عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1428 - 2006 / 1 / 12 - 03:20
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
دراسة في حركة الضباط الأحرار في العراق 1948-1958 :
- تكتل الضباط الوطنيين - 1948:( 1-6)
توضح تاريخية حركة الضباط الأحرار أن جملة سمات رافقت صيرورة بدايات حِراكها التنظيمي والفكري وصلاتها الأفقية والعمودية, ونواتها التأسيسة الأولى والشخوص التي مثلت المحور الأرأس لتتمركز حولها. بمعنى آخر لازمت هذه الحركة بصورةِ عامة تباينات عميقة حول:
- تأريخية النشوء وأولوية التأسيس؛
- طبيعة التوجه الفلسفي ومكوناته الفكرية؛
- تبلور التنظيم وبداية العمل؛
- القادة الأرأسيون للتنظيم الغائي للضباط الأحرار.
وقد كثرت الادبيات التي تشير إلى هذا التوجه دون غيره, إلى شخوص معينة دون سواهم. وتشير كثير من الدلائل إلى أن الشكل الجنيني الأول للتنظيم الغائي وليس الظرفي, قد تكون أثناء حرب فلسطين وفيها بالذات, كفكرة ودافع. في الوقت ذاته هناك من ينفي وجود مثل هذا التكتل الغائي, إذ " أنا أتصور أن حركة الضباط الأحرار ليس لها تاريخ يمتد إلى تلك الفترة (حرب فلسطين 1948- ع.ن) ولهذا أحببت أن ألقي ضوءاً على الموضوع لعل فيه فائدة ... ". لكن يمكننا القول بصورة مكثفة, بالاستناد إلى ما أورده العميد المتقاعد خليل إبراهيم حسين وغيره, إلى أن هذا الشكل الجنيني قد تأسس عندما: " فاتح المرحوم رفعت العقيد الركن نجيب الربيعي آمر جحفل اللواء بالفكرة فأيد الفكرة, وهو من اشتهر بتقواه ووطنيته واخلاصه, ووافق على القيام بتبديل هذه الوجوه التي تعاونت مع الاجنبي عند عودة القطعات إلى العراق.
وأخذ رفعت يبشر برأيه ويتصل بآمري الوحدات وغيرهم فكان أن أتصل بالمقدم الركن عبد الكريم قاسم الذي وافق في الحال وأخذ على عاتقه مفاتحة من يوثق به من الضباط وهكذا لم تمض مدة طويلة حتى انضم إلى تكتل الضباط الوطنيين المقدم الركن عبد الكريم قاسم واصبح يضم كل من :
1- العقيد الركن نجيب الربيعي آمر جحفل اللواء الأول
2- المقدم الركن عبد الكريم قاسم آمر ف1ل1
3- المقدم الركن طارق سعيد فهمي آمر كتيبة مدرعات
4- الرائد الركن عبد الوهاب الامين ضابط ركن القيادة
5- الرائد الركن داود الجنابي ضابط ركن القيادة
6- الرائد طاهر يحيى آمر سرية مدرعات
7- النقيب محسن الرفيعي ضابط استخبارات ف1ل1( مساعد فوج عبد الكريم قاسم)
8- الملازم الأول خليل إبراهيم حسين معاون آمر سرية الهندسة الثالثة .
ويصدر التنظيم أول منشور له بعنوان (الموت للعرب والحياة للجواسيس), والمقصود بالعنوان أن خطط الاستعمار تقضي بموت الامة العربية والحياة لجواسيسه ومن ارتبط به وخدم مقاصده. وهاجم المنشور هذه الخطط وتوعد رجال الحكم بمصير مؤلم, وبين أنه لا يمكن أن تمر هذه المشاريع وفي الامة العربية وفي العراق رجال نذروا أنفسهم وحياتهم في سبيل امتهم ووقع المنشور باسم تكتل الضباط الوطنيين. وعاد الجيش العراقي إلى وطنه واتخذ النظام الملكي احتياطات واسعة فأعاد الوحدات الفرعية بالتتابع وأجل المرحوم نجيب الربيعي القيام بالحركة إلى وقت آخر... لقد أخطأ الإنكليز بقائد الحركة ولكنهم عرفوا النوايا والمقاصد. وبإنضمام المقدم الركن عبد الكريم قاسم إلى تنظيم الضباط الاحرار, بدأت مرحلة جديدة, سيلعب فيها دوراً بارزاً ومميزاً سنشرحه في المستقبل " ( التوكيدات منا- ع.ن).
يتغافل المؤلف في نصه إعلاه, بصورة مقصودة عن ماهية المسوغات التي دفعت بهؤلاء الضباط إلى التكتل؟ وما هي (الشعرة التي قصمت ظهير البعير) ليتمردوا على الذين يديرون لعبة الحرب ويفرطون بفلسطين؟ يميط الباحث د. علاء الدين الظاهر, اللثام عن هذه النقطة بالقول:
"... إن بداية التنظيم تعود إلى حرب فلسطين عندما أُحيل عبد الكريم قاسم إلى مجلس عرفي لأنه قام خلافاً للأوامر بتقديم دعم مدفعي للجيش المصري في الفالوجة. أثارت إحالة قاسم للمحاكمة حنق ضباطه فأقدموا على تشكيل تكتل الضباط الوطنيين ... ".
كما يميل خليل إبراهيم حسين في هذا النص الهائم بالعمومية, إلى الانحياز المسبق والمقصود لكل من نجيب الربيعي ورفعت الحاج سري الذي " كثيراً من الكتاب ضخموا الدور الذي لعبه ", وطمس ما أمكن لدور المخالفين له في توجههم السياسي ومنطلقهم الفكري وخاصةً عبد الكريم قاسم ومحي الدين عبد الحميد وطه الشيخ أحمد وجلال الأوقاتي وسليم الفخري ووصفي طاهر وغيرهم من ضباط ذوي التوجهات اليسارية والديمقراطية. كما أن النص وما فيه من مضامين لم يحدد لنا تراتيبية القيادة والمسؤوليات المناطة, والتفاصيل الأخرى المتعلقة بهذا التكتل وماهية غائياته المستهدفة.. انه ردة الفعل العفوي إزاء القضية الفلسطينية حسب.
أما بصدد نجيب الربيعي, فتشير الأغلب الأعم من المصادر, على أنه لم يكن عضواً في حركة الضباط الأحرار.. قدر كونه مؤيداً لها ومتعاطفاً مع توجهاتها العامة, لكن مؤلف الموسوعة خليل إبراهيم حسين, يصر بصورة ملفتة للنظر في كافة كتاباته على إقحام أسم الربيعي في الحركة وكأنه (الأب الروحي) لها, دون سند تاريخي موثوق يدلل على ذلك, ويحضى قبوله بشبه أجماع من الباحثين والضباط الأحرار انفسهم. ومما يؤكد استنتاجنا هذا ما ذكره د. مجيد خدوري بالقول:
" كان إسهام الربيعي في نشر فكرة الحركة الثورية في الجيش فعالاً... ومع هذا فالربيعي لم ينظم إلى حركة الضباط الأحرار, إلا أنه كان يتعاطف معهم, ولذلك لم تكن هناك مشكلة بالنسبة لرئاسة مجلس السيادة بعد الثورة بوجود الربيعي " الطامح للسلطة كغيره من الكم الوفير من الضباط. لذا "... وافق المرحوم نجيب الربيعي على أن يتولى الحكم عند عودة القطعات إلى العراق ويقوم بحركة عسكرية بمعاونة آمروا الوحدات المفاتحين تطيح بعملاء الاستعمار ".
ومما يؤكد حقيقة عدم إنتماء الربيعي لحركة الضباط الأحرار ورفضه لهذه الفكرة, ما أورده الزعيم فؤاد عارف بعد أن كلفته قيادة كتلة المنصورية بعرض الموضوع عليه حيث يقول:
" حتى وصلت الثقةُ بيَّ إلى حد كلفتني قيادة هذا التنظيم أن أفاتح اللواء نجيب الربيعي الذي كان قائداً للفرقة في بعقوبة للإنضمام إلى هذا التنظيم والمساهمة في تفجير الثورة... وإذكر أني قلت له أنك من عائلة طيبة المنبت ونبيلة المعدن وسمعتك بين المدنيين جيدة جداً وأنت تختلف عن كثير من الضباط بمواصفات جعلت عدداً من الضباط الشباب يرغبون في أن تربط مصيرك بمصيرهم وتكون قائداً للثورة التي يريدون أن يقوموا بها لتغيير نظام الحكم في العراق, وهم يعتقدون أن في موافقتك على تحمل هذه المسؤولية وقيادتك لهم نجاح للثورة ودع عنك التردد والخوف وضع يدك في أيديهم وإتكل على الله. وبعد الإنتهاء من حديثي صمت نجيب الربيعي, ولم يجب مباشرة. ثم قال لي:
[ يا أبا فرهاد إن شأني شأنكم, فإني لست راضياً عن الوضع السياسي الذي نحن فيه لو تغيّر, ولكن بصراحة لا أثق بقسم من هؤلاء الذين يريدون القيام بالثورة. وأذكر أنه قال لي: أعتقد أنه إذا جلس ثلاثة منهم معاً فإعرف أن أثنين منهم من جواسيس الوصي ووزارة الدفاع, لذا لا أثق بهم. ومن هنا أقول أن الفشل سيكون من نصيب المحاولة إذا أقدموا عليها. ثم بدأ ينصحني قائلاً: يا أخ فؤاد أنت إنسان طيب ووفي لذا عليك بالحذر وأرجوك أن تنسى هذا الموضوع وكأنك لم تحدثني به...].
ومن جهة أخرى ربما أدرك الربيعي أن كبار الضباط الأحرار أرادوا أن يجعلوا منه واجهة للحصول على تأييد الجيش في يوم الثورة لما يتمتع به من سمعة عسكرية وشخصية محبوبة, علاوةً على رتبته العسكرية (لواء) وهذا ما جعله يقول لي: [ لعلهم يريدون مني أن أكون محمد نجيب الثاني] ويقصد به اللواء محمد نجيب الذي أتت به ثورة 23 (تموز) يوليو في مصر ثم لم تلبث أن أزاحته. والحقيقة لم أخبر عبد الكريم قاسم بهذا الإنطباع الأخير لنجيب الربيعي ".
وتأسيساً على ذلك, أعتقدُ أن نفسية نجيب الربيعي العسكرية وسلوكيته السياسية وطبيعته السيكولوجية وإنتماءه الارستقراطي العسكري, لا تضعه في مصاف القادة الكبار الذين يجازفون بمكانتهم الاجتماعية والأرث المهنوي العسكري للعائلة, والتضحية بهما من أجل تحقيق أفكار حركة الضباط الأحرار.. صحيح أنه تألم لما آلت إليه الحرب الفلسطينية من عواقب سياسية, كأغلبية الضباط المدركين, وقد يكون قد أيد معنوياً تكتل الضباط الوطنيين آنذاك, لكن تزعمه له يثير الكثير من التساؤلات المنطقية حول مصداقية مثل هذا التنظيم الغائي الذي لم يستكمل مقوماته التنظيمية إلا بشكل محدود. والدليل الذي يمكن أن يساق هو عدم مثابرة تنظيم, الوطنيين الأحرار, ككينونة عضوية فعالة ذو أهداف غائية واسعة, على الاستمرار لإستكمال أبعاده الذاتية والهيكلية, بعد منشوره الوحيد الذي أصدره في فلسطين, بغض النظر عن مسببات ذلك والتي (ربما) كانت متداخلة جدلياً, وهي:
- التناقضات الفكرية لقادة التنظيم وإختلاف توجهاتهم السياسية؛
- الظرف الأني الذي فرضته الحرب ذاتها وعواقبها الدولية والإقليمية؛
- عدم تهيأت الظروف الموضوعية للبلد والمؤسسة العسكرية ذاتها؛
- عدم نضج الظروف الذاتية للضباط بالتناغم العام مع تطور الوعي الاجتماعي؛
- شدة الرقابة نتيجة تخوف نخبة الحكم وقاعدته الاجتماعية من الانقلابية العسكرية؛
- تخوف بريطانيا من تغيرات موازين القوى الداخلية لغير صالحها بواسطة الجيش.
ولابد من الإشارة إلى أن المصادر التي تكلمت عن التنظيم لم تشر إلى كونه لديه إمتدادات تنظيمية في الوحدات المختلفة وعلى الأقل تلك العاملة في فلسطين.. ويبدو أنه كان تنظيماً نخبوياً بدون قواعد مادية ملموس.. مفعم بوجود نيات تؤيد هذا التوجه. وربما لهذا السبب ينفي اللواء الركن المتقاعد خليل سعيد فكرة وجوده, بقوله:
" ولكن في رأي الشخصي إن البداية للتنظيم الذي فجر ثورة 14 تموز, قد بدأت بعد العودة من حرب فلسطين 1948-1949 وكانت في معسكرات التدريب الإجمالي لسنة 1950 على شواطيء الحلة ". هذا الرأي فيه شيء من الموضوعية, لكن هذا التنظيم بشكله وقوامه لم يفجر الثورة, لكن (أزعم) أنه أرسى حجر الأساس للتكتلات اللاحقة. ربماعنى خليل سعيد هنا تنظيم المنصورية بقيادة قاسم حيث كان الأخير يخدم في الوحدات المعسكرة في المسيب القريبة من الحلة, وهو من الضباط القلائل الذين استمروا في هذا المجال وعملوا على تبلور فكرة التنظيم الغائي وكان خليل سعيد أحد أعضاء هذا التنظيم. وهذا ما يشهد به كثيرٌ من الضباط.
وبغض النظر عن مآل ديمومة تنظيم الوطنيين الأحرار, فقد كان بمثابة المحاولة الأولى والجادة في صيرورة حركة الضباط الأحرار, حيث وإن تشرذم إلى كتل متعددة, فقد توزعت أغلب قيادته (لنعدام قاعدة خلوية له) على الكتل المستحدثة منذ مطلع الخمسينيات وبصورة أخص على كتلتي قاسم سري. وهذا ما سنسلط الضوء عليه لاحقاً.
ومن نافلة القول لابد من إلأشارة إلى أن االمسؤولين الإنكليز أشعروا السلطات العراقية بوجود تكتل قوي للضباط الصغار يرفض التفسيرات والتعليلات الخاصة بالحرب وناقم على مسببيه, وهم يخشون من قيام وحدات من الجيش العائد من فلسطين بحركة ضد النظام القائم.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟