سعدون الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5417 - 2017 / 1 / 30 - 02:20
المحور:
سيرة ذاتية
أنهيت الصف الثاني المُتوسِّط في مدرسة النبراس, ثُمّ إنتقلتُ الى ثانوية الرفاعي في الصف الثالث المُتوسّط. إذ فُتِحت في تلك السنة, شُعبةٌ خاصة لتلاميذِ القُرى الذين أكملوا الصفوف الأُولى المُتوسِّطة, في المدارس التي فُتح فيها مُلحق للمُتوسِّطة مِثلَ مدرسة النبراس. و قد أُضيفَ في هذهِ الشُعبة, حوالي 10تلاميذ من تلاميذ أبناء الأكراد الموجودين في مدينة الرفاعي و ضواحيها. هؤلاء الأكراد كان قد تّم تهجيرهم صيف سنة 1975, من قراهم قُربَ الحدود العراقية الإيرانية الى مُدن العراق غير الكردية, و منها الرفاعي. و ذلك بعد عقد إتفاق السلام بين العراق و إيران سنة 1975. لقد كانت علاقاتنا مع زملائِنا من الأكراد, أكثر من ودِّية, بل كانوا " مُدلَّلين " سواء مِنّا كزملاء أو من الكادر التدريسي. و نفس المُعاملة, عومِل بها ذويهم, في الرفاعي و في المُدن العراقية الأخرى. ففي الرفاعي مثلآ, كان قد تمَّ تعينهم في دوائر الدولة. و سُمح لهم بفتح مصالحٍ تجارية. و تمَّ تقديم كافة التسهيلات لهم. هذا الأمر كان نابعآ من طيبةِ أهلنا, أهل الوسط و الجنوب خاصة, و كرمهم في مُعاملةِ ضيوفهم, إضافةً للتوجيهات الحكومية طبعآ. فمثلآ, تمّ تعيين أحد الأكراد مديرآ لِبلدية الرفاعي. كما تمَّ تعيين أكرادآ آخرين كموظفين في الدوائر الحكومية في القضاء, جنبآ الى جنب مع أخوتهم من أهل المدينة. و بعد إنتهاء الدوام المدرسي في العُطلة الصيفية, و تحت جنحِ الظلام في ليلةٍ ظلماء غاب عنها القمر, صحى أهل الرفاعي, ليكتشفوا بأنَّ جميع الأكراد في القضاء, كانوا قد هربوا ليلآ بسياراتِ نقلٍ الى شمال العراق. كما إكتشفنا فيما بعد, بأنَّ الشيء نفسهُ كان قد حدث في بعض المُدِن الجنوبية الأُخرى. طبعآ مثل هذا الأمر, لا يحدث بين ليلةٍ و ضحاها, بل يحتاج الى تخطيطٍ و تنظيمٍ مُسبق, كان قد تمَّ الإعداد لهُ مُنذُ وقتٍ طويل. في هذهِ المُناسبة, أُعرب عن الفخر, بأنني أنتمي الى هؤلاء الناس, الذين لا يغدرونَ بضيوفهم " مِثلَ بعض الناس! ". و لقد إستمريتُ بدراستي, مُجِدآ مُجتهدآ, و لكن بوتيرةٍ أضعف ممّا كان في مدرسةِ النبراس. كُنتُ أسكنُ في المدينة, بينما أعودُ الى قريتي يوم الخميس بعد الدوام. و كان دوامنا دوريآ, مرَّةً صباحآ و مرَّةً مساءآ. كُنتُ أُنهي دوامي المدرسي في الساعة السادسةِ, عندما يكونُ الدوام في الأسبوع المسائي. و عندما يُصادفُ ذلك الدوام, كان عليَ أن أُغادر الرفاعي يوم نهاية الإسبوع بعد السادسةِ و النصف مساءآ, مُتوجِّهآ الى الأهل, سيرآ على الأقدام, مسافة أكثر من سبعة أميالٍ. لوحدي أو مع زميلي مهدي شلتاغ من نفس قريتي و أحيانآ يأتي معنا عباس رسن, قبل أن يفترق عنّا, حيثُ بيتِ أهلهِ في الطريق. كان يُدركني الظلام الدامس أحيانآ, و خاصةً في الشتاء و في الليالي المُظلمة. في طريقٍ, فيهِ الكثير من المخاطر, و منها الذئاب و الخنازير البرية. و أسأحكي لكم لماذا لم أكن أخاف الظلام في ذلك السن. كُنتُ قد أنهيتُ الصف السادس الإبتدائي. و بعد فترةِ حصادِ محصولاتِ الحنطة و الشعير و بالطريقة البدائية المعروفة بالعراق. يتمُّ عزل البذور عن سيقان السنابل و قشور تلك الحبوب, بطريقةٍ بدائيةٍ أيضآ. و من طرقِ تربيةِ الصبيةِ الذكور في القرى, تعليمهم الشجاعة و الجرأة و تحدي الصعاب و عدم الخوف من الظلام. كان والدي عليهِ كُلِّ الرحمة من الله, يتركني ليلآ لوحدي قرب محصولِ الحبوب و يترك بيدي بندقيتهُ – التي علَّمني كيف أستعملها - و يذهب هوَ الى بيتنا لتناول طعام العشاء. و أذكر مرّةً, كيفُ إنني بقيت لوحدي لحراسةِ المحصول, في ليلةٍ دامسةِ الظلام غير مُقمرة. فكُنتُ أتخيّلُ الشُجيراتِ المُحيطةَ بي و سراب الظلام, و كأنّها أُناسٌ يتقدّمون نحوي أو ذئابٌ أو خنازيرٌ بريةٌ. فإختبأتُ خلف شُجيرةٍ و بندقيتي بيدي, و أنا أرتجفُ و يديَ ترتجفان. و هكذا و بتكرارِ هذهِ التجربة و بمرورِ الوقت, لم أعد أخاف الظلام. كان إستاذنا في اللغة العربية, يُدعى الأستاذ شعلان. كان يشبهُ كثيرآ, المرحوم الإنسان الطيب, شقيق والدتي. إذ ذكرتُ ملاحظتي تلك الى الزميل و الصديق الخال عباس رسن, الذي شاطرني الرأي. جاءنا الأستاذ شعلان, ذات يومِ في درسِ التعبير, و هو يحملُ دفاترنا بين يديهِ بعد تصحيحها. ثم رفع أحد الدفاتر و نادى بإسمي, ثُمَّ خاطبني قائلآ: أنا أرجوك أن لا تزعل, إذا ما نصحتُك بالإعتماد على نفسك في كتابةِ المواضيع الإنشائية, و أن تترك " النقل " من الكُتب و المجلات. و لم أُدافع عن نفسي لوحدي, بل بادر البعض من الزملاء في ذلك. و في نهايةِ السنة الدراسية, طلب مني الإستاذ شعلان, أن أُهديهِ دفتري الذي كُنتُ أختار فيهِ المواضيع التي كُنتُ أكتبها و أقرأها في الصفّ بحضورهِ. و طلب أن أكتبَ لهُ الإهداء " عسى أن تصبحَ أديبآ, فأفتخرُ بك! ". و لقد كُنتُ أكتب أحيانآ, تلخيصآ لبعض الكُتب التي كُنت أستعيرها من مكتبة الرفاعي أو مكتبة المدرسة. و كُنتُ أعرض بعض ما كُنتُ أكتبهُ على إستاذي الفاضل فوزي, لغرض النقد. و كان الإستاذ فوزي, أحد مُعلِّمي مدرسة النبراس. و هو من محافظةِ بابل, مِثل زميله إستاذ جميل. و بقيتُ على تواصلٍ معهُ. و من بين زملائي في الصف, المرحوم هادي كتاب, و كان يسكنُ في قريةٍ سيد مناحي قرب المدينة, و أصبحنا أصدقاءآ, نلتقي كثيرآ لتبادلِ الأحاديث في مُختلفِ الأمور. و قد كان يشاركنا الأخ الصديق عباس رسن. أودُّ الإشارةِ هنا الى " الخال ", عباس رسن. إذ كُنّا زملاءآ في نفسِ الصف, مُنذُ الصف الأول الإبتدائي و حتى نهاية الصف الثالث المُتوسط. و كُنا ندرسُ معآ و نسهرُ معآ. و عندما نرعى الأغنام بعد الدوام المدرسي, كُنّا نزورُ بعضنا البعض. و نتحالفُ ضدّ أبناء القرى الأخرى, مثل قرى الساير و البوحمزة. و كان يسكن بجوار بيت جدي المرحوم رسن, بعض البيوت. و منها بيت المرحوم إكزار, والد قريبي أحمد إكزار. كان أحمد إكزار, زميلي في الصف, إذ كُنا نجلسُ على نفس " الرَحلة ". و إستمرينا هكذا حتى فترة الدراسة المُتوسّطة. لقد كُنا أصدقاءآ جدآ, بل كُنّا أخوة حقآ, إذ كان يُسمينا البعض ب " التوأم ". و عندما كبرنا سافرنا الى خارج العراق معآ, الى مملكة آل سعود أو الى إمارة الكويت. كان أحمد إكزار مُمثّل كوميدي حقيقي. لا يكُفُّ عن عبثهِ و بهلوانياتهِ التي تُثيرُ فينا الضحك, و تجعل حصص الدروس أكثر إمتاعآ و أسهل. رغمّ إنهُ كان يُشتِّتُ إنتباهنا عن مُتابعةِ شرح الأساتذة للدروس. إذ لم يسلم من نكاتهِ و مقالبهِ أحدآ, بما فيهم المُعلمين و رجال الدين و حتى الدين نفسهُ. و كان بارعآ في تمثيلهِ. كما كان يتحكّم بنفسهِ و لا يضحك. و يُخفي أمرهُ عندما ينتبهُ لنا الإستاذ. و كم من مرّةٍ عُوقبتُ أنا بسببهِ, من هذا الإستاذ أو ذاك لأنني لم أتمالك نفسي عن الضحك. بينما كان هو يسلمُ من العقاب. ذلك إننا كُنّا نُخفي أمرهُ. و أحمد هذا كان شُجاعآ. إذ أزعم بأنني قد كُنتُ أنا العقل المُدبّر لكُلِّ الخُطط و الأفكار في تنظيم أمورنا فيما بيننا و بين التلاميذ الآخرين من القرى الأخرى و الخطب الحماسية. إلا إنني كُنتُ دائمآ, أرفع شعار الوحدة بين اليمن الشمالي و اليمن الجنوبي, أي قريتي و قرية ال رسن الصغيرة. كُلّما لاحت بوادر العداء و الإقتتال, بين قريتينا و قرى ال ساير أو ال بوحمزة. و لقد كُنتُ قد أطلقتُ لقب " خالد بن الوليد " على أحمد. إذ كان سيفنا المسلول, الذي كان يقودنا نحو النصر. كان سلاحنا العصي و الحجارة. و كُنتُ أضعُ إسمآ لكُلِ واقعةً. فمرّة, كانت معركة بدر. و مرّة, كانت معركة أُحد. و جبل أُحد, كان حافة جدول الصباّب. و كُنتُ أُنادي؛ إحذروا أن تتركوا الجبل, كما فعلها المسلمون. و لم يسمعوا ندائي, و إنهزموا من الجبل. و طوَقنا جيش ال ساير بقيادةِ صديقي و خصمي عبدالواحد شياع. و كان عددهم ضعف عددنا. و أسروا بعضنا, و منهم أحمد إكزار و أخاهُ المرحوم محمود و المرحوم مهدي شلتاغ من قريتي. و كُنّا قد إنتخبنا قبل وقتٍ سابق, مهدي كرئيسٍ لنا. و لقد إتهمنا نحنُ مهدي بالخيانة, بعد الهزيمة في تلك المعركة. فإقترحتُ عليهم, بأن نختار من كُلِّ قبيلةٍ فردآ لمعاقبتهِ. و هكذا كان. إذ قطع طريقهُ في اليوم التالي مجموعةً مِنّا, بقيادة خالد بن الوليد. و كان مهدي قد إلتجأ الى أخوالهِ من البوحمزة. الذين لم يستطيعوا حمايتهُ من غضب جماعتنا, الذين عاقبوهُ بشدّة. و في اليوم التالي, خان العهد و إشتكانا الى أحد المُعلمين القُساة, الذي عاقبنا بشدّة. إذ إتهمني مهدي, بأنني الرأس المُدبّر لِكُلِ المشاكل. فنالني القسط الأكبر من العقاب. ثم قرر المدير طرد البعض من زملائي من المدرسة لمدّة يوم, بينما إستثناني من الطرد. إذ كُنتُ أنا التلميذ " المُدَلَّل ". و لقد إلتجأ مهدي الى أحد المعارف في قرية خضر الفشاخ, و ذلك خوفآ من إنتقامنا. و رغم ذلك, لم تكُن قريتي و قرية ال رسن على وئامٍ دائم. إذ ما نلبث أن نتقاتل فيما بيننا, حالنا حال اليمنين " الشمالي و الجنوبي ", و حال كل العرب. و لقد كُنتُ أُناصر أبناء قريتي و أقودهم لمقاتلة أقربائي و أبناء عشيرتي, حسب مبدأ؛ الوطن أولآ. أنا على ثقة, بأنّ أحمد و عباس, سيتذكّرون هذه الأحداث.
كُنتُ طفلآ صغيرآ. و كُنتُ أُلاحظُ كيف كان الناسُ في قريتي ينظرون بعيونِ الإحترامِ للأولاد الذين يقرأون و يكتبون. إذ كان بعضُ رجالِ القريةِ يخدمونَ في الجيش, و البعضُ الآخرُ يشتغلونَ في الكويت. و بعد إنتهاءِ الحصاد, يذهبُ البعضُ الى بغداد للعملِ في البناء. بينما يبقى البعضُ الآخر, و هم الأغلبيةُ من الرجالِ, يبقونَ في القريةِ, لرعي المواشي و للإعتناءِ ببيوتهم و أراضيهم. و كانت هُناكَ رسائلٌ مُتبادلةٌ بين الغائبين و الأهل. و كما يستعينُ الغائبون بمن يفكُّ الخطَ لكتابةِ رسالةٍ الى الأهلِ في القرية, و قراءةِ الرسائلِ, كانَ الأهلُ بحاجةٍ لذلك أيضآ. و لأنَّ كُلَّ رجالِ و نساءِ القريةِ تقريبآ هم أُميون, فكان بعضُ الصبيةِ الذين درسوا أو لا زالوا يدرسون في المدرسةِ البعيدةِ عن قريتي, كان هؤلاء محطُّ الأنظارِ. إذ يستدعيهم هذا الأب أو هذهِ الأم, لقراءةِ " مكتوب " الغائب, و كتابةِ " مكتوبٍ " آخرٍ لهُ. فكُنتُ أرى و أسمعُ كلماتِ الإطراءِ و المدحِ للصبيةِ الذين يقرأؤن و يكتبون. فمثلآ, كُنتُ أستمعُ للأحاديثِ بين النسوةِ في القرية. إذ كانت تُحدِّثهُنّ أحداهُنَّ: " شفتن خيّة شلون قلم إبن فلانه يذبح الطير ". بينما كان يتحدّثُ الرجال في " الديوان ": ما شاء الله, الله يخليه إبن فلان قلمه يذبح الطير, و شلون يقرا الرسالة مثل البُلبل ". كُنتُ أسمعُ كُلَّ ذلك المديح. و ببراءةِ الطفولةِ, كنتُ أرفعُ يديَّ الى السماء, و أدعو الله أن يجعل قلمي يذبحُ الطير. و ذهبتُ الى المدرسةِ مع صبيةِ القريةِ الى المدرسةِ الوحيدةِ في مناطقنا, و التي توجد في قريةِ الشيخ المرحوم خضر الفشاخ البعيدةِ عن قريتي. و لقد درستُ و إجتهدتُ, و كنتُ متفوقآ. و رُبما إستجابَ اللهُ لدعائي. فجعل قلمي " يذبحُ الطير ". و لقد كتبتُ و قرأتُ عشراتِ الرسائل. و من هذهِ الرسائل, رسالةٌ كتبتُها, لحلِّ أزمةٍ كادت أن تُفضي الى كارثةٍ. كان النظامُ العشائري هو المُسيطِّرَ على أُمورِ الناس. و كانت كُلُّ عائلةٍ تنتمي و تحتمي بعشيرةٍ, تُدافعُ عن حقوقها, و تتدخّلُ لحلِّ المنازعاتِ بين أفرادِ العشيرةِ الواحدةِ أو أيٍّ من أبناءِ العشيرةِ و أبناءِ العشائرِ الأُخرى. بما في ذلك التكاتف بين أبناءِ العشيرةِ الواحدةِ, و تهديد المُعتدين بالقوةِ حتى يرتدعون و يجنحونَ للسلمِ. حدث خلافٌ بين والدي و أحد الجيران الذين كان في عداءٍ دائمٍ مع والدي, مع إنّ والدي المرحوم, كان إنسانآ طيبآ جدآ و مسالمآ. و لقد ورثتُ منهُ كُلّ طيبته. رحمهُ اله بواسع رحمته, إنهُ غفورٌ رحيم. و في تلك المشكلة, كان يُدافعُ عنهُ و بدون وجه حق, عن ذلك الجار, قريبهُ و شيخ عشيرتهُ,رئيس إتحاد الفلاحين في منطقتنا و المناطق المجاورة. حدث ذلك في مُنتصفِ السبعينياتِ. كُنتُ وقتها في الصفِّ الثالث متوسط. إذ قرّر رئيسُ الإتحاد إقتطاعَ جزءٍ من أرضِ والدي و أرضِ أهلي, و إعطائَها لجارنا الخصم, و بدونِ وجهِ حقٍ كما ذكرتُ. كان العداء يتفاقمُ بين عائلتي و عائلةِ هذا الجار, و حتى كلبُنا كان يُناصبهم العداء من دون الناس. و ذاتَ مرّةٍ هاجمَ إبنةَ هذا الجار, و جرحها جرحآ بالغآ, لأنها إقتربت من أرضنا. و لقد رفض والدي رحمهُ الله, قتلَ كلبَنا و دفعَ الفدية بدل قتلهِ. و إلتجأ والدي الى العشيرةِ, و هم الأقرباء, و لكنهم خذلوهُ. و كان موقفُ العشيرةِ مُخيِّبآ للآمال. و كُنتُ أرى كيف كان والدي حزينآ. و كان يُردّدُ إنهُ لن يتنازلَ عن شبرٍ من أرضهِ و لو كلَّفهُ ذلك حياتهُ. و كان والدي مُستاءآ من موقفِ العشيرةِ المُتخاذل. و في لحظةِ غضبٍ و تحدي, ضربتُ على صدري و قلتُ لوالدي: لا تهتم يا أبي, سأكونُ أنا العشيرة. و بعد مُشاوراتٍ مع الوالدةِ, قررنا أن نذهب أنا و والدي الى مركزِ الُمُحافظة في الناصرية, للشكوى لرئيسِ إتحادِ الجمعياتِ على مُستوى المُحافظةِ. بعد أن رفض رئيس الإتحاد في قضاء الرفاعي مُساعدتنا. قائلآ, بأنهُ على ثقةٍ بأنَّ فُلان رئيس إتحادنا, رجلٌ مُحترم يعرفُ " شغلهُ ". و لقد كُنتُ دليل والدي الأُمي, أقرأُ لهُ العناوين. و بعد أن إتصلَ رئيسُ إتحادِ المُحافظةِ برئيس الإتحاد في قضاء الرفاعي. إلتفت و خاطب والدي بكلامٍ جاف. قائلآ, بأنّ الحق ليس معهُ. و أعاد كلام الآخر, بأنَّهُ على ثقةٍ بأن فُلانآ شخصيةٌ مُحترمةٌ. و عُدتُ مع والدي بخُفي حُنين , يطوينا الحزنُ و القلق من المصير. و في لحظةٍ ما, جائتني الفُكرة. فإقترحتُ على الوالدين أن أكتبَ رسائلآ الى المسؤولين في بغداد. و كتبتُ رسالةً الى وزير الزراعة و الإصلاح الزراعي. و رسالةً أُخرى الى رئيس الإتحاد العام للجمعياتٍ الفلاحيةِ على مُستوى العراق. و رسالةً أُخرى الى رئيسِ تحرير جريدة الجمهورية. و لقد شرحتُ لهم المُشكلةَ بالتفصيل, و موقفُ جميع الأطراف و المسؤولين معنا. و العواقب التي قد تترتّبُ على عدمِ ردعِ الباطل. و قد تسيلُ الدماء, إذا لم يتُم ردع الباطل. و كانت الرسالة بإسمِ والدي. و بعد بُضعةِ أيامٍ من التنقيح. وضعتُ الرسائلَ في البريد. و بعد حوالي الإسبوع, جاء لنا الى البيت, في الصباح الباكر, موفدٌ من رئيس إتحادِ الجمعيات في قضاء الرفاعي. و طلبَ من والدي, أن يصطحبهُ في السيارة الى القضاء. و كُنتُ حاضرآ, فإصطحبتُ والدي. و هُناكَ وجدتُ مجلسآ في مقرِ الإتحاد. يتواجدُ فيهِ رئيس الإتحاد العام للجمعيات الفلاحية في مُحافظةِ ذي قار, الذي سبق و رفض الإستماع لوالدي. و رئيس إتحاد القضاء. و رئيس إتحاد المنطقةِ, صاحبُ المُشكلةِ. و لقد وقف الجميع لمصافحةِ والدي و مصافحتي. و كانت الإبتساماتُ باديةً على الجميع. و تم تقديم الشاي و العصائر لنا. و لقد دُهشتُ من المُعاملةِ الطيبةِ التي عُوملنا بها, من نفسِ الأشخاص الذين كانوا قد عاملوا والدي مُعاملةً سيئةً. و لقد كان رئيسُ الإتحاد في المُحافظةِ يتكلَّمُ بعصبيةٍ مع رئيسِ الإتحادِ في القضاء و المنطقة. و قال لهم, بأن لدبهِ تعليماتٍ من بغداد, بأن لا يُؤخذ شبرٌ واحدٌ من أرضِ الفلاح فُلان. و أعتذر من والدي, و خاطبهُ مُبتسمآ: أبو مَن أنتَ؟ فأجاب والدي: أنا أبو (.....), و هذا هوَ إبني. فقال المسؤؤل: تشرَّفنا. أ لا تقُل لي يا أبا (.....), من هو واسطتك في بغداد. حكومة بغداد كُلُّها مُهتمةً بقضيتك و على مستوياتٍ عالية؟ تصوّر يا أبا (.....), كُنتُ ما أن أنتهي من مُكالمةٍ مع مسؤولٍ كبير, حتى يطلبني آخر. و الجميع يطلبون مني الذهاب بنفسي للمكان و تهدئة الأمور. و حلِّ المُشكلة لصالح الفلاح فُلان, و أن أتصلَ بهم لإبلاغهم بما فعلتُ. فأجابهُ والدي: بأنَّ صوت الحق قد وجد من يستمع لهُ. و لقد كُنتُ ساعتها, أكادُ أطير فرحآ و كبرياءآ. و حقيقة الأمر, فهذا الحلُّ هو خيرٌ من حلولِ العشائرِ التي تعني التنازلات المُتبادلة. و بذلك, فإنَّ عائلتي لم تخسر شبرآ واحدآ من أرضنا. و لقد زُرتُ هذهِ الأرض التي تربيتُ فيها, و لي فيها الكثيرُ من الذكريات. زرتها بفضلِ " الكوكل ", و لقد تابعتُ حدودها الماثلةَ الى الآن, بشكلِ إخدودٍ صغير. و لقد شجّعني هذا النجاح, لحلِّ مُشكلة " القسم الداخلي " في قضاء الرفاعي. إذ كان هُناك قسمٌ داخليٌ أُنشأ في القضاء من أجلِ طلبة القُرى في القضاء, في الجانب الثاني من القضاء " سوق سِعدة ", و بالقرب من جسرٍ المدينة الحالي. الذي يربطُ جانب شط الغراف, المعروف ب " سوق سِعدة ", بمدينة الرفاعي. و لقد كُنتُ أحد الطلاب الذين سُجِّلوا في القسم الداخلي, و لكنني كُنتُ أسكنُ في بيتِ أحدِ الأجداد من جانبِ الوالدة لفترةٍ, ثُمّ إنتقلت لبيت جدتي. و كان ذلك الرجل, شيخآ طيب القلب. و كان بيتهُ قد أُقيم على أرضهِ قريبآ من المدينة. و كان ربُّ عائلةٍ كبيرةٍ. و لقد عوملتُ مُعاملةً جيدة, و خاصة من هذا الجد الطيب, رحمهُ الله. و لقد كُنتُ أستلمُ المُخصصاتِ من القسمِ الداخلي, دون الحاجة للسكنِ فيهِ. و لقد حدث أن توقّفت مخصصات الطلبة لما يُقارب الستة أشهر. فكتبتُ رسالةً الى رئيسِ تحريرِ جريدةِ الثورة و أخرى الى وزير التربية, شرحتُ لهما فيها هذهِ المُشكلة. و لقد نُشرت رسالتي تلك بعد حوالي الإسبوع فيما بعد, بإسمي في صفحةٍ جانبيةٍ في جريدة الثورة. إذ قرأها الكثيرون و أخبرني الكثيرون عنها. و بعد فترةٍ قصيرةٍ فقط من ظهور هذهِ الرسالة في الجريدة, أُستُدعي جميع المُنتسبين الى القسم الداخلي, و كنتُ أحدهم. و لقد إستلمنا جميع المُخصصات السابقة. و منذُ ذلك الوقت و حتى مُغادرتي القضاء, لم يحدث أيُّ تأخيرٍ لمُخصصصات الطلاب. كما كانت لديَّ هوايةٌ لمراسلةِ مختلفِ البرامجِ في الإذاعاتِ العراقيةِ و الأجنبيةِ و بعض المجلاتِ الثقافيةِ. و أولُ مرّةٍ, أُذيعت رسالةً لي في إذاعةِ " صوت الجماهير ", كُنتُ في الصفِّ الرابعِ الإبتدائي, كُدتُ أطيرُ من الفرح. بينما كان الجميع في القريةِ و المدرسة, يسألونني عن فحوى الرسالة. في ذلك الزمن, كانت لا توجد في كُلِّ قريتي, غير ثلاث أو أربع أجهزة مذياع, أنا كُنتُ أمتلكُ إحداها. و كنتُ إخذُ هذا الجهاز معي, بعد العودة من المدرسة, أينما أذهب. في الحقل لمساعدة الوالدين أو في رعي المواشي. و كُنتُ مولعآ بتسجيلِ أسماء زعماء دول العالم و معلومات عن بلدانهم. حتى إن البعض في المدرسة من المُعلِّمين و التلاميذ أو من الناس الآخرين, كانوا يسألونني أحيانآ, عندما كانوا يحتاجون معلومةً ما عن هذهِ الدولة أو تلك. بينما كنتُ أعرف كُل الأغاني و المُغنين. كُنا نحنُ الشباب نعشقُ سميرة توفيق, إذ كانت ملكة زمانها. و كُنّا نتخيّلُ شريكة المُستقبل, مثل سميرة توفيق. سميرة توفيق, كانت لمدّة أكثر من نصف قرن, مُلهمة العُشاق و الشعراء, بجمالها المُميّز و " غمزتها " الساحرة الوقحة. كُنّت قد سمعتُ كثيرآ أغانيها في المذياع, بينما كانوا يتحدّثون عن جمالها الذين رأُوها في التلفاز. و فيما بعد, كُنّا قد رأيناها نحنُ الطلاب من خلالِ تلفزيونات الأبيض و الأسود في مقاهي المدينة, التي كُنّا نتردّدُ عليها. و عندما تتطابق مواصفات هذهِ الفتاة أو تلك مع بعض من مواصفات سميرة توفيق, يزدادُ نصيبها أن تكون محظوظة أحد الشباب..
و لا يسعني هنا, إلا أن أذكر صاحب الذكرى العطرة, إبن عمي و أخي و صديقي المرحوم زغير كسار. الذي كان سندي المعنوي. كان لديهِ محل تجاري في مدخلِ سوقِ المدينة. إذ كُنتُ مثل الطلبة الآخرين, نذرعُ الشارع المُحاذي لشطِّ الرفاعي, ذهابآ و إيابآ, و حتى ساعة متأخرة من الليل, و ذلك للتحضير لإمتحانات البكلوريا. بينما مياه شط الغراف, تغسلُ الشارع. إذ كان مستوى الماء بمستوى الشارع المُحاذي! و كان الأخ زغير, يدعوني لأخذِ قسطٍ من الراحة على فراشهِ الموجود في مستودع المحل الخلفي. أو أن أجلس معهُ لشربِ الشاي و تبادل أطراف الحديث. و نجحتُ من الصفِ الثالث بدرجةٍ جيدة.
كانت تجربةُ الصف الرابع العام, تجربةً مُميّزةً حقآ. بل أنا أعتبرُ أنّ الصف الرابع العام, كان من أجمل سنوات دراستي. و قد كُنّا نُنشد أحيانآ, إنشودة " الرابع العام أكل و نوم ". إذ إستُحدثت في ذلك العام تجربة الدراسة المُختلطة في الرفاعي. و لقد حصلت هذهِ التجربة في الصف الرابع العام, في السنة التي وصلتُ فيها الى الصف المذكور. كان عدد الطالبات أقل من نصف العدد في الصف. بينما كان أكثر من النصف الباقي من الطلاب. كانت الأغلبية من الطالبات يرتدين " العباءة " فقط, دون أيّ حجاب. بينما كانت القليلات منهُنّ يأتين سافرات الى المدرسة. كان البعض يراهن على فشلِ التجربة, كما كان البعض يراهن على نجاحها. كان ذلك في العام الدراسي 1976-1977. و لقد نجحت التجربة نجاحآ باهرآ, لكنها لم تستمر أكثر من سنة! لقد تكيّفت الطالبات تمامآ مع الطلاب. و قد وصلت إحدى الطالبات الى عضوة في إتحاد الطلبة على مستوى المدرسة و القضاء. و ذلك عن طريق الترشيح و الإنتخاب المباشر من قبل الطلبة. و كنت أنا أحد الذين أُنتخبوا من الطلبة, لعضوية الإتحاد على مستوى القضاء. كانت أفكارنا مُتنوِّرةً جدآ. و لم تتعامل معنا الطالبات بعجرفةٍ و إنغلاق, بل تعاملنّ معنا بكُلِ إنفتاحٍ و حرية. و لقد بادلناهُنَّ نفس المعاملة و نفس المشاعر. و كان المجتمع قد وصل الى مرحلة مُتقدمة من الإنفتاح. و أنا أعتبر إنَّ هناك سببٌ مهمٌ في إنفتاح الناس في المدينة. أولآ, إنّ حالة الإنفتاح تلك هي تعبير عن حالة من الرخاء البسيط. و ثانيآ, نتيجة لسياسة الدولة العلمانية. و ثالثآ, إن أهل المُدن, كانوا أهلها الأصلاء, الذين ولدوا فيها, و تربّوا في أجواءٍ من الحرية و الأنفتاح. و لم يكن فيها من أهل القرى المُنغلقين " الرجعيين " إلا حالاتٍ قليلةٍ جدآ. على العكس من الوضع الراهن. إذ أصبحت المدن هجينآ, إنتقل إليهِ الكثير من أبناء القرى. كانت تلك الطالبات يبدونَّ أكبر من أعمارهُنّ. إذ عندما تنظر لإحداهنّ, تعتقد إنّها بعمرِ العشرين سنة. و لقد كان أمرآ مُعتادآ, أن يترافق هذا الطالب أو ذلك مع هذهِ الطالبة أو تلكَ في طريقِ ذهابهما الى المدرسة و بالعكس. و كانت هُناك دعوات متبادلة, لتناول الطعام في البيوت, دون النظر الى جنس المدعو أو المدعوّة. و لم يعترض أحدٌ من الأهل, أو أن يتقاول الآخرون في سمعة أحد, خاصةً الشابات الطالبات!! و أحيانآ, أتخيّلُ إنّ تلك التجربة كانت حلمآ لم يحدث قط. و ذلك كُلّما أرى الواقع الذي عاد إليهِ العراق الى الوراء كثيرآ. و لكنني أطمئِنُ من الرواية المطبوعة في ذاكرتي. إضافةً لدفاترِ مذكراتي التي أنقل هذهِ الروايات منها. كما أرى أمامي أسماء الطلاب و الطالبات, زملائي في الصف الرابع العام. و لقد أثبت الواقع الراهن خطر المُتدينين. و أصبح معروفآ للناسِ جميعآ, إنّ المُتدينين, هم خطرٌ على المجتمع و على التعايش الإجتماعي السلمي, و على التطور و الحضارة. و إنَّ العلمانية و العلمانيين, هم السبيل لإنقاذ العراق و البلدان الإسلامية من الوضع المأساوي الذي أوصلهم إليهِ المُتدينون. توطّدت علاقتي مع إستاذ الجغرافيا, و مسؤؤل الحزب الشيوعي في القضاء, الإستاذ الفاضل كاظم الحاج رحيم. و ذلك بعد أن رأى مستوايَ الجيد في مادة الجغرافيا و الثقافة العامة بصورة عامة. وكان يمنعني من الإجابةِ على أسئلتهِ التي كان يطرحها في الصف, في مجالِ الجغرافيا. و ذلك كي أُتيحُ للآخرين كي يُجيبوا. و من الزملاء الذين لابُدّ من ذكرهم هُنا. و الذين توطدّت علاقتي بهم, و أصبحنا أصدقاءآ. و هم كلٌّ من إبراهيم خضير و حسام حميد و نجيب عبدالحسن و عماد عبد الجليل. و كانوا شبابآ مُصلّين مُتقين و في قمةِ الأخلاق. و كانوا مُثقفين جدآ. و كُنا نقضي الساعات في الصلاة و في النقاش الثقافي العميق. في الدين و الفلسفة و غيرهما. و لقد إكتشفت فيما بعد, بأنهم كانوا أعضاءآ في حزب الدعوة. و لم أعرف وقتها على الإطلاق بذلك الأمر. و لقد كان يلاحقني طيلة سنوات دراستي في الخارج, هاجسٌ من القلق من بطش النظام. و ذلك بعد أن سمعتُ بخبر إعتقال هؤلاء الزملاء الأخيار. و لقد عرفتُ من الصديق نجيب الذي زارني عند مجيئي الى العراق قبل بضعِ سنوات, بأنّ إبراهيم كان مسؤؤلهم. و لكنّهُ الإن يعيش في بغداد في حالةٍ يرثى إليها. و لقد إتصلت بإبراهيم من هُنا, قبل بضعِ سنوات. و أحزنني حالهُ. إذ قال لي؛ أشكو لك يا أخي سعدون, كيف خذلني الحزب, الذي ناضلتُ كثيرآ من أجلهِ, و دفعتُ ثمنآ باهضآ بسببِ ذلك!! و هذا هو مثال آخر على زيف الأحزاب الإسلامية و نفاقها. أدعو الله أن يُنقذ العراق من جميع الأحزاب الإسلامية و جميع المُتأسلمين المُنافقين اللصوص. الذين يضحكون على الناس و على الله و ذلك بإستخدام الدين مطية لأغراضهم الدنيئة. مُستندين في ذلك, على التخلُّف و ظلام الجهل الذي يُخيّمُ على العراق اليوم.
#سعدون_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟