|
رحلة الفيلسوف من تحرير الحقيقة الى تحقيق الحرية
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 5414 - 2017 / 1 / 27 - 15:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تمهيد: لقد ارتبط السؤال عن المنزلة التي تحتلها الحقيقة في المعرفة العلمية في معظم الأوقات بالتصور العام للواقع الذي يتم التعارف عليه من طرف العقل من ناحية والتفسير المنهجي للطبيعة من ناحية أخرى. لهذا السبب يبدي التساؤل عن الحقيقة الكثير من التحفظ ويضع جملة من المحاذير أمام كل تعميم متسرع وضد الأحكام الفضفاضة والمواقف الإطلاقية ويحصر اهتمامه بالأطر المختصة وضمن الميادين الدقيقة. المشكل: بأي معنى يمثل البحث عن الحقيقة محرك التقدم العلمي؟ كيف تخلت العقلانية العلمية عن الخوض في الحقائق الأبدية والمطلقة واكتفت بماهو جزئي ونسبي؟ هل يتعلق الأمر بالحقيقة من جهة الواقع المعطى أم بقيمة الحقيقة من جهة الواقع المبني؟ وكيف يؤدي انتاج الحقيقة معرفة الى احراز الحرية وجودا؟ 1- الحقيقة بين التراسل والتروي: الحقل الدلالي: Veritas , vérité, vrai لغة : تعود الحقيقة في لسان العرب إلى لفظ الحق والذي يشار به إلى اسم من أسماء الله الحسنى وأحد صفاته، تفيد الصدق وهو ضد الباطل، إن الله هو الموجود حقيقة ومتحقق من جهة وجوده والهيته. اصطلاحا: الحقيقة هي الثبات والاستقرار والقطع اليقين والصحة والوجوب وضد التجوز والمجاز. الدلالة الفلسفية: الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان، أي اتفاق الحكم العقلي مع الواقع العيني، أي مطابقة الفكر للواقع بعد مطابقة الفكر للفكر، الأولى حقيقة مادية والثانية حقيقة صورية. المجالات: - الحقيقة المشخصة للمطلق والوجود المفرد للكلي أي عين الذات وجوهرها. - الواقع المادي الذي تشير إليه المعرفة والحالة التي تكون عليها الأشياء. - ميزة أو طابع أو خاصية ماهو حقيقي بالنسبة القضايا والأشياء على السواء. بهذا المعنى يطرح مشكل الحقيقة والحق ضمن الوظيفة المعرفية والقدرة التشريعية لمبادئ العقل وفي إطار العلاقة التي تربط القضية بالدلالة اللغوية والأشياء بالمعاني التجريبية التي تتصل بالواقع الخارجي. الحقيقة المنطقية هي اتفاقconformité الفكر أو اللغة من جهة الذات العارفة مع الموضوع المعروف. الحقيقة الأنطولوجية تقتضي بلوغ انسجامcorrespondance بين الموضوع المعروف والنمط المثالي. الحقيقة الجمالية تطلب التعبير الشفاف عن القدرة اللانهائية لدى الكائن البشري والكشف عن الأبعاد المطلقة من الوجود وترجمة الذائقة الفنية في جملة من الإبداعات والآثار التي تعكس العبقرية والالهام. المعاييرcritéres : 1- البداهة العقلية evidence تعتبر عند رونيه ديكارت علامة على الحقيقة من جهة وضوحها وتميزها من جهة فردية وبصورة كلية وتتوقف على قدرة الذهن على تمثل الواقع واتخاذ قرار وإصدار الحكم بشأنه. 2-يفرق عمونيال كانط بطريقة منهجية صارمة بين الحقيقة الصوريةverité formelle التي تستوجب انسجاما مع مستوى صورة العبارات وليس مع المضمون والحقيقة الماديةverité materielle التي تقتضي اتفاقا بين الفكر وموضوعه أي مع المضمون الذي توفره التجربة. 1- تعرضت نظرية الانسجام أو الاتفاق إلى مراجعات كثيرة في القرن العشرين من عدة جهات ولم يعد التطابق أو التمثل أو البداهة هي المعايير التي تحدد ماهو حقيقي وتبعده عن كل ماهو كاذب. جورج مور يرى أن الحقيقة هي الخاصية التي تتقاسمها اعتقادات صحيحة حول الوقائع من خلال قوله: " أن نقول أن اعتقاد معين هو صحيح يعني القول بوجود في الكون واقعة معينة تتفق مع هذا الاعتقاد". برتراند رسل يجدد التعريف المنطقي ويركز على الخاصية الداخلية للحقيقة من جهة العلاقة والوظيفة وتم ادخال التعدد والنسبية ضمن القول الصادق وصار اللاتحدد أو الاحتمال دافعا نحو نمو الحقائق وتجددها. كما ركزت البراغماتية مع ديوي وبرس وجايمس على معايير المنفعة والمردودية والنجاح بالتغلب على العراقيل وتحقيق المفيد والمربح للعقل البشري وبالتالي "ماهو حقيقي هو المفيد والناجح في التطبيق". كارل ماركس يقلب الرؤية من خلال النزول من المجرد إلى الملموس بحيث لم تعد الحقيقة مسألة نظرية وإنما أصبحت معركة ميدانية تدرج ضمن سياسة المعرفة وإستراتيجية السلطة وتتطلب التزام بالتغيير. الحقيقة عند فريدريك نيتشه هي حكاية رمزية ولا تقتضي الارتباط بالواقع بل تأويل المجاز والاستعارة ولقد كان أول الذين تخلصوا من الحكم على الحقيقة من زاوية الغلط والوهم وقلبوا الأزواج الميتافيزيقية والتيولوجية وأدرجوا القيمة والمعنى ضمن وجود الحقيقة وبحثوا عن الحقيقة الحقيقية ضمن المظهر. بيد أن مارتن هيدجر يشترط قيام الحقيقة على الحرية ويعتبر اللاّتحجب هو الإمكان الوحيد لتجلي المعنى وأيده سارتر في القول بالطابع الذاتي والمتحرك وقام بالتأسيس الفرداني الوجودي للحقيقة ضمن المجتمع. في نهاية المطاف نحت كارل بوبر معيار الدحضانية أو قابلية التكذيب ضمن إطار العقلانية النقدية وبعد بروز العقلانية التطبيقية عند غاستون باشلار واعتبارها المعيار الدقيق لامتحان النظريات وفرز الحقيقة. لكن بأي معنى تفقد الحقيقة خاصيتها الكلية إذا ما تخلت عن طابعها النسقي والتحمت بالوجود الحر؟ هل يمتلك الإنسان حريته أم يكون وجوده بأسره حرية؟ الى أي مدى يمكن التربية على الحرية ؟ 2- الحرية بين القمع والاغتراب: الحقل الدلالي: - الحرية هي حالة للكائن ونمط وجود يتجلى من خلاله المرء غير خاضع إلا لإرادته وموجود بصورة مستقلة عن كل ضغط خارجي. بطبيعة الحال الإنسان الحر هو الذي يتناقض مع العبد والتابع والخادم والفاقد لكل حقوقه ومقومات إنسانيته. زيادة على ذلك يشعر الإنسان في الحياة اليومية بأنه حر بشكل بديهي ويظل غير مبال بما يجري حوله وغير مكترث بالعالم الخارجي وقد يجد رضاه في هذا الشعور الباطني بالاستقلالية ويسمي هذا الشعور حرية عدم الاكتراث التي يمكن اعتبارها الدرجة الأولى والمستوى الأضعف من الحرية التي يمكن أن يحس بها الإنسان. كما أن الحرية هي حالة للكائن يمارس فيها الحكم المعرفي والفعل بصورة واعية وسديدة بتعارض مع الجهل والأهواء ويتبع فيها أوامر العقل وبالاهتداء بنور وشروط الحقيقة محققا بصورة تامة وثاقبة ما يأمل في تطابقه مع طبيعته الخاصة. 1- بالمعنى السياسي تتعلق الحريات بمختلف الميادين : الحرية الفيزيائية ، حرية التعبير، حرية الوعي، حرية التفكير، الحرية الدينية ( حرية المعتقد + حرية الضمير) حيث لا يخضع الفرد في حياته الخاصة لمراقبة الدولة مع احترامه للقوانين المنظمة للحياة العامة. على هذا الأساس أن يكون المرء حرا هو أن ينتمي الى مؤسسات الميدينة ولا يكون عبدا لأهوائه ويظل في الخارج. 2- المعنى الأخلاقي للحرية تتأسس على السيادة الذاتية للإرادة وحكم الإنسان لنفسه بنفسه وقدرته على التحديد الذاتي عند كانط حيث تمثل مسلمة للعقل العملي وترتبط بالشعور بالكرامة واحترام الإنسانية. 3- المعنى الوجودي يجعل من الحرية شرط تكويني للحقيقة الإنسانية وذلك بالانطلاق من أسبقية الوجود على الماهية والإقرار بأن المرء محكوم عليه بأن يكون حرا وأن يستعمل حريته مطلقة في الدفاع على الحرية والاضطلاع بمسؤولية وجده في الكون وفي خلق قيمه الخاصة به والنضال من أجل حرية الآخر. 4- الحرية تتحقق بالعقل عند ديكارت وتتناقض مع الضرورة حسب سبينوزا ومع الأهواء عند أفلاطون ، لكنها تمر بالمجتمع عند هوبز والإرادة الطيبة عند كانط وترتقي إلى مفهوم التحرر أو الانعتاق مع العمل عند هيجل والتاريخ وماركس. في هذا الصدد هل الحرية هي غاية الدولة كما يتمنى سبينوزا أم نهاية التاريخ كما يعتقد هيجل؟ خاتمة: من جهة المبدأ تجتمع الحرية والحقيقة في شخصية الفيلسوف وتتلازم المعرفة مع الوجود وتقترن الصفة بالموصوف ولكن من جهة الواقع يخوض الكائن البشري معركة نضالية من أجل انتزاع الحقيقة من بحر الظلمات التجهيلية وافتكاك الحرية من طبقات الميراث وأنظمة القمع السلطوية. بيد أن الفيلسوف الحر هو الذي تتعارض مواقفه مع السلطة والنفوذ والتقاليد ويرفض كل افتراض غيبي ويختزل الاعتقاد إلى مجرد ظن ولا يثق في أي حقيقة معرفية سوى ما يوفره العقل. خلاصة القول أن الحرية بالمعنى السلبي هي غياب الإكراه والتغلب على القيود وإزالة العوائق. أما في مستواها الايجابي فتفيد الانتصار على الذات وتجاوز النمط الأول من الوجود والاقتدار على الخلق والإبداع والارتقاء بالإنسانية على عوالم غير معهودة وأشكال من الحياة جديدة ورحبة.لكن ربما "يخفي هذا الشعور بالاستقلال لاشعور بالتبعية". فمتى يكون الموقف البشري صادرا عن العقل وحده؟ وهل يساهم العلم في ترشيد الفعل البشري؟ كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تجذير الممارسة النضالية ضرورة نقابية
-
أزمة الوعي الديني بين ملجأ الهروب وتضامن الالتزام
-
الوعود الثورية للحدث الشعبي 14 جانفي
-
غياب المصلحة من التفاوت وضرورة الدفاع عن المساواة
-
إعادة تشكيل الفضاء الفلسفي السياسي
-
تاريخية تفوق الغرب وراهنية الاستئناف
-
النظر الداخلي إلى الذات بين لوك وريكور
-
فن الإصغاء إلى الذات وتنمية الاهتمام بالعالم
-
النزعة اللاّمادية ونقد الأفكار المجردة عند جورج بركلي
-
حال الحرية في اليوم العالمي لحقوق الإنسان
-
حضور الفلسفة في الزمن التاريخي
-
العالم يودع أمميته برحيل كاسترو المضاد لعولمته
-
تحيين المشروع الفلسفي عند طيب تيزيني وسط عنف التحولات المجتم
...
-
التزام الفلسفة في عيدها العالمي
-
صنعة السياسي في سياق غير مُعرّف
-
التباسات فلسفة الطبيعة
-
جائزة نوبل للمؤلف الموسيقي بوب ديلان:هل هي نهاية الأديب أم ت
...
-
ركائز المشروع الفلسفي
-
تصفية حتر محاولة لإسكات صوت مناهض
-
زهير الخويلدي - كاتب فلسفي - في حوار مفتوح مع القارئات والقر
...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|