة التفكير، لإعتقادة الهاذي بأنه أصبح لعبة في يد الله، يوجه تفكيره كيف شاء وينطق على لسانه:"إن هو إلا وحي يوحى،علمه شديد القوّى" [=جبريل] (4 النجم). هذيان النبوة،تماماً، كأي هذيان، لا يُقاوم.
أفكار المس أو الأفكار الصوفية:"(...)تؤثر في الحالات السقيمة وتشتمل على وساوس دينية.في هذا الإطار،الهلاوس النفسية ـ الإحساسية،أصوات،رؤى دينية ـ روائح سماوية،و سينيزيه[= إحساس عام بالكدر أو الفرح ناتج عن انطباع داخلي مشوش]هن متواترات،وحسب مضمونهن، سينسبن إلى الله أو إلى ابليس"(طب نفسي الراشد).
في الإسلام،هذيان التأثير الإلهي في الفكر والسلوك، ليس مقتصراً على نبي الإسلام وحده،بل يشمل أيضاً أمته:"وماتشاؤون إلا أن يشاء الله"(29 التكوير)؛التي أكدتها الآيات التسييرية؛المشيئة أو الإرادة هي خاصية التفكير،فإذا صُودرت منه أصبح الإنسان ريشة في مهب الأقدار.وهي هنا الله الذي يشاء ويريد بدلاً من الإنسان نفسه.هذيان التأثير الإلهي، يجعل المصاب به مسيراً لا مخيراً في تفكيره وسلوكه:أي أن الله تملكه،دخل في رأسه، وتولى توجيه فكره حيث شاء وكيف شاء ومتى شاء!.
هذيان تأثير مشيئة الله، في فكر نبي الإسلام،أسقطه هذا الأخير، عبر القرآن، على فكر المسلمين. فتغلغل في الوعي الجمعي الإسلامي، حتى غدا طبيعة ثانية في نفسية المسلم، تتجلى في الجملة الوسواسية، التي نجدها على كل شفة ولسان"إن شاء الله". والتي نقولها أو نسمعها مراراً في اليوم. وهكذا باتت علامة فارقة للمسلم،"وماركه مسجلة"له،لذلك استعارتها منا المعاجم الغربية بلفظها لتجعلها علامة مميزة لفكرنا المغترب:أي أن بإمكان الله أن يتدخل بتعطيل قوانين الطبيعة أو قوانين العقل.
انتشار وتغلغل هذيان التأثير في أعماقنا، جعلنا نتوهم أن مصيرنا هو"مكتوب"لكل واحد منا، حتى قبل خلق الله للعالم، كما تؤكد الأحاديث،قد قررته المشيئة الإلهية و"لا ُيغني حذر من قدر".الله،في فم المسلم يحمل كل الإيحاءات السلبية:الإستقالة من التفكير النقدي،ومن التدبير العقلاني للشأن الخاص وحتى العام،ومن الإعتماد على النفس،الذي تم تعويضه بالإعتماد على الله، والإستسلام لـ"المكتوب على الجبين تراه العين"،التي هي ترجمة دقيقة لهذيان التأثير الديني. وباختصار؛الهجرة من التاريخ،الذي صنعته البشرية، إلى التاريخ الذي يصنعه الله والأسلاف.وهكذا فعلى الأخلاف أن يتقيّدوا، دونما تجديد،أو قطع مع الماضي،بتقاليد أسلافهم،وأن ينصّبوا الماضي حارساً يقظاً على الحاضر والمستقبل،ليبقى حاضرهم نسخة باهتة من ماضيهم،ومستقبلهم إمتداداً لحاضرهم!.
هذيان المس
ثنائية الله والشيطان متلازمان،فكلاهما في اللاشعور رمز الأب.فقد اكتشف فرويد ، من خلال التحليل النفسي، أن الأب،في لا شعور طفله،فصامي: رمز الله والشيطان معاً:هو الرؤوف الرحيم وهو شديد العقاب. كان نبي الإسلام،يعتقد أن قوتين:خيره وشريرة،الله والشيطان،تتنافسان بقوة على توجيه أفكاره،وتكييف مشاعره والتحكم في أفعاله وأقواله.أما هو فرهينة لهما.إلا أن إحداهما،الله تريد به خيرا،والأخرى،الشيطان تريد به شرا.والحرب بينهما سجال.كثيرا ما يكسبها الله، لكن الشيطان سرعان ما يتسلل من إحدى ثغرات النفس المحمدية الهشة،لينسيه أوامر الله له،أو ليوسوس له،أو ليهمزه وينخزه.وهكذا كانت حياته المكية ساحة كر وفر بين الله والشيطان،ساحة حرب لا تتوقف؛فهذيان التأثير والمس مزمن،بلا أمل في الشفاء حتى اليوم. هذيان التأثير والمس،ملحوظ في الهذيانات والهلاوس الدينية وفي الإضطرابات الفصامية وفي الصرع أيضاً. تجلى هذيان المس في الآيات الشيطانية،التي توهّم نبي الإسلام أن الشيطان دسها عليه،خلال هلوسة الوحي:"وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي،إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته؛فينسخ الله ما يلقي الشيطان (...)"(الحج 52).
لكن محمد،الذي دفع عن نفسه تهمة المس من الشيطان، أكدها لا شعورياً عندما سارع،عبر الوحي،إلى الإستنجاد بالله، ليتدخل لمحو ما ألقى الشيطان من آيات تمنى هو نزولها:"اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى،تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لتُرتجى" (انظر تفسير آية اللات والعزى عند الطبري).
هذيان المس من الشيطان،الذي دخل رأسه ودس عليه الآيات الشيطانية،لم يكن فلتة أنقذه الله منها،بل يبدو أنه ملازم له:فقد حذره الله،أي ضميره الأخلاقي،بأن يبتعد عن مثقفي قريش عندما يخوضون في نقاش آيات القرآن،الذي يبدو أنه كان يحرجه.لكن إذا حدث وتدخل الشيطان فأنساه هذا الأمر الإلهي،فعليه بمجرد تذكره أن يغادر حلقة النقاش:"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرضّ عنهم، حتى يخوضوا في شيء غيره؛وإما يُنسيك الشيطان، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (68 الأنعام).كان عليه مغادرة الجلسة فوراً!.
وفي مناسبة أخرى أوصاه الله : إذا تسلل إليه الشيطان، وحاول أن يوسوس له، فعليه أن يستعيذ بالله، ليسارع إلى نجدته من تسلط الشيطان عليه:"وقل ربي أعوذ بك [=أستنجد بحمايتك] من همزات [=نخزات]الشياطين،وأعوذ بك ربي أن يحضروني[= ليوسوسوا لي] (97 ،98 المؤمنون). هذيان المس،عند نبي الإسلام قوي ومزمن.كما تدل على ذلك هذه الآية.فقد أصبح وسواس مس الشياطين شبحاً، يطارد نبي الإسلام،مما جعله يستغيث بالله ليقيه من همزاتهم وحضورهم.لكن من دون كبير جدوى فيما يبدو.
التكرار ملازم للوسواس. لذلك أوصى الله نبيه مراراً وتكراراً بالإستنجاد به من الشيطان في جميع حالاته:"وإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم"(98 النحل)،مخافة أن يدس عليه آيات أثناء قراءة القرآن، كما دس عليه آيات أثناء تلقيه القرآن، كما في الآيات الشيطانية !.
لكن يبدو أن الشيطان لم يتوقف عن نخز نبي الإسلام بهمزاته:"وما ينزعنّك من الشيطان نزع فاستعذ بالله(...)"(200 الأعراف)؛يطمئن نبي الإسلام نفسه بالهلاووس من خطر مس الشيطان له، على نحو دائم بالتأكيد بأن:"إن الذين اتقوا[الله]إذا مسهم طائف [شبح]من الشيطان، تذكروا فإذا هم مبصرون" (201 الأعراف).
هذيان المس،الذي كابده محمد،عنيف.إلى درجة أن نبي الإسلام استعان بسورتين هما،المعوذتان، لحماية نفسه من تسلط الشيطان عليه أناء الليل وأطراف النهار؛المعوذتان اللتان، قال عنهما اين مسعود، أنهما ليستا من القرآن، بل هما دعاء، كان النبي يدعو به. رافضاً هكذا إدراجهم في مصحفه؛أستعاذة نبي الإسلام بسورتين أو دعائين:"كان كل ليلة يصلى بهما"، لحماية نفسه من مس الشيطان ومن الإصابة بالسحر، دليل على تسلّط الخوف من هذين الشرين عليه. وهذا ما تخبرنا عنه السنة:"عن عائشة أنه كان إذا اشتكى[من مرض]قرأ على نفسه المعوذتين وتفل أو نفث[أي بصق وتنفس بقوة]".هذه هي حالة هذياني المس والسحر؛اتهمه خصومه المكيون مرتين على الأقل بأنه "مسحور".حديث للبخاري يؤكد ذلك:عن عائشة أن النبي كان مسحوراً،وأن سحره أصابه بعجز جنسي نادر:"كان رسول الله قد سُحر،حتى كان يرى أنه يأتي النساء و[هو] لا يأتيهن(...) وهذا أشد ما يكون من السحر".وكالعادة الساحر يهودي!كما يؤكد البخاري على لسان عائشة!. أعداء النبي الـ 3 ، الذين كانوا يتربصون به هم : الشيطان والساحر والحاسد!.
في المعوذة الأولى،الفلق:"قل أعوذ برب الفلق[=الفجر المبشر بالصباح]،من شر ما خلق[=من أدهى ما خلق أي الشيطان](...)ومن شر النفثات في العقد[=الساحرات اللواتي ينفخن على ُعقد في خيط لـ"ربط"ذكر الرجل فلا يعود قادراً على الانتصاب]ومن شر حاسد إذا حسد"؛فالحسد،في الإسلام،سبب لزوال النعمة!؛هذا الفكر السحري الوسواسي،تغلغل بعمق في الوعي الجمعي الإسلامي إلى اليوم:تعبر عنه العامة بتعويذة:عين الحسود فيها عود وخمسه وخميسه...
فهل حدث لمحمد أن ضعفت غريزتة الجنسية بمكة فاكتفى بخديجة؟،أو أن خديجة كانت مسيحية ـ وربما هو أيضاً ــ يرفضان تعدد الزوجات؛أو ربما أيضاً ملّ جماع زوجته خديجة بعد طول مساكنة، حوالي 20 عاماً،كما يحدث لمعظم الأزواج عادة حتى الآن، فعزا ضعفه الجنسي الوقتي، إلى سحر ساحرة تنفث بنفَسها، في العقد، لتعقد ذكره؛"والنفث في العُقد"هو خرافة مازالت شائعة في أرض الإسلام إلى اليوم، كسبب للعجز الجنسي.
وقائع إصابة نبي الإسلام بهذيان المس،أي مس الشيطان أو الجن،لا يشمله هو فقط بل جميع المسلمين:فقد جاء في الحديث الصحيح: "لكل مولود قرين من الجن"،سؤال:"حتى أنت يا رسول الله؟قال:حتى أنا،إلا أن الله قد أعانني عليه"!. وهكذا تغلغل هذيان المس العضال في نفسية المسلم،ليعطل حسه العقلاني،محولاً له إلى فريسة سهلة للجن والشياطين وتجليات الخرافي واللامعقول الأخرى!
مس الشيطان والجن لعب في الدين في القرون الوسطى، ومازال يلعب،وا أسفاه، إلى الآن في أرض الإسلام، دوراً مخيفاً:أحرقت الكنيسة الكاثوليكية،طوال قرون محاكم التفتيش،100 ألف ساحرة يهودية:"بتهمة التحالف مع الشيطان"للتسبب في الجفاف والفيضانات والأوبئة؛في السنوات 1990 مثلاً،قتل في باريس إمام وشقيق مريضة نفسية أخته تحت التعذيب، لإخراج الشيطان منها؛وفي أوائل التسعينات شاهدت في ريبورتاج تلفزيوني( في القناة السادسة الفرنسية)كيف كان فقهاء حماس يعذبون المراهقين "الممسوسين"من الجن والشياطين: كان المراهق يصرخ من الألم، تحت ضربات العصا، وفقيه حماس يُعلق:"هذا الجن يهودي "لا يخرج بسهولة مثل الجن المسلم...ويزيد في وتيرة الجلد لمراهق مكتوف اليدين والرجلين!وقد علّق المستشرق الفرنسي المعروف، جيل كيبال، على هذا الريبورتاج مدافعاً عن حماس قائلاً:هذا المشهد لا ينبغي أن يُنسينا أن حماس تمارس أيضاً الواقعية السياسية!".
هذيان المس،،تغلغل في صميم الشخصية الإسلامية خلال 14 قرناً،مكتسباً بذلك سلطة النص العنيدة.سورة الجن في القرآن،إن لم تكن أسست، فقد عمقت، خرافة التدخل الرباني،والشيطاني والجني في حياة المسلم.
تبدأ سورة الجن بتأكيد جازم:"قل ُأحي إلي إنه استمع نفر من الجن،فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد،فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً"(2،1 الجن).نحن هنا أمام حلم هاذي أو هلوسة نفسية،أي إحساس داخلي، وظيفتها النفسية التعويض اللاشعوري على إصرار النخبة المشركة،في مكة والطائف، على إشراك آلهتهم مع الله؛قول الجن"ولن نشرك بربنا احدا"،مؤشر على إمكانية هذه الفرضية.سورة الجن مثلت عزاء لنبي جريح في مصداقيته:كذّبه بلده،وقومه وعائلته، وأهانه سكان الطائف عشية نزولها؛ لكن ها هي الجن، وما أدراك ما الجن، تستمع إليه وتعجب بقرآنه وتؤمن به. نزلت عليه سورة الجن،وهو عائد خائباً حزيناً، من الطائف إلى مكة:"حتى إذا كان بوادي نخلة،قام في جوف الليل يصلي فمر به نفر من الجن(...)7 من الجن"(1)(مختصر ابن هشام ص 24).
شهدت الجن أيضاً أن إبليس كان يقول عن الله كذباً،بجعل نفسه شريكاً له،تماماً كما جعلت مكة والطائف آلهتها شريكاً لله:"وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"(3،الزمر)،أي أن المشركين ما كانوا يعبدون أصنامهم القريبة منهم إلا لتشفع لهم عند الله البعيد عنهم،هناك في السماوات العلا،:"وأنه كان سفيهنا[=ابليس]يقول عن الله شططا".تزعم الجن أن لها علاقة مع بعض العرب: "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً[=غطرسة]"(الآية5). حسب السنة هؤلاء الرجال هم من بني تميم؛وأنهم جاؤا ودخلوا في الإسلام (تفسير السيوطي).لكن ربما،كما كانت رغبة محمد،كانوا من الطائف ومكة.
هذه الهلاوس الهاذية عن وجود كائنات اسمها الجن، وعن إمكانية تدخلها في توجيه قرارات الإنسان، كانت ومازالت في أرض الإسلام تُصدّق على أعلى المستويات:كبار المؤرخين بالأمس ومؤسسة القضاء اليوم.
رفض سيد الخزرج،سعد ابن عبادة، مبايعة عمر لأنه كان يريد الخلافة لنفسه؛فهاجر إلى الشام،حيث وجُد ذات يوم مقتولاً في مغسلة.العملية على الأرجح اغتيال. لكن من الصعب سياسياً، نفسياً ودينياً، اتهام عمر بالجريمة،فذلك قد يثير فتنة بينه وبين الأنصار،الذين سيطالبون بالثأر لسيدهم. فتدخل هذيان المس، ليجد للمأزق مخرجاً، فنسب الإغتيال إلى الجن،وجعل الجن يعترف بالجريمة شعراً: قتلنا سيد الخزرج سعد ابن عبادة / ورميناه بسهم فلم يخطأ فؤاده.
هذه الخرافة، رواها كبار مؤرخي الإسلام كما لو كانت واقعة تاريخية.فلم يسائلها أحد منهم على حد علمي!.وكيف يسائلونها،وهم أنفسهم استبطنوا هذيان المس:مس الجن،مس الشيطان ومس الله؟
اليوم أيضاً مؤسسة القضاء،على الأقل في مصر والجزائر، وربما في كل بلد إسلامي مازالت توجد فيه محاكم شرعية،تُسلم بتدخلّ الجن في حياة البشر؛في 2011 عاد زوج مصري من السعودية فوجد زوجته حبلى،ادعت الزوجه أن جنياً اغتصبها.تقدم الزوج بقضية طلاق لدى المحكمة الشرعية فقبلتها. لكنها رفضت دعوى الزوجة لعدم كفاية الأدلة؛أما محكمة البليده الجزائرية فقد صدّقت في، 2012،أن جنياً قتل طفلاً رضيعاً كما قتل شقيقته قبل سنوات، وبرأت المتهم.وإليكم الواقعة كما روتها اليومية الجزائرية الخبر:"تعود تفاصيل جريمة قتل شقيق سندس قبل 4 سنوات(...)إسلام اختفى، ثم ظهر ميتاً والقاتل عفريت من الجن! (...)الجريمة دارت أحداثها قبل 4 سنوات، في نفس منزل عائلة قسوم(...)بالعاصمة،أي في نفس المنزل الذي شهد إزهاق روح الطفلة سندس،حيث التقت قوى الجن بالقوى الخفية، لتختطف روح شقيقها الرضيع،إسلام،ذي الـ 25 يوماً ليعثر عليه ميتاً في مكان كشفته زوجة عمه،بعد خضوع المنزل لرقية شرعية(...)طويت القضية باتهام الجن وتبرئة زوجة العم،م.ف!.(اليومية الجزائرية الخبر 30 ديسمبر 2012 البليدة).
طالما مازالت سورة الجن تُدّرس في التربية الدينية،ويُستشهد بها في الإعلام، ويصلي بها المسلم، الذي تشرب على مقاعد مدرسة اللامعقول الديني،أن عدم الإيمان بآية واحدة من القرآن تخرجه من الإسلام. فلا عجب أن تبّرأ بها محكمة شرعية المتهم الإنسي، بقتل طفلين رضيعين، وتدين الجن!.
مادامت سورة الجن وآيات الجن، في السور الأخرى، مستخدمة على أوسع نطاق،في التعليم والاعلام والخطاب الديني،فكيف سيتحرر المسلم من خرافة مس الجن؟
مراجع الفصل الخامس
1 ـ مختصر ابن هشام ص 24 .
الفصل السادس
هذيان الشعور بالذنب
"أفكار احتقار الذات وتبخيس الذات،والحط من قيمة النفس والخراب، هي مؤشر على الشعور بالذنب الإكتئابي أو الإنهيار العصبي الهاذي".(طبيب نفسي).
*********
الشعور بالذنب صحي،عندما يكون رد فعل سوياً عن خطأ أو خطيئة، ارتكبها الإنسان ضد الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة. وقد عاش نبي الإسلام،ظاهرياً على الأقل، هذه الحالة السوية مع ابن أم مكتوم، في سورة" عبس وتولى إذ جاءه الأعمى"فقد أستهان به، وسرعان ما شعر بالذنب فاعتذر له عنه.في الشعور بالذنب السليم تكفي عادة محاولة جبر الضرر،المادي أو الرمزي، لتزيل أو تخفف الشعور بالذنب. لكن في الشعور السقيم بالذنب هيهات.
الشعور الساحق بالذنب هو غالباً لا مبرر موضوعي له.يتجلى ذلك في المازوشية الأخلاقية،أي تذنيب الأنا المزمن، مصداق ذلك ما جاء في بداية الصحيفة،أي الميثاق، التي أملاها نبي الإسلام، والتي وقعتها قبائل يثرب:"نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا."(1)؛وفي قتل الجسد، وتعذيبه، مثلاً بالعبادة المضنية، التي يحوّلها الشعور الهاذي بالذنب إلى تعذيب حقيقي للجسد. إلى درجة إلحاق الأذى به.وهذا ما حدث لنبي الإسلام. وهكذا غدت الشعائر مصدر شقاء نفسي له؛لقد كان مثقفوا قريش يقولون عنه أن قرآنه أشقاه. رد عليهم بـ:"طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"(1،طه).
ما قيل عن أسباب نزول هذه الآية، يُلقي أضواء كاشفة عن شعور نبي الإسلام بالخطيئة أمام ضميره الأخلاقي الشديد العقاب،على صورة الله ـ الأب،الذي يعذبه ويشقيه:"إصرار الرغبات المحرّمة على تحقيق ذاتها[في مواجهة إصرار الضمير الأخلاقي الباغي على منعها من ذلك]يدفع المريض إلى عقاب ذاته"(فرويد). هذا العقاب الذاتي القاسي هو ما عاقب به نبي الإسلام نفسه:"عن ابن عباس أن النبي (ص)أول مانزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى فأنزل الله:"طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى؛وعن ابن عباس أيضاً أن خصومه من مشركي قريس قالوا:"لقد شقي هذا الرجل بربه"؛وفي رواية الضحاك:"ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى به"فأنزل الله طه (...)؛وعن ابن عباس أيضاً: "كان رسول الله إذا أقام الليل يربط نفسه بحبل كي لا ينام،فأنزل الله طه (...)؛وعن مجاهد:"كان النبي (ص) يربط نفسه،ويضع إحدى رجليه على الأخرى(...)؛وعن علي ابن أبي طالب:"لما نزل على النبي:"يا أيها المزمل قُم الليل إلا قليلاً[=واصل صلاتك الليل كله إلا قليلاً منه]:قام (ص)الليل كله حتى تورمت قدماه،فجعل يرفع رجلاً ويضع رجلاً(...).أذكّر من يساوره الشك في تفاصيل رواية الإمام، أنه كان شاهد عيان،إذ كان يقيم عند نبي الإسلام في بيت خديجة:"وعن أنس[خادم آل البيت]،كان النبي (ص)إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى(...)". نحن هنا أمام ما يسميه علم النفس العقاب الذاتي،تكفيراً عن جريمة قتل الأب الوهمية، بمحاولة المذنب قتل نفسه رمزياً أو فعلياً !.
هذه الألوان القاسية من تعذيب الجسد وإماتته، تكشف عن شعور عميق بالذنب، كان يغلي في نفس محمد المعذبة.وطأة هذا الشعور على نفسية نبي الإسلام لا تحتمل:"ورفعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك" (2،الشرح)ذنوبه كانت من الثقل حتى أنها قوضت ظهره.وهو لا يشقى بذنوبه التي تقدمت بل أيضاً من ذنوب لا يشك في أنه سيقترفها مستقبلاً:"ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر"(2 ، الفتح).
تأكيد رفع الوزر وغفران المتقدم والمتأخر من الذنوب، ليس إلا مجرد تطمين مؤقت قدمته له هلاووسة.وظيفة الهلاووس هي طمأنة المهلوس:تطمين محمد المذنب لمحمد النبي.لكن نبي الإسلام غير مطمئن لغفران"وزره الذي أنقض ظهره" ،فأمره ضميره المعذب بأن يطلب الغفران: "واستغفر لذنبك"(19،محمد).طُمّن نبي الإسلام،بأن ذنوبه السابقة غُفرت.وزيادة في تطمين شعوره بالذنب،تخبره هلاووسه بأن الله غفر له أيضاً ما سيقترفه من الذنوب. ولكن هيهات!الشعور الساحق بالذنب لا تنفع معه المسكنات.لعلّ نبي الإسلام وصف ضميره الأخلاقي الغاشم عندما وصف جهنم :"يوم نقول لجهنم هل إمتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد؟".(30 ،سورة قاف).
ككل متعصب لدعوته،يبدو أن نبي الإسلام كان يحاول إكراه الناس على اعتناقها،فعاوده الشعور المزمن بالذنب،فوبخه ربه عن ذلك:"أفأنت تُكره الناس على أن يكونوا مؤمنين"؟(99 يونس). لم يذكر المفسرون أسباب نزول هذه الآية، التي مروا بها مر الكرام كما فعلوا غالباً مع الآيات التي تحرجهم كمؤمنين، كوّنوا صورة مثالية عن نبي الإسلام وصدقوها، ضدّاً على صورته الحقيقة في القرآن! مثلاً السيوطي لم يفسرها أصلاً،مع أن الإستفهام الإنكاري فيها يشير إلى أن نبي الإسلام قد بالغ في إكراه الناس على الدخول في دينه،إلى درجة أن ضميره الأخلاقي وبّخه على ذلك.
السؤال هو:ما مصدر هذا الشعور القاسي بالذنب في حياة محمد وما هي تأثيراته على تصرفاته؟ يروي الزمخشري في تفسيره لـ:"وزرك الذي أنقض ظهرك"،بأن هذا الوزر هو"فرطات"،أي فلتات محمد الجاهلي.ربما يكون الزمخشري قد استلهم هذا التفسير من آية:"ووجدك ضالاً فهدى"،التي لا نجد لها لدى المفسرين تفسيراً؛ وأقل من ذلك سبباً للنزول؛شعورهم بالخجل من كون نبيهم كان ضالاً قبل إعلان النبوة،وهو ما يتعارض مع أسطورة العصمة من الخطأ والخطيئة،التي أحاطوه بها،ليجعلوا منه تجسيداً لنرجسيتهم الجمعية.جعلهم يتعاملون مع الآية وكأنها لم تكن.لأنها تشطب بجرة قلم جميع المعجزات التي نسبوها إليه، مذ كان في بطن أمه.والبعض الذي فسرها زوّرها:"ووجدك ضالاً فهدى، أي وجدك بين ضالين فاستنقذك من ضلالهم".من الواضح أن هذا التفسير هو جرأة هاذية على اللغة؛الآية تفيد بأن محمد نفسه كان ضالاً:"ضل ضد اهتدى،أي حاد عن دين أو حق أو طريق" (المنجد).إذن فاعل الضلال هو محمد الذي أنقذه الله من ضلاله، وليس أستنقذه من بين ضالين آخرين، كان هو المهتدي الوحيد بينهم! .
هل يكون سبب شعور محمد بالذنب طرده أتباعه من المستضعفين، مفضلاً عليهم مجالسة سادة قريش بدلاً منهم؟:"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي(...)فتطردهم فتكون من الظالمين" (52، الأنعام).
هذه الآية تعترف بالذنب وتطالب ضمناً بالصفح من ضحاياه، أي أنه كان خطأ تم تصحيحه، باعتذار النبي عنه، ومجالستهم مجدداً،فرضوا عنه ورضي عنهم.وهذا عادة يمحو أو يخفف الشعور بالذنب.
قهر نبي الإسلام لليتيم ونهره للسائل، الذي وبخه الله عنهما بأمر صارم:"وأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر"(9،الضحى). هذا الأمر كان موجهاً إلى نبي الإسلام شخصياً،فقد اعترف بالذنب وجبر ضرره على الأرجح، بالتوقف عن قهر اليتيم ونهر السائل.ومن تاب تاب الله عليه.فلا يمكن إذن أن تكون هذه الواقعة هي الأخرى، سبباً مباشراً لشعوره الطاغي بالذنب، وتعذيب ذاته بمنتهى القسوة!
فهل تكون شكوكه المتكررة في رسالته، وميله إلى المصالحة بين التوحيد الخالص، الذي يبشر به، والشرك المكي، كما في الآيات الشيطانية، هن ينبوع شعوره بالذنب؟. مثلاً الآيات الـ 3 من سورة الإسراء، تشّخص بدقة اتهام نبي الإسلام الذاتي لنفسه:"وإن كادوا [=مثقفوا قريش]ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك،لتفتري علينا غيره[=لتختلق قرآناً آخر وتنسبه إلى الله كذباً]"إذن لأتخذوك خليلاً[=عنئذ كانوا سيتخذونك صديقاً صدوقاً لهم]؛ولولا أن ثبّتناك،لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً[=لولا أن الله تدخل في الوقت المناسب ليبقيك راسخ القدمين في قناعاتك التوحيدية ، لكان ميلك القليل إليهم، سيجعلك تفتري علينا قرآناً آخر، على غرار الآيات الشيطانية"، إذن لأذقناك ضعف [العذاب]في الحياة وضعف[العذاب] في الممات،ثم لاتجد لك علينا نصيرا". (73،74،75 ،الإسراء).
رغبة نبي الإسلام في الوصول إلى تسوية دينية تاريخية مع مشركي قريش،تصالح دينه مع دينهم واضعة حداً للنزاع الناشب بينه وبينهم،عميقة،ما فتئت تعاوده بإلحاح؛لكن ضميره الديني التوحيدي الصارم، كان في كل مرة يردعه ردعاً عن المرور من القول إلى الفعل :لنستمع إلى ضمير نبي الإسلام المعذب، يتوعد نبي الإسلام بالقتل، لو أنه تشجع فمر من النية إلى الفعل. :"ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل [=لو افترى قرآناً آخر غير الذي أنزلناه]؛ لأخذنا منه باليمين[= لبطشنا به]؛ثم لقطعنا منه الوتين[=ثم ذبحناه من الوريد إلى الوريد]"(44 ،45 ،46 الحاقة). يعدد السيوطي في تفسيره لهذه الآيات، المناسبات التي كاد فيها نبي الإسلام أن يقبل حلاً وسطاً بين الشرك والتوحيد،مع مثقي قريش: مثلاً طلبوا منه أن يُقبّل آلهتهم،كما يقبل الحجر الأسود،وأن يجالسهم بدلاً من مجالسته عبيدهم، وأن يعترف،جنباً لجنب مع الله،بآلهتهم الثلاث اللات والعزى ومناة.في كل مرة كان نبي الإسلام"يركن لذلك شيئاً قليلاً"،وأحياناً شيئاً كثيراً كالآيات الشيطانية: "اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى،تلك الغارنيق العلى وإن شفاعتهن لُترتجى."
كاد الحل الوسط أن يتجسد في الآيات الشيطانية، التي كانت بمثابة التوقيع لهذا الحل.لكن ضميره الأخلاقي الصلب دفعه إلى سحب توقيعه، أي إلى سحب آياته متهماً، الشيطان، بانه المسؤول على دسها؛لو تمت هذه التسوية لما هاجر نبي الإسلام إلى المدينة، ولبقي الإسلام المكي المسالم، ولأستراح المسلمون والبشرية معهم من عنف الإسلام المدني،الشرعي الجهادي والمعادي لليهود والنصارى وحرية التعبير... لكن "لو" لا محل لها في التاريخ.
كيف يمكن أن نتأوّل اليوم، تفكير محمد في "إفتراء قرآن آخر" غير القرآن؟وفي"ضيق صدره بالوحي" (...)وفي ترك بعضه"في طي النسيان؟وإعراضه عن ابن أم مكتوم؟وتفضيله مجالسة مشركي قريش على مجالسة أتباعه من المستضعفين؟وحادث الآيات الشيطانية،الذي يبدو أن سكوته عنه طال كثيراً، ربما بضعة أشهر، إلى درجة أنه وصل إلى مهاجري الحبشة، وعاد بعضهم إلى مكة لما سمعوا أن قريش قد أسلمت عندما سجدت وسجد النبي معها لله و لبنات الله:اللات والعزة ومناة؟مدلول هذه المواقف تعبير عن رغبة محمد المكبوتة في المصالحة مع الشرك القرشي، بتسوية تاريخية ترضي الجميع:تشريك اللات والعزى ومناة مع الله،الذي كان يؤمن به مشركوا قريش؛ولكنهم يشركون معه هذا الثالوث، ربما محاكاة للتثليث المسيحي،كشفيع عند الله.
قد نتأول هذه المواقف على أن محمد[في مكة] ما كان يريد أن يكون ما كانه:نبياً. في صراع يومي مع"عشيرته الأقربين"، التي تسومه ألواناً من العذاب النفسي كالإستهزاء به:"ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) (الأنعام10) ،ومناداته بـ"أبو كبشة"،بدلاً من أبو القاسم، كلقب تكريم،ويقلدون مشيته المرضية الفصامية"كأنما بنحط من صبب".لا شك أن شخصيته النرجسية البارانوياك، الحساسة لأدنى نقد،كانت تتعذب من ذلك عذاباً أليماً.قد تكون هجرته إلى المدينة،في الجزء اللا شعوري منها،بدافع النجاة من هذا التعذيب المعنوي اليومي.فضلاً عن مخاطر جدية على حياته وحياة أصحابه نجد صداها في القرآن،لكن ربما كان هذا الصدى يعكس هذيان اضطهاد،لا وجود له في الواقع!
واقع أن نبي الإسلام،السريع الشعور الساحق بالذنب واتهام الذات لأسباب واهية،يخفي الأسباب الحقيقية المطمورة في أعماق شخصيته النفسية "الإتهام الذاتي كما يقول طبيب نفسي:" هو اتهام الذات بأخطاء خيالية أو مبالغاً فيها بالقياس إلى الواقع.وهو مرتبط بشعور الذنب وبفقدان تقدير الذات، فهو عرض مألوف للإنهيار العصبي الإكتئابي"(ج.ب فالو)؛الذي أملى عليه اتهام ذاته المبالغ فيه، وتوعده بالقصاص القاسي منها،إذا هي مرت من النية الآثمة إلى الفعل الأثيم! .
واقعة ضبط حفصة لنبي الإسلام متلبساً بمجامعة جاريته، مارية القبطية، على فراش حفصة،كما يرويها أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول:"دخل رسول الله (ص)بأم ولده، مارية في بيت حفصه، فوجدته حفصة معها(...)فقالت:لما تدخلها بيتي؟ما صنعت بي هذا ـ بين نسائك ـ إلا من هواني عليك.فقال لها:لا تذكري هذا لعائشة،هي[مارية]علي حرام إن قربتها(...) فحلف لها ألا يقربها،وقال لها لا تذكريه لأحد،فذكرته لعائشة، فآل ألايدخل على نسائه شهراً واعتزلهن 29 ليلة، فأنزل الله:"يا أيها النبي لما تُحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك(...)(التحريم).
هذه الواقعة بليغة الدلالة على رعب نبي الإسلام من اخطائه وخطاياه،حتى الضئيلة جداً منها!فأي خطأ او خطيئة في أن يضاجع جاريته على فراش إحدى زوجاته؟لكن شخصية نبي الإسلام النفسية، الهلوعة من الخطأ والخطيئة جعلته:"يتصبب عرقاً أمام حفصة ويقسم لها أنه سيحرّم مارية على نفسه، طالباً من حفصة أن تكتم عنه"وأن لا تخبر عائشة بـ"الفضيحة"!كما تشهد لذلك رواية تاريخية لا شك فيها: "إن تتوبا إلى الله فقد صفت قلوبكما،وإن تظّاهرا عليه،فإن الله هو مولاه، وجبريل،وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير"(4 التحريم)أي:يا عائشة وحفصة،إن تبتما إلى الله،فذلك لأن قلبيكما اهتديا إلى الحق، أما إذا تحالفتما ضد النبي،فاعلما جيداً إنه ليس فريسة سهلة لكما،ستجدان إلى جانبه الله وجبريل،ومعهما فضلاء المؤمنين،فضلاً عن الملائكة، سيهبون لنجدته منكما! هل تتطلب حماية محمد من امرأتين،عائشة وحفصة،كل هؤلاء الحلفاء الأربعة لنبي الإسلام،بداية من الله نفسه إلى ملائكته؟. هل من تفسير لذلك؟ بالشخصية النفسية الهلوعة و التهويلية البارانوياك،التي تحول الحبة إلى قبة، وتجند جميع قواها المتاحة للرد على المعتدي لسحقة سحقاً!. هذا التهويل الصبياني، ملحوظ في الشخصية البارانواياك،المتميزة بخطأ التقدير والحكم وبالتأويل الهاذي للمواقف العادية التي تقرأها كمواقف معادية. كما هو عائد إلى شخصية نبي الإسلام النفسية، التي ظلت متسمرة في الطور الصبياني، بسبب رضاعته حولين كاملين،عند حليمة السعدية فضلاً عن المدة التي أرضعته فيها مولاة أبي لهب، والمدة التي أرضعته فيها أمه قبل تسليمه للمرضعات:"الإبقاء على الطفل رضيعاً أكثر من العام الأول،يعرضه لخطر البقاء في موقف صبياني جداً طوال حياته." كما يقول الطب النفسي(انظر:إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان:من التربية الجنسية الدينية إلى التربية الجنسية العلمية ص 46). كما هو عائد أيضاً إلى علاقته بأمه،التي استبطنها رضيعاً بما هي أم مفترسة.
خوفه الهستيري من زوجاته هو نفسياً روماك[=إعادة تصوير فيلم قديم بممثلين جدد]لخوفه من أمه التي عاملته رضيعاً بـ"التوديع والقِلى"،اي بالهجر والكراهية.حالة محمد ليست الوحيدة،بل هي حالة قادة تاريخيين حكموا شعوبهم حكماً سلطوياً،لكنهم كانوا أمام نسائهم كفأر أمام قط:هارون الرشيد، كان أيضاً ذا شخصية نفسية صبيانية جعلته دمية في يد زبيدة،التي أوحت له على الأرجح بنكبة البرامكة، التي كانت عواقبها وخيمة على التحالف بين الأرستقراطيتين العربية والفارسية؛ربما مازالت فاعلة حتى الآن في الصراع الفارسي العربي.نابليون كان هو الآخر لعبة في يد جوزفين،التي كانت لا شعورياً رمز أمه:أمه التي كانت تحتقره،حتى أنها لم تعتقد قط أنه أصبح إمبراطور.كان دائماً في نظرها ذلك الطفل الحقير الذي كانه،فكان يقول لها إذا مرضت:"يا عجوز لا تموتي،فبعدك لن أسمع أمراً من أحد"!؛بورقيبة كان أيضاً خاتماً في أصبع" وسيلة"،التي كانت، لحسن الحظ، تشير عليه دائماً بالرأي الحسن. حتى أن وزيره الأول،الباهي الأدغم،كان يقول مستغرباً: "بمجرد أن تشير له بيدها يسكت". وقد اعترف بورقيبة أن أمه احتقرته لأنه كان" ُقريد العش"،أي آخر مولود في عائلة كبيرة،وكانت تكلفه بطحن الحبوب بالرحى ـ كما كانت تفعل أمي معي ـ . قسوة الأم على الإبن،فضلاً عن الرضاعة لأكثر من عام، توّرث ابنها قلة النضج العاطفي والخوف الرُهابي من الأم ورمزها الزوجة.وهذه حالة محمد.
يولد الشعور بالذنب من الصراع الداخلي بين الضمير الأخلاقي و"الهو".الضمير الأخلاقي هو كل ما علمتنا التربية أن نفعله،أو نقوله أو أن نشعر به.أما الُهو، فهو المحكمة النفسية،أي المنطقة، النفسية،التي ينطلق منها،كشلّال، مدّ الغرائز، أي الأفعال والانفعالات خاصة الجنسية التي كبتتها التربية،والتي تصادم التقاليد الراسخة و"الأخلاق الحميدة"،أي الصورة التي تعودنا على إعطائها لأنفسنا.
اعتذار نبي الإسلام عن أخطاء وخطايا لم يرتكبها، أو هنّ تافهات،هو كما يشعر به في واقعه النفسي، اعتذار عن أخطاء وخطايا كان بإمكانه أن يرتكبها،أو تلك التي يرغب لا شعورياً في ارتكابها. الاعتذار غير المبرر موضوعياً، يأتي ليكبت مدّ الغرائز الراغبة في أن تتحقق.محمد،الخاضع لضمير أخلاقي غاشم،بسبب تربية قاسية وخاصية،يعتذر عن رغبته في ارتكاب المحظورات مستقبلاً!.
الأخطاء والخطايا البسيطة،التي حاسب نبي الإسلام نفسه عليها حساباً عسيرا،ليست في حد ذاتها باعثاُ على شعور ساحق بالذنب؛بل هي على الأرجح ملح يُصب على جرح لم يندمل.وهو أليم بقدر ما هو خفي لا يعيه محمد؛جرح يعود إلى الطفولة الباكرة.الطفل محمد كان كل شيء إلا طفلاً محبوباً؛الحب حيوي للطفل، لبناء شخصيته النفسية،لبناء تقديره لنفسه،لبناء ثقته في نفسه.الحب منذ الطفولة هو إذن ترياق الشعور الساحق بالذنب والمشاعر الكئيبة التى ترافقه.تتضافر المؤشرات على أن الطفل محمد افتقد ذلك، كما رأينا ذلك في طفولة محمد.
فماذا يكون الباعث المحتمل على هذا الشعور بالذنب،على هذا الاتهام الذاتي،الذي زلزل كينونة نبي الإسلام، تحت وطأة ضمير أخلاقي غاشم، تشكّل على صورة الله ـ الأب ،"الشديد العقاب"؟.
وُلد الشعور بالذنب يوم وُلد الضمير الأخلاقي،الذي يلعب مع البشر دور الشرطي القابع داخل النفوس وداخل الرؤوس،لحماية المحرمات الأبوية،أي الاجتماعية أو الإلهية،من الانتهاك.
شعور الإنسان بالذنب، مصدره ميول الطفل للعقاب الذاتي،الذي ينمّيه كقصاص ذاتي من رغبته في قتل الأبوين في طور الصراع الأوديبي(3 ـ 5 سنوات تقريباً)،الأبوان،نفسياً،الأب ـ أو الأم ـ ليس الوالد بل المربي؛إذن آباء محمد ليسوا آمنه وعبد الله وحسب، بل أيضاً وخصوصاً مرضعاته والرجال الذين ربوه،وهم كثيرون.لا شك أنه خُيل للطفل محمد، أن كل واحد من آبائه قد هدده بالخصاء.وهكذا كان قلق الخصاء، كعقاب على جريمة قتل الأب الوهمية،أضعافاً مضاعفة عنده.
الشعور بالذنب يحيل إلى فعل وقع فعلاً أوتخييلاً،إلى جريمة وهمية هي أكثر وقعاً على الضمير من جميع الجرائم الحقيقية.الفعل الآثم الفعلي أو الوهمي،ينشط التهديد الأبوي بالخصاء؛مازلت أذكر كيف أن فلاحاً كان يقول لي وأنا أتدفأ على الجمر مكشوفاً:"ييجي اليوم اللي نقصوا فيه غلاشتك [=قضيبك]بالفأس،يقصد طبعاً الختان.ومازلت أذكر كيف أن أبي،وكانت على رأسه عصابة مزركشة، أخذني من يد أمي التي عادت بي من محاولة فراري من الختان،ورفعني بين يديه وقدمني إلى مقص عم فرج الحلاق!
الضمير الأخلاقي هو إذن محصّلة استبطان الطفل،الذي تقمص شخصية الأبوين،تشبع بأوامرهما ونواهيهما؛واستبطن في الوقت ذاته أن انتهاكها لن يمر من دون عقاب: الخصاء الفعلي،الذي يرمز له في الثقافات البدائية،الختان؛ الخصاء الفعلي المخيف ليس اجتثاث الغلفة وحسب، بل القضيب كله، وكل القيم القضيبية، التي يجسدها القصيب رمزياً:من هيبة،وقوة، وثروة وشهرة.هذا الشعور الأليم بالذنب يتم كبته وكبت الأسباب التي ولّدته،غير تارك في الوعي إلا ضميراً أخلاقياً ينمو نمواً مشوهاً، ابتداء من سن 6 سنوات.
لكن الشعور بالذنب يعود متخفياً في أعراض مرضية،بمجرد تنشيطه بقناعة قوية بانتهاك المحرمات الأبوية،التي يسميها الدين المحرمات الإهية.يكون الشعور بالذنب ساحقاً بقدر ما يكون قلق الخصاء،الذي ولّده ساحقا ايضاً. لا شك ان شعور نبي الإسلام الساحق بالذنب هو وليد لقلق الخصاء الساحق،الذي تشربه طفلاً ويافعاً من مربياته ومربيه.
يجوز أيضاً الإفتراض بأن الشعور بالذنب عند نبي الإسلام، يعود أيضاً إلى ما قبل الطور الأوديبي،إلى الطفولة الباكره، إلى العلاقة مع الأم ـ الأم الوالدة والأم المربية: مولاة عمه أبو لهب وحليمة السعدية، التي أعادته إلى أسرته خوفاً منه أو خوفاً عليه؛بعد "حادثة" شق الصدر.
الشعور بالذنب يولد مع ميلاد الضمير الأخلاقي.فهل يكون الطفل محمد،الذي تلقفته أيادي الأمهات ،غير الرحيمات على الأرجح،قد نمّى فيه ضميرا اخلاقيا مبكرا ،قبل نهاية السنة الأولى من عمره؟. هذا الضمير الأخلاقي المبكر، كان في منتهى القسوة،التي تجلت في السادية ضد الذات في مكة، منذ التأنيب الذاتي، إلى محاولات الانتحار المتجددة ،التي حاولها محمد المكتئب. ستتحول السادية ضد الذات إلى سادية ضد الآخر في المدينة:ضد الشعراء الذين هجوه،وضد اليهود الذين لم يسّلموا بنبوته وطمع في ثرواتهم، وضد أسرى قريش الذين جادلوه واستهزأوا منه في مكة.
أهم من البحث عن أسباب الشعور بالذنب،هو البحث عن عواقبه عند محمد المكي والمدني. تتجلى عواقب الشعور بالذنب العصابي والذهاني في جميع التصرفات والانحرافات العصابية والذهانية للمريض في:
* الاضطرابات الوسواسية القهرية،التي تتجسد في المجال الديني، في الشعائر بما هي سادية ضد الذات.تجسدت عند نبي الإسلام ـ وعند كثير من المتصوفة حتى اليوم ـ في شعائر دينية معقدة، كثيرة ومرهقة أكثر من أي دين آخر على حد علمي:5 صلوات في اليوم من الفجر إلى شطر من الليل، وقد تستغرق الليل كله إلا قليلا بالنوافل.:"وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً[= الثلث الأخير] من الليل"،"يا أيها المزمل [=محمد]قم الليل إلا قليلاً ،نصفه،أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا؛إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(...)واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا[=أذكر اسم ربك بلا كلل ولا ملل وكرس نفسك للعبادة ]"(7،4،3،2،1 ،المزمل)، هذيان الشعور بالذنب، أملى على نبي الإسلام،خلال حلم الإسراء الهاذي 50 صلاة؛إلا أن الشطر السليم من نفسيتة ـ الذي تقمص شخصية أخيه موسى ـ تغلب هذه المرة نسبياً،على شطرها السقيم.فتفاوض الشطر السليم مع الله،مخفضاً لها إلى 5 صلوات بدل صلاة أسبوعية واحدة،الجمعة كما في المسيحة. وفي شعائر الطهارة للصلاة،و لقراءة القرآن أوحتى لمجرد مسه:"لا يمسه[القرآن] إلا المطهرون"، (79 ،الواقعة) وللصلاة:الإغتسال الأكبر بعد الجماع،أو الإحتلام أو خروج المني بأية وسيلة كانت، الوضوء،أي غسل اليدين والرجلين والوجه والمسح على الرأس،بعد التبول،والتغوط،والظراط، والفساء وحتى مجرد مس الذكر سهواً...؛وشعيرة الحج الطويلة،المكلفة والخطرة؛وشعيرة رمضان المؤذية للصحة والاقتصاد...
كما كانت نتيجة الشعور بالذنب كارثية على صحة نبي الإسلام النفسية، مازالت أيضاً كارثية على صحة واقتصاد ومستقبل أمته! التي فاتها،أساساً بسبب الإسلام البدائي الذي لم يقع إصلاحه،قطار الحداثة منذ قرون؛
* فقدان تقدير الذات الآثمة،الذي عبر عنه نبي الإسلام في تلك الإستغاثة يوم أُهين في الطائف: "اللهم إني أشكو إليك قلة حيلتي وهواني على الناس (...)"،هذا الهوان المرير الذي حاول،عبر الهلاوس، تسكينه بهذيان العظمة البارانوياك:فهو نبي،شفيع أمته يوم القيامة،سيعطيه ربه كل ما يريد فيرضى...
* الشعور الإكتئابي المرير بالسأم من الحياة، وتمني الموت، الذي تجلى عند نبي الإسلام في محاولات الانتحار المتكررة: لكن في كل مرة كان الشطر السليم من نفسيته يتغلب على الشطر السقيم، متجسداً في جبريل الذي يهدئ روعه قائلاً له:يا محمد انك رسول الله(...):"الأبحاث الحديثة العهد،تتجه إلى البرهنة بأن هذه المحاولات الانتحارية،يمكن أن تكون جزئياً مسكونة باندفاعية عالية جداً عند مرضى الفصام.ويوجد عامل آخر خطير للتصرف الانتحاري، يقدمه مجيء نوبة انهيارية مصحوبة بمشاعر الفشل،واليأس والتحقير الذاتي.(...)كثافة الألم النفسي عالية، إلى درجة دفع المريض إلى البحث على القضاء على نفسه في فترات الهذيان والهلاوس مثلاً،وفي لحظات الشعور الأليم بالعزلة وضياع معالم الطريق"(2).
المحاولات الانتحارية هي عدوانية ضد الذات:"الأفعال الإجرامية نادرة.العدوانية،عندما تكون موجودة، هي غالباً موجهة ضد الذات ويمكن أن تؤدي إلى الانتحار.هؤلاء المرضى هم غالباً ضحايا العنف وليسوا فاعليه.(3).هذا التشحيص ينطبق على حالة محمد،الذي حاول الانتحار مرارا في مكة،والذي كان ضحية عنف المشركين الفعلي والرمزي ولم يكن فاعله.أما في المدينة،كما سنرى ،فقد كان المناخ مهيئاً لينتقل محمد من العنف ضد الذات إلى العنف ضد الآخر.لذلك لا تخبرنا السيرة عن محاولات انتحار في المدينة!.
* في الجنوح:"مفاجئتي،قال فرويد، كانت أن الشعور المتعاظم بالذنب قد يجعل من الإنسان مجرماً" (4) .كيف يعطي هذيان الشعور الساحق بالذنب الجنوح والإجرام؟ "الجنوح مرتبط ارتباطا وثيقاً بسوء تصرف الأم مع طفلها، طوال فترة رضاعته،خاصة إذا كان الوسط العائلي لا يقدم للطفل مساندة ضرورية،فإن هذا الشعور بالذنب يصبح عبئاً لا يطاق"،كما يؤكد النفساني ويسكونط؛"العبء الذي لا يطاق"عبر عنه اللاشعور العاري لنبي الإسلام تعبيراً دقيقاً:"وزرك الذي أنقض ظهرك".(2،الشرح).
تجلى هذا الجنوح والإجرام خلال الفترة المدنية في قطع الطريق على تجارة قريش؛في قتال القبائل وتحويل مكاسبها إلى غنائم لنبي الإسلام والمقاتلين في جيشه،في اغتيال الشعراء الذين هجوه؛في إجلاء قبائل اليهود،ومصادرة ثرواتهم إما لحسابه الخاص كفدك،وإما لحساب المسلمين،وإما قتلهم كبني قريظة!.
الجنوح والإجرام يشكلان،كما يؤكد علم نفس الأعماق،"متنفّساً"لمشاعر الذنب اللاشعورية الساحقة؛لأنه يقدم لها مبرراً شعورياً لشعورها بالذنب اللاشعوري:"هذا العنف[ضد عائلة الفصامي] عند مريض الفصام يتميز غالباً بطابعه اللامتوقع:يمكن أن يحدث عندما لا ينتظر أحد حدوثه،بلا سبب واضح وفي حالة برود عاطفية"(5).وهذه حالة الفيلسوف الماركسي الفرنسي الفصامي لوي الطوسِير؛عندما أقدم في 1980 على ذبح زوجته.(6) "التكفير عن الشعور بالذنب،قد يكون مصدر تصرفات إجرامية".(7)
"الشعور الزائد بالذنب،كما لاحظ فرويد،يمكن أن يحول الإنسان إلى مجرم".إقتراف جرائم، لتبرير الشعور بالذنب الذي لا مبرر موضوعي له،يريح ضمير المجرم الأخلاقي المعذب.يبدو كما لو أن الإجرام،خاصة الديني،يحول الضمير الأخلاقي الغاشم إلى ضمير أخلاقي غائب. فتاوى قتل اليهود والنصارى ومن والاهم من"المرتدين"المسلمين، ترجمة لهذه العملية النفسية المعقدة، التي تحول المذنب وهمياً إلى مذنب فعلياً، ومع ذلك مستريح الضمير،الذي غسلته الفتوى من الشعور بالذنب الصحي.الشعور اللاشعوري بالذنب،يحتاج إلى جريمة؛الفتوى تقدم له التبرير الديني لإرتكابها.قسوة الضمير على المذنب تتحول إلى قسوة على الأبرياء،على كل من يوجدون على الضفة الأخرى،دينياً أو سياسياً،مخالفين لنا أو مختلفين عنا!.
وهكذا فهذيان الشعور الساحق بالذنب هو المغذي النفسي الأول حتى الآن للتعصب الديني والمطالبة بالعنف الشرعي والإنغماس في ممارسة الإرهاب الداخلي والخارجي. هذه النقطة الأساسية، لفهم بواعث الإرهاب الإسلامي، لم يدركها حتى الآن إخصائيوا الإرهاب في الغرب،الذين مازالوا يرددون أن الإرهابيين أناس أسوياء،مثلي ومثلك!الفتوى لا تبرر الجريمة وحسب بل أيضاً تحولها إلى مصدر اعتزاز،عند الإرهابي الذي يغتال "الكافر" والمرتد،أو المؤمن المسعور،الذي يرجم الزاني أو الزانية.كلاهما يرجوان عن جريمتهما مكافأة في الجنة.ولماذا يكون هذا الشعور بالذنب ساحقاً،خاصة عند المتعصبين أساساً لأن الله،رمز الأب، إذن رمز محرمات الضمير الأخلاقي، مخيف، مؤنب ومذنب في الإسلام فهو"العزيز الجبار المتكبر"(23، الحشر)،وهو"شديد العقاب"(25،الأنفال)و "القوي شديد العقاب"(6،الرعد)و"إني أرى ما لا ترون:إني أخاف الله شديد العقاب"و"شديد العقاب بالطول"و"إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم".
رهان إصلاح الإسلام ،بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان،هو تلطيف هذا الشعور الساحق بالذنب،منذ نبي الإسلام إلى اقصى اليمين الإسلامي المعاصر، مما جعل قطاعاً من المسلمين اليوم هاذياً دينياً،15 % من مسلمي العالم،حسب الإحصائيات الأمريكية،متطرفون: يمارسون الإرهاب او مهيأون لممارسته . كيف يمكن تحقيق ذلك؟. اجتماعيا،بالتنمية الشاملة، ونفسياً بتغيير صورة الله في اللاشعور الجمعي الإسلامي:من جلاد شديد العقاب،أي قاسي وخاصي،إلى أب حنون يفيض حباً لعياله وأبنائه المسلمين والناس أجمعين.هذا الانتقال كفيل بتصعيد الشعور الساحق بالذنب، من سديم اللاشعور إلى وضح الشعور.الشعور اللاشعوري بالذنب هو المسؤول النفسي الأول اليوم، عن التعصب والعنف والجريمة والإرهاب.وكلما تم تحويله تدريجياً إلى شعور واع بالذنب، من أخطاء وخطايا فعلية وجدية،لا من خطايا وهمية او تافهة،يهوّلها هذيان الشعور بالذنب، كما في حالة نبي الإسلام أو المتطرفين المعاصرين. كلما كفّ الشعور بالذنب عن كونه مصدراً للتعصب والعنف والجريمة، عند قطاع من المسلمين المعاصرين المطالبين بجلد شارب الخمر 80 جلدة،وقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية، ودق عنق المرتد والجهاد في "الكفار"لإدخالهم في الإسلام إكراهاً!. ممارسة هذا الإرهاب الشرعي أو المطالبة بممارسته،هو اليوم الدافع الديني القوي للجهاد ـ الإرهاب المعولم!.
تغيير صورة الله من إلاه ـ أب سادي، يُعذب بعض أبنائه العاصين لأوامره ونواهيه بشوائهم في نار جهنم:" كلما نضجت جلودهم بّدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب(...)"(56،النساء)ليتلذذ بمواصلة تعذيبهم !. إنه لذو دلالة على تغلغل عدوى هاذه السادية الدينية في قطاع من المسلمين المعاصرين،أن الإسلامي الطبيب التونسي،صلاح كشريد،مترجم القرآن، اعتبر هاذه الآية المخيفة، برهاناً عن الإعجاز العلمي في القرآن لأن:"الأعصاب الناقلة للإحساس بالألم توجد كلها في الجلد"!وتبارك الله أحسن الخالقين!أما التعذيب السادي الفظيع فهو عين العدل!.
لا ينبغي بعد اليوم،أن يكون الله هو هذا الأب الجبار،القاسي الخاصي،الذي يُحقننا بالشعور الساحق بالذنب، كشهادة قاطعة، على خوفنا منه وطاعته طاعه عمياء، وتكريس معظم وقتنا لأداء شعائره.هذه الصورة، الشبيهة بصورة الوالدين الغاشمين في العائلة الإسلامية التقليدية، جديرة بالتجاوز إلى نموذج إلاهي أرقّ وارحم.
حتى نتشجع على انجاز هذه الوثبة الضرورية إلى الأمام،الأمام الروحي والإنساني،يجب ان نوفر الشروط الضرورية،التي تجعل علاقتنا بالله تتغير من علاقة قائمة على الخوف والشعور بالذنب، إلى علاقة قوامها الشعور بالحب، بالأمان والإطمئنان.
لتصحيح الصورة التي نملكها عن انفسنا وعن الله،للإنتقال من الله الشديد العقاب إلى الله الرحيم، علينا أن نتوصل إلى خارطة طريق مرصودة لإصلاح الإسلام من الله ـ الأب الذي يشوينا في "نار حامية"،إلى الله ـ الأب الذي يحمينا من مخاوفنا الطفولية. هذه الخارطة تتحقق بـ:
* إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان من الإبتدائي إلى العالي؛
* التوقف عن تدريس الآيات التي تزرع في رؤوس الأجيال الطالعة بذور هذيان الشعور بالذنب،وعن استخدامها في الإعلام وتلاوتها في الصلاة خاصة الجماعية،وعن تدريس آيات الإيمان بالقدر،خيره وشره،أي الإيمان المازوشي بأن"المكتوب"على الجبين تراه العين،وتالياً الانتهاء من تدريس وترويج آيات التسيير، المخربة لثقة المسلمين في أنفسهم، وتقديرهم لها،وبدلاً منها ،تدريس آيات التخيير، التي تمسك بها المعتزلة،والتي تجعل من المسلم منذ نعومة أظفاره،يؤمن بأنه هو ـ وليس الله ـ خالق أفعاله،وصانع حاضره ومستقبله بالقرار الصائب الذي يصنعه العلم؛
*تدريس حقوق الإنسان،التي هي ترياق الشعور العصابي والذهاني،بالذنب:استبطان حقوق الإنسان،يحوّل ما اعتبره الدين ذنوباً،إلى حقوق يمارسها الفرد المسلم ببراءة واعتزاز.لا شيء كتدريس حقوق الإنسان للوصول إلى التحرر الذهني الضروري لتأسيس الحرية وميلاد الفرد المستقل عن روح القطيع؛
* تشجيع وتعميم زواج الحب، على أنقاض زواج الإكراه التقليدي السائد؛فقد أكدت الدراسات النفسية، أن أطفال زواج الحب، يكونون محبوبين من آبائهم.هذا الحب الأبوي منذ الطفولة يعطيهم الثقة في أنفسهم،التي هي ترياق سم الشعور بالذنب؛
*تدريس الفن والأدب الباسمين المنشطين لغرائز الحياة؛
* تعميم ثقافة الإقبال على التحليل النفسي،الذي يساعد الفرد على أن يعرف نفسه ويعترف بها.
عندئذ لا تعود الآيات المحكمات او المتشابهات هي التي تتحكم في تقرير مصيرنا؛بل يعوضها العلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والمؤسسات العلمانية والديمقراطية.
مراجع الفصل السادس
1 ـ مختصر سيرة ابن هشام ص 105. 2 ـ عش وافهم الفصام ص 58. 3 ـ نفس المصدر ص 109. 4 ـ فرويد، الأنا والهو،ص 21."الهو"هو محكمة نفسية لا شعورية تهجع فيها جميع غرائر انتهاك المحرمات وهي في صراع دائم مع الأنا الواعي[=العقل]وأيضاً وخصوصاً مع الأنا الأعلى نصف الواعي الذي هو الضمير الأخلاقي. 5 ـ نفس المصدر ص 69 . 6ـ ـ كان الطوسير يلقي دروساً عن رأس المال بما هو،في نظره،الكتاب الوحيد الممثل للماركسية العلمية.أما كتب ماركس الشاب الآخرى فهي عنده رومانسية هيجلية.كتب ذات يوم في اليومية لوموند:"الثورة مع الحزب الشيوعي الفرنسي مستحيلة؛والثورة من دون الحزب الشيوعي الفرنسي مستحيلة،ومع ذلك سأبقى عضواً فيه"!صدمتني الصياغة،فحضرت لأول مرة حلقة دروسه، وسألته:هذا ليس الديالكتيك،بل هو الشكزوفرينيا.فامتقع لونه.تصدى لي أحد طلبته: يببدو أنك لم تحضر للتعلم بل للإستفزاز،لقد أخطأت العنوان.ابحث من فضلك عن عنوان آخر يناسبك. فخرجت.لم أكن أعلم آنذاك أن الطوسور فصامي.بل ولم أكن أتوقع ذلك من أستاذ،مساعد في مدرسة المعلمين العليا من1948 ـ 1980 .لم أعلم بمرضه إلا بعد ذبحه زوجته،قرأت كتابه الأخير المؤثر،بعد خروجه من مستشفى المجانين وقبيل وفاته أو انتحاره:"المستقبل يدوم طويلاً"،المليء بالإعترافات الروسويه مثل أنه،عكس الإنطباع الذي كان يعطيه عن نفسه بأنه موسوعي،لم يقرأ طوال حياته إلا 100 كتاب. 7 ـ معجم السايكولوجيا ،ص 175،بف،باريس.
الفصل السابع
الهذيان الإهتياجي الإكتئابي وهذيان نهاية العالم
1 ـ الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي
"في بعض الحلات،النوبة الهاذية تترافق بتعبير حقيقي هاذي هلوسي.هذا الجنون الهاذي يمكن أن يشتمل عل موضوعات صوفية أو نبوية مع أفكار التأثير(...)الله يسّر لي ويتحدث على لساني(...) أو أنا مريم العذراء أو موضوعات اضطهاد وثأر(...)" (طب نفس الراشد ص 199)
******** الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي مرض ذهني يتميز باضطراب المزاج،وتحولاته اليومية أحياناً من النقيض إلى النقيض،بالانتقال من نوبات الإهتياج إلى نوبات الإكتئاب.يعرفه الطب النفسيب أنه:"ذهان، أساساً وراثي،يتميز بتكرار،وتناوب،وتجاور أو تعايش حالات اهتياج وحالات اكتئاب.كما توجد حالات عديدة وسطى،تتراوح بين الاهتياج والاكتئاب الجزئيين أو المعتدلين(...)يبدأ هذا الذهان عند الراشد بين 18 و20 عاماً"(1).
"عدد من المرضى الهاذين،من الذين لم يُعبّروا قط في الأوقات العادية عن اعتقاد ديني،يمكن أن يعتبروا أنفسهم:الله،أو الشيطان،أو العذراء المقدسة،أو ممسوسسين من الشيطان أو أنبياء... إلخ، تحت تأثير ذهان إهتياجي ـ إكتئابي،أو إلتياث ذهني،أي فوضى ذهنية،أو هلاوس أو انفصام ذهني. هذا الاعتقاد الجديد، لا علاقة له بأي فكر ديني حقيقي،بل هو مرتبط مباشرة بالنكوص المرضي إلى الطور الأسطوري"(الطبيب النفسي ب.مرشِ في كتابه:"سحر وأسطورة في الطب النفسي").
أعطى عن ذلك الحالة السريرية،التي عالجها في مستشفى فوش بباريس:الأنسة(أ) 20 عاماً،التي ترجمناها في فقرة الهلاوس مع حالات سريرية أخرى.
"النكوص المرضي إلى الطور الأسطوري"(2)،حقيقة طبية جوهرية.لأن المرض الذهني،كهذيان النبوة أو التعصب الديني،هو نكوص من الطور العقلاني،آخر طور تطور إليه"الإنسان العاقل"،إلى الطور الأسطوري،أو السحري أو الديني اللاعقلاني،وهي أطوار تجاوزها تطور البشرية الذهني منذ قرون. مسار تطور البشرية مر بالطور السحري،ثم بالطور الأسطوري،ثم بالطور الديني وأخيراً بالطور العقلاني،الذي نحن فيه الآن.كل نكوص من الطور العقلاني إلى أحد الأطوار الـ 3 السابقة له هو عادة عرض لمرض عقلي.
الطور الإهتياجي:يتجلى في حالة اهتياج فكري ونفسي ـ حركي واهتياج المزاج، كما أن وظيفة الهلاوس تطمين المريض،فإن وظيفة الإهتياج هي تنفيس توترات المريض."المهتاج لا ينام إلا 3 ساعات،لكنه لا يشعر بالتعب،نشيط لكن نشاطه يدار إدارة سيئة".
اهتياجات الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي هي عادة صارخة:الضحك،الغناء،الرقص والشطح،كما هو عند الصوفية إلى الآن،وكما رأينا ذلك عند انبياء عشتار وأنبياء اسرائيل."لكن توجد أيضاً اهتياجات حقيقية حيث الإهتياج أكثر اعتدالاً."(3).
قد تكون هذه الحالة من الإهتياج المعتدل هي حالة نبي الإسلام،الذي لم تروي عنه السيرة أو السنة تعبيراً صارخاً عن اهتياجه كالوجد،إكستاز.لكن السيرة والسنة بخيلان، بكل خبر يُشتم منه الخدش في شخصية نبي الإسلام، بما هو"الإنسان الكامل بإمتياز"؛لكن الإهتياج بدا واضحاً في أسلوبه القرآني المحموم، المتدفق كالسيل العَرِم،كما عند إشعيا،الذي تأثر به محمد كثيراً واستلهمه،كما سنرى ذلك في فقرة تالية.
في حالة الإهتياج القصوى:"تسارع مجرى الفكر،هو الحد الأقصى،هو اللحظة التي لا يعود فيها الكلام وسيلة بل يغدو في حد ذاته غاية،لعبة في خدمة الفرحة الوجودية(...)تسارع مجرى الفكر يشمل شكل ومضمون الفكر،فالأفكار تتلاحق بكل سرعة، دون أن يمضي المريض بأية فكرة إلى نهايتها.فالفكر يتدفق ألفاظاً بلا معنى.التداعي بين الأفكار سطحي،على حدود التماسك،منطق التداعيات يظل غالباً مفهوماً:قافية،سجع،لعب بالكلمات وأحياناً الإكثار من الشعارات،والأمثال السائرة والترتيل،تحصيل الحاصل أو أفكار جاهزة،تتوالى وراء بعضها البعض، لتجعل خطاب المريض مفهوماً إلى حد ما.وبالطريقة ذاتها، يمكن أن يُقطع الخطاب(...)برقية أو بعبارات أجنبية.على مستوى المضمون، ثراء الأفكار ليس إلا ظاهرياً، كما شخص ذلك الطبيب النفسي كرابلن:"انبجاس الأفكار ليس أبداً ثراء أفكار بل مجرد كلمات،أي أن مضمون الأفكار يتحكم فيه موضوع تهييج للخيال لا حدود له"(4).
هذا الإستشهاد الطويل بالغ الأهمية.لأنه يصلح تعليقاً طبياً نفسياً على معظم سور وآيات القرآن، التي يكثر تفصيلها ويقل تحصيلها.لنضرب مثلاً بالمطلع الأول من سورة العاديات:"والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً،فالمغيرات صبحاً،فأثرن به نقعاً،فوسطنا به جمعاً(...)":"تدفق ألفاظ بلا معنى(...) التداعيات قافية وسجع"ماذا عنى نبي الإسلام بهذه الجمل الغامضة:أقسم بالخيول الراكضة التي تسمعنا عويلها،أو تذمُرها، هذه الخيول، التي تُثير بحوافرها الشرارات ،والتي تُغير في الصباح وتثير الغبار[= عند العدو؟]"ووسطن به جمعاً"جملة غير مفهومة،قد يمكن تأويلها بأن الخيل دخلت إلى وسط جيش العدو؟.
أية قداسة للخيول المغيرة ليقسم بها نبي الإسلام، كحجة على صحة دعواه القائلة" إن الإنسان لربه لكنود"،أي لا يتعرف بالجميل لربه؟وأي رابط منطقي بين ما أقسم به وما أقسم عليه نبي الإسلام؟لا رابط ! "الخيط الناظم للسورة هو"تداعيات القافية والسجع"ليس إلا.كما قال الطبيب النفسي. شخّص طبيب آخر هذيان الإهتياج:"يتسارع المنسوب اللفظي،المريض ينتقل من فكرة إلى أخرى، عاجزاً عن التركيز على موضوع محدد.تتابع الأفكار بسرعة قصوى،كل صورة تجر كوكبة من الذكريات. الخطاب جريان دائم،كتعبير عن فرار الأفكار.تداعي الكلمات يستدعيه الإيقاع:صوت يستدعي صوتاً،جميع الكلمات المتجانسة تُستغل أثناء الأصوات تتوالى،وأحياناً كخليط.هذا التسارع لمجرى الأفكار هو خاصية نوبة الإهتياج،كما يقع في حالات الهذيان الصرعي".(5)
أيات السور القصار المتدفقة كالشلال،من الصعب أن تصدر من شخص جالس بهدوء،بل قد لا تصدر إلا من شخص في حالة غليان واهتياج،أي في حالة وجد:في حالة حماس ونشوة عارمة،في حالة انخطاف،وفرحة وجودية،في حالة ذهول ورقص أيضاً،كما عند الأنبياء والمتصوفة. رأينا أن أنبياء إسرائيل كانوا يخرجون عن أطوارهم ويرقصون.داوود مثلاً،في الرواية التوراتية،كان يرقص بنشوة وحماس أمام تابوت العهد عارياً.فكيف يمكن أن تقول السيرة والسنة مثل هذا،أو حتى أقل منه بكثير،عن محمد،الذي،كما أكدت السيرة،تفاوض الصحابة حول غسله،كأي ميت عارياً،وأخيراً رفضوا ذلك وغسلوه في ثيابه خشية من كشف عورته؟ودفع الهذيان البعض إلى القول بأن نساءه لم يروا ذكره! تحت وطأة الجبن الديني والشلل النفسي،رأينا،وسنرى مثلاً في هذيان نهاية العالم،كيف أن المفسرين لا يفسرون الآيات عندما يعتقدون أنهن قد يلقين ظلالا من الشك على مصداقية القرآن،مثل النيؤات القرآنية باقتراب الساعة في حياة النبي وخصومه المشركين،الذين توعدهم القرآن:"بل تأتيهم [=الساعة]بغتة(...)فلا يستطيعون ردها،ولا هم يُنظرون".كما سنرى ذلك في فقرة هذيان نهاية العالم.وأحياناً يزورون تفسير الآية مثل:"ووجدك ضالاً فهدى".البعض،كالسيوطي،زورها:"ووجدك بين ضالين فأنقذك منهم"والبعض،كالزمخشري،فسرها نصفا وزورها نصفا:"ووجدك ضالاً عن معرفة الشرائع"لكن سرعان ما اعتراه الشعور بالذنب،فشرع في تزويرها:"وقيل ضل في شعاب مكة،فرده أبو جهل إلى عمه أبو طالب،وقيل ضل في مكة،عندما اعادته حليمة السعدية إلى أمه،وقيل ضل في طريق الشام إلى آخر المراواغات. لقد آن للمؤمنين،الذين لم يسقطوا في الهذيان الديني،أن يقطعوا مع هذا التضليل،الذي يلحق بمحمد ودينه ضرراً بليغاً،أكثر بكثير من قول الحقيقة،كما اعترف بها محمد نفسه بكل صدق في قرآنه. الإسلامي صلاح كشريد،ربما لأول مرة،تشجع،عندما ترجم سورة النجم:"رآه بالأفق الأعلى،ثم دنا فتدلى،فكان قاب قوسين او أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى..." معلقاً:"هذه الآيات القصار والاهثة،تترجم على نحو مثير للإعجاب،حالة من الانفعال الكبير والوجد، الأكستاز،عند النبي عندما رأى جبريل بالأفق الأعلى".
سور بداية استيلاء الهلاوس والهذيانات على وعي محمد بكل قوة، لم تكن إلا هذياناً لفظياً لا نهاية له،لعب بالكلمان والكنايات والمجازات وأسماء الأصوات و"تدفق ألفاظ بلا معنى"كما شخص الطبيب النفسي سوسان الهذيان الإهتياجي.
طور نوبات الهذيان الإهتياجي، يترافق غالباً بانفلات الغرائز الجنسية القهري:"الهياج الجنسي ثابت لا يتخلف وغالباً مفرط"(6)؛وهذا ما يؤكده حديث:"أوتيت قوة 40 رجلاً".هذا الحديث لم يتقوّله ابن اسحاق،والذي يرويه صحيح البخاري، بل قاله على الأرجح نبي الإسلام؛تشهد على ذلك زيجاته الكثيرة: قيل 16 وقيل 22 ،فضلاً عن ملك اليمين، والمؤمنات اللواتي يهبن انفسهن له للإستمتاع الجنسي، العابر غالباً، الذي شرّعته الآية:"(...) يا أيها النبي إنا حلّلنا لك أزواجك (...)وما ملكت يمينك(...)وإمرأة مؤمنة،إن وهبت نفسها للنبي،إن أراد النبي أن يستنكحها؛خالصة له من دون المؤمنين(...)"(50 الأحزاب).
ورث الحسن،و الذهان الإهتياجي الإكتئابي وراثي كما سبق، عن جده النكوح الرغبة العارمة في تعديد المنكوحات؛فقد قيل أنه تزوج بين 150 و 350 إمرأة.أيضاً القصاص الفرنسي جي موباسان،كان نكوحاً وفصامياً.فقد مات في مستشفى المجانين. يبدو أن تعديد المنكوحات،ولو لمرة واحدة،وسواساً متواتراً عند بعض الذهانيين وخاصة الفصاميين.يذكر الطبيب النفسي، بانكاو،في كتابه"كينونة الفصامي"[للتذكير لا أكتب أسماء الأعلام والكتب والمصطلحات بالأبجدية اللاتينية كما هو مطلوب، لأن ذلك يجعل النص معرضاً للتفكك عندما ينتقل من موقع إلى آخر]،أن أحد مرضاه"37 عاماً" نكح في مدة وجيزة 41 مومس مرة واحدة لكل منهن،إلا واحدة كانت تضع خاتم في ابهامها نكحها 16 مرة.ربما لأن الخاتم هو الـ فِتيش أو الصنم،الذي عوض له في أصبع المومس قضيب الأم المفقود.
اتضح أيضاً أن نساء الذهان الإهتياجي الإكتئابي يصبحن نكوحات.
اتهام هشام جعيط في"في السيرة النبوية" ابن اسحاق، بالإفتراء على النبي بأنه نكوح، متهماً إياه بإسقاط حالته الخاصة على محمد. يبدو مجانياُ،لم يتسند حتى إلى بداية حجة! ربما كان دافعه،كما عند المفسرين،تبرئة النبي من كل ما يثير الشبهات بالمفهوم العامي!والحال أن إصابة نبي الإسلام بالذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي، المسبب للفحولة المفرطة، تتضافر عليه القرائن،عبر أعراضه في القرآن.يستخدم هشام جعيط في كتابه اشمئزازه الشخصي،من خبر أو فكرة، كبرهان على بطلانهما.وهو ما وصفته بـ"البرهان النرجسي"،وهذا في العلم خطأ جسيم.لا يوجد بين البراهين العلمية:"أرفض هذا بتاتاً"، التي لا تصدر إلا عن مفتي نرجسي هاذي، سجن عقله في معتقداته الجامدة وإيمانه الساذج.أما المؤرخ،وجعيط مؤرخ قدير،فلا يسعه إلا مناقشة الفرضيات بفرضيات مضادة،مبنية بناءً منطقياً،ومبرهَناً عليها بدم بارد. النزاهة الفكرية كانت تتطلب منه،كمؤرخ،أن يعتمد،خاصة في موضوع لا سبيل لليقين فيه، كموضوع نبي الإسلام،على الفرضيات المفتوحة للبحث والنقاش وليس على اليقين الأعمى والرفض المتشنج.
مريض الإهتياج الإكتئابي مزاجه متقلب من النقيض إلى النقيض،من التفاؤل إلى التشاؤم،من الابتهاج بالحياة إلى القرف منها:"إن المال والبنون زينة الحياة الدنيا"(46 الكهف)ثم"وما الدنيا إلا متاع االغرور" (186 آل عمران)،"،أو "ولسوف يعطيك ربك فترضى"(5 الضحى)؛ثم،في طور الإكتئاب،ينتقل إلى الإتهام الذاتي والتهديد الصارم للذات:"لو تقول علينا[محمد] بعض الأقاويل،لأخذنا منه باليمين،ثم لقطعنا منه الوتين"(46،45،44 الحاقة).
"يسيطر[في طور الإكتئاب] الشعور بالذنب والاتهام الذاتي المجاني غالباً ومحاولات الانتحار.كما تسيطر كذلك الإضطرابات الجسدية وخاصة الأرق،والإستيقاظ الباكر صباحاً"(7).
هذا التشخيص ينطبق على نبي الإسلام ،الإستيقاظ باكراً لصلاة الفجر!" الإنهيارات العصبية المقنّعة، تحتل في الإكتئاب مكاناً بارزاً،وقد يلازمها الصداع(8).كثيراً ما اشتكى نبي الإسلام من الصداع، حتى في يوم وفاته.فقد جاء في البخاري عن ابن عباس:" أن رسول الله احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به".
"البنية الإكتئابية للمريض تقوم على استبطان الغرائز العدوانية،التي تفعل فعلها تحت ضمير أخلاقي قاسي"(9)،كما هي حالة نبي الإسلام كما حللناها في هذيان الشعور بالذنب؛"الإكتئابي سجين الماضي،أما المستقبل فلا وجود له عنده."(10).وهكذا ربما نفهم لماذا لم يفكر نبي الإسلام في مستقبل أمته من بعده، أي في خلافته، بتعيين ولي للعهد، بدلاً من الشورى، التي كانت شراً على المسلمين!ومازالت شراً عليهم،فأقصى اليمين الإسلامي يعارض بها الديمقراطية،أي الدخول إلى الحداثة السياسية،التي لا بديل لها،سوى النكوص الذهاني إلى العصور الوسطى،كما هو الحال في إيران والسودان وأفغانستان طالبان، وربما مستقبلاً في مصر وتونس إذا واصل التاريخ تأتأته!.
"أفكار الموت:كل مكتئب يواجه الانتحار،الذي يبدو له كحل مثالي للصراع بين الأنا والعالم،بقدر ما يسمح ذلك بالقضاء على الطرفين كليهما(...).الأفكار الهاذية لا تتخلف أبداً، وهي أفكار هاذية مرصودة لهجاء الآخرين؛هذيان الإضطهاد، هذيان الشعور بالذنب، وهذيان نهاية العالم"(11)؛هذيان نهاية العالم هو لا شعورياً نهاية المريض نفسه.من هنا محاولات الانتحار المتكررة من نبي الإسلام."هجاء الآخرين"،والقرآن، في جزء كبير منه،هجاء للمشركين مثل أشهر قصيدة هجائية فيه:"تبّت يدا أبي لهب وتب،ما أغنى عنه ماله وما كسب،امرأته حمالة الحطب،في جيدها حبل مسد"(سورة المسد )؛وهجاء لليهود :"قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"(65 البقرة)مثلاً؛وهجاء للنصارى: "وقالت النصارى المسيح ابن الله(...) قاتلهم الله أنّى يؤفكون[=ما أكثر انخداعهم أو ما أكثر إفكهم وكذبهم !]"(30 التوبة)!.
"عندما تتعايش أعراض الاكتئاب مع انشطار الشخصية،ومع انمحاء الشخصية،ومع اضطراب وعي الذات لذاتها،أي شك المريض في هويته،والتشابه وغرابات السلوك(...)يمكن أن تكون عندئذ طريقا للدخول إلى الفصام"(12).
"هل الجنون قدَر العبقرية؟"،هذه الفرضية دعمها باحثون سويديون جمعوا معطيات ملفات طبية لحوالي مليون مريض،على امتداد 40 عاماً،وبرهنوا على أن العائلات التي تقدم حالات اضطرابات قطبية،أي اهتياجية اكتئابية، وفصامية، يوجد بها فنانون كثيرون"(13)
2 ـ هذيان نهاية العالم
"اقتربت الساعة"(1،القمر)
**** المقصود هنا هو هذيان نهاية العالم الديني.إذ توجد سنياريوهات ليست هاذية بالضرورة، لإمكانية نهاية الحياة.نهاية الحياة على الأرض، بكارثة أيكولوجية أو نووية عالمية،يسود بعدها شتاء نووي يدوم 4 قرون،يمنع وصول أشعة الشمس إلى الأرض،فتنقرض أشكال الحياة بما فيها البكتيريه.لكن، في هذا السيناريو العلمي، لا وجود لتدخل خارجي إلاهي،يبعث الأموات من قبورهم،ويوقفهم أمام الله، أو أي إله آخر لتوزيع الثواب والعقاب،أو عن المهدي المنتظر، ليحكم 1000 عام ثم يندثر العالم إلى آخر روايات الهذيان الديني.
تقصّي هذيان نهاية العالم في جميع الأديان،يتطلب مجلداً ليس هنا مكانه. لأن الدافع النفسي المحرك لهذيانات نهاية العالم الدينية واحد: الصراع بين الرغبات الجنسية المكبوتة المتعارضة مع الأنا[=العقل]والضمير الأخلاقي،أي الأخلاق السائدة، التي تجسدها قواعد اجتماعية ودينية غالباً مغلقة،يسبب للمريض قلقاً عاصفاً يجد متنفساً في الهذيان.نلتقي بهذيان نهاية العالم في نوبات الهذيان الإكتئابي:في العمق، الهاذي يتحدث عن شعوره بأن نهايته هو نفسه باتت وشيكة،وعن فوضى حياته الداخلية وخرابها:"إذا زلزلت الأرض زالزالها"،و"إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت". هذه الفوضى الكونية العارمة هي اسقاط ، للفوضى العارمة التي تتفاعل في رأس محمد المتألم واليائس، على ظواهر الطبيعة.
سنقتصر على تشخيص أعراض وتحليل العواقب الدينية ـ السياسية لهذيان نهاية العالم في القرآن، أي عند نبي الإسلام.
هذيان نهاية العالم ورثته المسيحية والإسلام عن اليهودية، وعن الديانة الرزادشتية،التي يبدو أن بصماتها واضحة على القرآن،خاصة في الهذيانات الأخروية،عن طريق أحد معلمي محمد الراهب الزرادشتي، سلمان الفارسي.
الشرط الأول لتوفر هذيان نهاية العالم هو أن يكون قريباً،أي متوقع الحدوث في حياة الهاذي نفسه؛بولس الرسول ،كان يتوقع عودة المسيح في حياته؛أحمدي نجاد،بدأ منذ 2006 يوسع شوارع المدن الإيرانية، لتسهيل مرور موكب الإمام الغائب فيها؛ويناجيه،أي يناجي هلوساته هو ،في بئر في جنوب طهران،خيل له الهذيان أن الإمام الغائب اتخذها مقراً مؤقتاً، في انتظار الإعلان الرسمي للرجعة.
عواقبه الدينية ـ السياسية:تهاوُن نبي الإسلام في تعيين خليفة له، يحصر التداول على السلطة في ذريته،كما كان الحال في عصر الأمبراطوريات المعاصرة لدولة المدينة؛لو حسم توريث الحكم لشخص ونسله من بعده،مثلاً في ابن عمه وصهره ووالد حفيديه،علي اين أبي طالب،كما كان يفعل أباطرة زمانه،ربما لجنب المسلمين مأساة الحرب الدينية الشيعية ـ السنية المتواصلة منذ 14 قرناً؛لا سبيل لقراءة دقيقة للإقتتال الديني الأهلي الجاري في العراق وسوريا اليوم،وربما غداً في لبنان والسعودية وبعض إمارات الخليج،من دون استحضار بعده التاريخي، لربطه بعامل الصراع السني ـ الشيعي المزمن،والذي قد يتحول،في إحدى مراحله،إلى نزاع نووي؛وقد أطلق منذ الآن سباق تسلح وتسلح نووي صامت وخطير، بين إيران وجوارها السني.في تونس، حيث توجد أقلية مجهرية شيعية،شنت وزارة الشؤون الدينية في 2012، لأول مرة في تاريخ تونس الحديث،حملة لحظر كل نشاط دعوي على هذه الأقلية،انتهاكاً لمبدأ الحريات الدينية ولمواثيق حقوق الإنسان،التي تعترف لكل إنسان بالحق في الدعوة السلمية لمعتقداته.لكنها،لسبب واضح،لم تمنع الأئمة،الذين تشرف عليهم من التحريض على الإرهاب الداخلي والخارجي!.
آيات قرآنية عدة،فضلاً عن الأحاديث،أسست لهذيان نهاية العالم في الإسلام:"وما أمر الساعة إلا كلمح البصر،أو هو أقرب"(77 ،النحل)،المغزى:نهاية العالم قريبة جداً،أقرب من لمح البصر.
يفسرها الطبري مسرعاً،كمن يريد عدم الخوض في موضوع محرج:"هي كلمح البصر،أو أقرب من لمح البصر"؛أما السيوطي،الذي كان عليه تفسيرها،بعد أكثر من 9 قرون من نزولها،فإنه فضل المرور عليها مرور الكرام؛لأن نهاية العالم"الأقرب من لمح البصر"كانت تعني نهاية العالم في حياة النبي وأعدائه المكيين قبل إسلامهم!؛"(...)وإن الساعة لآتية،فاصفح الصفح الجميل"(85،الحجر)،عند الطبري: "الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائيّة،فرضّي بها المشركين،قومك الذين كذبوك،وردوا عليك ماجئتهم به من الحق،فاصفح عنهم (...)وأعرض عنهم(...)".أما السيوطي،المحرج كعادته،فقد مر بخبر قرب مجيء الساعة مر الكرام، مبتدأ تفسير الآية من شطرها الأخير"اصفح الصفح الجميل"؛ "أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون"(107،يوسف)هم،مشركوا قريش.يفسرها الطبري:"أفيأمن هؤلاء الذين لا يشعرون بأن الله ربهم،وهم المشركون(...)أن تأتيهم القيامة وهم مقيمون على الشرك (...)[في مكة]لقد خسر الذين(...)انكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب،والجنة والنار،من مشركي قريش (...) حتى جاءتهم الساعة، التي سيبعث الله فيها الموتى من قبورهم فجأة، من غير علم (...)"؛:"بل ويقولون متى هذا الوعد؟(...)بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم يُنظرون"(الأنبياء 39،37)،معنى الآيات:يقول مشركوا مكة ساخرين:متى سيتحقق وعد قيام الساعة؟ يرد عليهم نبي الإسلام:قريباً ،وقريباً جداً ستأتيكم الساعة بغتة فتجعلكم حيارى،غير قادرين على ردها وصدها للنجاة منها،والأدهي أن الله لن يقبل منكم طلب تأجيلها إلى موعد آخر! طبعاً تأجّل مجيئها ومازال مؤجلاً!،وفي آية أخرى يتوعد مشركي مكة باقتراب الساعة أيضاً:"اقتربت الساعة وانشق القمر"(1،القمر).
كالمعتاد،تجاهل السيوطي تفسير"اقتربت الساعة"،وراح يلف ويدور حول مأثورات متعارضة عن "انشقاق القمر"،مرة اعتبره انشقاقاً رمزياً، يجعل وجه نبي الإسلام يضئ كالقمر يوم القيامة،ومرة اعتبر الإنشقاق وقع فعلاً وتفرج عليه المشركون، ولكنهم لم يؤمنوا، ومع ذلك لم تعصف بهم عاصفة الساعة!ناسخاً هكذا لا شعورياً، بل ربما شعورياً، نصف الآية الأول معتبراً لها كأنها لم تكن،إذ قد مضت 9 قرون على اقترابها ومازالت لم تقترب بعد!.
صحيح أن الكون،الذي تكون منذ13 مليار سنة قد يفنى،في أحد السيناريوهات الفلكية الفيزيائية، تحديداً فرضية أينشتين،لكن لن يحدث ذلك إلا بعد 15 مليار سنة قادمة. ومن الجنون المطبق اعتبار هذه المسافة الزمنية الضوئية" قريبة كلمح البصر أو هو أقرب"،ولا أن مشركي قريش كانوا سيعيشون 15 مليار سنة أخرى" لتأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون"!.
مراجع الفصل السابع
1 ـ ميشيل هانوس،طب نفس الراشد ص 22،دار مالوان،باريس. 2 ـ الطبيب النفسي ب.مارشِ في كتابه "سحر وأسطورة في الطب النفسي"ص 185 ،دار ماسون، باريس ، 1977. 3 ـ طب نفس الراشد ص 64. 4 ـ سوسان الطب النفسي 2001 ـ 2002 ص 129. 5 ـ طب نفس الراشد ص 34 مصدر سابق. 6 ـ طب نفس الراشد ص 64. 7 ـ طب نفس الطالب ص 64. 8 ـ نفس المصدر والصفحة. 9 ـ نفس المصدر والصفحة. 10 ـ نفس المصدر والصفحة. 11 ـ نفس المصدر ص ص 48،47. 12 ـ نفس المصدر ص 35. 13 ـ ملف خاص بالذهان الإهتياجي الإكتئابي،نوفيل ابوسرافاتير 07/02/2013.
الفصل الثامن الهذيان الفصامي: 1ـ هذيان النسيان
"إضطرابات الذاكرة[عند الفصامي]مرتبطة جزئياً بمصاعب تركيز الانتباه،الذي يجعل التخزين الدقيق للمعلومة صعباً"(عش وافهم الفصام ص 20 مصدر سابق)
"ولو كان[القرآن] من عند غير الله،لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً"(82 النساء)
***** يبدو أن نبي الإسلام،من بين جميع هذياناته،لم يكن واعياً إلا بهذيان النسيان،وهذيان النسخ وهذيان المتشابهات.لكن هذيان التأثير جعله ينسب هذه الهذيانات إلى تدخل الله في تأليف الآيات:"وما ننسخ من آية أو ننسها،نأت بخير منها أو مثلها"(106،البقرة).طبعاً،هنا الله هو الذي يطمئن رسوله عن أن نسيانه المتواتر للآيات،أو نسخه المتواتر لها أيضاً ،ليس نقيصة تسمح لخصومه بالتشكيك في مصداقية مصدر رسالته،أي الله.
نَسَبَ أفضل بيوغرافيي لمحمد،مونط جومري واط،أخطاء القرآن التاريخية إلى أن نبي الإسلام لم يقرأ الكتاب المقدس،إنما كان يستمع لرواية شفوية عنه،ثم يعيد صياغتها،صياغة خاطئة،في القرآن.يقدم واط مثالين شهيرين على هذه الأخطاء:مثل خطأي هامان ومريم:ذكر القرآن في 6 آيات أن هامان كان وزير فرعون موسى.والحال أن هامان،الذي هو شخصية تاريخية فارسية،كان وزير خسرو في القرن 5 ق.م؛بينما أسطورة"فرعون موسى"تعود إلى القرن 15 ق.م حسب الرواية التوراتية؛ والمثال الثاني، عن الأخطاء التاريخية في القرآن،هو مريم،أخت هارون، والحال أن بينها وبين هارون،وهو شخصية رمزية،أكثر من 1500 عام،حسب الرواية التوراتية!،فكيف بقيت حية طوال 15 قرن وأنجبت المسيح؟.
كيف يفسر الطب النفسي هذيان النسيان؟باضطراب الذاكرة،"معظم مرضى الفصام يبقى معدل ذكائهم سوياً.بالعكس يعانون من اضطرابات ذهنية:من مصاعب التركيز والتذكر"(1). يقول الطب النفسي:"التذكر هو أولاً تثبيت المعلومة،ثم المحافظة عليها،أي عملية التخزين وأخيراً إعادة التذكر(...)ثغرات الذاكرة، التي تغطي الفترة، التي يقع فيها تثبيت الذكريات (...)، بسبب حادث اضطراب عقلي طارئ (...)وهم الذاكرة هو تعويض لذكرى حقيقية بذكرى مختلقة (...)المريض يحاول تلافي عجز الذاكرة بذكريات وهمية(...)قد تصل إلى هذيان الذاكرة".(2).
إذن خطاءا نبي الإسلام، في روايتي هامان ومريم، عائدان على الأرجح، لا إلى الرواية الشفوية، التي قد يكون استقى منها معلومتيه،بل إلى هذيان النسيان.لأن الإستشهادات من الكتاب المقدس، العبري والمسيحي،التي استشهد بها حميد الله في ترجمته للقرآن كانت أحياناً دقيقة،يحضرني منها الآن استشهادان:"ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل:أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً"(33،المائدة)المأخوذة حرفياً من سفر التثنية أو "الشريعة الثانية"؛"وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت"(41،العنكبوت)وهي أيضاً ترجمة حرفية دقيقة لآية في انجيل متى،إن صدقتني الذاكرة.
ترجمة البروفسير حميد الله،في السنوات 1960،اشتراها من المكتبات الفرنسية المركز السعودي بعد موته، وأزال منها المقارنة بين الآيات القرآنية وآيات الكتاب المقدس، واعاد طبعها بعد حذف اسم مترجمها. وهكذا ففقهاء الإسلام، قديماً وحديثاً، شعروا بالعار من أخطاء القرآن، سواء في هذيانات نهاية العالم أو في هذيانات النسيان ...إلخ.وعاشوها بما هي"فضائح"،يجب إخفاؤها عن عيون الآخرين،خوفاً من انهيار عصمة القرآن بما هو كلام الله.وشعروا بالعار، حتى من مجرد أن تكون بعض آيات القرآن مأخوذة من التوراة والإنجيل، فضلاً عن الكتب الدينية الأخرى القانونية أو المنحولة أو غير المقدسة،كالتلمود ومسودته"المشناة"،التي عربها القرآن بـ "المثناة":"ولقد أتيناك سبعاً من المثاني والقرآن الكريم"(87 الحجر).وفضلاً طبعاً عن الآيات المأخوذة من الماجوسية عن أساطير الجنة والحور العين مثلاً.
وهكذا فكل مقاربة للقرآن بتاريخ الأديان المقارَن،حتى ولو كانت مقارنة بتعريف الحد الأدنى،أي مقارنة القرآن بمصدره الأساسي،الكتاب المقدس،ناهيك عن مقارنته بالديانتين الوثنيتين،البابلية والمصرية، اللتين هما المصدر الأول للكتاب المقدس،الذي استقى منه نبي الإسلام معظم القرآن.
اعتبار القرآن كلام الله وعلى"المسلم الحزين"أن يتقيد به حرفياً،شكل ومازال عائقاً دينياً وذهنياً هائلاً لإنتقال المسلم،بلا عقد ولا شعور بالذنب،من علم الأجنة القرآني، المغلوط من ألفه إلى يائه،إلى علم الأجنة الحديث،ومن الجغرافيا القرآنية،التي تجعل الشمس تغرب في عين حمئة،إلى الجغرافيا العلمية،ومن الكسمولوجيا القرآنية القائلة بأن الله خلق الكون في 6 أيام في آية، وفي 8 أيام في آية أخرى،إلى الكسمولوجيا الفلكية الفيزيائية المعاصرة،التي أثبتت أن "ميلاد الكون"،حدث بعد تجمع المادة كلها في حجم متناهى في الصغر:أصغر بمليارات المرات من رأس مساك،ثم انفجرت "بيج بانج"في:"جزء من مليار من الثانية"(الفلكي الفيزيائي كلود أللجير،المعجم المحب للعلم ،ص 129، دار بايار، باريس).وباختصار،أعاق الفكر الإسلامي عن الانتقال من الأساطير الدينية إلى الحقائق العلمية .
أما خلق الكون في 6 أو 8 أيام القرآنية،فهذيان ديني مطبق!.
ماذا يعني ذلك؟يعني أمرين:ضرورة الفصل بين القرآن والبحث العلمي وضرورة استحداث قراءة رمزية،على غرار القراءة الصوفية الإسلامية،للأساطير القرآنية".قراءة الأساطير القرآنية قراءة حرفية، ستؤدي إلى مآلين:اقامة حاجز ديني ـ نفسي منيع بين القرآن والعلم، أو ـوهو الأرجح،نظراً للتدفق الهائل للمعلومات العلمية ـ الى نفور جماعي من الأساطير العلمية القرآنية بعد تعرية الحقائق العلمية لها.
كيف تفسر علوم الأعصاب ثغرات الذاكرة في الفترة التي يقع فيها تثبيت الذكريات؟
الذاكرة هي بنية صغيرة ملتفة على نفسها،في الجزء الأكثر قدماً من الدماغ.شكلها يذكّر بالحيوان البحري،الذي هي مدينة له باسمها"فرس البحر"؛يتموقع فرس البحر في شطري الدماغ الأيمن والأيسر. هذه المنطقة هي أول ما يصاب في مرض الزهيمر.وهي بوتقة الذاكرة.وهي مفتاح الميكانيزم بيو ـ كيمياوي،الذي به يتعلم الإنسان ويتذكر.هذه المعاينة للذاكرة ووظائفها هي ثمرة الاكتشافات،التي أنجزت منذ السنوات 1970. مثلاً عاين الباحثون البريطانيون، أن سائقي التاكسي في لندن المتعودين على ارتياد متاهات المدينة،كانوا مزودين بفرس بحر متطور في الشطر الأيمن من الدماغ.وفي السنوات 1980،اتضح أن فرس البحر يلعب دوراً أساسياً في الذاكرة.
يؤكد الباحث فرنسيس اوستاش،مدير مخبر النوروسيكولوجي في جامعة كان:"فرس البحر يشتغل عملياً كموظف في الأرشيف:يسحب الأحداث الروتينية المطلوب نسيانها، ويحافظ على ترسيخ المعلومات الأكثر أهمية، في مناطق أخرى من الدماغ. حيث يتم الاحتفاظ بها على نحو دائم(...) موظف الأرشيف،ليس فقط مسؤولاً عن تخزين الذكريات القديمة،بل يتدخل أيضاً في استعادتها وتذكرها.
وهكذا فهو يعمل كحارس للذاكرة"الحدَثية"،المرتبطة بالتاريخ الشخصي،بأحداث الطفولة الباكرة، وبالأحداث المهمة التي تركت بصماتها على حياة الشخص.عكس الذاكرة السيمانطقيه[= اللغوية]، المرصودة للإحتفاظ بالمعارف العامة(...)التصوير بالرنين المغناطيسي سجل أن استيقاظ الذكريات القديمة يترافق دائماً مع تنشيط منطقة فرس البحر.(3).الدماغ يشتمل إذن على ذاكرات عدة.فرس البحر المسؤول عن استحضار الذكريات القديمة هو الذي أصيب عند نبي الإسلام بالمرض.
بالرغم من أن النفساني،أستاذ التحليل النفسي في السربون،فتحي بن سلامة،لم يسمي المنطقة من الذاكرة، المصابة عند نبي الإسلام، لأن كتابه صدر قبل اكتشافها،فإنه تأول آية"وعنده أم الكتاب"،بأن أم الكتاب هي الكتاب المقدس الذي حفظه نبي الإسلام ونسيه،وأن القرآن ليس إلا جزءاً من أم الكتاب،فإنه كان يشير إلى أن المنطقة المصابة، في ذاكرة نبي الإسلام ،هي الذاكرة البعيدة.
ليست الرواية الشفوية لقصص الأنبياء، في الكتاب المقدس العبري، هي التي جعلت نبي الإسلام يعتبر هامان، وزير فرعون، ومريم أخت هارون، هي أم المسيح،بل إصابة الذاكرة البعيدة المدى.
سنقدم الآن نماذج من القرآن تؤكد هذه الفرضية على إصابة الذاكرة المحمدية البعيدة المدى،التي جعلته يقع في تقديم معلومات متناقضة عن ما تعلمه من الكتاب المقدس، وحاول استعادته بالهذيانات والهلاووس:
بخصوص الأسطورة القائلة: بأن فرعون أمر بإلقاء جميع الأطفال العبرانيين الذكور في النيل:"كل ابن [=عبري]سيولد،ألقوه في النيل"(سفر الخروج،الإصحاح الأول الآية 22)،يؤكد القرآن مرة ان الأمر بقتل كل مولود ذكر، غرقاً في النيل، وقع بسبب موسى كما أكدت ذلك آية الأعراف:"وقال الملأ من قوم فرعون:أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويَذَرك وآلهتك؟قال:سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم،وإنا فوقهم قاهرون"(127، الأعراف).
موسى هنا هو قائد ثورة العبرانيين على فرعون،وضده بما هو قائد الثورة، اتخذ فرعون قرار"قتل"، حسب الرواية القرآنية، كل مولود عبراني ذكر .هذه الآية تتعارض مع الرواية التوراتية.لكن القرآن صحح هذا الخطأ في سورة القصص، حيث لا يعود موسى هو قائد ثورة العبرانيين ضد فرعون،التي قرر فرعون بسببها "ذبح" بدل "قتل" هذه المرة !الأطفال العبرانيين،بل أن موسى يصبح هو الطفل الموعود"بالذبح" حسب الأسطورة:"إن فرعون علا في الأرض،وجعل أهلها شيعاً،يستضعف طائفة منهم،يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين، ونمكّن لهم في الأرض؛ ونوري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون.وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليكي وجاعلوه من المرسلين" (7،6،5،4،القصص) .الذبح القرآني لا وجود له في الأسطورة التوراتية،التي تحدثت عن الإلقاء" في النيل"الذي أصبح في القرآن الإلقاء" في اليم" [=البحر].
الإختلاف طبعاً كبير بين الروايتين القرآنيتين لقصة واحدة:مرة موسى قائد الثورة على فرعون،ومرة موسى هو الطفل الموعود بالذبح. بالمثل،يقع القرآن في اختلاف كبير في روايتيه عن صلب المسيح،فهو في آية لم يُصلب وإنما رفعه الله إليه وفي آية أخرى توفاه الله:"وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم(...)وما قتلوه وما صلبوه،ولكن شُبه لهم(...)وما قتلوه يقيناً"(157 النساء).
أما في سورة المائدة،فنبي الإسلام نسي"وما قتلوه وما صلبوه ""وما قتلوه يقيناً"،لا ليتستعير رواية التلمود القائلة بأن أتباع يسوع "شنقوه"،بل ليقول على لسان عيسى بكل بساطة أن الله توفاه:"(...)فلما توفيّتني (...)"(117 المائدة).
مترجم القرآن الإسلامي صلاح كشريد،الذي سرعان ما يعلق على الآية إذا كانت على هواه،مر على هاتين الآيتين مر الكرام مكتفياً بترجمتهما:"فلما استعدت روحي"بدلاً من" توفيتني".لأن"توفيتني" تثير انتباه القارئ إلى إختلاف الروايتين!وهي تزوير!
أحياناً،يبدو أن المسلم المؤمن،سواء أكان مفسراً أو مترجماً،مجرد مزور عندما يتطلب منه النص القرآني التستر على أخطاء قرآنه!كأنما صدمة وجود خطأ أو تناقض في القرآن تلهمه حتمية تزويره!
لنبي الإسلام مشكلة مع العمليات الأربع.وليس الوحيد،مثلاً برنارد شو،كانت عنده ذات المشكلة، فكان يضع الفلوس أمام الخباز ليحسب بنفسه ثمن الخبز، وكفى الله برنارد شو شر الحساب! وهكذا نرى نبي الإسلام، في استعادته لأسطورة الخلق البابلية للعالم في سبعة أيام،يستعير، عبر سفر التكوين،أسطورة الخلق البابلي في 7 أيام القائل بأن 6 آلهة تداولوا على خلق العالم في 6 أيام، وفي اليوم السابع، جاء دور إلاهة أنثى لتضع اللمسات الجمالية.سفر التكوين التوحيدي،أحتفظ من الآلهة الـ 6 بواحد فقط واستغنى عن دور الإلهة وجعل اليوم السابع،الذي أعطت فيه اللمسات الجمالية للعالم، مجرد يوم إجازة جلس فيها الله ليستريح من عناء 6 أيام من الخلق المتواصل للعالم. بدوره،احتفظ القرآن بخلق العالم في 6 ايام بعدها، يجلس الله ضمناً ليستريح على عرشه:"إن ربكم ،الذي خلق السموات والأرض في 6 أيام ثم استوى[=جلس] على العرش"(54،الأعراف).
لكن نبي الإسلام عندما يكرر، كعادته، آية خلق العالم في مناسبة أخرى ينسى رقم الـ 6 أيام،الذي استعاره من سفر التكوين لتصبح أيام الخلق 8 بدل 6:"قل إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين،وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين؛وجعل فيها رواسي من فوقها،وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين؛ثم أستوى إلى السماء وهي دخان فقال:لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا:أتينا طائعين؛فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها".( 12،11،10،9،،13،فصلت). إذن خلق الله الأرض وحدها في يومين،ثم وخلق فيها الجبال وباركها وحدد لها مواردها الغذائية في 4 أيام؛وهكذا يكون خلق الأرض والجبال ومباركتها وتحديد مواردها الغذائية قد استغرق 6 أيام كاملة "=سواء للسائلين"؛ثم صعد إلى السماء، وهي مازالت كتلة من الدخان،فأمرها وأمر الأرض بأن تأتي معها طوعاً أو كرهاً(...)فخلق 7 سماوات في يومين.وهكذا يكون قد خلق الكون،أي الأرض والسماوات الـ 7 في 8 أيام، بدل الـ 6 أيام في آية الأعراف!.
لكن الاختلاف ليس فقط بين الروايتين القرآنيتين المختلفتين وحسب؛فكلا الروايتين ضلال علمي مبين. لكن الاختلاف الحقيقي هو بين روايتي آيتي القرآن والحقيقة العلمية،الفلكية الفيزيائية. وإليكم هي على لسان الفلكي الفيزيائي الفرنسي المعاصر،كلود الليجر:"المجرة هي مجموعة من الكواكب تشتمل على مليارات(بليونات)الكواكب.مجرتنا،تسمى طريق التبانة.شمسنا هي كوكب بين مليارات الكواكب،التي تشتمل عليها مجرتنا.شمسنا ليست في مركز الكواكب،بل تحتل فقط مكاناً ضئيلاً بينها. توجد في الكون مليارات من مليارات المجرات.أقرب المجرات لمجرتنا هي مجرة أندرومِد،توجد على بعد 2 مليون سنة ضوئية.(4).
وفي كل مجرة توجد 200 مليار شمس كشمسنا! فكيف يخلق الله الأرض في يومين وأقواتها 4 أيام، ثم يصعد إلى"السماء وهي دخان"،فيخلق مليارات المليارات من المجرات،ويخلق في كل واحدة منها 200 مليار شمس كشمسنا في يومين فقط لا غير؟أليس:"فيه[=القرآن]اختلافاً كبيراً"وكبيراً جداً،ليس فقط بين آياته،بل بين القرآن والعلم؟.ومع ذلك مازال الهذاة يتحدثون بحماس عن احتواء"القرآن على جميع العلوم"! ألم يؤكد القرآن نفسه ذلك:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"(38 الأنعام).
شمسنا وحدها أكبر من الأرض بـ 300 ألف مرة.وإذا قيس حجم الأرض، بالنسبة لحجم مليارت كواكب مجرتنا طريق التبانة،كان أقل من حجم رأس الإبرة.لو كان الله ـ أو أي إلاه غيره ـ هو الذي تكلم لقال لنا مثلاً :"خلق" الكون كله في جزء من مليار من الثانية.أما الأرض ...،لكن محمد هو الذي تكلم، فقال ما قال، مستعيداً لرواية خلق الكون الأسطورية من سفر التكوين،التي استلهمها النبي حزيقال،مترجم سفر التكوين، من ملحمة جلجامش الأسطورية خلال السبي البابلي في القرن الـ 6 ق.م.
مراجع هذيان النسيان
1 ـ عش وافهم الفصام ص 109. 2 ـ دائرة السيكولوجيا ص 444. 3 ـ ملف عن الذاكرة في الأسبوعبة الفرنسية لكسبريس،2007،04،12. 4 ـ كلود الليجر،معجم محب للعلم ص 458،دار فايار،باريس.
2 ـ لغة القرآن الفصامية
رأينا في الفصول السابقة،أن إضطرابات محتوى الفكر،أي الأفكار الهاذية؛واضطرابات مجرى الفكر،أي ارتخاء التداعيات والانتقال من موضوع إلى آخر بلا رابط منطقي،هن ما يميز العلاقة بين السور وآيات القرآن.وسنرى الآن بعض أعراض الفصام الأخرى اللسانية في القرآن، من خلال ما يسميه الطب النفسي"اللغة الفصامية":إهمال النحو(أجرامِر)،أو تشويه الكلمات،أو إدخال كلمات غريبة أو غير مفهومة أو لا معنى لها...
السؤال:كيف ينعكس الفصام على لغة الفصامي؟
مع الفصام،تختل وظيفة اللغة،التي هي التواصل بين الناس،قليلاً أو كثيراً،حسب درجات الفصام وأنواعه.فتتعدد معانيها وتلتبس ألفاظها ويضطرب بناؤها ومحتواها.هذا الإختلال ملحوظ في الوثائق الأسطورية،الدينية والشعرية المتشابهة،القديمة والحديثة.يمتلك الطب النفسي وثيقة سريرية هي"مذكرات"لويي وولفسون:"السكيزو واللغات"،التي كتبها بالفرنسية شاب فصامي.روى فيها وولفسون كيف أنه،للإفلات من لغة"مضطهِدته""المتآمرة"مع أطباء مستشفى الأمراض العقلية على إدخاله إليه بين حين وآخر،أمه،اخترع طريقة لسانية في منتهى الإتقان،سمحت له بتغيير، بأقصى السرعة الممكنة،الإنجليزية،لغته الأم،لغة ـ أمه،إلى لغة أخرى،مؤلفة من كلمات فرنسية، ألمانية، عبرية أو روسية مساوية للإنجليزية من وجهة نظر المعنى والرنين.وقد نشرت"المذكرات" بتقديم الفيلسوف جيل دولوز. في دار جاليمار في السبعينات.أثار الكتاب ضجة فكرية وأدبية مازالت أصداؤها تتردد 3 عقود بعد نشره.في دراسة بعنوان"برج بابل"،كوصف للكتاب المتعدد اللغات،كتب ج.م.ج. كليزو، الألماني الحائز على جائزة نوبل لآداب:"إنها رواية محاكاة ساخرة على نحو مّا،تدمر نفسها في أشكالها الخاصة بها. تقسيمها كأبواب،طرائق السرد،الحوارات،الأشخاص، وحتى تأثير الأسلوب،نعثر في كتاب وولفسون على كل ما نعثر عليه في كتب فوكنر ودوستويفسكي.(1)(ملف وولفسون،أو قضية "اسكيزو واللغات"،ص 49 ،دار جاليمار 1974 ،باريس).
هذا الكتاب،الذي أهتم به لاكان،جدير بأن يصبح موضوعاً للمقارنة مع القرآن في رسائل جامعية، سواء في الجاماعات العالمية أو الجامعة التركية،الوحيدة اليوم في أرض الإسلام، التي تتمتع بحرية البحث العلمي والأدبي والفني.كذلك كانت الجامعة التونسية،من 1956 إلى 2010 ،قبل احتمال سقوطها تحت كابوس رقابة أقصى اليمين الإسلامي،عدو حرية التعبير والتفكير والبحث العلمي!.
لغة القرآن المؤلفة هي الأخرى من كثير من لغات عدة ـ فضلاً عن الكلمات الأجنبية،أو غير المعروفة أو غير المفهومة ـ كما أحصى ذلك أبو عبيد ابن المثنى في تفسيره، والسيوطي في "اتقانه" كما سبق التنوية بذلك.لا تختلف كثيراً عن لغة كتاب وولفسون.
نعثر في كتاب وولفسون،كما نعثر في القرآن على أعراض الخطاب الفصامي مثل الإقحام،والإهمال النحوي واللغوي وأيضاً وخصوصاً عن المتشابهات التي لا يعلم تأويلهن أحد.لذلك اشطرطت دار جاليمار على وولفسون القبول، بإعادة كتابة كتابه،مع المحافظة على جميع خصائصه اللغوية والأسلوبية، لكي يصبح قابلاً للقراءة بصعوبة أقل؛ ونعثر فيه أيضاً على شاعرية القرآن المكي.فكتاب وولفسون: "يراوح بين الواقع والحلم،بين نور الوعي الخافت والفانتازم ونور الواقع.مشهد لقاء الفصامي والقحبة مثال واضح على ذلك، كما كتب الطبيب النفسي بييار أولانيي.(2)ونلتقي فيه أيضاً بالتكرار،الذي نلتقي به في القرآن إذ أن ثلثه مكرر.يقول الطبيب النفسي مفسراً التكرار في كتاب وولفسون:"غالباً لا يستطيع وولفسون تذّكر نهاية الجملة، نظراً لأن حماسه أربكّه.وهكذا كان يعيد من جديد تكرار الجملة، كرسام يعيد رسم نفس اللوحة،حالماً بأن يتذكر هذه المرة باقي الجملة مرة واحدة كما بمعجزة(...)يكرر نفس الكلمات الأربع أو الخمس 30 أو 40 مرة.(3) كما حار مثقفوا قريش في تصنيف القرآن بين الشعر وسجع الكهان،لا يترك أيضاً كتاب وولفسون مجالاً لتصنيفه:"فهو كتاب ليس كالكتب الأخرى،هذا الكتاب ليس لا شعرياً ولا محاكاة علمية"(4).
ما كتبه هذا النفساني يذكرني بما كتبه طه حسين،بخصوص القرآن:"القرآن ليس نثراً وليس شعراً وإنما هو قرآن".فكما غّير القرآن الحقل الدلالي لكثير من الكلمات،غير"السكيزو"وولفسون الحقل الدلالي لكلمات كتابه.وكما أن القرآن مليء بالأخطاء النحوية والصرفية واللغوية كذلك كتاب وولفسون مليء بها!.
سنعالج في السطور التالية: الكلمات الأجنبية أو غير المفهومة؛إهمال النحو واللغة؛والإقحام؛ واضطراب النسق المنطقي.بما هن جميعاً أعراض للخطاب الفصامي كما يعرّفه الطب النفسي.
يعدد الطبيب النفسي سوسان أعراض الخطاب الفصامي:"اضطراب الفكر(...) فوضى التداعيات، اضطرابات الكلام،تشويه النطق،تشويه السيمانتيك[=اللغة والنحو والصرف]، الإنحراف بوظيفة اللغة، لي عنق النظام المنطقي(...)الفكر السحري(...)إهمال العمل(أبراجماتيزم)، إهمال النحو والصرف، ردود إنفعالية فظة(...)تدفق الخطاب،غموض الفكر(...)فكر تكراري،خيالي،ولا منطقي،التجريد،الرمزية، العقلانية السقيمة".(5)
الكلمات الأجنبية أو غير المفهومة:استشهاد الطبيب النفساني ينطبق على القرآن.وسأعطي عينات منه على ذلك:عينة عن استخدام الكلمات غير المفهومة في القرآن:"فلا أقسم بالخُنّس الجواري الكُنّس"(16،15 التكوير)يذكر السيوطي في تفسيرها بالمأثور:"عن علي ابن أبي طالب، فلا أقسم بالخنس:هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار،وعن ابن عباس الجواري الكنس هي البقر تكنس في الظل(...)وعن ابن عباس الخنس الظباء (...)سأل إبراهيم مجاهد:عن"فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس"قال مجاهد:لا أدري.قال إبراهيم ولماذا لا تدري؟:قال:إنكم تقولون عن علي أنها النجوم.فقال:كذبوا.قال مجاهد:هي بقر الوحش(...)وعن المزي:هي النجوم الدراري التي تجري وتستقبل المشرق(...)وعن الحسن:الجواري الكنس:البقر.أما عمر ابن الخطاب فرفض الإجابة عنها وضرب السائل بعصاه حتى سقطت عمامته وشتمه"(تفسير السيوطي).
وهذه عيّنة ثانية عن استخدام الكلمات غير المفهومة أو الأجنبية فيه:" وحدائق غلبا وفاكهة وأبا"(30 عبس)، حدائق غلبا:قال ابن عباس:طوال.و"أبا"قال :الثمار الرطبة،عن مجاهد "أبا":ما أكلت الأنعام؛وعن عكرمه "غلباً" :غلاظ(...)عن ابن عباس أيضاً"غلباً":شجر في الجنة يُستظل به.وسُئل عنها أبا بكر فقال:"أي سماء تُظلني وأي أرض تُقلّني،إذا قلت في كلام الله بما لا أعلم.قرأ الخليفة عمر ابن الخطاب وهو يخطب على المنبر إلى قوله"وأباً".فقال:"كل هذا عرفناه،فما الأب؟ثم رفع عصا كانت في يده فقال:"هذا لعمرو الله هو التكلف.فما عليك أن تدري ما الأب،اتبعوا ما بُيّن لكم هداه في الكتاب، فاعملوا به.وما لم تعرفوه فِكلوه إلى ربه"(انظر تفسير السيوطي للآية). حقاً لقد أصاب أمير المؤمنين عمر عندما وصف استخدام"الأب"في الآية بـ"التكلّفُ"[بريسيوزِتِ].وهو عرض للفصام كما يقول الطبيب النفسي سوسان ص 154 ، مصدر سبق ذكره.أما نصيحته للمؤمنين :"ما لم تعرفوه فكِلوه إلى ربه"،هو تفسير للآيات المتشابهات:"وما يعلم تأويلهن إلا الله والراسخون في العلم"؛في نظر عمر"الواو"في "والمتشابهات"استئنافية وليست عاطفة؛فكل ما لم يفهمه المؤمن من القرآن"يكِله إلى ربه"!الذي أنزل إلى عباده قرآناً لا يفهمونه!
يبدو أن" الأب"كلمة سريانية تعني العشب.كل هذا يعيد إلى ذاكرتنا مرة أخرة قول السيوطي في "الإتقان":"لكل آية 60 ألف معنى".إذن بلا معنى.
الصحابة،حتى السواعد اليمنى منهم للنبي،مثل علي وأبو بكر وعمر لا يفهمون القرآن،أو تتابين أفهامهم.والحال أن القرآن نزل لهم، وأحياناً كثيرة بطلبهم، وبلسانهم"العربي المبين".وهذه عينة: "الخنس والجواري الكنس":"عند علي ابن أبي طالب،سكرتير الوحي الأول،هن"الكواكب"وعند ابن عباس، "حبر هذه الأمة"كما سماه النبي،:"البقر".أما عمر فرفض الإجابة،وضرب السائل كعادته...و أبو بكر يقول عن آية "حدائق غُلبا"(...)وأبا":"لا أقول في كلام الله بما لا أعلم"؛وابن عباس يفسر "غلبا": شجر يُستظل به في الجنة؛أما عكرمة فيقول"أشجار غلاظ". وعن "أبا" يقول مجاهد :هو ما أكلت منه الأنعام.أما عمر ابن الخطاب فاستشاط منها غضباً لأنه لم يفهمها،وشخصها بدقة طبيب نفسي معاصر،بأنها "تكلّف" الذي هو من أعراض الخطاب الفصامي؛تماماً كما شخصه الطبيب النفسي سوسان في كتابه:"الطب النفسي طبعة 2001 ـ 2002 ص 54 ".
هذا القرآن"المتكلف"،المتشابه،المتعدد المعنى وغير المفهوم،شأن الهذيان الذي ينتجه دماغ معطوب،جعل منه أقصى اليمين الإسلامي التقليدي مثل زغلول النجار وموريس بيكاي،والسياسي مثل الزنداني وغيره من دعاة الفضائيات،ينبوعاً لا ينضب له معين للطب،والفلك الفيزيائي،وعلم الإقتصاد، وعلم السياسة،وصناعة القرار والتشريع وحقوق الإنسان المسلم...إلخ.
الأخطاء اللغوية: القرآن لغة جديدة على لغة قريش.لذلك حاروا في تصنيفه:صنفوه مرة في خانة السحر،لوجود الكلمات غير المفهومة وبدايات السور الملغزة مثلا"كهيعيص"...والتي يستخدمها السحرة في رُقاهم وتمائمهم؛رد عليهم محمد:"(...)لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين"(7 الأنعام)؛ومرة في خانة الكهانة ،لوجود السجع فيه؛ومرة أخرى في خانة الجنون،لوجود الهذيان فيه؛رد عليهم نبي الإسلام : "فما انت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون"(29 الطور)؛وصنفوه مرة رابعة في خانة الشعر،نظراً لوجود نفحة شاعرية في القرآن المكي. فرد عليهم نبي الإسلام:"وما علمناه الشعر وما ينبغي له،إن هو إلا ذكر وقرآن مبين"(يس)؛ولمزيد الرد عليهم،لأن التهمة كما يبدو أصابت محمد في الصميم،هجا الشعراء خاصة في سورة الشعراء،وقتل بعض من هجوه منهم.
نقل نبي الإسلام، آية أنجيلية أخطأ الناسخ في كتابتها، بخطئها.الأية القرآنية هي:"إن الذين كفروا بآياتنا(...) لا تُفتح لهم أبواب السماء؛ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط"(40 الأعراف). هذه الاية محاكاة لآية الإنجيل:"من الصعب على الجمل أن يدخل في خرم الإبرة(...)" المقصود في هذه الحالة ليس الجمل بل الحبل الذي تُربط به السفن في مراسيها.فتّش المستشرق د.استيفن ألف منشط موقع "المصلح" http://www.almuslih.net الذي يترجم المصلحين في العالم العربي إلى الإنجليزية. فكانت نتيجة بحثه الفقرة التالية:" بان البطريق سيريل الإسكندراني (القرن الخامس م) تفطّن إلى أن "الجمل" في آية الإنجيل معناه الحبل (كاميلوس) وليس الجمل (كاملوس) كما كتب مؤلفي الأناجيل لكلمات المسيح".وهكذا فإن الخطأ لم يكن في الأصل الآرامي، الذي هو لغة الإنجيل،بل مصدر الخطأ هو الترجمة من الآرمية إلى اليونانية.وهكذا يبدو أن الترجمة التي استعار منها القرآن الآية،لم تكن من الآرمية إلى العربية،بل كانت من اليونانية إلى العربية.لذلك أعادت انتاج خطأ الترجمة اليونانية التي خلطت بين الحبل في الآرمية"جملا"والجمل في اليونانية. لغة الفصام هي دائماً جديدة؛"كآبة باريس"،أسس بها بودلير قصيدة"النثر".
اللامبالاة بالقواعد النحوية والصرفية واللغوية السائدة،هي عرض للفصام كما يشخصها الطب النفسي."إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون(...)"(29 المائدة)،اسم لإن، رفعه نبي الإسلام بدل نصبه،والحال أنه نصبه في آيتين أخريتين جرياً على القاعدة؛"ولا ينال عهدي الظالمين"(124 البقرة) بدل "الظالمون"بما هو فاعل؛"إن هذان خصمان اختصموا(...)"(19 الحج)؛والحال أن قواعد النحو تتطلب ليس الجمع بل المثنى"إختصما"؛"وخضتم كالذي خاضوا"(التوبة 69)،والحال أن المطلوب نحوياً:وخضتم كالذين خاضوا؛والأمثلة عن الأخطاء النحوية عديدة.المطلوب ليس إحصاء الإخطاء،بل معرفة مدلولها النفسي.
نلتقي أيضاً في القرآن بتشويه بعض الألفاظ بما هو عرض للفصام كما يقول الطب النفسي:مثلاً استخدم القرآن "سيناء"جرياً على القاعدة في آية:"وشجرة تخرج من طور سيناء"(85 الأنبياء). لكنه شوه الكلمة إلى سنين في آية:"وطور سينين"(62 والتين)،لضرورة السجع.وللسجع أحكامه:قيل أن والياً كان لا يتكلم إلا سجعاً؛استقبل ذات يوم قاضي قُم.في نهاية الجلسة قال له لتوديعه:أيها القاضي بقُم... ثم توقف فقد خانته السجعة. و أخيراً لم يجد إلا:قد عزلناك فقم.قال له القاضي:والله يا سيدي ما عزلتني إلا القافية!.
اتخذ المفسرون من أخطاء القرآن اللغوية موقفين:موقف تناسيها وعدم الإشارة إليها كالسيوطي،أو موقف تبريرها،نظراً لأن كلام الله معصوم من الخطأ،كما فعل الزمخشري...لكن سيدة جامعية مصرية خفيفة الظل بررتها تبريراً ذكياً ويساعدنا على إصلاح اللغة العربية:"ربنا أراد أن يقول لنا،من خلال الأخطاء النحوية،أن النحو ليس مقدس".
نعم،من دون إلغاء الإعراب،أي تغيير أواخر الكلمة،بالوقوف على السكون،كما طالب أحمد أمين في "فيض الخاطر"،ومن دون المنع من الصرف لجميع الأسماء وليس فقط على بعضها مثل ما جاء على وزن فعلان،كعدنان وحسان،أو على وزن مفاعل،كمساجد وكنائس،او الأسماء الأعجمية،ومن دون تبني المعجم الإصطلاحي،العلمي والتكنولوجي،كما فعلت العبرية والتركية والفارسية،فإن العربية ستبقى لغة القرآن حصراً،على مسافة سنوات ضوئية من لغة العلم والتكنولوجيا.
"في القرآن كلمات لم يكن لها معنى.لكن المسلمين أضفوا عليها معاني لم تكن فيها" الطبيب ابو بكر محمد الرازي
غريب القرآن:"معجم غريب القرآن:مستخرجاً من صحيح البخاري"تأليف (محمد فؤاد عبد الباقي،دار الحديث،1950 )،أحصى آلاف الكلمات الغريبة عن اللغة التي كانت متداولة في مكة،زمان تأليف القرآن. كما يحتوي القرآن على كلمات غير مفهومة كثيرة،مثل كهيعيص،ألم،ن،ق،ص،طسم،غسلين،زقوّم... إلخ،مثل هذه الكلمات التي لا معنى لها منشرة أيضاً في الخطاب السحري بما هو خطاب فصامي. هذه الكلمات غير المفهومات هن عرض للخطاب الفصامي،الذي أشار إليه الطبيب سوسان قبل قليل، كما أن السجع في القرآن ليس مجرد تقليد لسجع الكهان وإنما هو حالة نفسية يمليها طور الإهتياج، في الذهان الإهتياجي الإكتئابي،فيغدو الأسلوب محموماً يتدفق كشلال، والكلمات منغّمة ومسجوعة، تماشياً مع حالة الباث النفسية،التي لم تعد قادرة على الكلام الهاذي إلا بتداعي السجع والقوافي.
لكن المفسرين،الذين كانوا يجهلون طبعاً التشخيص الطبي النفسي للخطاب الفصامي،حاولوا العثور على معنى لما لا معنى له! ذهب البعض إلى انها كلمات سريانية،وذهب البعض الآخر إلى أنها من أسماء الله الحسنى،مثل كهيعص،وروا في ذلك احاديث"صحيحة":ك،كافي،هـ،هادي،ع،عالم،ص،صادق.وفي رواية أخرى الكاف من الملك،والهاء من الله،والعين من العزيز،والصاد من الصمد؛وعن قتادة:"هن من أسماء الله والله أعلم"(انظر السيوطي في تفسير كهيعص).
وهي بالطبع لا معنى لها،إلا كعرض لمرض الهذيان الفصامي.لعل الطبيب أبو بكر الرازي(864 ـ 923 م)، هو الوحيد الذي تنبه،منذ 10قرون،إلى وجود الهذيان في القرآن.لكن التعصب الديني أباد كتبه. النتف التي وصلتنا منها كانت عن طريق خصومه،الذين استشهدوا به،كملحد.ظناً منهم أن ذلك سيكون موتاً ثانياً له!.
يقول الطبيب النفساني ميشيل مارشي ِ:"الهذيان يعبر عن نفسه في لغة تجريدية رمزية من الصعب النفاذ إليها.فهي لغة متشابهة وغير متماسكة،تعتمد على نمط التفكير السحري.وبما هي هذيان وتعبير عن الفكر السحري،فهي خارج النظام المنطقي.مبدأ السببية لا حتمية له في الفكر السحري كما في الخطاب الفصامي.التفكير الفصامي هو تفكير ما قبل منطقي،برِلوجيك،وسحري تسيطر فيه الرغبة على المنطق؛وهو خطاب يتغذى من التجريدات".
في الفصامي،يتصارع شخصان متضادان،عالمان لا يلتقيان،أفكار وتخييلات متنافرة.من هنا جاء إلالتياث والتشابه،والمعنى المزدوج السائدة جميعاً في النص القرآني.
يُشخّص الطب النفسي"الفكر السحري والعقلانية السقيمة بما هما من خصائص الخطاب الفصامي". الفكر السحري هو نواة القرآن الصلبة:"فإذا قضى أمراً،فإنما يقول له:كن فيكون".(117،البقرة)؛العقلانية السقيمة:العقلانية هي تطابق الفكر والسلوك مع قوانين العقل؛العقلانية السقيمة هي التي لا تعطي العقلي المكانة التي يستحقها في الدين.بل تساوي بين الخير والشر:"(...)وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم،وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم؛والله يعلم وأنتم لا تعلمون"(216 البقرة).حرية التمييز بين الخير والشر صُودرت من الإنسان،الذي أصبح مجرد آلة صماء رهن مشيئة الله أو بالأحرى مشيئة نبيه! مثال آخر عن هذه العقلانية السقيمة:"وما قطعتم من ليّنة[=نخلة]أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله"(5،الحشر).عندما أمر محمد بقطع نخيل بني قريظة،اعترض بعض الصحابة على قراره،لأنهم كانوا يعرفون أن النخيل سيعود إليهم.قبل إعتراضهم واستنزلت هلوساته هذه الآية العقلانية السقيمة:إذا طبقتم أمري وقطعتم النخيل،فذلك خير لأنه بإذن الله؛وإذا رفضتموه وتركتم النخيل قائمة على أصولها فذلك أيضاً خير لأنه بإذن الله.الخير والشر عند الله سواء، طالما كان ذلك بإذنه! والحال أنه في غياب التمييز بين الخير والشر تستحيل الحياة في المجتمع.
آيات التخيير والتسيير هي أيضاً تجسيد للعقلانية السقيمة في القرآن:تقرر آيات التخيير ان الإنسان هو الذي يخلق أفعاله،من خير أو شر،لذلك يُحاسب عليها يوم الحساب؛أما آيات التيسير فتقول إن الإنسان:مُسيّر من الله ولا خيار له فيما يفعل،ومع ذلك فهو مسؤول عنها،أي مسؤول عن أفعال لم يرتكبها باختياره بل كان مدفوعاً إليها بقضاء الله وقدره.
هذه الايات قسّمت المتكلمين المسلمين إلى حزبين:حزب المعتزلة،الذي تمسك بالآيات الأولى وحاول تأويل آيات التسيير لصالح آيات التخيير،لأن الله عندهم عادل،ولا يجوز عليه أن يقدر على عباده الشر ويحاسبهم عليه.وتمسك حزب السنة بآيات التسيير،محتجاً بان الله يعمل في عباده ما يشاء؛ أي أن الله يقدر الشر على الإنسان ويحاسبه عليه! لخص السنة عقيدتهم في افوريزم:"إن يُثبنْ، فبمحض الفضل،وإنْ يُعذبنا،فبمحض العدل"!
من الضروري الإشارة إلى وجود لعب بالكلمات والسجع لا يجوز تصنيفهما في الهذيان.لأن المتلاعب بالكلمات أو الساجع يعي تماماً ما يفعل،ويفرّق بين"لعبة هذيانه"والواقع الموضوعي،كما يفعل مثلاً كتاب قصص الأطفال الخيالية،ورائدهم في العالم العربي، الملحد كامل كيلاني.أما في الهذيان الذهاني،فالمريض لا يعي بأنه يهذي.هذا هو الفرق بين الأنواع الأدبية السليمة وأنواع الهذيانات الدينية والدنيوية السقيمة.
في القرآن،كما رأينا،كلمات غريبة،غير مفهومة أو مُولّدَة،نيولوجيزم،:مثل"طور سنين".التوليد أو النيولوجيزم السقيم، هو كلام جديد غريب أوجده، ـ للدقة فُرض على ـ المريض،بواسطة تشويه كلمة، أو تعويضها بأخرى،أو قلب حروفها.هذا النيولوجيزم الهاذي لا علاقة له بالنيولوجيزم العلمي، الذي بُني لإتمام لغة علمية أو تكنولوجية، من أجل تحسين التبادل في وسط ما،علمي أو تكنولوجي أو مهني.
في النيولوجيزم العلمي، غاية التبادل أي التواصل هي الباعث على توليد الكلمات والمصطلحات الجديدة.أما في النيولوجيزم الهاذي فهذه الغاية غائبة.
اللغة المنشودة،التي تتحدث عنها الفلسفة النيوليتيك،أي التحليلية الأنجلوسكسونية،هي من نوع اللغة العلمية المغيّأة بالتبادل.وهي لغة لم توجد بعد.الفلاسفة النيوليتيك يطمحون لإيجاد كلمات، بدقة المصطلح الرياضي،تغطي معناها بالضبط، من دون مترادفات، ولا تورية ولا مجاز.بقصد الإفلات من اللغة السائدة،حمّالة الأوجه،التي تسمح بتأويلات لا نهاية لها.تحمل أحياناً المعنى ونصف المعنى وضد المعنى.وهو ما أسماه اللغويون أسماء الأضاد؛ مثلاً العلوش في لسان العرب هو في الوقت نفسه اسم للخروف واسم لضده الذئب.
أفترض أن هذه اللغة الفصامية،ورثناها عن أسلافنا البدائيين،الذين كانوا مازالوا في طور الفكر السحري،الذي يطلب من الواقع إعطاءه نتائج مخالفة لقوانينه،والفكر السحري عرض من أعراض الفصام.وهو أعدل الأشياء قسمة بين النصوص الدينية وخاصة القرآن.تماماً مثل العقلانية السقيمة.
الإقحام: الإقحام هو إقحام جملة خارج سياقها أو خارج حقلها الدلالي،هو أحد أعراض اللغة الفصامية، مثلاً: "سبحان الذي اسرى بعيده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"(1،الإسراء)،هذه الآية اليتيمة لا علاقة لها بالسورة التي ُسميت بإسمها، والتي،بين مواضيع أخرى، تتحدث عن بني إسرائيل!فهي إذن آية مقحمة.فاعل الإقحام هو نبي الإسلام نفسه،وليست لجنة جمع القرآن كما ظن مترجم القرآن بلاشير. وللتوضيح، للقارئ الفرنسي،أعطى بلاشير لسورة الإسراء عنواناً فرعياً هو "سورة بني إسرائيل"؛كذلك آية يونس اليتيمة،في سورة يونس مقحمة، ولا علاقة لها بسورته!؛ذُكر يونس،كل مرة مرة واحدة،في سورتين (النساء163)، و(الأنعام 86). وفي الصافات ذكر 8 مرات من 182 آية،متعددة المواضيع؛والنحل،لم يُذكر في سورة النحل إلا مرتين من 128 آية .القرآن كله كولاج، أي خليط من الآيات التي لا رابط منطقياً ولا حتى سياقياً بينها كما هو الهذيان.
وظيفة اللغة هي عادة التواصل.لكن قد يحدث أن تختل هذه الوظيفة،نتيجة لإختلال الدماغ المنتج لها.إضطراب الدماغ ينعكس في اضطراب التفكير،الذي ينعكس بدوره في إضطراب التعبير. وهذا ما يجعله عاجزاً،جزئياً أو كلياً،عن الوفاء بمهمة التواصل.وهذا ما حدث للغة القرآن،المتشابهة في كثير منها،أي الغامضة والملتبثة والمتناقضة.تجلى ذلك خاصة في الآيات المتشابهات،اللواتي لا يعرف :"تأويلهن إلا الله"كما تقول الآية.
مراجع لغة القرآن الفصامية
1 ـ ملف وولفسون أو قضية اسكيزو واللغات،ص 49 ، جاليمار 1974 ،باريس. 2 ـ بييار أولانيي،ص 75 مصدر سبق ذكره. 3 ـ نفس المصدر ص 3 . 4 ـ نفس المصدر ص 87. 5 ـ سوسان ص 154 مصدر سبق ذكره.
3 ـ هذيان المتشابهات
"أنا الجرح والسكين / أنا اللطمة والخد أنا العضو والعجلة / والضحية والجلاد بودلير:ديون أزهار الشر" "الطب النفسي،ص 153،مصدر سابق"
********* الخطاب القرآني هو ترجمة لمشاعر وهلاوس وهذيانات نبي الإسلام.يعكس إضطرابات شخصيته النفسية وازدواجية مشاعرها المتناقضة في شتى حقول التعبير،التي تتميز بالتفكك والتناقض والتشابه،الذي يجعل النص القرآني مغلقاً عن الفهم،الآية التي اعترفت بوجود التشابه،والتي أسست له،في القرآن:"وهو الذي أنزل إليك الكتاب، منه آيات محكمات هن أم الكتاب؛وُأخر متشابهات.فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه منه:إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛وما يعلم تأويله إلا الله.والراسخون في العالم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا(...)"(7،آل عمران).
هذه الآية المؤسسة للآيات المتشابهات والمعترفة بها،هي نفسها متشابهة:من قرأوا "الواو "في" والراسخون في العلم"عاطفة جعلوا العلماء مشاركين لله في تأويل الآيات المتشابهات.أما من قرأوا "الواو"اسئنافية لجملة جديدة،فجعلوا الله وحده مختصاً بتأويل آياته المتشابهات.القراءة الأولى التي جعلت"الراسخون في العلم"شركاء في التأويل،تقدم مخرجاً من مأزق الآيات المتشابهات؛لكنها لغوياً لا تستقيم؛الآية لا تسقيم لغوياً إلا إذا جعلنا الواو اسئنافية،أي أن"الراسخون في العلم"يعترفون بأن المحكمات والمتشابهات كلهن من عند الله،وليس من عند محمد، كما زعم خصومه.لكن هذه القراءة السليمة لغوياً سقيمة منطقياً؛إذا كان الله هو الوحيد المختص بتأويل المتشابهات،فلن يعلمها المسلمون قط.لأنهم لا يشاركون الله في علمه، وبعد محمد انقطع خبر السماء!.لكن القرآن لا ينقصه التناقض كما رأينا.
الآيات المحكمات حصرها السيوطي في"الإتقان"،في آيات الأحكام الشرعية.هذه الأخيرة تتراوح بين 600 و 500 آية نُسخت منها 120 آية فتبقى أقل من 500 آية محكمة،والحال أن القرآن يشتمل على 6236 آية،أي تبقى أكثر من 5700 آية"لا يعلم تأويلهن إلا الله"وحده. وهن،كما قيل،آيات القصص والرموز،اللواتي اتخذهن المتصوفة ينبوعاً لإلهامهم الصوفي.
كيف يمكن تفسير انتاج نبي الإسلام لآيات محكمات واخرى متشابهات؟
النواة العامة لشكيزوفرينيا أو الفصام هي انشطار الفكر أو الوحدة النفسية إلى شطرين سليم وسقيم؛في مجالات ولحظات يسيطر الشطر السليم،فيكون سلوك الفصامي سوياً، ويكون خطابه قابلاً للفهم إلى حد كبير على الأقل.وهنا يتم انتاج الآيات المحكمات،المتعلقات بالأحكام أي بالحياة اليومية،بالإيحاء من الآخرين أو بالإيحاء الذاتي،أي عندما يرغب نبي الإسلام في حضور الهلاووس للرد على استفتاء أو على موقف آني؛لكن في حالات اخرى يسيطر الشطر السقيم على الشطر السليم،فيتم انتاج الآيات المتشابهات بأقصى درجات الهذيان.فتكون غير قابلة للفهم من العقل البشري،أي يتكفل العقل الإلهي وحده يفهمها:أي لا أحد !.
في مكة،كان نبي الإسلام خاضعاً لضغوط نفسية هائلة ولكبت متفجر لغرائزه وميوله الجنسية والعدوانية،التي ستنطلق من عقالها في المدينة،ليس فقط من مثقفي قريش بل ومن عائلته أيضا،التي لم تصدقه كنبي، وبعد موت عمه،أبو طالب،اضطهدته بقيادة عمه الآخر،أبو لهب،الذي كان يطارده باستمرار ليقول لمن يحاول النبي ضمهم إلى دينه:لا تصدقوه"إنه مجنون".هذا المناخ المتوتر كان مناسباً لتواتر نوبات الهذيان والهلاوس،ربما الحادة،التي تفرض نفسها، الملائمة لإنتاج الآيات المتشابهات بالهذيانات والهلاووس.ومعروف أن أعراض الفصام درجات متفاوتة،تتراوح بين حدود دنيا ومتوسطة وقصوى.عند محمد تراوح هذا الحد بدرجات متفاوتة حسب موضوع الهلاووس والإنفعالات والمواقف الآنية التي وجد نفسه فيها.
أما في المدينة،فقد تغير حاله من النقيض إلى النقيض،فلم يعد موضوع هُزء،من عائلته ولا من خصومه القرشيين،الذين كان شديد الحساسية لكل ما يقولونه عنه، فيسجله في القرآن بكل أمانة: "وإن رأوك أن يتخذوك إلا هُزء"(36،الأنبياء).سخرية المنافقين منه في المدينة، لم تدم طويلاً،ولكن يواجهها من موقف قوة؛وكانوا هم في موقف ضعف ودفاع.فقد غدا منذ الآن نبياً معروفاً ومعترفاً به ويرأس أمة ونواة فيدرالية قبلية، ستتحول شيئاً فشيئاً إلى إمبراطورية، فأرخى العنان لجميع مكبوتاته في مكة.فشعر لأول مرة بالثقة في النفس، فلم تعاوده الشكوك في رسالته التوحيدية الخالصة، مثلما كانت تنقض عليه بين حين وآخر في مكة، حتى أنه تمنى"إفتراء "قرآن آخر ليصالح به الشرك القرشي مع التوحيد اليهودي ـ المحمدي، ولا حاول الانتحار كما في مكة.قد يكون هذا هو ما يفسر تناقص حالات وحِدّة الهذيان المنتجة للآيات.في مكة أنتج 4663 آية تحت تأثير بُرحاء الوحي،أي الهذيانات والهلاووس الحادة.أما في المدينة،وفي فترة زمنية تقريباً مماثلة، فلم ينتج إلا 1573 آية،أي تناقص معدل انتاج الآيات،تحت نوبات الهذيان الأليمة،بنسبة الثلث تقريباً.
فما هي الكيفية التي كان محمد ينتج بها الآيات المتشابهات والآيات المحكمات؟ رأينا في هلوسات الكلمات السمعية اللفظية أن" الإيقاع متواتر جداً في الهلاوس السمعية المنغّمة والمسجوعة".
في الوحي،تبدو الهذيانات والهلاوس وكأنهن يقتحمن وعي النبي اقتحاماً لا حيلة له فيه. الوحي، في حقيقته العلمية،هو عملية كيميائية من صنع المخ المريض لا دخل للوعي فيه.النبي،هنا هو في حالة الشاعر،الذي يأتيه المخاض فيلد القصيدة في حالة انخطاف،فيما بين النوم واليقظة؛في أونريزم أو أضغاث الأحلام أو الحلم الهاذي، كالشاعر تماماً.لذلك كان معظم الأنبياء شعراء أيضاً.كما رأينا في حالة أنبياء إسرائيل وأنبياء عشار مثلاً.
في هذه الحالة النفسية المهتاجه والهاذية،يتم انتاج الآيات المتشابهات،اللواتي لا يعلم تأويلهن إلا الله.لإفتقادهن للروابط المنطقية و للمعنى .فعندما يصبح للآية 60 ألف معنى،كما يقول السيوطي في "الإتقان"،فمعنى ذلك أنه لا معنى لها.
االآيات المتشابهات،أي معظم القرآن،هن من انتاج الإيحاء الذاتي القهري،أي الهلوسة التي تأتي على غير انتظار،الصادر عن اختلال الفص الصدغي الأيمن،الذي أصيب، كما في حالات الصرع،كما تقول علوم الأعصاب؛فكرة الله نفسه هي من صنع هذا المختبر الهائل القائم في دماغ كل منا.في الإيحاء الذاتي القهري،النبي أو الشاعر هما في حالة الحُبلى التي يأتيها المخاض بغتة،فلا تستطيع إلا أن تضع.
هنا نلتقي بالنفحة الشاعرية في القرآن المكي،الذي قال عنه نزار قباني محقاً أنه"شعر الله"(انظر مقاله"الله الشاعر في القرآن"،مجلة الآداب 1954 على ما أذكر)،ومن الآيات اللواتي استشهد بهن في مقاله من سورة مريم:"وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا،فكلي واشربي وقري عيناً،فإما ترين من البشر أحداً فقولي:إني نذرت للرحمن صوماً،فلن أكلم اليوم أنسيا"(مريم)
كما نلتقي أيضاً في القرآن المكي بالأسلوب المحموم"الموقّع والمنغّم والمسجوع":"والعاديات ضبحا، فالموريات قدحاً،فالمغيرات صبحاً(...)"(سورة العاديات).ومعظم القرآن المكي هو من هذا الطراز.
الآيات المكية هن غالباً تداعيات للإيقاعات، والسجع،والخواطر والتخييلات الهاذية التي لا رابط منطقي بينها.المتشابهات،شأن الهذيان المبهم،تتسلسل بلا رابط منطقي بينهن؛تتوالى موضوعاتها بلا منطق بينهن،لذلك كان من الصعب النفاذ إلى معناهن؛إن كان لهن معنى!.
فكيف يتم انتاج الآيات البينات،آيات التشريع،اللواتي يرتجلهن نبي الإسلام إجابة عن سؤال أو للخروج من المواقف المحرجة؟
رأينا في فقرة الهلاوس:"أن الهلاوس يمكن أن يبحث عنهن المريض بنفسه"،أي بوعي للإجابة عن سؤال،لتقديم فتوى مثلاً:"ويستفتونك في النساء فقل:الله يُفتيكم فيهن(...)"(129 النساء)؛أو للخروج من مأزق،مثل مأزق مارية وحفصة أو في مأزق"حديث الإفك"حيث واجه نبي الإسلام إحراجاً نادراً:تطليق عائشه بالزنا او الإحتفاظ بها كزانية؟.في حديث" الإفك"،اتهم بعض الصحابة بمن فيهم أحب أصحابه إليه، علي ابن أبي طالب،عائشة بالزنا مع الشاب والشاعر صفوان بن المعطر؛عاش محمد طوال أيام وربما أسابيع وهو في صراع نفسي مرير، بين رغبته في الإحتفاظ بأحب زوجاته إليه، البكر الوحيدة التي تزوجها،عائشة،وبين رغبته في تطبيق شريعته . أخيراً تغلب الشطر السليم على الشطر السقيم من نفسيته،فاستنزلت رغبته لتبرئتها آية ـ حديث الإفك:"إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم،لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم.لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم.والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم"(11،النور).الآية،حديث عادي لا إلهام فيه ولا شعر ولا حتى الأسلوب المحموم... وهكذا ضحى نبي الإسلام بشريعته من أجل حبه.وحسناً فعل. والحق مع المعري: "إذا رجع اللبيب إلى حجاه[=عقله] /تهاون بالشرائع وازدراها".
في الهلاوس،اللواتي جئن حسب طلب المهلوس،الهذيانات لا يخلعن باب وعي المهلوس،أي النبي لا بإلهام شعري ولا بأسلوب محموم. فرغبته، هي التي استحضرتهن لتنتج بهن كلاما يوميا، في مشاكل الحياة اليومية،التي يدبرها الجزء السليم من نفسية محمد بشكل عادي او يكاد. غير منغّم،غير موقّع وغير مسجوع.لهذا السبب نلتقي في القرآن ـ الحديث المدني بالجمل الطويلة الرتيبة،والخيال المكدود وحتى بالسجع،إذا وجد،فهو سجع ركيك ومضجر،إلا نادراً كما في سورة الرحمان مثلاً.آيات الأحكام الشرعية نموذجاً.إقرأ مثلاً لا حصراً سورة النور:"سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا، وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؛ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا. وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ: أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ،(6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ؛(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، (8) وَالْخَامِسَةَ، أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (9)(النور). بإمكان أي كان من عرب مكة والمدينة، أن يملي هذه المواد الشرعية بلا أدنى عناء.
هاذا الأسلوب الفقهي الرتيب،هو من انتاج الهلاوس،التي إستُحضرت من المهلوس لتشريع عقوبات بدنية مرعبة.فضلاً عن أن هذا النداء لعدم الرأفة والرحمة من"نبي الرحمة"،يجعل القارئ يشعر بالقشعريرة بين الكتفين!.
القرآن المدني، في معظمه،افتقد"سحرالبيان" المبثوث في معظم القرآن المكي.كما افتقد اللاعنف الفعلي على الأقل.لأن العنف الرمزي،في القرآن المكي، مثل التهديد بنهاية العالم أو التعذيب الفظيع لسكان جهنم، هو عنف رمزي ونفسي لا يطاق.
أفترض أن معظم القرآن المدني أحاديث عادية،في قضايا الحياة اليومية.خارج الهذيانات والهلاوس الحقيقية منهن والزائفة. ونعرف الآن من قطعة مصحف أبي ابن كعب،900 آية،أن الحديث والقرآن بقيا مختلطين،حتى إصدار نسخة جمع القرآن،التي فصلت بين ما قررت أنه قرآن وما قررت أنه حديث.
تدخلت بعض دول الخليج لمنع طبع وحتى تداول هذه القطعة من مصحف أبي بين الباحثين.لكن لحسن حظ الإسلام،الذي ينتظر الإصلاح الضروري وربما المحتوم،توجد منها الآن عدة نسخ عند الإخصائيين في القرآنيات، منهم 3 مسلمين.قيل أن أحدهم حققها وقدم لها وأودعها بدار نشر أوربية للنشر بعد موته.
حالة نبي الإسلام مع الوحي،كحالة المتنبي مثلاً مع الإلهام الشعري:قصائده،التي فرضت نفسها عليه شعر خالص.أما القصائد، التي فرضها على نفسه تحت ضغط المناسبات فتفتقد الشاعرية. وهذه حالة القرآن المكي فهو شعر غير منظم؛ أما المدني فـ"قصيدة نثر"،تفتقد شاعرية الشعر وتفتقد تماسك النثر.فضلاً عن سوء محتواها الشرعي،القتالي،الجهادي والهجائي أحياناً!
كثيرون هم الفنانون،والشعراء والروائيون ،الذين عانوا الأمرين من المعضلة التي طرحها عليهم استخدام الكلمات المتداولة، للتعبير عن معيش نفسي سديمي.وهكذا فقد يحدث أن لا يكون التعبير عنه إلا متشابهاً،مبهماً،متناقضاً ينطوي على الشيء ونقيضه الوجداني:ودّ وصدّ ،حب وحرب،ميتوس و لوجوس، ايروس وثاناطوس. إيروس، رمز غرائز الحياة؛ثاناطوس،رمز غريزة الموت.وهذا ما جعل الإنتاج الذهاني عند كبار الشعراء والفنانين،الذين كانوا في الوقت نفسه فصاميين كبارا،متشابهاً،كما هو عندإدجار آلان بو، فوكنر،بودلير... اراجون نشر ديوان شعر،من ألفه إلى يائه،هذيان مطبق:بيش، تبيش،إش،أشي...إلخ. وقد علق عليه لويس عوض قائلاً:إن هذا الديوان حير النقاد! وحار النقاد في تونس من تعبيرات هاذية جاءت في رواية السّد للمسعدي:"هلهبه،هلهبه،ُصٌبّحت صهبّه،إني أنا الخالقة الربة..."لم يفكر أحد منهم في إنها هذيان متشابه لا يُفهم رأسه من ذنبه!
لغة الفصام لغة جديدة،ليست مرصودة لتكون لغة تداول للمألوف،ولا حتى للقابل للإدراك من العواطف والأفكار.
الانتاج الديني والأدبي المتشابه،والمتناقض وجدانياً،يضع قارئه في مأزق،يجعله عاجزاً عن التركيز، وأقل من ذلك عن لقط رأس خيط يقوده إلى معنى مّا للنص.
الفصل التاسع
نسخ الإسلام المكي وعواقبه
المصلحة العامة، عند المعتزلة،هي الخيط الهادي للتشريع في الإسلام.هذه المصلحة متغيرة بتغير الزمان والمكان،إذن على التشريع أن يواكب حركة التغير والتطور،التي من دونها تضيع مصالح الناس. وهكذا ينتصر اللاهوت على الناسوت،أي العقل الإلهي على العقل البشري.اعتبار المعتزلة للقرآن مخلوقاً وليس قديماً؛ يعني ضمناً أنه ليس كلام الله،بل هو مجرد إلهام،وأن الوحي مجرد إيحاء أو إيحاء ذاتي،كحالة الشاعر مع الشعر.لا وجود لشيطان الشعر الذي يلهمه،بل ما يلهمه هو التخييلات وأحلام اليقظة التي تفرض نفسها عليه.
تحكيم العقل البشري،بالتأويل،في العقل الإلهي،أي الشريعة،الذي نادي به المعتزلة والفلاسفة كان تدشيناً للثورة الفلسفية الإنسانية في تاريخ الإسلام.هذه الثورة التي ُأُجهضت، أفسح فشلها المجال لتدشين عصر الإنحطاط في القرن 12 في المشرق والقرن الـ 15 في المغرب،كما أكد المؤرخ التونسي هشام جعيط.
فقهاء عصر الانحطاط تجمعوا في حزب الحديث والفقه الحنبلي،الذي كتب على رايته:الإنغلاق الديني،والذي تسلم اليوم الراية منه أقصى اليمين الإسلامي التقليدي والسياسي.
تنزيل القرآن في التاريخ،أي في الزمان والمكان،في كل عصر ومصر،هو الهدف الأول من إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان المعاصرة،وتنزيله في الزمان والمكان يتطلب بالضرورة فصله عن الدولة، على غرار الكتابات المقدسة الأخرى،التوحيدية والوثنية؛ويعني أيضاً أن يغدو مرجعية رمزية للمؤمنين به، وليس للمؤسسات العامة،المطالبة بالحياد إزاء جميع أديان مواطنيها.
رفضَ حزب المحدثين والحنابلة بالأمس، تبني المصلحة العامة كرائد للتشريع،المتكيف مع ضرورات وحقائق كل حقبة تاريخية دونما اعتبار للنص.ورفض أقصى اليمين الإسلامي اليوم تبني ضرورة فصل الشريعة عن التشريع الوضعي العقلاني، ليكون هو المرجعية الوحيدة.هذا الرفض الذهاني العنيد أدخلهم جميعاً، ومعهم مجتمعاتهم،في مأزق تاريخي مزدوج:ديني وعملي.ديني:كيف يجوز على الله العليم أن يغير أحكامه بين فترة وأخرى، وأحياناً بين لحظة وأخرى،خلال 23 سنة هـ.ثم يتوقف بعدها إلى الأبد الأبيد؟ عملي:تطبيق أحكام الله وحقوقه تعني بكل بساطة أهدار مصالح غالبية الناس وجميع حقوق الإنسان، التي لا تعترف بها الشريعة وحسب، بل تعتبر انتهاكها عملاً مشروعاً وواجباً، لا يصح إسلام مسلم إلا به، إذا استطاع إليه سبيلا.هنا ينبغي أن نرى المصدر الأساسي للضمير الإسلامي الشقي المعاصر:عجز حتى الشلل عن تطبيق الشريعة عملياً، وعجز حتى الشلل عن تبني أو تطبيق القانون الوضعي. فبقي حائراً، ممزقاً ويهذي،ساقطاً بين كرسيي (بسكون الياء) القدامة والحداثة!.
النسخ ضرورة اجتماعية لإلغاء القديم، الذي غدا غير متكيف مع حقائق العصر، مثل تحريم تدريس الفلسفة وبعض العلوم الإنسانية،في كثير من البلدان الإسلامية،أو بما هو تصحيح وتطوير أفكار وسلوكيات قديمة،لتكييفها مع حقائق العلم والحياة،وبما هو تقدم روحي وعلمي واجتماعي، على حساب معتقدات وذهنيات سحرية، خرافية وظلامية،كعداء الحداثة،والمرأة وغير المسلم والأقليات وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام، الداخلي والعالمي،والإصلاح الدائم للشأن الديني والدنيوي.هذا النسخ هو ضرورة إجتماعية لا بديل لها غير السقوط في الجمود والإنحطاط . بل أن النسخ،بهذا المفهوم،هو قانون تاريخي،تجاهُلُه أو معارضته،عقاب ذاتي لكل مجموعة بشرية تتجرأ على ذلك.
النسخ،بهذا المفهوم التقدمي والتطوري،هو فكرة مركزية ضابطة لتقدم المجتمعات و لتوازنها، وجدير إذن بأن يكون مثالاً أعلى للعقل البشري، الطموح إلى الوصول إلى المجتمع المفتوح ،والأخلاق المفتوحة والتدين المفتوح،أي العقلانية الدينية المتصالحة مع حقائق العالم الذي نعيش فيه.
متى يمكن تشخيص النسخ بأنه أصبح هاذياً؟
عندما يأخذ الاتجاه المضاد لحركة التاريخ؛عندما يكون نكوصاً إلى الوراء،حتى عن المكاسب والانجازات التي تحققت، كما هو الحال عند نبي الإسلام في المدينة:عندما تحول من نبي،اعترف بديانات عصره المعروفة، في مكة، إلى ناسخ للآديان التي اعترف بها،في المدينة؛وإلى محارب،ضداً على المسالمة التي التزم بها في مكة،وقاتل للشعراء والأسرى واليهود في المدينة،هو الذي التزم في مكة الدعوة لدينيه"بالحكمة والموعظة الحسنة"(125،النحل).
هذيان التراجع عن المكاسب والانجازات، التي حققها نبي الإسلام في القرآن المكي،وفي السنتين الأوليتين من الإسلام المدني، قبل أن يُشّرع للجهاد:وصايا بالعدل والإحسان والرحمة ومكارم الأخلاق، والاعتراف بالديانات المعروفة في عصره،كاليهودية والمسيحية والمجوسية والصابئة، بما هن طريق ممكن للخلاص الروحي للمؤمنين بهن،والاعتراف بالحريات الدينية، بل وحتى بحرية الضمير، أي عدم الأخذ بأي دين:"لا إكراه في الدين"(256،البقرة)و"لكم دينكم ولي ديني"(6 الكافرون)و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(29 الكهف)و"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"(69،المائدة)،ويعترف لمشركي قريش:"(...)وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"(24،سبأ)؛قال نبي الإسلام:يا معشر قريش، نحن المسلمين وأنتم المشركين، قد نكون معاً على هدى، إذن دين كل منا يصلح طريقاً للخلاص الروحي،أو قد نكون نحن وأنتم في ضلال مبين،أي ان ديننا ودينكم لا يصلح أن يكون طريقاً للخلاص الروحي. وهكذا يقدم نبي الإسلام اعترافاً نادراً وثميناً،أسّس للإيمان كرِهان على أنقاض الإيمان كيقين أعمى،حتى أن الطبري لما وقف أمام هذا الإعتراف عند تفسيره، أصيب بالإرتباك وانغمس في تأويلات لا طائل منها؛أو "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"(117،هود)،أي أن ربك لن يكتب أبداً الهلاك ظلماً على أي بلاد، والحال ان سكانها مصلحون جيدون؛فسرها الرازي في رواية ابن عباس:"إن الله لا يعذب على الشرك بل على الظلم"،أو"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة"(117،الحج).وهكذا فوض نبي الإسلام إلى الله الفصل بين الديانات،الصالحة والطالحة،إلى يوم القيامة.
لم يرى السيوطي مصلحة في إعادة رواية رواية ابن عباس،رغم أن تفسيره هو تفسير بالمأثور! مقدماً لها تفسيرين إشكاليين:عن عكرمة:"إنا،نحن لعلى هدى،وانتم في ضلال مبين"أي فسرها بعكس معناها!وعن قتادة:"قد قال أصحاب محمد للمشركين:والله ما نحن وأنتم على أمر واحد؛إما أحد الفريقين مهتد"ووضع في جيبه أو:"في ضلال مبين"!الروياتان زورتا تفسير الآية كلياً،كالأولى أو جزئياً كالثانية!الرق النفسي لعبادة الأسلاف يجعل المصاب به هاذياً.ذلك هو حال كثير من النخب الإسلامية قديماً وحديثاً.
وهكذا فالإسلام المكي،اعترف بجميع الديانات بما فيها الشرك،تاركاً الفصل بين هذه الديانات جميعاً إلى يوم الحساب.هذه المكاسب وغيرها، نسخها الإسلام المدني. مثلاً كيف نُسخت هذه الآية ؟ :"عن قتادة:الأديان 6 ف 5 للشيطان، ودين لله (...)" أي الإسلام وحده! وعن عكرمة:"قالت اليهود:ُعزير ابن الله،وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئة:نحن نعبد الملائكة من دون الله، وقالت المجوس:نحن نعبد الشمس والقمر من دون الله،وقال المشركون:نحن نعبد الأوثان من دون الله؛فأوحى الله لنبيه ليكذب قولهم:قل هو الله أحد (انظر السيوطي في تفسير هذه الآية)؛هذا ليس تفسيراً للآية بل تزوير لها:"الله يفصل بينهم يوم القيامة وليس في الدنيا"!في الدنيا من حق كل مؤمن بدين ممارسة شعائره من دون أن يُقدّم على ذلك حساباً لأي مسلم !.
الآيات المكية،في المسألة الدينية،في انسجام مع مبادئ الحريات الدينية.أما الآيات المدنية الناسخة لهن،ففي حالة حرب معلنة على مواثيق حقوق الإنسان. والحال أن عقائد وشعائر أي دين، تفقد شرعيتها الأخلاقية،لمجرد أن تنتهك حقوق الإنسان الأساسية،منتكصة إلى مراحل تخطاها تطور الفكر البشري!.
حسب منطق النسخ الّلامعقول،نسخت آية واحدة من الإسلام المدني:"فإذا انسلخ الأشهر الحُرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(...)" (165،التوبة)123 آية، أسست للتسامح الديني؛كما أن آية النرجسية الدينية:"إن الدين عند الله الإسلام"(19،آل عمران)نسخت جميع آيات الاعتراف بالحريات الدينية وبالديانات السابقة.ووسّع حكمها فقهاء النرجسية الدينية، مدعين بأن الديانات السابقة، كاليهودية والمسيحية،لم تكن ديانات، بل كانت مجرد شرائع، نسختها الشريعة الإسلامية!وهكذا نُسخت جميع الأديان والشرائع سواء منها التوحيدية أو الوثنية وباتت البشرية، حسب فقه جهاد الطلب،أي غزو البلدان الأخرى، واقعة تحت تهديد: جيوش الجهاد:إما الدخول في الإسلام، وإما الجزية وإما الحرب!ونسخت آية تشريع القتال في المدينة:"أُذن للذين يُقاتلون[بفتح التاء] بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"(39، الحج) حوالي 70 آية من آيات التسامح والمسالمة،ودخل النبي، المشرّع و المسلح، في جدال عقيم مع اليهود والنصارى، مازال الجميع يكابد عواقبه الوخيمة حتى الساعة:"(...)هل أنبئكم بشرّ من ذلك(...)عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير"(60،المائدة) و:"لتجدن أكثر الناس عداوة للذين آمنوا، اليهود والذين أشركوا،ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصارى (...)"(82،المائدة)لكن سرعان ما سيتدخل هذيان النسخ لنسخ آخر الآية محولاً اليهود والنصارى معاً إلى أعداء ألّداء للمسلمين:"يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء،بعضهم أولياء بعض،ومن يتولاهم منكم،فإنه منهم"(51،المائدة)،أي خرج من الإسلام ودخل، من حيث يدري او لا يدري، في اليهودية والمسيحية!وهذه الآية أسست لفقه الولاء والبراء الإرهابي، الذي هو اليوم دليل "القاعدة"في إدارتها للإرهاب المعولم؛ودليل أقصى اليمن الإسلامي،في اغتيال أو لإيعاز باغتيال، الحداثيين والديمقراطيين بـ"جريمة"تبنيهم للحضارة الغربية،أي انحيازهم لحضارة"دار الكفر"!
باختصار، الإسلام المدني،نسخ الإسلام المكي بما هو:"إسلام فترة الإستضعاف"حيث كان نبي الإسلام ،كما يقول ورثاء الإسلام المدني،ضمناً على الأقل،قد تكتّم عن جزء من رسالته، لأن الظروف الموضوعية لم تكن تسمح له بالإصداع بها، حتى إذا هاجر إلى المدينة، وجد الفرصة سانحة للتعبير عن كل أحكام دينه، حتى ولو كانت في تناقض مع مبادئ دينه التي بشر بها في مكة .وهكذا فالإسلام المكي الذي تجسد في 4663 آية نسخه الإسلام المدني الذي تجسد في 1573 آية!. تمسك المتصوفة بالإسلام المكي، وفي المقابل، تمسك أقصى اليمين الإسلامي،التقليدي والسياسي، بالإسلام المدني، المستخدم اليوم على أوسع نطاق، في أرض الإسلام وفي العالم،لإنتهاك حقوق الإنسان وسفك الدماء:دماء المسلمين وغير المسلمين. بالعنف والإرهاب!.
فما العمل اليوم لإزاحة عائق آيات الإسلام المدني،الذي ُيعيق أكثر من مليار مسلم على الزواج،بلا عقد ولا شعور بالذنب،بحقبتهم ومؤسساتها وعلومها، وقيمها وحقائقها الاقتصادية والدبلوماسية، وعلى رأسها ضرورة حوار الأديان،كبديل عن حرب الأديان؛كيف يستطيع مسلم أو مسلمة محاورة ممثلي ديانات لا يعترف بوجودها ويوجه، مراراً في اليوم ،في صلواته للمؤمنين بها الشتائم؟ لا أرى إلا قرارين عاجلين ومهمين واقعيين:عملياً،فصل الدين عن السياسة كما يفعل معاصرونا في العالم؛ودينياً،نسخ النسخ،أي نسخ جميع الآيات المدنية،التي نسخت آيات التسامح المكي ورد الاعتبار الديني لهذه الأخيرة؛وتالياً تبني،في التعليم والإعلام،الإسلام الصوفي المسالم ضداً على إسلام أقصى اليمين الإسلامي المدني الشرعي، والجهادي والإستشهادي.
الإدعاء بأن نسخ القرآن والحديث توقف بعد موت محمد غير مقبول لا نظرياً ولا تاريخياً.نظرياً:لأنه يتعارض مع قانون التطور،الذي هو اقوى من جميع النصوص الدينية أو الدنيوية؛التسمر في تقاليد ومعارف مرحلة من مراحل التاريخ، لم يحدث في التاريخ،لأنه يفترض وجود جوهر جامد للظواهر الفكرية والاجتماعية.والحال أن التاريخ يحكمه قانون تطور الأفكار والظواهر، وقانون تجاوز المراحل التاريخية.التاريخ ذاته لا يعود تاريخ، إذا توقف عن توليد الجديد من رحم القديم،ونسخ ما تقادم، ليفسح المجال لما سيولد على أنقاضه.تاريخياً:تاريخ القرآن والحديث بعد موت نبي الإسلام، ينهض شاهداً على هذه الحقيقة:بعد أسابيع من موت محمد،نسخ أبو بكر حق المؤلفة قلوبهم في آية الصدقات،كما يؤكد الطبري في تفسيره لها، راوياً عن عامر،راعي إبل أبي بكر،الذي علق على نسخها :"كانت الرّشى في عهد النبي،فلما ولي أبو بكر انقطعت الرشّى"،أي أن النبي كان يقدم رشوة لغير المسلمين لتأليف قلوبهم وإدخالهم في الإسلام،لكن أبو بكر قطع هذه الرشوة. ومن الجائز الإفتراض بأن الراعي قد سمع هذا التقييم الدقيق من أبو بكر نفسه؛ونسخ عمر وعلي ومعاذ آية الفيء:"واعلموا أنما غنمتم من شيء،فإن لله خمسه وللرسول(...)والمؤلفة قلوبهم (...)"(41،الأنفال)تم النسخ، بعد فتح العراق ومصر.ومذ ذاك التاريخ أصبحت الأراضي المفتوحة لا تُقسم كفيئ على الفاتحين، بل تعود ملكيتها للدولة، التي أممتها وقررت إعطاء الجنود الفاتحين أجوراً، بدل الغنائم التي أسسها القرآن والسنة معاً؛ونسخ الفقهاء آية وجوب العقد في الدين:"وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"(282،البقرة)،محتجين بأن سكان الأمصار لا يعرفون العربية، لغة العقد.إذن اشتراط العقد سيؤدي إلى ضياع المصالح.المصلحة،أي حاجة الناس اليومية، تغلبت على النص القرآني؛ونسخ الفقيه المغربي الونشريسي في كتابه"المُغرب في فتاوى إفريقيا والمغرب "حديث النبي،الذي حرم الصدقة على آل البيت لأنها مُذلة لكرامتهم قائلاً نظماً:
والوقت قاض بجواز إعطا / آل الرسول من مال الزكاة قسطا
في لحظات إزدهارالحضارة العربية الإسلامية في بغداد العباسية،والقاهرة الفاطمية،والأندلس الإسلامية،نسخ الخلفاء فقه" الولاء والبراء" واتخذوا اليهود والنصارى وزراء،ومستشارين،وأطباء ومترجمين.لكن في قرون انحطاط الحضارة العربية الإسلامية اضطهدوهم،كما اضطهدوا المجددين والمبدعين بين المسلمين انفسهم.
صحيح،أن معظم الفقهاء،الذين سكنتهم روح الانحطاط،توقفوا عن النسخ.لكن حركة التاريخ لم تتوقف عن نسخ النصوص، التي أحجموا عن نسخها،باعتراف مفتي مصر:"لم تُطبق الشريعة في مصر منذ 1000 عام،أي قبل دخول الإستعمار إليها بـ 8 قرون!تكذيباً لأقصى اليمين الإسلامي،الذي اتهم الإستعمار بـ "جريمة"إيقاف تطبيق الشريعة،التي يطالب بالعودة إليها،انتهاكاً صارخاً لمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي!.
في القرن الـ 20 نسخ قاسم أمين آية الحجاب، ونسخ الشيخ الطاهر الحداد آيتي تعدد الزوجات والتفاوت في الإرث والشهادة بين الذكر والأنثى؛وفي القرن الـ21 ،نسخ حسن الترابي عدة آيات، منها آية التفاوت في الإرث والشهادة بين الرجل والمرأة، وآية تحريم زواج المرأة المسلمة من غير المسلم. معترفاً هكذا للمرأة المسلمة بحقها في الزواج ممن تحب، مهما كان دينه:اليهودية أو المسيحية أو الوثنية... ونسخ محمد الطالبي، وجمال البنا وغالب بن شيخ آية ضرب الزوجات: "واضربوهن"(34،النساء).
فيما يخصني،اقترحت،بدلاً من النسخ بالقطّارة، آية بعد آية،اعتماد مبدأ فقهي ناسخ، يؤسس لنسخ كل نص ديني يتعارض مع مصلحة المواطنين،أو مصلحة البشرية، أو مصلحة السلام الداخلي أو العالمي، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والوثائق المكملة له،أو مع مؤسسات وعلوم وحقائق العالم الذي نعيش فيه.وهكذا نصل عملياً إلى نسخ معظم القرآن المدني الذي غدا في اشتباك يومي مع العصر.وهكذا نضع لأول مرة حداً لهذيان النسخ،بالانتقال إلى التشريع الوضعي العقلاني، على حساب شريعة الإسلام المدني.
عواقب نسخ الإسلام المكي
من وجهة نظر تاريخ الأفكار الدينية،يمكن التأريخ لنهاية الأساسي من الإسلام المكي،ببداية الإسلام المدني في السنة الثانية للهجرة.هذا النسخ دشن بداية الإسلام المدني،الذي شكل قطيعة رديكالية دينية وعملية ـ قرآناً وسنة ـ مع جوهر الإسلام المكي،الذي قام على أساسين،الاعتراف بجميع الأديان واللاعنف:لا شريعة ولا جهاد.بما أن الصراعات بين الأديان كانت ومازالت أهم أسباب العنف.اعتراف الإسلام المكي بجميع الأديان،قطع الطريق على العنف الديني. كان الإسلام المدني أيضاً قطيعة مع اللاعنف،الذي كان قوام الإسلام المكي؛اللاعنف في تبليغ الدعوة،واللاعنف في الدفاع عنها،الذي حصره نبي الإسلام في مكة في:"الحكمة والموعظة الحسنة"(125 النحل).وأقر أيضاً،وهي سابقة غير مسبوقة،بالإيمان كرهان،مجرد رهان،بآية الشك على أنقاض اليقين الديني الأعمى عادة:"وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"(24 سبأ) .
اعتمد الإسلام المدني على العنف في جميع المجالات؛خاصة العنف الشرعي والجهادي.الإسلام المدني كان بالنسبة للإسلام المكي،ما ستكونه،بعد الإسلام المدني بـ 7 قرون،مسيحية محاكم التفتيش بالنسبة لمسيحية المسيح وحوارييه.
الدولة الدينية الكاثلوليكية التفتيشية،عرّفت نفسها بما هي عدو" للزندقة".والدولة الدينية الإسلامية المدنية عرّفت نفسها بما هي عدو لجميع الأديان الأخرى الباطلة التي نسخها:"الدين الحق"؛فلم يعد في نظر الله من دين آخر سوى الإسلام:"إن الدين عند الله الإسلام" (19 آل عمران)،وبما هي عدو للمؤمنين بالأديان"الباطلة"،أي لبشرية عصرها!هكذا ولدت الدولة الإسلامية في المدينة،وهكذا مازالت حتى الآن،عند ورثة الإسلام المدني:أقصى اليمين الإسلامي.
تجسد الإسلام المدني في الشريعة والجهاد؛ الشريعة اليوم هي تمييز ضد المرأة،وضد غير المسلمين،وانتهاك لحقوق الإنسان الأساسية بما فيها الحق في السلامة البدنية والحق في الحياة؛ والجهاد بما هو إرهاب معولم، يهدد أمن سكان العالم بمن فيهم المسلمين، الذين تجاوز عدد ضحاياهم ضحياه في العالم.
رأينا كيف مارس محمد في مكة السادية ضد الذات،بمحاولات الانتحار وبتعذيب نفسه بالعبادة الطويلة والشاقة،وبالإتهام الذاتي الهاذي لنفسه. في المدينة اختفت السادية ضد الذات واختفت محاولات الانتحار؛واختفى"التسامي"بغرائزه الجنسية المتفجرة في الانتاج القرآني، وفي الدعوة اليومية لدينه وفي العبادة الطويلة والشاقة.لكن حضرت السادية ضد الآخر، التي كبتها الإسلام المكي المسالم.فأصبح محمد النبي والشاعر في مكة، مشرّعاً،محارباً وقاتلاً للأسرى واليهود والشعراءفي المدينة.وهكذا انطلقت جميع غرائزه العدوانية المكبوتة من عقالها لتصول وتجول.كان يحاول إعطاء الموت الفعلي لنفسه بالإنتحار،أو الرمزي، بالتأنيب والتذنيب وتعذيب نفسه بالعبادة. فأصبح يعطي الموت،الفعلي والرمزي للآخرين.
ذهنية محمد،تحولت من النقيض إلى النقيض؛في مكة كان نبياً حقاً،يدعو لدينه لوجه الله دونما غرض مادي للإتجار به؛فلم يكن يسأل المؤمنين به عن دعوته أجراً،كما تشهد بذلك الآية:"وما أسألكم عليه أجراً، إن هو إلا ذكرى للمؤمنين"(109،الأنعام)؛أكد نبي الإسلام معنى هذه الآية سواء على لسانه أو على لسان أنبياء آخرين مراراً.لكن بانقلابه على نفسه في المدينة،أصبح الغرض المادي حاضراً ناظراً:سواء بحصته،الخمس،في الغنيمة تقليداً لشيوخ القبائل في الجاهلية، الذين كانوا يخصون أنفسهم بربع الغنيمة،أو اختصاص نفسه بإقطاعية فدك الغنية،أو بسؤال مستفتييه أجراً على فتاواه،أي بالحديث والقرآن.وهذا ما تشهد به آية:"يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول، فقدموا بين يدي نجواكم صدقة،ذلك خير لكم وأطهر.فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم"(13، المجادلة).
"عن ابن عباس قال:إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله(ص)حتى أشفقوا عليه،فأراد الله أن يخفف عنه.فلما قال ذلك:امتنع كثير من الناس وكفوا عن المسألة.فأنزل بعدها الآية التالية لها، (13،المجادلة)،وعن علي ابن أبي طالب:قال لي النبي:ما ترى ديناراً؟قلت:لا يطيقونه،قال:فنصف دينار؟ قلت:لا يطيقونه.قال:فكم[إذن]؟قلت:شعيرة.قال:إنك لزهيد[=تقنع بالقليل أو بخيل].قال [=علي]:فنزلت آية" أاشفقتم"...وعن علي[في رواية أخرى]:ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت.(...)وعن علي أيضاً:إن في كتاب الله لآية ما عمل به أحد قبلي،ولم يعمل أحد بها بعدي:آية النجوى.كان عندي دينار،فبعته بـ 10 دراهم،فكنت كلما ناجيت النبي(ص)قدمت بين يدي درهماً،ثم نُسخت فلم يعمل بها أحد بعدي.وعن مجاهد:نهوا[الصحابة]عن مناجاة النبي."(انظر تفسير السيوطي للآيتين)؛ واضح أن المسلمين أضربوا عن مناجاة النبي،مقابل أجر،فنسخت الآية. حقاً إننا أمام مساومة تجارية عنيدة،أمام الاتجار بالدين! نسخت الاية 12 بالآية 13 من نفس السورة: "أاشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم،فأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله".لا رابط منطقي بين هذه التأكيدات،شأن القرآن غالباً!.معنى الآية:هل خفتم أن تفتقروا بتقديمكم شيئاً من الصدقات،قبل أن تسألوا النبي عن فتوى،و بما أنكم رفضتم أن تفعلوا ما أمرتكم به الآية،وإذا تاب الله عليكم ... فأقيموا الصلاة إذن،و لا تنسوا أن تطيعوا الله ورسوله.
عواقب الإسلام المدني، مقروءة في واقع كل بلد تقريباً في أرض الإسلام.طريقة محمد المدني في التفكير والتدبير في المدينة تعود لشل تفكير وتدبير النخب والجمهور،حتى لا يتشجعوا على التقدم إلى الحداثة؛بما هي انفتاح على الآخر وعلى العالم الذي نعيش فيه.ومازال قطاع من النخب والجمهور،خاصة الإسلامي،يتخذ من إسلام المدينة نموذجاً له معتبراً النكوص إليه في السياسة الداخلية والخارجية واجباً دينياً.فـ"تقليد"،ميميتيزم، النبي في حركاته وسكناته،من أوجب واجبات المسلم.
المهم ليس فهم المظاهر، التي يتجلى فيها الإرهاب،بل فهم الميكانيزمات،أي آلياته وروافعه الدينية ـ النفسية،الكامنة وراء تجليات الإرهاب ومآسيه.أحد هذه الميكانزيمات،هو الرغبة الهاذية في"تقليد" النبي،تقليد كل ما قاله أو فعله،المتأصلة في نفسية قطاع من المسلمين،خاصة السلفيين والوهابيين الجهاديين،والتي تدفعهم إلى إعادة تمثيل ما قاله أو فعله النبي منذ 14 قرناً.أفعال النبي، هن كلقطات التلفيزيون لمن يسجلون ضربة ناجحة في كرة القدم.مثلاً قادة الحركات الإسلامية، يبدأون كتاباتهم بـ:"نعوذ بالله من شرور أنفسنا،وسيئات أعمالنا"،التي افتتح بها النبي"الصحيفة"، ويرسلون لحاهم مثلما أرسل،ويستاكون بعود الآراك مثلما استاك،ويفطرون في رمضان بـ 4 تمرات وكأس حليب كما كان يفطر،ويقتلون المدنيين اليهود ـ أو يتوعدونهم بالقتل ـ كما فعل هو مع يهود بني قريظة.
المظهر الأول لرواسب إسلام المدينة في واقع المسلمين اليوم،هو أنهم،عكساً للأمم الأخرى بما فيها الأقل تقدماً،مازالوا متسمرين في حاكمية القرون الوسطى:حاكمية العقل الإلهي؛ولم ينتقلوا بعد إلى حاكمية العصور الحديثة:حاكمية العقل البشري،الذي حل محل العقل الإلهي في كل شيء: في السياسة والاقتصاد والعلم والفن والأدب وحتى في الدين المصلَح والمعقلن أيضاً ...إلخ.كل تطور، مهما كان جزئياً،نحو الانتقال إلى حاكمية العقل البشري يثير هلع قيادات أقصى اليمين الإسلامي فتسميه"السقوط في جاهلة القرن العشرين"،أو ترجمتها التونسية:"التصحر الديني"!.عجزت هذه النخب عن تكييف الإسلام مع الحداثة، وهي مهمة ضرورية وممكنة بإصلاح الإسلام،فاستبدلتها بمهمة ليست ضرورية ولا ممكنة:أسلمة الحداثة.
ومازال قطاعاً من النخب والجمهور متسمراً في الولاء والبراء، الذي أسس له الإسلام المدني:"يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء،بعضهم أولياء بعض.ومن يتولاهم منكم فإنه منهم"(51 المائدة):الولاء للمسلمين حصراً،وعداء اليهود والنصارى و"الكفار"عامة،أي عداء أشخاصهم، ومعبوداتهم، ومؤسساتهم، وعلومهم وقيمهم، وأنماط تفكيرهم وتدبيرهم.وهذا ما شكل حتى الآن عائقاً دينياً وذهنياً لتكيف المسلمين،مع ضرورات العالم الذي يعيشون فيه.
في مكة كان يدعم شرعيته بما ُأُنزل على أهل الكتاب ويوصي أصحابه:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"(46،العنكبوت).أما في المدينة فجادلهم هو نفسه وأصحابه بالتي هي أخشن قولاً وفعلاً.والأدهى،أنه جعل ولاءهم،أي صداقتهم والتعاون معهم مُخرجاً من الملة،مؤسساً بذلك فقه الولاء والبراء الإنطوائي والإرهابي،الذي مازال عائقاً دينياً وذهنياً يردع المسلمين عن الإندماج في حضارة عصرهم،التي أنتجها"أهل الكتاب"!ويردع شعورياً ولا شعورياً،المسلمين في مهاجرهم عن الاندماج في مجتمعاتهم.هذا الاندماج الذي من دونه لا مستقبل لهم :لا عمل،ولا سكن،ولا أسرة. بل تهميش وضياع،وتعاطي وبيع المخدرات،وجنوح وإرهاب!
عملا بفقه الولاء والبراء، الذي مازال شيوخ الإسلام حتى الآن،يكفرون من يحمل جنسيات بلدان غير إسلامية، وخاصة بلدان"دار الحرب"باسم هذه الآية؛من يأخذ جنسية بلد غير مسلم،يخرج من الإسلام ويدخل في دينها حسب فتاواهم!. تساءل الكاتب والمصرفي الفرنسي من أصل تونسي،محمد القروي:عن شكوى الكتاب الفرنسيين، من أصل مغاربي،دائماً في كتاباتهم من فرنسا وخصّهِا ببعض الشتائم.في نظري،ذلك لا شعورياً ، محاولة للتكفير عن خطيئة الهجرة إلى فرنسا،التي تمثل في الوعي الجمعي الإسلامي"دار الحرب"، وحمل جنسيتها بما هي ،لا شعورياً على الأقل، قطيعة مع الوطن الأم،و الدين الأم اللغة الأم ... شأن محمد ديب،روائي فرنسي معروف من أصل جزائري،الذي يشتم اللغة الفرنسية،التي لا يكتب إلا بها،لأنها"قطعت لسانه"فلم يعد قادراً على الحديث والكتابة بلغة الأم!. طالما استشهدت بكتاب مدرسي سعودي، يوصي التلميذ في الإعدادي:إذا حدث وسافر إلى"ديار الكفر":"للتطبب او للتعلم أو للتجارة:فأقم بينهم وأنت تضمر العداوة لهم"! فكيف سيندمج في مجتمعاتهم،وقد برمجت المدرسة عداوتهن في فصوص دماغه منذ نعومة أظفاره؟!.
كتاب اين تيمية:"اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"الذي،قلّ من لم يقرأه من مناضلي الحركات الإسلامية،حشا أدمغة المسلمين منذ 8 قرون بفقه الولاء والبراء.هذا الفقه الذي يحرم تقليد "أصحاب الجحيم"حتى فيما فيه مصلحة للمسلمين! يقول الكتاب: "لا نقلدهم حتى فيما فيه مصلحة لنا،لأن الله إما أن يعيطنا خيراً منها أو مثلها في الدنيا،وإما أن يعوّضنا عنها في الآخرة"!
الولاء والبراء، حول غير المسلمين إلى"فرقة شريرة"متآمرة على الإسلام،زرع في الوعي الجمعي الإسلامي رؤيا باراونوياك للعالم الذي نعيش فيه،قائمة على الاعتقاد بأن هذه الفرقة الشريرة"اليهودية ـ الصليبية ـ الماسونية"تتآمر على المسلمين.فهي المسؤولة عن انهاء الخلافة الإسلامية سنة 1924 في تركيا؛وعلى ايقاف العمل بالشريعة،وتعويضها بالعلمانية والقانون الوضعي؛وعلى استصدار مواثيق حقوق الإنسان والزام الدول الإسلامية بها.باختصار،فهي المسؤولة عن اختراع الحضارة الغربية المادية والملحدة،وعن فرضها على المسلمين كبديل لحضارتهم الروحية المؤمنة. لهذا السبب ألححت دائماً على ترياقين ممتازين مضادين للإنغلاق الديني في الإسلام:هما حوار الأديان التوحيدية والوثنية،أي الاعتراف بهذه الأديان جميعاً ،كطريق للخلاص الروحي للمؤمنين بهن فضلاً عن تبني حقوق الإنسان الكونية،وضرورة اندماج المسلمين في العالم الذي يعيشون فيه، وفي المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها،والمشاركة الايجابية في رفع التحديات الكونية:نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني،حماية البيئة،وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل،مكافحة الأوبئة العالمية،والفقر والمجاعة من أجل"قرية كونية"أكثر تكاملاً وتضامناً.
من الضروري إعداد خارطة طريق،بالتعاون مع الإخصائيين الأوربيين والأمريكيين،لتعويض ثقافة الولاء والبراء،ثقافة الكراهية والإنغلاق، بثقافة الإنفتاح والحوار. كيف يقوم حوار حقيقي بين الأديان،ورجال ونساء الدين الإسلامي يعتقدون أن هذا مخالف للشرع؟
أحد رؤساء لجنة الفتوى بالأزهر،صرح في 2001 ،عندما تناولت وسائل الإعلام الحوار بين الأديان بعد مأساة 11 سبيتمبر:"لا معنى للحوار مع البابا إلا بدعوته إلى الدخول في الإسلام"،كما تفرض الشريعة ذلك !ربما لهذا السبب، أفتتح حسن الترابي محادثاته مع البابا،جان بول 2 ،عندما زار الخرطوم،بدعوته للدخول في الإسلام.واعتبر أحد قادة أقصى اليمين الإسلامي التونسي زيارة هذا البابا لتونس في نفس الفترة"غزواً صليبياً"! حروب محمد على يهود المدينة، والتنديد بهم وبالنصارى،في آيات القرآن المدني أسست لهذه الإنعزالية الإنتحارية.حتى أقل واجبات المجاملة الإنسانية واللياقة الدبلوماسية نهى القرآن عنها. كواجب العزاء في جار أو رئيس دولة غير مسلم:"فلا تأسى على القوم الكافرين"(68 المائدة).فضلاً عن آيات التحريض على مقاطعة "الكفار" وقتلهم:"واقتلوهم[=الكفار]حيث وجدتموهم"...لغسل دماغ المسلم لجعله يستسهل سياسياً ويستحل دينياً وأخلاقياً قتل"الكفار"خبط عشواء.وهو ما يجري أمام عيوننا.
رأينا ذلك في 11 سبتمبر 2001 ،وفي الإنتفاضة الثانية حيث كان استشهاديو حماس ينحرون وينتحرون في الإسرائيليين سواء أكانوا واقفين أمام محطة باص،أو مصطفين في الطابور للدخول إلى مرقص أو في مكدونالد...إلخ؛ورأينا ذلك أيضاً في يهود المغرب سنة 2003 ، وبعد ذلك في كنيس الغريبة في جزيرة جربه التونسية؛وفي مسلمي الجزائر"المرتدين".
إستئصال قبائل يهود المدينة،بإجلائهم أو قتلهم،ومصادرة املاكهم،وقتل جميع ذكور يهود بني قريظة البالغين،بين700 و 900،الذين ظلوا يُقتلون بحد السيف على مدى يوم ونصف.ثم تم بيع نسائهم وأطفالهم في الحبشة!.إنها لمأساة حقاً،مثلاً كيف تم التمييز بين الأطفال البالغين وغير البالغين؟ بتعريتهم لمعرفة ما إذا كان شعر العانة قد نبت أم لا.وكل من نبتت شعر عانتهم سيقوا إلى المذبحة. لنتصور الآلام النفسية التي كابدها هؤلاء الأطفال وذووهم خلال عملية التفتيش التي لا تسعفني المعاجم بكلمة لوصفها. هذ الإستئصال أسس للعقاب الجماعي،الذي ألغاه القرآن المكي:"ولا تزر وازة وزر أخرى"(15، الإسراء)،بإقراره فردية المسؤولية الجزائية،التي هي اليوم مبدأ في التشريع الجزائي العالمي؛ كما أسس لإضطهاد الأقليات في أرض الإسلام.وقد لا يكون قتل مليون أرمني في تركيا سنة 1915 إلا مجرد ريامك،إعادة تمثيل لفيلم قتل بني قريظة.مازال جمهور أقصى اليمين الإسلامي في العالم العربي يهدد اليهود المعاصرين بتكرار مذبحة يهود بني قرظة.
الشعار المركزي في مظاهرات الإخوان المسلمين في الأردن،لمساندة حماس:"خيبر، خيبر، يا يهود، جيش محمد سيعود".وعندما زار اسماعيل هنية تونس أستقبله جمهور الإسلاميين بنفس الشعار. حذرت نائبة اسلامية في المجلس التأسيسي،من أن:"مصير جزيرة جربا التونسية سيكون كمصير فلسطين"،أي سيشتري أرضها اليهود.عدد الأقلية اليهودية في تونس أقل من 2000 !.
حتى التخييل الإكتئابي جعل الفقيه عمران حسين،يستلهم مذبحة ذكور يهود بني قريظة،فيعيد صياغة حديث البخاري الشهير،عن قتل المسلم لآخر يهودي قبل نهاية العالم،في سيناريو نهاية وشيكة للعالم اليوم تكون آخر وأقسى عقوبة لليهود الذين،يقول عمران حسين:عاقب الله اليهود أول مرة بالسبي البابلي؛وعاقبهم مرة ثانية بالغزو الروماني وتدمير الهيكل و سيعاقبهم الآن للمرة الثالثة والأخيرة بقضاء جيش الإسلام عليهم حتى آخر يهودي!وتقوم القيامة.
أهل الذمة ،اليهود والنصارى،أوصت آية من القرآن المدني بضرورة إذلالهم:"حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(29 التوبة)،إذلال أهل الذمة مسطور فيما سمي بـ"عهد عمر":أن لا تعلو دورهم وكنائسهم، عن دور المسلمين وجوامعهم،وأن يركبوا الحمار إذا ركب المسلمون الحصان،وأن يرتدوا الثياب من لون خاص حتى يعرفهم المسلم،وليس على المسلم ان يبادرهم بالتحية ولا حق لهم في بناء كنائس جديدة أو ترميم ما تهدم منها...سجل إسماعيل مظهر في السنوات 1930 صيغة كانت تكتب في عقود البيع بين المسلم والمسيحي:"باع الهالك ابن الهالك،جرجس مثلاً،لإبني ساكن الجنان،محمد مثلاً...".
تحريم القانون الوضعي وحرية التعبير، اللذين أسس لهما القرآن المدني،مازالت عواقبهما الوخيمة حاضرة في حياة المسلمين اليوم:"والذين لا يحكمون بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"(44 المائدة). معنى ذلك أن القانون الوضعي لا شرعية له، وتطبيقه يؤدي إلى الكفر. قتْل النبي،أحياناً شر قتل،الشعراء الذين انتقدوه أو شتموه،حوله أقصى اليمين الإسلامي إلى تشريع،في البلدان التي يحكمها، يحرم نقد الدين،أي البحث النقدي في الله،في الأنبياء،في نبي الإسلام أو في زوجاته أو في أصحابه.حرية التعبير والتفكير والبحث العلمي أصبحن انتهاكاً للمقدس. المادة 40 من الدستور المصري الإسلامي تحرم نقد الأديان.اقترح أقصى اليمين الإسلامي في تونس، إدخال تحريم نقد المقدس في الدستور.أعلنت الصحافة مؤخراً أن نصف الدستور الإسلامي الجديد منقول من الدستور الإيراني الحالي!.
تحريم نقد الأديان،يحكم بالإعدام على تدريس الإديان الحديثة أو استخدامها.علوم الأديان قائمة على تمرير التأكيدات والأساطير الدينية على غربال النقد.وهكذا تصبح حرية التعبير،أم الحريات جميعاً، بين قوسين.تجريم النقاش الحر والنقد، يسد الباب أمام الحياة الفكرية والديمقراطية وحرية الإعلام.أقصى اليمين الإسلامي في تونس، يسمي الإعلام الحر:"إعلام العار" ،لأنه ينتقد الحكومة الإسلامية؛في مصر الإعلاميون يقدمون إلى القضاء كمجرمين بتهمة نقد الدين أو الرئيس.
كي يعي القارئ عواقب اسلام المدينة في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليوم؛ أقدم له عيّنة من مشروع دستور الإخوان المسلمين، بعد نجاحهم في الانتحابات،وهكذا فنموذج الدولة الدينية،دولة الولاء والبراء،التي أسس لها القرآن في المدينة،مازالت،بعد أكثر من 14 قرناً،بوصلة ذهنية توجه الوعي الجمعي الإسلامي، خاصة عند أقصى اليمين الإسلامي.
إليكم بعض المواد المسطورة في"مشروع الدستور،الذي نشرته جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 2012 كشاهد على تحويل الهمجية، بما هي حكم الفرد الذي لا يعزله إلا الموت،والتمييز ضد المرأة وغير المسلم واحتقار حقوق الإنسان والقانون الدولي وحقائق العالم الذي نعيش فيه،إلى عقيدة دينية! نظام الحكم: المادة 20:"يقوم نظام الحكم على أربع قواعد:السيادة للشرع لا للشعب،تنصيب رئيس الدولة فرض على المسلمين، لرئيس الدولة حق سن الأحكام الشرعية.فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين؛المادة 26 : "الشورى حق للمسلمين فحسب،ولا حق لغير المسلمين في الشورى؛المادة 31:"لكل مسلم بالغ،عاقل رجلا كان أو امرأة الحق في انتخاب رئيس الدولة،وفي بيعته.ولا حق لغير المسلمين في ذلك؛المادة 43:"ليس لرئيس الدولة مدة محدودة،مادام محافظاً على الشرع، منفذا لأحكامه(...)؛المحافظون؛المادة 62:يشترط في الولاة [المحافظين]ما يشترط في المساعدين لرئيس الدولة:ان يكونوا رجالاً أحراراً ومسلمين(...)ويُتخيرون من أهل التقوى والقوة؛القضاء:المادة 71:يُشترط في من يتولى القضاء أن يكون مسلماً(...)؛المادو 78:لا توجد محاكم استئناف ولا محاكم تمييز فالقضاء (...) درجة واحدة؛الجيش:المادة 90:الجهاد فرض على المسلمين، والتدريب على الجندية إجباري، فكل رجل مسلم بلغ الـ 15 سنة مفروض أن يتدرب على الجندية استعداداً للجهاد؛النظام الإجتماعي: الأصل في المرأة أنها ربة بيت،المادة 101:الأصل أن ينفصل الرجال عن النساء ولا يجتمعون إلا لحاجة يقرها الشرع(...)كالحج.المادة 104:لا يجوز للمراة أن تتولى الحكم،فلاتكون رئيس دولة ولا قاضياً ولا والياً ولا تباشر أي عمل يعتبر من الحكم؛التعليم:المادة 108: يجب أن يكون المنهج الذي يقوم عليه التعليم هو العقيدة الإسلامية(...)،المادة 116:الغاية من التعليم هي تكوين العقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية.توضع مواد الدراسة على أساس هذه الغاية؛السياسة الخارجية: المادة 117:لا يجوز لأي فرد أو حزب أو جماعة، أن تكون لها علاقة بأي دولة أجنبية؛المادة 173: المناورات السياسية ضرورية في السياسة الخارجية،والقوة فيها تكمن في إعلان الأعمال وإخفاء الأهداف،المادة 177: الإسلام هو المحور الذي تدور حوله السياسة الخارجية،وعلى أساسه تُبنى علاقة الدولة بجميع الدول،المادة 178:(...)الدول التي ليس بيننا وبينها معاهدات، والدول الإستعمارية فعلاً كإنجلترا وأمريكا وفرنسا، والدول التي تطمح في بلادنا كروسيا،تعتبر دولاً محاربة(...)ولا يصح أن تنشأ معها علاقات دبلوماسية(...)الدول المحاربة فعلاً كإسرائيل مثلاُ،يجب أن تتخذ معها حالة الحرب أساساً لكافة التصرفات،ويمنع جميع رعاياها من دخول البلاد،وتستباح دماء غير المسلمين منهم." وهكذا فصدى مذبحة يهود بني قريظة مازال يتردد بقوة!.
الدولة الدينية كما عرّفها مشروع الدستور الإخواني هي دولة ليست من العالم الذي نعيش فيه. الدولة الوحيدة المقبولة والقابلة للحياة،في هذا العالم هي الدولة الحديثة التي تستمد شرعيتها حصراً من الشعب السيد،عبر انتخابات ديمقراطية شفافة،وليس من الدين،ولا ينبغي لدستورها أن يحدد دين الدولة،ولا ينبغي أن توجد فيها محاكم شرعية.
هذه الدولة الديمقراطية العلمانية تقوم على 3 ركائز:المؤسسات المكينة،المتمايزة عن بعضها: التشريعية،التنفيذية والقضائية، المسؤولون عن هذه المؤسسات هم مجرد ارقام قابلة للإستبدال، من دون تأثير يذكر على طبيعة أو مصير المؤسسة،المفروض فيها أنها تعمل كطائرة بدون طيار،كما هي المؤسسات الحديثة في الدول الحديثة؛دولة القانون:القانون الوضعي العقلاني،الذي يعتبر جميع المواطنين متساوين أمامه؛دولة لكل مواطنيها،بصرف النظر عن جميع خصوصياتهم الأخرى كالدين والجنس واللغة مثلاً.
هذه الدولة الحديثة هي الوحيدة الجديرة باسم الدولة،لأن مؤسساتها مكينة،لا تعرف أزمة النظام،أي تلك التي تؤدي إلى سقوط النظام؛بل لا تعرف،كجميع الدول الديمقراطية الحديثة،إلا الأزمات الإجتماعية والمجتمعية والاقتصادية القابلة للحل،أو في اقصى الحالات تُحل بإجراء انتخابات مسبقه للإحتكام إلى صناديق الإقتراع.وهذا ما يجعل البلد مستقراً ومفتوحاً أمام السياحة والاستثمار الداخلي والخارجي.لا يعرف"الفوضى الخلاقة للفوضى"،الانتفاضات،بل يعرف فقط اعادة التأسيس بعد كل ازمة،أو حتى قبلها،إذا كان القرار يصنعه العلم وليس صلاة الاستخارة!
قادة أقصى اليمين الإسلامي،مؤلفوا مشروع الدستور،لم يكتشفوا بعد وقد لا يكتشفون إلا بعد فوات الأوان، حقيقة درس التاريخ،الذي تصارعت فيه طواله غريزة الموت،الحرب والعنف والتحاريم الغبية الدينية والدنيوية،مع غرائز الحياة،الحب والسلام،انتصرت فيه دائماً حتى الآن غرائز الحياة على غريزة الموت.كما لم يكتشفوا بعد،الحقيقة الثانية المريرة،هي أنهم يعيشون في الماضي السحيق.في ماض مضى وانقضى.
لقد استثمروا كل طاقاتهم، وآمالهم، منذ 80 عاماً،في الدولة الدينية الإسلامية، لإدارة مجتمع مغلق النوافذ والأبواب،دون تيارات الحداثة المعولمة،التي حكمت على جميع المجتمعات بأن تكون مفتوحة أو لا تكون.هذه الدولة الدينية الإسلامية لم تعد من هذا العالم الذي نعيش فيه.
إنها مأساة من يعيشون ذهنياً ودينياً، بمؤسسات وعلوم، وقيم وأنماط تدين وتفكير وتدبير،أنتجتها حقب سلفت،لحقبة جديدة ـ كلياً جديدة ـ ؛من يعيشون بقيم انتجتها سرعة الجمل،يريدون منها أن تنافس قيماً انتجتها سرعة الكمبيوتر؛ الحقبة الجديدة كلياً هي حقبة الثورة العلمية والإعلامية المعولمة،الحاملة لقيم غير مسبوقة في التاريخ،قلبت رأساً على عقب القيم التي سبقتها.وتستمد قيمها شرعيتها حصراً من سيادة العقل البشري،تعارض بل تصادم قيماً عتيقة وعنيفة،تقليدية ودينية،استمدت شرعيتها من العقل الإلهي، عقل القرون الوسطى الذي هو اليوم مجرد ذكرى.
المؤسسات والقيم لم تعد،في عصر التجديد العلمي والتكنولولجي والفلسفي والأخلاقي وأيضاً الديني،شأن المؤسسات والقيم السابقة لها،تستمد شرعيتها من قدمها،بل تستمد شرعيتها من تطابقها مع قيم حقوق الإنسان،مؤسسات وقيم الفرد السيد، التي لا تنافسها أية مؤسسات وأية قيم أخرى دينية او تقليدية.
قادة أقصى اليمين الإسلامي،قد يساعدهم على فهم لحظتهم التاريخية،أن يتعلموا الدرس من عمق انقلاب القيم في إيران الإسلامية:كل شيء تقريباً محرم فيها.لكن جميع محرماتها مستباحة في 9 على 10 من مساكن سكانها؛دولة من القرن السابع، تفرض نفسها بالحديد والنار على شعب من القرن الحادي والعشرين؛دولة جميع حكامها يصلون،لشعب لم يعد يصلى فيه إلا أقل من 15 % من مسلميه؛دولة جميع حكامها يصومون،لشعب لم يعد يصوم فيه إلا 2 % من مسلميه؛دولة جميع حكامها مؤمنون، إيمان العجائز، بالإسلام المدني، لشعب أكثر من ثلثه ملحد!.
حاضر إيران الإسلامية هو على الأرجح مستقبل مصر الإسلامية ،وتونس الإسلامية، وكل بلد قد تحكمه مومياءات الماضي:مومياءات تنظر ولكنها لا ترى،وتسمع ولكنها لا تعي.عماها وصممها دفعاها، في كل مرة،إلى الرد على قوة حجة عصرها بحجة القوة،التي لا تملك رداً سواه.نتيجة ذلك معروفة: الخروج ليس من السلطة وحسب بل ومن التاريخ أيضاً.
الفصل العاشر
دين العقلانية الدينية
"كل فكر ديني حقيقي لا يستطيع أن يكون في تعارض مع العقل،حتى وإن كان لا يستطيع أن يختزل نفسه إلى العقل فقط." "الطبيب النفسي ب.مارش ِ،السحر والأسطورة في الطب النفسي ص 188"
*******
صدّرت فصل النبوة بتشخيص النفساني ناكط:"إن قلت انك تكلم الله،فأنت تصلي،وإن قلت ان الله يكلمني فعندك أفكار هاذية".هذه هي خلاصة ما يسميه الطب النفسي:"هذيان النبوة"،الذي فصّلناه تفصيلاً في هذا البحث.
إذا كان القرآن وجزء من الحديث،من إملاء هذيانات نبي الإسلام وهلاووسه ليس إلاّ.فهل يعني ذلك تحويل الجوامع إلى متاحف،وايداع المصحف في أرشيفات التاريخ وكتابة إعلان بالليزر على إمتداد أرض الإسلام:السماء فارغة والأرض لا شيء فيها؟سيكون ذلك حقاً جنوناً مطبقاً.التدين،أي الرغبة في حماية أب على كل شيء، قدير لطفله الخائف من عوادي الزمن،والراغب في الخلود بعد الموت، لتخفيف قلق الموت هي،كما تقول علوم الأعصاب،مبرمجة،منذ ليل التاريخ، في الفص الصدغي الأيمن في دماغ كل منا؛منذ اكتشف القرد المتحول إلى بشر،عبر الحلم، الذي يلتقي فيه بأعزائه الذين ماتوا،وهْم وجود حياة أخرى بعد الموت،وعالم غير العالم الذي يعيش فيه،تسكنه روح كل من هؤلاء الأعزاء، بعد ان انفصلت عن الجسد الفاني؛فسمى الروح النْفس،أي النَفَس الذي يخرج من منخريه ويتوقف بعد الموت،ليبدأ رحلته إلى العالم الآخر.وسمى هذا العالم الآخر:دار البقاء في مقابل دار الفناء،دار الولادة والموت، أو الكون والفساد كما سماها أرسطو.
قبل المسلمين،اكتشف اليهود،منذ القرن الماضي،من أفواه الإخصائيين اليهود أنفسهم،أن الخروج من مصر اسطورة،وأنه لا توجد وثيقة تاريخية واحدة،كأوراق البردي مثلاً،تشهد على دخول اليهود،أو العبرانيين كما كانوا يُسموا آن ذاك،إلى مصر أو خروجهم منها.
كشفوا هذه الحقيقة التاريخية المروعة،للمؤمنين إيمان العجائز،في السنوات 1970 ،في برنامج تلفزيوني، بمناسبة الذكرى الألفية الثالثة لخروج العبرانيين من مصر، شارك فيه المختصون في التنقيب الأثري وتاريخ الأديان المقارن ومفسروا التوراة،وشاهدتها أكبر كمية من المشاهدين في تاريخ التلفزيون الإسرائيلي.الأفضل من ذلك،أن علماء الآثار أعلموهم أن سليمان،وهو شخصية مركزية في التاريخ اليهودي،شخصية أسطورية،وأباه الملك ـ النبي داوود شخصية شبه أسطورية(انظر كتاب:" التوراة وقد تعرّت" سواء في الإنجليزية أو في الفرنسية مترجماً عن العبرية)؛ وأفضل مرة أخرى، أعلمهم المختصون في موسى،أن مؤسس الديانة اليهودية،هو الآخر شخصية رمزية،سيرته نقلها كتبة التوراة عن أسطورة الملك الآشوري سارجون.(انظر كتاب أستاذ تاريخ الأديان المقارن في الكوليج دو فرانس،توماس كرمور،:"موسى الذي التقى الله وجهاً لوجه"،والذي استشهدنا به في حلقات"إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان")،وفي مدخل هذا الكتاب أيضاً.
كل ما أثارته هذه الحقائق التاريخية المدوية هو رد أحد برلماني حزب"شاس"الديني في الكنيست، الذي أعلن أمام الصحافة،بكل إطمئنان:"ما يقوله العلم كذب والحقيقة الوحيدة هي التي تقولها التوراة"! لكن دور العبادة في إسرائيل والعالم لم تغلق ابوابها،والتوراة لم تنقل إلى ارشيفات التاريخ، في متحف الآثار لتنام جنباً لجنب مع الفأس البرونزية!.
نفس الإكتشافات العلمية امتدت إلى تاريخ المسيحية.قلّ من المسيحيين المثقفين وحتى المتعلمين من يجهل اليوم أن مسيح الإيمان،صاحب الخوارق والمعجزات،هو شخصية رمزية،وأن مسيح التاريخ شخصية أخرى مختلفة تماماً...حتى البابا بنوا ـ بنوس ـ 16 ،الذي نشر كتابه عن المسيح سنة 2007 ،استعار لأول مرة عناصر كثيرة من مسيح التاريخ دون أن يشير إلى ذلك،كما احتج بعض مؤرخي مسيح التاريخ.وقد تمنيت في حينه، أن يكتب شيخ للآزهر كتاباً عن محمد،يضمنه أيضاً عناصر من محمد التاريخ، التي تجدونها في هذا الكتاب. ومع ذلك فالكنائس لم تغلق أبوابها،بل هي في إفريقيا تفوقت عدداً عن الجوامع التي تتنافس الدول الخليجية في بنائها... والأناجيل لم تُرسل إلى الأرشيفات.
لكن،ربما كان ذلك،من نتائج هذه الإكتشافات العلمية في الديانتين، اليهودية والمسيحية،توجد اليوم عقلانية دينية يهودية وعقلانية دينية مسيحية قويتان،طبعاً جنباً لجنب مع اللامعقول الديني في الديانتين، لا يبدو أنه يمتلك زمام المستقبل.
أريد أنا أيضاً،أن تُتوج نتائج بحثي عن محمد التاريخ،بظهور عقلانية دينية إسلامية،أعطيت خارطة طريق ميلادها في :"إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان"،وسأرسم هنا بعض المعالم على طريق الوصول إليها في الإسلام.وفي الاعادة البيداغوجية إفادة.
المَعْلَم الأول على طريق العقلانية الدينية،هو تأسيس دين العقلانية الدينية على 3 ركائز:التسليم بأن الأديان الأخرى التوحيدية والوثنية أيضاً،اللواتي لازال يؤمن بهن 56 % من سكان العالم،يمكن أن تكون طريقاً للخلاص الروحي للمؤمنين بهن،والقبول بالحوار معهن؛التسليم بأن العقد الإجتماعي،أي الدستور يجب أن يكون علمانياً لدولة لجميع مواطنيها،مهما اختلفت دياناتهم وخصوصياتهم الأخرى؛وأخيراً التسليم بأن المرجعية الشرعية الوحيدة للدولة هي مؤسسات وقوانين وقيم الحداثة العالمية ليس إلاّ . المعلم الثاني على طريق العقلانية الدينية،هو ضرورة تبني الإسلام لحقوق الإنسان الأساسية، اللواتي لا يكون الإنسان إنسانا،حقاً إنسانا في غيابهن؛سيكون نصف إنسان كالمرأة في الإسلام،أو ما تحت إنسان،كالعبد في الإسلام أيضاً.الرق مازال موجودا في بعض البلدان العربية والإسلامية... حقوق الإنسان كونية،لأن العقل المنتج لهن كوني،نفس العقل المنتج للعلوم الكونية أي الصالحة لكل إنسان في أي مكان كان؛فهذه الحقوق إذن تتعالى على الخصوصيات الثقافية كما يتعالى عليهن العقل.هذه الحقوق كونية لأنهن طبيعيات،أي من المفروض أن يتمتع بهن الإنسان بما هو إنسان، مهما كان دينه او جنسه...إلخ.فكل إنسان بما هو إنسان يتمتع بالضرورة بضمانات أساسية غير قابلة للتفريط؛كالحق في الحرية،في الكرامة،في المساواة،في الأمن،في السلامة البدنية،في الحياة وأيضاً بحقوق إجتماعية مساويات للأولى في الأهمية كالحق في العمل،في السكن وفي الملكية الخاصة...
كل دين لا يتبنى حقوق الإنسان،شأن الإسلام، خاصة في بلدان حكومات أقصى اليمين الإسلامي، إيران والسودان نموذجا،يضع نفسه في قفص اتهام المجتمع المدني العالمي،المتكون من حوالي 10 آلاف جمعية غير حكومية،في مقدمتهن ممثلاه الأبرز:منظمة العفو الدولية ومرصد حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.كما يجد نفسه في حالة حرب مع قطاعات واسعة من سكان البلدان التي يحكمها، خاصة النساء والأقليات والشباب.وهذه هي حالة كثير من البلدان في أرض الإسلام اليوم.
العقلانية الدينية المنشودة،لن تكون عقلانية إلا إذا صالحت الإسلام مع حقوق الإنسان،مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،مع الاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة،مع الاتفاقية الدولية لحماية الأقليات،ومع الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل.لماذا؟لأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمثل اليوم المرجعية الأخلاقية العليا للقرن 21 .
تبني حقوق الإنسان في دساتير الأمم الإسلامية،في القوانين الوضعية،في المتون والمناهج المدرسية،هو الطريق المفروش بالورد،المؤدي إلى إسلام مُجَدّد،مطّهَر من العنف:عنف الشريعة وعنف الجهاد،ومن دمج الدين في الدولة،ومن تحكيم العقل الإلهي في العقل البشري،وأخيراً أن يكف شيوخ الإسلام، عن اعتبار عقائد وشعائر وأحكام الإسلام عابرات للتاريخ،أي صالحات لكل زمان ومكان، احتقاراً للحقيقة التاريخية:لا شيء في التاريخ بعابر للتاريخ.
المعلم الثالث على طريق العقلانية الدينية هو إصلاح التعليم:التعليم اليوم هو طوق النجاة لكل أمة. كل أمة في أرض الإسلام، مدعوة منذ الآن لتبني أرقى نظم التعليم، في أي بلد كان.العلم لا دين له، ولا قومية له،هو،كالعقل الذي ينتجه،كوني.هو ضالّة الإنسان المتعطش،لأرقى واحدث أشكال المعرفة،يأخذها حيث وجدها.أفضل المناهج التعليمية اليوم،هي في الصين البوذية العلمانية وفي فنلندا المسيحية العلمانية،فلماذا لا نستعير منهما مناهج التعليم وطرق التدريس وكيفية تكوين المدرسين؟ التعليم المطلوب اليوم في أرض الإسلام،ليس التعليم،الذي يضمن للمسلم الحزين مستقبله بعد موته،بل هو الذي يساعد المواطن على حل مشاكله،اليومية العملية،لتأمين مستقبله في حياته: عمل،مسكن وأسره.
المعايير التي ينبغي الاحتكام إليها في التعليم،هي المعايير الدولية.والمعلمون والمدرسون والبروفيسرات،الذين يجب أن يقوموا بمهمة التعليم،من الضروري تكوينهم تكويناً جيداً في ميادين تخصصاتهم،وأن يهضموا أحدث الطرق التربوية في الأداء التعليمي،وأن يخضعوا دورياً لإعادة تدوير وتجديد وتطوير لمعارفهم ومهاراتهم.
من دون هذه الأسس الأولية،لن يكون لأي أمة من أمم أرض الإسلام،لا المكان ولا المكانة المأمولين في عالم القرن الـ 21 .
المَعْلَم الرابع على طريق العقلانية الدينية،هو تبني الإسلام للديمقراطية وثقافتها.فالإسلام مازال أمام الديمقراطية وثقافتها يتراوح بين موقفين:التردد والرفض،كما يفعل أقصى اليمين الإسلامي محتجاً بأن الديمقراطية هي انتقال من سيادة العقل الإلهي، سيادة الشريعة وفقهائها،إلى سيادة العقل البشري،سيادة الشعب السيد وممثلية. ثقافة الديمقراطية: 1 ـ الاعتراف للفرد بحقه في تقرير مصيره في حياته اليومية،بحقه في التصرف الحر في جسده حياً او ميتا.بإمكانه مثلاً أن يهبه بعد موته للعلم ـ وإذا تعذر ذلك ـ يوصي بحرقه،كما فعل كاتب هذه السطور؛ 2 ـ الانتقال من أخلاق القناعة الشخصية الى أخلاق المسؤولية العامة،الذي اعتبره ماكس فبير الشرط الشارط للمارسة الحكم الرشيد؛ 3 ـ إعلام حر،مسؤول وموضوعي:يُطلع بموضوعية المواطن العادي على البرامج المتنافسة،ليستطيع الاختيار بينها.المواطن الديمقراطي هو المواطن المطّلع؛ 4 ـ النقاش الحر والنقاش المتعارض هما المدرسة الضرورية،التي يتدرب فيها المواطن على استخدام قوة الحجة بدلاً من حجة القوة السائدة اليوم في كل بلد تقريباً من أرض الإسلام؛ 5 ـ المعارضة تكون قوة اقتراح للمشاريع والحلول أو لا تكون؛ 6 ـ اقصاء كل استخدام للعنف،النقيض المباشر لثقافة الديمقراطية،التي غايتها الأولى هي الوصول إلى الحكم والخروج منه بالوسائل الديمقراطية السلمية.الحكومة تسقط في البرلمان وليس في الشارع.والخصوم يتبادلون الكلمات والأفكار والمقترحات في البرلمان والإعلام،بدلاً من تبادل اللكمات أوالرصاص في الشارع؛ 7 ـ حظر الميليشيات.الجيش الشرطة وحدهما يحتكران إمتلاك واستخدام السلاح عند الضرورة.
المَعْلَم الخامس،المؤدي إلى العقلانية الدينية،هو الإنفتاح على علوم الأديان، ونظرية التطور، وعلوم الأعصاب، وأفضل إشكال التدين المعاصر،أي الإيمان كرهان،للخروج من الإنغلاق الديني الحنبلي، ومن الجبن الديني،إلى الإنفتاح الديني الحديث والشجاعة الدينية.
العلوم المذكورة،يقدمن للمؤمن إضاءة موضوعية،لمعرفة تكوّن وتطور ومصدر معتقداته منذ ما قبل التاريخ المكتوب حتى الآن. علوم الأديان،تفسر كيف اكتشف القرد،المتحول إلى بشر،عالم الغيب عبر أحلامه؛وكيف استخدم شيئاً فشيئاً شعائر الفكر السحري، لمعرفة العالم الغامض المخيف الذي يعيش فيه،بواسطة المعتقدات السحرية الجمعية.لماذا؟نظراً لإستحالة معرفة أي شيء موضوعي عن عالم وهمي،ولأن العلم في تلك العصور كان مازال منحصراً في السحر.
وباختصار،علوم الأديان تجعل العلاقة بين الإنسان والدين شفافة،بتحرير هذه العلاقة من الفكر السحري والأسطوري، المتجسد في المعتقدات والشعائر الخرافية.لكن هذه الشعائر الخرافية تلبي حاجة نفسية عميقة في النفس البشرية:التحكم في ظواهر الطبيعة الغاشمة، كالكوارث الطبيعية والمرض والموت، بالسحر.الشعائر،تقديم القرابين والصلاة،مثل صلاة الإستسقاء في أوقات الجفاف، التي مارسها الإنسان منذ زمن سحيق،وورثتهن الأديان الوثنية ثم التوحيدية عن الفكر السحري القديم.أوضح تجليات الفكر السحري هي المعجزة التي مارستها أول ديانة وثنية، الأنيميزم، أو الإحيائية،أي عبادة الحجر والشجر وبعض الحيوانات،للتحكم سحرياً في قوانين الطبيعة. حقق الإنسان بالمعجزة أول انتصار وهمي على عناصر الطبيعة،وحتى الانتصار على الموت في معجزات بعض أنبياء إسرائيل التخييلية،كان له مفعول السحر،لأنه قدم للإنسان قناعة تتحدى جميع الفرضيات واليقينيات العلمية المعاصرة،بشرعية رغبته النرجسية في حياة ثانية بعد الموت؛لتخفيف كابوس رُهاب العدم المطلق ورهاب مساواة مصير الإنسان ـ وما أدراك ما الإنسان ـ بمصير الحمار والدودة:الموت مرة وإلى الأبد،دونما أمل في الخلود في حياة ثانية بعد الموت!.
نظرية تطور الإنواع الحية،وخاصة القرد والإنسان،تعطي إضاءة علمية،تنقض طبعاً الرواية الدينية عن أسطورة الخلق الآدمي وتكّون الحياة على الأرض.لكنها تخلص الإيمان من الفكر السحري والأسطوري،الملازمين للإيمان الزائف،أي الخرافي.إنها تقدم لنا تاريخ تطورنا البيولوجي كما تحقق فعلاً منذ 3.7 مليار(بليون)سنة،منذ بداية الحياة انطلاقاً من بكتيريا أولى،وحيدة الخلية في المحيط البدائي،إلى اليوم؛ولتعلمنا أيضا أن تطورنا،الذي كان دائماً ولازال أساساً تطور الدماغ؛الذي مازال متواصلاً إلى غير نهاية.قصة التطور هي قصة التطور من البسيط إلى المتشعب.كما سنرى ذلك تفصيلاً.
نظرية التطور والبيولوجيا الجسُيمية يضيئان،باكتشافاتهما العلمية عبر الأحافير البشرية بالأمس،وعبر تشريح الجينوم البشري في العقدين الأخيرين،تاريخ تطور القرد إلى إنسان منذ 7 ملايين عام.نظرية التطور،كجميع العلوم،هو تاريخ فرضيات وحقائق مفتوحة،دائماً برسم اكتشاف فرضيات وحقائق أكثر شمولاً واتقاناً.أي تفسر ظواهر أكثر، بأخطاء أقل من الفرضيات والحقائق السابقة.
نظرية التطور،كما اعترف البابا جان بول2 ،أمام أكاديمية الفاتيكان العلمية عشية رده الإعتبار لداروين ونظريته:"نظرية التطور اكثر من مجرد فرضية"،أي أنها علم مفتوح على مزيد من الإكتمال والإتقان باكتشافات البيولوجيا المعاصرة،التي أخذت اليوم مكان الفيزياء الفلكية في القرنين الماضيين،لتصبح براديجم لجميع العلوم،أي النموذج الذي تحتذيه في مساعيها وبحوثها العلمية.
اكتشف داروين أن الأنواع المتطورة(فاريانت)،تتطور عفوياً وبالصدفة.هذه التطورات تنتقل بالوراثة وبالإنتخاب الطبيعي،اللذين يستعيدان الأشكال الأكثر تكيفاً مع البيئة.لكن داروين لم يفسر لا مصدر التطور ولا كيفية اشتغال الوراثة.لسبب مفهوم:علم الجينيتيك مازال لم يظهر بعد،لم يظهر إلا في السنوات 1930 .عندئذ اكتشف 3 من علماء الجينيات تفسير التطورات بالتغير.وفي 1953 ،اكتشف عالمان آخران البنية المزدوجة اللولب،هِليس، في أدين(أ.د.ن.)،التي هي الجسيم،موليكول،الذي يشكل السند المادي للجينيات،لتفسير كيف تنتج التغيُرات الجينية نفسها بنفسها من دون تدخل خارجي،أي إلهي. التطور يمكن اليوم مشاهدته بالميكروسكوب.
في السنوات التالية بدا تقدم البيولوجيا الجسيمية هائلاً،معطيا للهندسة الجينية[=الوراثية]سلطانا لا حدود له.فقد غدا العلم يحقق"معجزات"علمية مثل:تشريح الجينوم البشري والحيواني،وتغيير الجينات بقصد ممارسة علاجات جينية.
فرضية الانتخاب الطبيعي الداروينية،تحققت حتى بالنسبة للبروتينات،الخلايا المخية.وهكذا مازالت صالحة ككادر عام وكوني للتفكير في العالم الحي.
الفصل الحادي عشر
العقلانية الدينية المُطبقة
النصوص التالية،تُصحح أسطورتي خلق الحياة على الأرض انطلاقاً من آدم،وأسطورة خلق الكون في ستة ايام؛لذلك هي جديره بالتدريس للناشئة بما هي عقلانية دينية مُطبقة.
الدعابة،الجنس التقاليد،الضحك لسن خاصات بنوعنا البشري
بقلم دوس سانطوو
"كل صباح،قبل فتح حديقة الحيوانات،(استكهولم)الشامبانزي،سانتو،يَصّف بعناية مجموعات من الحصى على الأرض.ينتظر وصول الزوار الأوائل أمام زريبيته ليرميهم بقذائفه.كان يُظن أن الاستعداد للمستقبل خاصية بشرية.طالباً، تعلمت بأن الإنسان هو الوحيد الذي يستطيع استخدام الآلة،وبأنه الوحيد الذي يتلاعب بالرموز،وأنه الوحيد الذي يؤثِر الآخرين على نفسه،وأن هذه الخصائص خاصة به. كل هذا أصبح اليوم موضع شك،كما لاحظ،ج.هو برين،بالِو انثروبولوج بمعهد ماكس بلنك(ألمانيا)؛"رصْد تصرفات الشامبانزي على الأرض،في حالة شبه ـ أسر، وفي تجارب العلوم المعرفية،أسقطت الواحد بعد الآخر الخصائص الكبرى الخاصة بالإنسان:المشي على قدمين،استخدام الأدوات،الصيد،الحياة الإجتماعية،الحياة الجنسية،التعاطف مع بني جنسه،الضحك،الفن"؛كما لاحظ باسكال بيك،بالِو انثروبولج في الكوليج دُو فرانس.
قرود الشامبانزي يقايضون اللحم ضد الجنس،يمارسون المزاح،يمارسون جني الثمار،بل يعالجون أنفسهم بالأعشاب الطبية،التي يختارونها تبعاً للأمراض التي يعانونها.بعضهم يصنعون أخفافا "شباشب"لتسلق جذوع الأشجار الشائكة لتكسير الجوز.إنهم يستخدمون الأدوات،وبما أن لهم ثقافة، فهذه الأدوات تختلف حسب التقاليد المحلية،ويعطلون الفخاخ التي ينصبها لهم الصيادون، فتاة الشامبانزي تلعب بالعيدان،كما تداعب البنات عرائسهن.حتى أن الشامبانزي، يمكن أن يكون الأسرة الأشد قرباً منا،بالمساواة مع قرود بونوبو،الذين انفصلنا عنهم منذ 5 إلى 7 مليون عام.
مكانة خاصة:كما يشرح البالِو انثروبولج،باريل،المحاضر بمتحف التاريخ الطبيعي:"قرود الشامبانزي تطوروا في ذات الوقت معنا.عندنا جد مشترك،إنهم اخوتنا والجوريلا ابناء عمنا.قال اخصائي البالِو انثروبوليجا الأمريكي جودمان،منذ السنوات 1960 ،بأن الإنسان ليس إلا"شامبانزي معدّل"؛كان يريد تقريبه من الشامبانزي ومن الجوريلا، اللذين كانا ينتميان حين ذاك إلى عائلة أشباه البشر.أما منذ الآن فالأنواع الثلاثة مصنفون في البشريات.في بداية سنة 2000 ،اقترح جودمان،على أساس الأعمال التي اكتشفت القرابة الجينية الكبرى بين الإنسان والشامبانزي وبونوبو،ضم الشامبانزي وبونوبو إلى الإنس،هومو،(...)القرابة بين الأنواع الثلاثة تشبه القرابة بين النمر،والفهد والأسد(...).المشكلة أن الإنسان يؤلمه أن لا يكون إلا مجرد قرد، كجميع القرود، ويُصر على الاحتفاظ بمكانة خاصة به، بدافع النرجسية البشرية".
منذ تشريح الجينوم البشري في 2003 تلاه جينوم الشامبانزي في 2005 وبونوبو في 2011 ،عثر العلماء على برهان مثير لتقريب البشر من قرود الشامبانزي وقرود بونوبو:98,7 % من أ.د.ن. مشتركة بين الأنواع الثلاثة(...).
"الجين فو اكس ب 2 ،الذي تم التعرف عليه بما هو جين الكلام.بروتينه الخاص به، به مئات من الأحماض الأمينية . منهن اثنان فقط غير متشابهين بين الإنسان والشامبانزي،هذا الفارق الضئيل هو الذي مكن الانسان من امتلاك كلام متشعب.فما هي خلاصة كل ذلك؟أن بعض خصائصنا الشهيرة، تُوجد عند قرود اخرى.لكننا كنا الوحيدين الذين دفعنا بهن إلى أقصى درجات التطور.هذا ما يجعلنا نحتفظ بشيء من النرجسية".(1)
التطور هو أساسا تطور الدماغ
"من دون دماغنا البالغ الإتقان،ما كان ليكون بإمكاننا أن نكون سادة العالم.هكذا يقدم الإخصائي جان جاك هوبلن مفاتيح التطور. س:لماذا الانسان هو النوع رقم واحد على الأرض؟ ج.ج.هوبلن:بفضل دماغه.إذا قارناه مع باقي القرود،فلإنسان يمتلك دماغاً أكبر بكثير مما كان ينبغي بالنسبة لحجمه الجسدي.بدلا من 400 إلى 600 سنتيمتر مكعب،عند القرود الأخرى،دماغ الإنسان هو أكبر 3 مرات.ذلك كان نتيجة ضغط متواصل من الانتخاب الطبيعي، أدى إلى تطور هذا الدماغ الكبير. ـ هل كان من الضروري أن يتطور دماغنا؟ ـ إختصاصنا في الطبيعة،هو تكوين مجموعات اجتماعية متشعبة، تستخدم تكنولوجيا متقنة.وهو ما يتطلب تفوقاً عصبياً عاليا جداً، للبقاء على قيد الحياة.باستمرار،قدم لنا الانتخاب الطبيعي، آخر المساعدات الحاسمة الضرورية،ليصبح دماغنا متفوقاً أكثر فأكثر. ـ لماذا أخذ هذا التطور وقتاً طويلاً؟ ـ دماغنا الكبير قدم لنا مزايا كبيرة،لكنه قدم لنا أيضاً بعض المتاعب؛أي التكاليف التي لابد من دفعها، لجعله دائماً أكبر فأكبر واتقن فأتقن.كان لابد من 2,5 مليون عام،للإنتقال من دماغ،بحجم دماغ الشامبانزي،إلى دماغنا الحالي.هذا التطور تطلب مراجعات طويلة حتى يتحقق. ـ ماذا كانت التحديات التي كان علينا التغلب عليها؟ ـ أولاً،الدماغ مزعج،ولادة طفل تطرح مشاكل التوليد الجدية حقاً.لأن حوضنا بما نحن من ذوي القدمين ضيق.ثم أن دماغنا هش جداً.يداي ورجلاي يتحملان بلا عناء تغيّرات قوية للحرارة.لكن إذا وصلت حرارة دماغي إلى 5 أو 6 درجات فهو الموت.إلا أن اكبر همومنا،هو كيف يجب أن نغذي دماغنا باستمرار. دماغنا لا يمثل إلا 2 % من جسدنا،لكنه يستهلك 22 %من الطاقة، التي ينتجها الجسد.هذا ما يفسر انجذاب الإنسان إلى اللحم،والشحم، وجميع أنواع الغذاء، الكفيلة بتقديم كثير من الطاقة.طبخ الغذاء كان أيضاً وسيلة لتسهيل هضمه وتمثله. ـ كيف تم حل مشاكل التوليد المشار إليها؟ ـ عندنا أكبر دماغ من جميع القرود،لكننا نولد بأصغر دماغ بالنسبة لحجمنا كراشدين.تقريباً 25 %.وهذا ما يسهل مرور الوليد من الحوض.وبالمقابل،فإن هذا الدماغ ليس أبداً مكتملاً عند الوّلادة.نموه يمتد مع الزمن،خاصة خلال 4 و 5 سنوات الأولى.بينما هو عند القرود مثلاً يكتمل خلال عام أو عامين.(...) ـ هل يواصل دماغنا تطوره؟ ـ تماماً.بل بلا شك،تطورُ دماغنا،هو أحد الأشياء التي حسبناها أخيراً.ما نطلبه من دماغ إنسان اليوم، لا علاقة له بما كان يُطلب منه منذ 100 ألف عام أو حتى 50 ألف عام.واصل دماغنا الخضوع لضغط قانون الانتخاب الطبيعي نظراً لتعقد التكنولوجيا، التي نستخدمها،والتشعب المتعاظم للعلاقات الاجتماعية التي ننتجها.التكيف التقني عوّض أكثر فأكثر التكيف البيولوجي،من دون أن يؤدي ذلك إلى اختفاء هذا الأخير مع ذلك.تطور الكمبيوتر هو إحدى التجليات الأخيرة لظاهرة التطور المتواصل للدماغ البشري.لقد دخلنا إلى مرحلة بدأ فيها دماغنا يُخرج مخزون ذاكرته ليفوّض الآلات بالقيام بأكبر كمية من الوظائف نيابة عنه. ـ ما هي المرحلة القادمة لتطور الإنسان؟ ـ بدأ الإنسان يتدخل في تسريع تطوره،فبإمكانه اليوم تعديل جينومه،وهذا حدث غير مسبوق في التاريخ.يقال أن هذا التقدم غير مرغوب فيه،ولكنه لا مفر منه.لا يوجد مثال واحد،في مجرى تطور الإنسان على مر العصور،على تكنولوجيا اخترعها ولم يستخدمها."(2)
الدين والتطور:ولد الإنسان متديناً
إيف كوبنس،بروفسير في الكوليج دو فرانس ومكتشف(لوسي،3 مليون سنة).
ـ متى اكتشف الإنسان المقدس؟ ـ في نظري،منذ ظهوره،منذ حوالي 3 مليون عام،عندما ُأضطر ما قبل البشر للتكيف مع حقبة من الجفاف الطويل،قللت كثافة الغابات.تطورت أدمغتهم،لأنهم باتوا مضطرين للعثور على استراتيجا جديدة للبقاء على قيد الحياة، في بيئة طبيعية كانوا فيها،من بين الحيوانات الآخرى،الأكثر تعرضاً للمخاطر. تطور وعيهم،ومعه تطورت نظرتهم الداخلية:وهكذا أصبحوا بشراً بعدما كانوا ما قبل بشر،بالنسبة لإخصايي ما قبل التاريخ،ولد حس المقدس منذ حوالي 300 عام أو 400 عام ق.م.،عندما ظهرت أدوات مصنوعة فقط للشعائر الدينية.لا أشاطر هذا التحليل.لا حظوا الشعوب البدائبة:كل شيء في نظرهم رمزي ومقدس.الإنسان الرمزي جاء مع اول حجر نحته. ـ في أي لحظة بدأ الإنسان يهتم بدفن موتاه؟لتحضيرهم إلى السفر إلى عالم آخر؟ ـ (...)في موقع انابويلكا(اسبانيا)،تم العثور في بئر طبيعية على 15 جثة ألقيت هناك منذ 500000 عام.كانت الجثث مصحوبة بأداة جميلة النحت،من الحجر الأحمر.لونها لا يمكن أن يكون بالصدفة.لكن القبور الفردية لم تظهر إلا منذ 100000 عام ق.م.(...). ـ هل امتلك ناس ما قبل التاريخ المكتوب معتقدات ناضجة؟ ـ قطعاً.للإقتناع بذلك.يكفي تحليل المغاور المنقوشة 30000 عام،الرسوم الحيوانية والعلامات التجريدية فيها منظمة بطريقة دقيقة،كبرهان على وجود كتابة مقدسة.(...). ـ هل يمكن أن نتصور أن الإنسان لن تعود به حاجة للآلهة ؟ ـ الروحانيات،هن إحدى مكونات دماغنا منذ 3 مليون عام.لكن الإنسان تغير وسيتغير.ستوجد أنواع أخرى من البشر،ستكون قدراتهم الفكرية مختلفة عن قدراتنا،وربما لن يبقوا في حاجة إلى نفس المتعاليات،أي المعتقدات الدينية السائدة اليوم."(3)
فضلت أن أترك لذوي الاختصاص،أي لأصحاب الكلمة المشروعة علمياً،أن يفسروا بأنفسهم صيرورة تحول القرد إلى إنسان،عبر تطور دماغه خلال 2,5 مليون عام،حيث تطور دماغه من 400 أو 500 سنتيمتر مكعب إلى الضعفين.فيما بقي دماغ أقرب القرود إلينا نسباً بونوبو الشامبانزي والجوريلا من دون تطور.وبما أن كل شيء يتغير إلا قانون التغير،وبما أن التطور لم يعد اليوم بالإنتخاب الطبيعي فحسب، بل قد غدا أيضاً وخصوصاً"بالإنتخاب الحضاري"كما سماه داروين،أي بالعلم والتكنولوجيا،أو بعبارة أخرى بتدخل العقل البشري نفسه لتطوير نفسه بنفسه،عبر تطوير مؤسساته،وعلومه، وتكنولوجياته وأيضاً جينياته،وقيمه الأخلاقية ومعتقداته الدينية.العقلانية الدينية قد تكون الطور الأرقى،أو على الأقل طوراً أرقى من أطوار تطوير الإنسان لمعتقداته طوال 3 مليون عام،كما قال كوبنس.أجيال اليوم،وأكثر فأكثر أجيال الغد،لن تعود في حاجة للمعتقدات الحالية الخرافية،القهرية والمعادية للإنسان والعلم والحياة. فلنساعدها منذ الآن على إعادة صياغة أشكال التدين،أو الّلا تدين. في خطاب اختتام مجمع فاتيكان 2 (1962 ـ 1965)،صرح بولس السادس:"دين الله الذي تجسد إنساناً،التقى اليوم مع دين الإنسان،الذي تجسد إلاهاً."؛أي أن العقل البشري بلغ سن الرشد،ولم يعد بحاجة لعكاز العقل الإلهي لكي يتوكأ عليه.
تأليه الإنسان في الحداثة،تحقق بالانتقال من مركزية اللاهوت،إلى مركزية الناسوت،من مركزية العقل الإلهي إلى مركزية العقل البشري،من المعتقدات السحرية والأسطورية المعادية لحقوق الإنسان، إلى دين حقوق الإنسان،الذي لا هم له إلا الدفاع عن هذه الحقوق، ونشرها وتشريبها لوعي البشرية الجمعي. علوم الأعصاب:هل الله منتوج الدماغ؟
المسلَّمة الأساسية لعلوم الأعصاب،منذ ظهورها في السنوات 1980 ،هي أن الظواهر "الروحية"هي في الواقع ظواهر ذهنية،أي ظواهر عصبية ـ بيولوجية، من انتاج الدماغ البشري؛ تبرمجت فيه طوال مسار تطوره، منذ ملايين السنين،تحت ضغط الانتخاب الطبيعي، لحفظ بقائه على قيد الحياة، مثل الحدس،توقع الأحداث قبل وقوعها،الذي مازال قويا لدى الطفل والشامبانزي. افترض فرويد أن التلباثي،أي التخاطر عن بعد،كان ممارسة شائعة عند الإنسان البدائي،كما التيلفون اليوم للإنسان الحديث.(4)
في نظر علوم الأعصاب،ادعاء صدور الظواهر الذهنية،عن مصدر خارج الدماغ،هو راسب من رواسب الفكر السحري الخرافي،المستلَب بتأثير الجن والشياطينن في الدماغ البشري!
مشروع علوم الأعصاب، هو تحديد مناطق الدماغ، أي فصوصه اللواتي ينتجن كل ظاهرة "روحية"، وكيفية اشتغال هذه المناطق والفصوص، وأخيراً التحكم فيهن.تماماً،كما هي خارطة طريق جميع العلوم، المغيّأة بتقديم العلاج كالطب.
مع علوم الأعصاب،سيكون من الممكن علاج الوسواس القهري مثلاً،المسؤول عن أمراض قهرية عدة: وسواس النظافة القهري،مثل غسل اليدين 120 مرة في اليوم،للوقاية من "الميكروبات"،أو الإغتسال والوضوء للصلاة،أو النشاط الجنسي القهري،الغيري والمثلي،الذي يرغم ضحيته على أن يكون نكوحاً، خاصة عند الإصابة بالذهان الإهتاجي،كما في حالة نبي الإسلام،الذي قال صادقاً:"أوتيت قوة 40 رجلاً". ضحايا الجنس الوسواسي القهري،من الجنسين،يناكحون كل من هب ودب في طريقهم، بلا أدنى احتياط للأمراض السارية.ليس بحثاً عن اللذة الجنسية،التي هي غاية النشاط الجنسي البشري، بل بدافع قهري وتحت طائلة الشعور بالذنب.بإمكان العلم تخليص الإنسان من الدافع القهري، ومن الشعور بالذنب المرضيين،لتبقى اللذة الجنسية،وحدها ولذاتها،هي غاية النشاط الجنسي البشري.
الممارسات الوسواسية القهرية هي،كما تفهمها سيكولوجيا الأعماق:"دفاع ضد الجنون".لو يُرغم مريض وسواس النظافة على عدم غسل يديه أو على عدم الإغتسال والوضوء للصلاة،أو على إيقاف نشاطه الجنسي القهري،فإنه يغدو مهدداً بالسقوط في الجنون!لهذا السبب يذهب الوعظ الأخلاقي والصحي،مع ضحايا الوسواس القهري،دائماً أدراج الرياح.
جعلت علوم الأعصاب،من تحليل واستجلاء غوامض علاقة الدين بالدماغ،موضوعها المركزي.وقد حققت حتى الآن انجازات هائلة.
التجديد العلمي والتكنولوجي المتسارع هو اليوم ،حليف علوم الأعصاب في أبحاثها.التصوير بالرنين المغناطيسي،بات يسمح بتحديد مناطق الدماغ،التي تنشط بقوة خلال الممارسات الدينية كالصلاة. أحد هذه المناطق احتلت مكان الصدارة:الفص الصدغي الأيمن،أي منطقة الدماغ المسؤولة عن عديد الوظائف الذهنية،كالسماع،الكلام،الذاكرة والرؤيا الدينية عند الأنبياء والمتصوفة.
في السنوات 1980،نشّط عالم الأعصاب الكندي ميشيل باراسيندرج،هذه المنطقة عند عدة أشخاص، فنجح في ادخال شعور للحضور الديني عند غالبيتهم.يلخص عالم الأعصاب الكندي نتائج أبحاثه، بأن الصوفيين الكبار،أمثال: موسى،أو محمد،أو بوذا أو القديس بطرس،كانوا مصابين بأشكال خاصة من صرع الفص الصدغي،المنتج للظواهر الدينية.للبروفسير هشام جعيط تفسير للوحي، يحسن تعريفالقراء به.(5)
في السنوات 1998،أسْمع طبيب الأعصاب رامتشاند ران،بعض المرضى المصابين بهذا الشكل الخاص من الصرع،كلمات مرتبطة بالدين،فلاحظ استجابات انفعالية غير عادية؛مبرهناً هكذا على وجود علاقة أكيدة بين النظام العصبي"الامبيك"ـ الذي هو منطقة دماغية مسؤولة إلى حد كبير عن الاستجابات الانفعالية ـ وبين منطقة الفص الصدغي الأيمن.لقد بات من الممكن استثارة التجارب الصوفية بالرنين المغناطيسي.
الخلاصة،التي توصلت إليها التجارب العلمية،على منطقة الفص الصدغي الأيمن،هي أن هذا الفص هو منطقة الله والمعتقدات الدينية والميتافيزيقية،الروحية والسحرية والأسطورية.التجارب الدينية ليست إلا شكلاً خاصاً من الصرع:"الله ليس شيئاً آخر غير منتوج الدماغ" كما قال عالم الأعصاب الأمريكي.
يا صناع القرار التربوي إنكم تمرون بفترة انتقال عالمية عاصفة،فترة تغيرات غير مسبوقة اقتصادية، سياسية،تكنولوجية،علمية وثقافية؛تتطلب من جميع صناع القرار في العالم،لكي يواجهوها بنجاعة، أن يحققوا إصلاحات استراتيجية ملحة وضرورية.الإسلام ،كما هو الآن، عتيق وغير مُصلَح،لذلك شكل ومازال عائقاً أمام دخول شعوبكم إلى القرن الـ 21 .فتشجعوا واتخذوا قراراً بإدراج الصفحات السابقة في مناهج التعليم،وخاصة التربية الدينية.هذا القرار قد يساعدكم على قطع العقدة الصعبة التي تقف اليوم حائلاً دون فتح ورشة إصلاح الإسلام،التي تتحكم في فتح باقي الورشات الأخرى.
لماذا ساد الشك الديني؟
الإيمان في الإسلام هو "التصديق بالقلب والعمل بالجوارح".خليط متفجر! لماذا؟التصديق هو سرعة اعتقاد المؤمن فيما يسمع أو يقرأ،بلا سؤال أو تمحيص،هو الاعتقاد الساذج والأعمى في كل ما قاله الأسلاف أو حتى فقهاء الإرهاب عن الإسلام؛هو الاستقالة الكاملة للعقل.وهكذا ينفتح باب اللامعقول، الخرافي والسحري على مصراعيه.هذا التصديق متفجر،لأن على المؤمن أن يعمل بما صدّقه بسهولة من أحكام، وفتاوى دموية غالباً.المؤمن الذي يصدق ما سمع أو قر،أ ويعمل به،يمكن أن يصبح متعصباً أو قاتلاً؛هو إذن قنبلة زمنية،هو بالقوة صاروخ موجه طوع أصبع من يضغط على الزناد. تكفي فتوى من شيخ هاذي، او ماكر، ليحوله إلى شهيد،أي قاتل وقتيل،إلى إرهابي.
الإيمان بما هو"تصديق" لم يولد مع الإسلام الأول.رأينا نبي الإسلام نفسه،خاصة في مكة كان دائم الشك في رسالته؛حتى أنه فكر في ترك بعضها،مما يمليه عليه جبريل،أي هذياناته وهلاووسه، وضاق به صدره:"فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك"(12،هود)!وراودته فكرة إفتراء قرآن آخر،يرضي المشركين،الذين كان في أعماقه يتمنى مصالحتهم:"وإنْ كادوا ليفتنونك،عن الذي أوحينا إليك،لتفتري علينا[قرآناً آخر]غيره؛إذن لتخذوك خليلا"(75 الإسراء)؛ وصل شكه في رسالته إلى درجة عليا:فقد اعترف نبي الإسلام بالمساواة في امكانية الصواب والخطأ،أوالهدى والضلال بين الإسلام والشرك:"وإنّا أو اياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"(24،سبأ)! وفي حديث للبخاري:"نحن أولى بالشك من إبراهيم".
الصحابه أيضاً قلما كانوا يصدقون بسهولة ما يتلوه عليهم نبي الإسلام من قرآن.القرآن شاهد على هذه الحقيقة.فما نسخ منه كان غالباً بطلب من الصحابة،وكان نبي الإسلام يلبى طلبهم فوراً.وقد رأينا نماذج من ذلك خلال هذا البحث.إيمانهم لم يكن"التصديق"،بل كان السؤال والرفض أيضاً، لما رأوا فيه مضرة لهم او لمصالحهم:عندما أخبرهم النبي بـ"خبر السماء":"يا أيها النبي:حرّض المؤمنين على القتال،إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين،وإن يكن مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا" (65،الأنفال)؛رأى المؤمنون أن علاقة القوة،مسلم1 في مواجهة 10 كفار ،هي علاقة غير واقعية،إذن غير مقبولة.لم يصدقوا ما سمعوا،بل"استعظموه"في رواية ابن عباس،أي استفظعوه ورفضوه. فاستجاب النبي لهم على مضض،ناسخا الآية فوراً بالآية التي تليها:"الآن خفّف الله عنكم،وعلم أن فيكم ضعفاً: فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين،وإن يكن منكم ألفاً يغلبوا ألفين"(66،الأنفال).واضح من"الآن علم الله أن فيكم ضعفاً"أن النبي نسخ الآية استجابة لضغوطهم وليس اقتناعاً باحتجاجهم. وقد تكون هذه الآية نتيجة تسوية تفاوض عليها المؤمنون مع نبيهم.
من أين إذن جاء"إيمان التصديق" لأعمي بالنص دون سؤال؟من إسلام المحدثين والحنابلة الذي حرم السؤال في الدين والقائل:"من أصاب في القرآن بالرأي[=العقل]،فقط أخطأ،ومن فسر القرآن بالرأي فقد كفر".!(الترمزي،تلميذ البخاري الذي أوصاه بإكمال رواية الأحاديث الصحيحة بعده)،نحن أما نكوص جنوني إلى الفكر السحري والأسطوري.العقل ليس مرغوباً فيه وحسب،بل هو محرّم ومجرّم.هذه هي مفاتيح انحطاط المسلمين،اللواتي مازال أقصى اليمين الإسلامي يفتح بهن، أبواب الأنفاق المظلمة، لإدخال أمم أرض الإسلام فيها.
إيمان "التصديق الأعمى"،الذي تُبرمج به التربية دماغ الطفل.دماغ الطفل في حاجة إلى تصديق ما يقوله أبواه ومربوه؛العائلة والمدرسة التقليديتان،قائمتان على التلقين.وهكذا تثقفان الطفل بثقافة التصديق الأعمى،التي تمسخه إلى ببغاء.يوجد عامل بيولوجي آخر لإنتشار ثقافة التصديق في الإسلام،هو أمراض الغباء الـ 3 :الغباء الخفيف،الغباء المتوسط والغباء العميق.شرحنا ذلك في إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان.
الإيمان بما هو رهان على وجود الله سيكون قطيعة تاريخية مع الإيمان بما هو "تصديق"،وانغلاق حاملين للتعصب والعنف. الإيمان بما هو رهان،أسس له في الإسلام نبي الإسلام ؛بشكوكه المتواصلة في رسالته وبآية الشك "24،سبأ"، وأسس له في الحداثة الفيلسوف والعالم االفرنسي،باسكال:إن كان الله موجوداً فقد كسبتَ كل شيء،وإن لم يكن موجوداً فلم تخسر شيئا، فراهن إذن على وجوده...
هذا الإيمان كرهان،هو الذي يملك على الأرجح مفاتيح مستقبل الدين.وهو ليس إيمان القلة المؤمنة من الفلاسفة والعلماء وحسب،بل وحتى بعض رجال الدين أنفسهم،بل وحتى غالبية المؤمنين: السسيولوج الفرنسي،ايف لامِبير،أكد في كتابه:"للخروج من القرن الـ 20"،بأن اجابة المؤمنين المسيحيين على أسئلة دينية جوهرية بما فيها وجود الله نفسه،"تفوقت الإجابة بـ "على الأرجح" كثيراً على الإجابة بـ"يقيناً".(6)
لماذا؟لأن التقدم المكثف والمتسارع للعلم والتكنولوجيا،اكتشاف علمي مهم في العالم كل ثانية،في جميع المجالات،هذا التقدم عرّى الأساطير الدينية،وزلزل يقينياتها العمياء،بتأكيده أكثر فأكثر رحيل القداسة السحرية من العالم،الذي يتعلمن كل يوم أكثر.العلم نفسه،وخاصة البيولوجيا والفلك الفيزيائي،فضلاً عن العلوم الإنسانية الأخرى،أرسلت اليقين ـ جميع أصناف اليقين ـ إلى متحف الذكريات. الفيزياء الكوانطية،ونظرية الكاووس،والبيولوجيا والعلوم الإنسانية،أدخلن في هذه العلوم جميعاً مفاهيم:اللّايقين،اللّاحتمية وصعوبة التوقع.وهكذا فالحقيقة،بما فيها العلمية،هي منذ الآن فرضيات مفتوحة على التعديل والتجاوز،بتأثير تنافس الفرضيات المختلفة،وضرورة تمرير كل منها على امتحان التجربة العلمية.مجموع معارفنا هي إذن،الفرضيات المؤقتة،أي المفتوحة على التطوير والتعديل بفرضيات جديدة تفسر ظواهر أكثر بأخطاء أقل.وهكذا دواليك.هذا منذ الآن فصاعدا هو مفتاح تقدم المعارف والعلوم.وهذا ما توقعه أخي، أبو العلاء المعري، منذ 10 قرون: أما اليقين، فلا يقين.وإنما / أقصى اجتهادي:أن أظنّ وأحدسا.
تبنت جميع الأديان الكبرى،نخباً وجمهوراً، اللايقين.فهل سيبقى الإسلام وحده متمترساً وراء يقينياته العمياء؟كلا."أمة محمد"لا تعيش في جزيرة معزولة كحي ابن يقظان،بل في عالم معولم، تستقبل فيه كل لحظة معلوماته وتأثيراته العلمية والدينية وتتفاعل معها وتستجيب ايجابياً للكثير منها.
ظهور أقصى اليمين الإسلامي على مسرح التاريخ،كفيل،كما في إيران والسودان،بدفع قطاعات أوسع فأوسع من المؤمنين،خاصة الشباب والنساء،إلى اللايقين،للخروج من شرنقة"التصديق"الساذج إلى رحاب إيمان الشك والرهان، على وجود الله بما هو قناعة ذاتية فردية، لا تدعمها أية فرضية علمية، كما يؤكد العلماء المؤمنون أنفسهم بمن فيهم بعض المسلمين كما سنرى ذلك بعد قليل.
لأول مرة في مصر،"أرض الدين"،كما سماها المؤرخ اليوناني هيردووت، ُأعلن في الشبكة العنكبوتية عن ميلاد"موقع الملحدين المصريين"!.
القرن الـ 21،يتطلب وضع جميع الآراء الدينية موضع تساؤول وشك،لإمتحان سدادها،أي عدم معارضتها للقيم الكونية الأساسية،وفي مقدمتها قيم حقوق الإنسان.الإسلام مُستهدَف لأخطار الصدام مع حقوق الإنسان،وحقائق العلم.لماذا؟لأنه الوحيد،الذي مازال يطبق أحكام شريعته الدموية، أو يطالب بتطبيقها،ومازال،في عصر الثورة العلمية العالمية،يقدم أساطيره"العلمية"،كحقائق إلاهية لا تقبل المساءلة!
درجة التحرر والنضج الفكريين،اللتين بلغتها البشرية،التي تزداد مع الأيام استنارة،بفضل ثورة الاتصالات العالمية،لم تعد تسمح لإيمان"التصديق"بأن يصادم حقائق العلم والحياة،فارضاً هكذا على المؤمن تصديق أساطير دينية،عرتها الأركيولوجيا وعلوم الأديان فضلاً عن الفلك الفيزيائي والبيولوجيا، على حساب القيم الانسانية،اللواتي لا حياة للإنسان من دونهن منذ الآن فصاعداً.
الفكر النقدي،كتيار عالمي، تغلغل حتى في رؤوس كثير من عامة المؤمنين فضلاً عن خاصتهم.وهذا ما يسميه زعماء أقصى اليمين الإسلامي"التصحر الديني"،محاولين التصدي له بسلاحين مفلولين: العصا والرصاص،اللذين أعطيا على امتداد التاريخ،عكس النتائج المتوقعة منهما! تاريخياً،ما دخَل الدين في صدام مع العلم إلا خرج مهزوماً.هذا هو درس التاريخ منذ جاليلو.
بعد 10 قرون من قبر،المحدثين والحنابلة،لكلام"نفي الصفات"الإعتزالي،يعود إليه الاهوت العالمي المعاصر.تأكيد الكلام السني للصفات،جميع الصفات لله:من القدرة الكلية الجبروت،التي جعلت من المسلم ألعوبة في يد الأقدار،إلى القضاء والقدر التعسفي، الذي صادر من المسلم حقه في صنع حاضره وتحضير مستقبله،أصبح اليوم بلا مصداقية.أما كلام نفي الصفات،فسيجعل السؤال عن الله بما في ذلك عن وجوده، حقاً مشروعاً لكل مؤمن.
لماذا الشك هو اليوم بصدد الانتشار بين النخب المسلمة،واللامبالاة بصدد الانتشار بين جمهور المؤمنين؟
ذلك أنه غدا اليوم واضحا،أن اثبات وجود الله بالعلم استحالة.فلم تبقى إلا القناعة الفردية،اللايقينية غالباً.الزعم بأن الله هو سبب نفسه،الذي ساد طوال القرون الوسطى،فقد اليوم شرعيته.اذ أن العلم، وخاصة الفلك الفزيائي، والبيولوجيا،تثبت كل يوم، أن وجود الكون هو سبب نفسه،وأن وجود الإنسان هو سبب نفسه، وليس الله، الذي لم يعد وجوده،فلسفيا وعلميا،سبب نفسه.يقول البيولوجي اتلان :"حقاً،النظريات البيولوجية،تسمح لنا بالتفكير ،في أن الطبيعة تخلق نفسها بنفسها وتنظم نفسها بنفسها،من دون حاجة لتقبل وجود بداية مطلقة"(البيولوجي هنري اتلان، لا ينبغي استخدام العلم للتأكد من الأساطير،لوبوان،يوليو 2012).
مثلاً،بدأ الفلك الفيزيائي،منذ عقدين، يفكر في اعادة سيناريو الانفجار الكبير اصطناعيا،الذي تكون منه الكون، منذ 10 أو 15 مليار سنة ضوئية،بعد15 مليار سنة ضوئية قادمة، سيتفكك بعدها،ليستأنف ملحمته؛البيولوجيا هي الأخرى،غدت منذ الآن، قادرة على إعادة خلق الجنين في رحم أمه، بالتحكم في جنسه وخصائصة، وحتى في لون عينيه؛بل أن علماء البيولوجيا ،بدأوا يخلقون الحياة، انطلاقاً من عناصر كيميائية.في 2011 ، نجح البيولوجي الأمريكي،فينيفر،في خلق أول خلية "سانتيتيكيه"،حية في العالم. وهكذا:"تجسد اليوم الإنسان إلاهاً"،فعلاً لا مجازاً،كما قال الباب بولس السادس، في خطاب ختام مؤتمر الفتيكان الثاني في 1962.(7)
الأفراد والمجتمعات، في البلدان المتقدمة، لم يعودوا يرون ضرورة اللجوء إلى المرجعية الدينية،فقد عوضتها المرجعية العلمية.لم يعد العاقر والعاقرة يلجآن إلى الكاهن، او إلى الشيخ، لمعالجة عقرهما، بل إلى طبيب.حاضر البلدان المتقدمة، هو على الأرجح، مستقبل باقي بلدان العالم.
العلم غيب الله عن خلق الكون،وعن خلق الحياة،وعن التدخل في الشأن البشري اليومي.هذه التغييبات الـ 3 ،وعتها البشرية المفكرة كغياب الله عن العالم.
لهذه الأسباب مجتمعة،من مازالوا يمارسون الشعائر الدينية،يزدادون مع الأيام نقصاناً:أقل من 9 % من أرثوذكس روسيا؛5 % من كاثوليك فرنسا؛وأقل من 14 % من مسلمي فرنسا واوربا.وحتى من مازالوا يمارسونها،ما عادت غالبيتهم تمارس الشعائر الموروثة أباً عن جد،شعائر الأسلاف،بل باتوا يجددون فيها تجديدات تقشعر لها فرائس المؤمنين التقليديين:مثلاً في مصر،ظهرت مجموعات طلابية يرتلون الأغاني الغرامية،كما يرتل عبد الباسط عبد الصمد الآيات القرآنية؛في تونس، لم يعد بعض المؤمنين يرى حرجاً في تناول الخمر مع مشوي عيد الأضحى...فكيف ستتطور هذه السلوكيات الدينية ـ الدنيوية خلال عقد أو عقدين أو بعد 50 عاما؟هل سيتساءل يومئذ المسلمون مع المعري: سيسأل قوم: ما الحجيج ومكة؟ / كما قال قوم: ما جديس وما صسم؟
كل شيء ممكن،في عالم لم يعد فيه الإيمان بالتقليد ممكناً؛في عالم غدا الفرد فيه، كل يوم أكثر فأكثر، هو صانع حياته اليومية بنفسه.
ظاهرة أخرى هي تغيير الدين،بالرغم من أن تركيا هي الدولة الوحيدة في أرض الإسلام،التي اعترفت لمواطنيها،في دستور 2006 ،بحرية تغيير الدين؛إلا أن الهجرة الداخلية من الإسلام المدني إلى الإسلام المكي،المتجسد في التصوف،تكثفت خاصة منذ مأساة 11 سبتمبر 2001 ،كما تكثفت الهجرة الخارجية من الإسلام إلى المسيحية واليهودية خاصة في البلدان المغاربية الـ 3:المغرب، الجزائر وتونس.مراسل"مجلة المجلة"السعودية من المغرب،كتب تحقيقاً في 2005 عن ارتداد المسلمين إلى المسيحية:تتوقع السلطات المغربية بقلق، أن يصبح ثلث الشعب المغربي مسيحياً سنة 2030 .سألت المغربي، البروفسير بمدرسة العلوم السياسية،محمد الوافي،العائد حديثاً من المغرب عن هذه الظاهرة، فأجاب بمرارة:"الإرتداد ليس من الإسلام إلى المسيحية وحسب، بل وأيضاً من الإسلام إلى اليهودية.ويبدو أن الظاهرة فاعلة في الجزائر وتونس أيضاً.
ارتفاع درجة الوعي العام ،بفضل الثورة العلمية وثورة الاتصالات العالمية الحاملة لها، غيرت علاقات القوة بين العقل الإلهي والعقل البشري.هذا الأخير غدا سائداً في العالم.أما العقل الإلهي فيجد نفسه في موقف دفاع وضعف، حتى في أرض الإسلام.في بدايات الحداثة،جعل ديكارت من الله ضامناً للحقيقة البديهية، التي أسس بها لعقلانيته العلمية.أما الفلكي الفزيائي، كلود ألليجر،فقد أكد ان شك ديكارت المصطنع، واتخاذه الله ضامنا للحقيقة، لم يقدّم العلم في فرنسا، بل بالعكس أخره.رأى ديكارت في" قوس قزح معجزة إلاهية"؛أيّ تلميذ اليوم في الثانوية العامة، قادر على تحليل قوس قزح كيميائياً، إلى ماء وأطياف ضوئية!
الثورة العلمية،جعلت المعجزات الالهية في خبر كان.بإمكان تلميذ،كما يقول سكرتير أكاديمية العلوم في أحد كتبه،أن يحاكي على الكمبيوتر في نصف ساعة ،سيناريو تكون الكون، منذ الانفجار الكبير، وسيناريو تكون الحياة على الأرض، منذ البكتيريا وحيدة الخلية، في المحيط البدائي،منذ 3,7 مليار سنة،أما علم نفس الأعماق،فقد فسر وجود الله،بواقع أن الطفل،الذي يتخيل أباه إلاهاً أو بطلاً إلى سن 6 سنوات،يبدأ في إسقاط أبيه الفاني،بكل صفاته البشرية، على أب لا يحول ولا يزول، يسميه الله أو الأب الذي في السماء، كما يسميه البدائيون والمسيحيون.تصور الله في الكلام السني، وخاصة الحنبلي، يقدم دعماً للتفسير النفسي له.الله في الكلام السني الحنبلي، له يد كأيدينا، وكرسي ككراسينا،أي أنه يتمتع بجميع الصفات البشرية.لذلك سمى المعتزلة السنة الحنبلة بـ"بالمجِسّمة"،أي الذين يعطون لله جسماً كأجسامنا.آخذهم المفسر المعتزلي،الزمخشري،على ذلك: "وإن قلت حنبلياً،قالوا عني: حلولي بغيض مجِسّم!" استحالة البرهنة العلمية على وجود الله،أفسحت المجال للشك فيه و الرهان عليه.
"الله غير قابل للفهم"
:"من المستحيل،بل من الغباء،أن نريد فهم الله وتفسيره".
هذه شهادة جان لوك ماريون،فيلسوف وعضو الأكاديمية الفرنسية،كاثوليكي مقتنع،وأخصائي عالمي في ديكارت.كان مستشاراً لكاردينال باريس،مون سينور لوستجي. الفكرة المركزية عند هذا الفيلسوف الكاثوليكي: هي أن الله غير قابل للفهم، ولا يمكن إثباته بأي برهان كان. ـ هل الإنسان حيوان ديني،حتى ولو اعتز بإلحاده؟
ج.ل.ماريون:الله يشكّل ما هو أكثر داخلية في الإنسان،هو أكثر حميمية له،منه هو لنفسه،كما قال القديس أوجستين.بعض الإغريق،أكدوا ألوهية الفكر في الإنسان(...)في اقصى الحالات،بإمكاننا حتى القول بأن عجزنا عن اثبات وجود الله،يعزز مسألة الله.
ـ لماذا؟
ـ لأننا قبل اثبات وجود الله،نحن نحبه دون أن نعلم "لماذا نحبه"؟(...)المفارقة هي أننا نُصّر على الكلام فيه بنفس الجهاز المفاهيمي الخاص بأشياء العالم.نريد أن نتأكد من وجوده وأن نبرهن ...إلخ. وهكذا نجعل من الله موضوع دراسة كأي شيء آخر،هذه الرغبة في التملك خاصة بالبورنجرفيا.
ـ إذن ـ كل محاولة للتفكير في الله ليست إلا وهماً؟
ـ (...)يقول علماء اللاهوت الجيدون:الله يحمل جميع الأسماء.ولكن ليس له منها أي اسم.
ـ لكن الميتافزيقا حاولت "التفكير"في الله؟
ـ قطعاً حاولت ذلك حتى كانط،كانت الميتفزيقا تميل إلى إدخال الله في نظام التعريفات،مثل جميع "الموجدات"الأخرى:جميع أشياء العالم الأخرى هن إذن الله،بالضرورة كمثل "للموجود"الأكثر اكتمالاً. لكن الميتافزيقا بعد كانط،تخلت عن البرهنة عن وجود الله.الله يعني في الفلسفة،كشرط لوجود الأخلاق،هو المؤلف الأخلاقي للعالم.وهكذا أنهى أخيراً مهنته في الميتافزيقا كضامن لنظام القيم الأخلاقية.(...)
ـ إذن كيف نتكلم عن الله؟
ـ (...) سماع البعض يتكلمون عن الله،يعطيني الانطباع بأني أستمع لصمّ يعلقون على معزوفة لبيهوفن.
ـ هل البحوث العلمية عن وجود الله ممكنة؟
ـ لم يوجد،ولن يوجد أي بحث علمي عن وجود الله.لأن هذه البحوث تتعلق بأشياء.والحال أنه لا الله ولا وجود الله ينتميان إلى الموضوعية،أي إلى الوجود الموضوعي الذي يمكن البرهنة عليه.
ـ ألا يفتح الاعتقاد في الله باب اللامعقول؟
ـ ينبغي عدم الخلط بين الاعتقاد في الله والإيمان به.الاعتقاد في الله يقوم على اعتبار أي رأي حقيقة، حتى من دون تأكيد التجربة أو البرهان العقلاني.فالاعتقاد هو إذن الدرجة الدنيا من اليقين. (...) الإيمان بالله يُعرّف التجربة،التي تؤكد نفسها في لقاءها بمخاطب غير قابل للفهم.(8)
"الإيمان رهان"
إذا كان الله غدا على نطاق واسع موضع شك:"ولم يوجد،ولن يوجد أي بحث علمي عن وجود الله" كما قال الفيلسوف الكاثوليكي ماريون فإنه لا يبقى للتدين العاقل إلا أن يراهن عليه مجرد رهان. وهذه شهادة قس فرنسي عن إيمان الرهان.هو جرار بِنِطو:قس إنساني.خوري في كنيسة سانت أوستاش"باريس".
ـ هل لابد أن يكون الإنسان متألماً ليذهب إلى الله؟
ـ فعلاً مسألة الله تطرح نفسها على من يتألم.(...)
ـ هل الله كينونة مُفبركة ثقافياً؟
ـ من الممكن ان نقول ذلك.وهو سؤال طالما واجهته أنا بنفسي.(...)جاء للقائي عاجز جسدياً،هجرته أمه طفلاً.في سن الـ 30 أصيب بالأيدز قائلاً لي:"مازلت مستمراً في التعلق بأمل أن يوجد مكان[في عالم آخرٍ]حيث جميع اللامساواة السائدة في هذا العالم سيتم إصلاحها"أنا ايضاً في نفس هذا الموقف. الإيمان رهان.
ـ أنت كقس،تقارن الإيمان برهان؟
ـ لا فقط عندي تساؤلاتي وشكوكي،بل أعتقد أن رهاني يساعدني على الحوار مع المؤمنين.(...) (9).
الشهادتان التاليتان لفلكيين فيزيائيين مؤمنين،مسلم وبوذي،تفندان أسطورة امكانية البرهنة على وجود الله بالعلم،ويؤكدان أن الله مجرد إحساس ذاتي والإيمان به مجرد رهان.بل أن الله،كما يقول مؤرخ العلوم واللاهوتي جاك أرنو:"عند بعض الباحثين المقصود به هو إلاه اينشتين(...)وليس بأي حال من الأحوال إلاه الأديان التوحيدية"(10)
شيء مّا أتى بعالمنا إلى الوجود
بقلم برونو جيدير دوني،أسترو فيزيسيان،مدير مرصد ليون
"العاِلم يصطدم بلغز اللامتناهيات الثلاث:اللامتناهي في الصغر،واللامتناهي في الكبر واللامتناهي في التشعب،أي الحياة والذكاء.(...)بصفتي مؤمناً ـ أنا مسلم منذ 20 عاماً ـ أشعر بالروعة أمام حشود المجرات والكواكب،التي تكشفها تليسكوباتنا ويتراءى لي بطريقة ذاتية،أعترف بذلك، أن في هذا الجمال معنى"(11).
أؤمن بإلاه سبينوزا وأينشتاين
بقلم الفزيائي الفلكي،ترينه سوان ثوان
ثوران،فلكي فيزيائي اخصائي في علم الإكسترا جالاكسيك[علم يبحث في ما هو خارج المجرات]. وهو يدّرس الأستروفيزيك في جامعة فرجينيا.وهو بوذي،وربما راهب بوذي.فما البوذية؟ديانة وثنية. بوذا لم يكن إلاهاً ولا نبياً.بل فيلسوف.لا صلاة في البوذية،لأن الآلهة فيها،إلاه لكل خصلة حميدة من خصال بوذا. مثلاً للصبر إلاه ،وللصفاء الذهني إلاه،وللطاقة أيضاً إلاه...هذه الآلهة، موجودة داخل الإنسان لا خارجه.فكل إنسان إلاه،وكل إنسان ينطوي على الكمال،كمال بوذا.لكن كماله مغطّى بحجاب الأهواء الهدامة، مثل الحسد والحقد،والأنانية والعنف... الجنة البوذية، هي تحرر الفكر من الألم. هنا وليس في عالم آخر.
في نظر الفلكي الفيزيائي، ثوران،الله هو، كما عند سبينوزا واينشتاين،الطبيعة،أي قوانين الطبيعة كالجاذبية مثلاً.لو يحدث، ويتوقف قانون الجاذبية عن الإشتغال، فإن الشمس ستنفجر، وتتلاشى الكواكب التي تدور في فلكها، ومنها كوكبنا. هل العالم تحكمه الصدفة، الناتجة عن تطور الكون،أم تحكمه الضرورة؟ ثوران ،يراهن،مجرد رهان،على الضرورة. ويعترف بصدق العلماء:بأن الفيزياء الفلكية، لا تقدم أية شرعية علمية، لقناعته الدينية الشخصية،التي هي مجرد"ميتافزيقا شخصية"،مجرد رهان بسكالي كما قال:"يبدو أن الكون،يقول ثوران،رُتب على نحو دقيق منذ ولادته،من أجل ظهور الحياة والوعي. أنصار الصدفة يستنجدون بنظرية"تعدد الأكوان"القائلة: أن عالمنا قد لا يكون إلا فقاعة صغيرة،بين فقاعات أخرى لا حصر لها في الميتاكون.الوحيد الذي امتلك التركيبة الرابحة في يناصيب الحياة، والوحيد القادر على أن يوُلّد وعياً،هو عالمنا.أما أنصار الضرورة، فيحتجون بأن كل هذا هو نتيجة مبدأ خالق.مازال العلم حتى اليوم، لا يملك وسائل الحسم بين الصدفة والضرورة.علينا إذن ان نقامر فنراهن مثل باسكال:إذن أراهن على الضرورة".
ـ هل الكون من صنع الصدفة؟
ـ يوجد كوداج للكون متناه في الدقة.حسبنا رصده، لنعاين أنه محكوم بقوانين في منتهى الترتيب والتنظيم.يدرس غالبية العلماء اليوم هذه القوانين،قوانين الطبيعة، من دون أن يتساءلوا ـ على الأقل علانية ـ عن أصلها. ومع ذلك،فهذه القوانين،وعلى نحو محيّر،تمتلك خصائص يوصف بها عادة الله،فهذه القوانين كونية.وهذه القوانين مطلقات، لأنهن لا يخضعن، لا للشخص الذي يدرسهن،ولا لحالة النظام المرصود. وهن خالدات ولا زمان لهن. نعاين بفضل هذه الآلات المخصصات للرجوع بالزمن القهقرى، اللواتي هن التيلسكوب،بأن خصائص المجرات البعيدة، اللواتي نشاهدهن في سن طفولتهن،يمكن تفسيرهن بنفس القوانين الفيزيائية، اللواتي يفسرن المجرات القريبة،اللواتي ُيشاهدن في سن نضجهن.هذه القوانين الطبيعية،هن على كل شيء قديرات،إذ لا شيء في الكون،من أكثر الذرات صغراً إلى أكبر مجموعة من المجرات، يفلت من سيطرتهن.وأخيراً، فهن عليمات:فليس على الأنظمة الفيزيائية في الكون، أن تعلمهن بحالاتها الخاصة، لكي تؤثر هذه القوانين فيهن"يعلمن"ذلك سلفاً.(...)
ـ وأين الله في كل هذا؟
ـ قدمت الفيزياء الكوانطية، البرهان على أن الراصد والظاهرة المرصودة متكافلانن أي في تبعية متبادلة، اذن لا مفر من بروز كائن واعي في الكون لكي يرصده ويعطيه معنى.ليس بالضرورة أن يكون الإنسان، بل كل شكل من الذكاء، قادر على فهم نظامه،وجماله وانسجامه.وجود الوعي، ليس إذن عرضياً بل ضروري. عندما أتكلم عن مبدأ موحد،فالمقصود هنا،هو ميتافزيقا شخصية.العلم لا يستطيع الحسم بين الصدفة والضرورة. ومن جهة أخرى فإن"مبدأ خالقاً"لا يعني بالنسبة لي إلاهاً مشخصاً، يخلق الكون من عدم[كما في الأديان التوحيدية]،بل مبدأ كلي الحضور في الطبيعة،مندمج فيها،كما كان يفهمه سبينوزا وأينشتاين"(...)".
الخلق من عدم،في الأديان التوحيدية:"كن فيكون"،"وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"(117 البقرة)."كن فيكون"،هي وريثة تعزيمة الشامان[=الساحر]،في الأنيميزم،أو الإحيائية.أما العلم، فوريث المبدأ اليوناني الشهير:"لا شيء يأتي من لا شيء"،الذي شكل نواة الفكر العقلاني السائد في حقبتنا.
وضع البيولوجي الملحد،ريتشارد داوكينز،على الوجة الأخير من غلاف كتابه:"من أجل الإنتهاء من الله"هذه الكلمات: "تخيلوا، مع جون لينون،عالماً بلا دين...حيث لا وجود لقنابل انتحارية،ولا لـ 11 سبتمبر،ولا لحروب صليبية،ولا لمطاردة الساحرات،ولا لمؤامرة البارود،ولا لتقسيم الهند،ولا للحرب الإسرائيلية الفلسطينية،ولا لمذابح المسلمين الصربو ـ كرواتيين، ولا لإضطهاد اليهود،ولا لـ"إضطرابات" إيرلندا الشمالية،ولا"لجرائم الشرف"... تخيلوا أنه لا وجود لطالبان لنسف تماثيل بوذا،ولا لدق الأعناق في الساحات العامة من أجل التجديف، ولا لنساء مجلودات، لأنهن أظهرن قطعة صغيرة جداً من جلودهن".
وأضيف بدوري: تخيلوا أيضاً، أن بالإمكان الوصول إلى هذه النتيجة،وفي وقت أقصر بـ"دين العقلانية الدينية"،من دون الانتهاء من الله،بعد أن نحد من سلطاته المطلقة، لنحصرها في رمزيته الأبوية:كحام لطفله الذي مازال يخشى عوادي الزمن،وترتعد فرائصه من مصير كمصير الدودة والحمار ...تراباً في التراب! في انتظار أيام أفضل،يبلغ فيها الطفل سن الرشد.وعندئذ لكل حادث حديث. مراجع الفصل الحادي عشر
1 ـ الأسبوعية الفرنسية لوبوان 19/07/2012. 2 ـ حديث مع جان جاك هوبلن،مدير قسم التطور البشري،في معهد ماكس بلانك،لايبستيج(ألمانيا)، الأسبوعية لو بوان ،مصدر سابق. 3 ـ أجرت الحديث د.ج.،الأسبوعية لو بوان،ديسمبر 2011. 4 ـ في 2005 ،كان يساعدني شاب متصوف ذو ذهنية بدائية حقاً،لما أمليت عليه هذا الاستشهاد لفرويد توقف عن الكتابة مندهشا وقال لي:نحن 4 مريدون بيننا وبين شيخنا 400 كلم وفي كل مرة يرسل الى أحدنا رسالة روحية،فيسافر إليه .وهكذا مع الجميع.واقترح علي بدل التلباثي أن أتب رسالة روحية!. 5 ـ تعريف هشام جعيط للوحي،الذي عرفه الطب النفسي بما هو"هذيان النبوة"،هو شكشوكه تونسية،أي سلاطة مشكله.:"وقد حاولت في الماضي،أن أفكر فلسفياً في الوحي،واعتبرته جدلاً بين أعماق الضمير المحمدي،وهو الإلاه الداخلي،وبين الإلاه الخارجي، فيما وراء العالم"(هشام جعيط،في السيرة النبوية ج.1 ص 8)زندقة دينية وتخريف علمي!.وأين مكان الوحي؟هل هو في"منطقة الفص الصدغي الأيمن"كما حددها التصوير بالرنين المغناطيسي،بما هي منطقة مسؤولة عن كثير من الوظائف الذهنية،بما في ذلك الرؤيا الدينية عند الأنبياء والمتصوفة، كما يؤكد عالم الأعصاب الكندي ميشيل باراسيندرج؟ما أبعدك عن الحقيقة.هي كما يؤكد هشام جعيط القلب.نعم القلب!: "وهو [=جبريل]،الذي يوحي داخل القلب،مقر العقل والجوارح"(في السيرة النبوية،ج.1،ص65).حاولْ أن تقول له،أن القلب،كما يعرّفه معجم لارووس الطبي،هو:"عضو عضلي،مهمته تأمين الدورة الدموية"لا غير،وأن العقل،كما تقول علوم الأعصاب،قوة إدراك مقرها قشرة الدماغ الجبهية،وأن الجوارح،هن،كما يقول"المنجد":"العضو من الإنسان ولا سيما اليد".فسيكون برهان البروفسير المركزي الحاسم، البرهان النرجسي،هو كالعادة:"أنا شخصياً،أرفض ذلك بتاتاً"!؛لكن هشام جعيط سيقول أيضاً في شطحة صوفية أخرى:"الوحي يتجاوز العقل"(نفس المصدر ص 113)."العقل الذي في القلب"؟ بالتأكيد.أما العقل،بمعنى الطب النفسي،الذي انتجه العقل،فلا.الطب النفسي منذ بدايات القرن 20،بدأ يشّخص الوحي بما هو "هذيانات وهلاووس"،ويعالجه منذ عشرات السنين ويشفي منه،إذا كان المرض مازال في بداياته؛ويقلل من نوبات الهذيان كثيراً،إذا غدا مزمناً.وقد تسمع الرد إياه!يعرّف جعيط النبوة:"بأنها هبة من الله (...)وينطبق هذا على الملوكية،والثروة،والشجاعة والعبقرية. يولد النبي نبياً،كما يولد الملك ملكاً" (نفس المصدر ص 138).عرّف شاعر ألمانيا ،جوته،العبقرية بأنها:"1 %موهبة و 99 % جهد وعرق"؛يبدو أن تعريف جعيط الصوفي راسب من رواسب قراءة"عبقرية محمد"للعقاد،الذي هو بدوره،صدى باهت لكتاب"الأبطال"،تأليف توماس كارليل؛الطريف في التعريف، هو تعريف الثروة بأنه هبة من الله!مثلاً،ثروة سيف الإسلام،التي تقدر بـ 38 مليار دولار،نهبها من خرينة الدولة،وكذلك ثروة مئات وربما ألوف اللصوص الملياردية من أمراء النفط،هي أيضاً"هبة من الله"! لا حول ولا قوة إلا بالله! 6 ـ ايف لامِبير،للخروج من القرن العشرين،ص 326 . 7 ـ علم البيولوجيا حل محل الفيزياء الفلكية في القرنين الماضيين،كنموذج يتحذي لجميع العلوم. وهي من ألفها إلى يائها تنفي وجود الآلهة.وهذه شهادة أحد علماءها:"ج.د.فانسان:بفضل البيولوجيا أصبحت ملحداً":"بإمكان فيزيائي فلكي،أن يسمح لنفسه بإنفجارات صوفية.أما بالنسبة للبيولوجيست،فإن وجود كائن لا مادي لا أساس له من الصحة.في شبابي انتقلت من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، التي هي أكثر منطقية،التعالى فيها فكري أكثر مما هو ديني.كنت سأصبح قساً. البيولوجيا أعادتني من السماء إلى الأرض،إلى المادة،إلى الجسد واللحم(...)عدت مجدداً إلى التعالي الفكري.أصلي ولكن كملحد". ما قاله هذا البيولوجيست الملحد ليس جديداً.استشهدت به بما هو:"يصلي ولكن كملحد"،لإعلام القارئ أن الآراء والمعتقدات الدينية والإلحادية،لم تعد كما في الماضي باقة ورد، تُأخذ كلها أو تترك كلها؛بل أصبحت كققائمة الطعام في مطعم،بإمكانك أن تختار ما تشاء وتدع ما تشاء، بلا أدنى حرج. وهذا ما لم يستوعبه التدين القديم،المرصوص كعلبة السردين!. 8ـ ج.ل.ماريون،من المستحيل،بل من الغباء ان نريد تفسير الله وفهمه،لوبوان،يوليو 2012. 9 ـ جرار بِنِطو ،الإيمان رهان،لوبوان،ديسمبر 2012. 10 ـ جاك أرنو،لوبوان،يوليو 2012. 11 ـ لوبوان مصدر سابق.
الفهرس
ـ المقدمة ـ حلم لقائي بمحمد( بعد مراجع المقدمة). الفصل الأول ـ طفولة محمد. الفصل الثاني ـ مالنبوة وما الأنبياء؟ الفصل الثالث ـ ما الهذيان؟ الفصل الرابع ـ هذيان الهلاوس. الفصل الخامس ـ هذيانا التأثير والمس الدينيين. الفصل السادس ـ هذيان الشعور بالذنب. الفصل السابع ـ الهذيان الإكتئابي:الإهتياجي الإكتئابي و نهاية العالم. الفصل الثامن ـ هذيان المتشابهات. ـ الهذيان الفصامي: لغة القرآن الفصامية.
الفصل التاسع ـ نسخ الإسلام المكي وعواقبة الفصل العاشر ـ دين العقلانية الدينية الفصل الحادي عشر ـ العقلانية الدينية المطبقة.
#أسامة_سليم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة من ابناء المفكر السوري صادق جلال العظم : عمرو العظم و
...
-
تائه في المنفى
-
« العصافير لا تطلب تأشيرة دخول »
-
التوتاليتارية الدينية
-
فارس قرطاج
-
فتاة المروج المنتحرة : الميتال : موسيقي او طقس شيطاني / عبدة
...
-
تجميع و توزيع كتب بالسجون التونسية
-
الكتابة كجلد للذات
-
ظل يكتب بحبر البحر
-
الكوميديا السوداء ... داعش : الإبن المدلل للسنة
-
2+2=5 / البروباغندا الإعلامية و ثقافة التدجين الإعلامية
-
أسامة سليم : 2+2=5 / البروباغندا الإعلامية و ثقافة التدجين
-
أسامة سليم : الفيلسوف الاخير / إبن رشد
-
في سجن الصمت
-
الكتابة أمر مؤذٍ للغاية وقد تشكّل ضغطاً نفسياً عنيفاً (حوار
...
المزيد.....
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|