|
بين -أم الحيران- وقرية - المفجر- حلم!
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 5407 - 2017 / 1 / 19 - 17:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بين "أم الحيران" وقرية " المفجر" حلم! جواد بولس من الصعب، أو حتى شبه المستحيل، أن ينجح كاتب في تحييد مشاعره من أجل إخراج مقال لا تشوشه العواطف ولا تستفز حروفه تلك المشاهد والأصوات التي تملأ فضاءات الإعلام وشاشات التلفزة الإسرائيلية، خاصة وجميعها تعمل كفرقة تحميس مهنية في جيش تتنوع كتائبه، وتتضافر في النهاية جهود عناصرها في سبيل سحق الهدف/العدو. سيبقى ما جرى يوم الأربعاء الماضي على تلك الرمال الجنوبية راية دامية مرفوعة على طريق مشت عليه جموع غفيرة من "الحيارى"، ولن تكون مأساة "أمهم" نهاية السواد ولا سقوط ابنها يعقوب آخر الضحايا أو نوبة الصحوة والانعتاق. لا حاجة لطرق أبواب البديع، ولا استخارة أعطاف المجاز كي نجزم أن الحقيقة سالت على تلك الهضاب واضحة كصبح الحزينة، تنزاح عن ليلها العتمة، فينتعش الأسى في أحشائها ويبكي الدوري على شرفة نهدها الكسير. سمعت صراخ من تواجدوا هناك، ووصفهم كيف في لحظة غضب كانوا أشبه بما قرأنا عنه في حكايات حروب آلهة اليونان العبثية، هجمت الدولة/الدبة وانقضت على أولادها/مواطنيها من دون أن تراعي قوانين الطبيعة ولا تعاويذ السماء. كانت الطلقات الأولى بمثابة استقدام للفوضى وضمانة لقتل الأمل؛ الأخبار زفت نبأ التساوي في عدد الضحايا، وأكد الحُيّاد أن الدمع ينصفه الدمع. على المواقع والشاشات رأت عيون الناس العاديين، في جميع أنحاء الدولة، مشاهد الغبار وهو يلف الوجع ويتستر على الخطيئة، البعض اندفعوا "والرماح نواهل" منهم، فاستذكروا تاريخ التاريخ وطفقوا يحذرون إسرائيلَ به ويذكرونها بعنتره حين قال: "هلا سألت الخيل يا ابنة مالك/ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي" الشاشات تملؤها الخوذات تركب على أجسام ضخمة كخيل المغول، وتبدو كأنها مخلوقات أو أشباح شاركت في أفلام "حروب النجوم"، وعلى أطراف المشهد تجهش حرائر البادية نادبة ضياع البلد وموت الولد. قادة الدولة كانوا في معاقلهم يتابعون من على ذاك الجبل، ويراقبون متى وكيف سيبقرون بطن الفجر كي تسيح حممه على رؤوس من رفعوه كاوية، وذلك بعد أن علموا أن المتفاوضين نجحوا بالتوصل إلى صيغة مقبولة على أهل أم الحيران، وكان من شأن تنفيذها في الصباح حسر الصدام ومنع وقوع الضحايا. في تلك اللحظات، وقبل إتمام "الزفة" قرر "chaos- كاوس" تفجير الطمأنينة والسكينة، فكان صبح وكان ليل، فسادَ ظلام وعامت، مجددًا، الصحراء سابحة في جوف العدم. كثيرون لن ينسوا صورة الدم وهو يضمخ رأس ووجه رئيس القائمة المشتركة النائب أيمن عودة، فكأن من أصابه تعمد نقل رسالة سيّده " آريس" عصرِنا الدامي الممارسِ لحروبه بلا كلل وانتقاماته المرة بلا حساب. قد يصير من المفارقات مشهد هذه الصورة ويتحول إلى آخر بيت في قصيدة الفخر والرثاء، فوجهه الحزين يقطع القول كما فعلت "جهيزة" ودمه يكاد يغرق حلمه، والجثث في الموقع تسد كل الطرق وتفرق حبال الأماني. سيكون افتراضي أن كل من عارض فكرة العيش المشترك والنضال العربي اليهودي قد فرح أو شمت من صورة أيمن والدماء تغطي صفحة وجهه الأبيض، مجازفة أو مستفزًا للبعض، ولكنني أشعر أن بين الشامتين ( لا تحدث عن فرح شخصي وشماتة بشخصه بل بموقفه السياسي) جهات عربية، وأعرف أنهم بين اليهود أكثر؛ وإذا كان وجه أيمن لا يكفي لتأجيج تلك المشاعر من الفرح الخبيث، فلقد شاهدنا بعدها جسد النائب أسامة السعدي، زميل أيمن ورفيقه، ملقى على التلة بعد الاعتداء عليه من قبل أصحاب الخوذات الخضراء، وهو يعاني من إغماءة لا تترك للمؤمنين بحتمية العيش المشترك فسحةً كبيرة بل قد تدفعهم ، كرهبان خاشعين، صوب صومعات الخيبة ليمضوا بقية أعمارهم السياسية كيوحنا المعمدان الصارخ في براري فلسطين ووديانها، حين لم يسمعه أنس ولا أخذت بعناته ؟؟ الوحوش والكواسر. في تفاصيل الصراع الجاري على أم الحيران وجدت ما يخيفني. عناصر خساراتنا من الماضي تنبعث بكل لبسها وتمويهها وهشاشتها، وكأن القرية تستعيد على ركام بيوتها المهدمة تفاصيل سيناريو ما زال يبحث عن مخرج فذ لا تسقطه الكلمات ولا تغويه روائح الزبد البعيد. وقد تكون بقية الرواية استنساخًا لما حدث في مواقع جربت تلك المخاضات وعثرت، خاصة ونحن نشاهد كيف يتحول سكان البلدة ومن كان عنهم ومعهم مدافعًا، في لحظة درامية، إلى "كومبارس"، بينما تعج الصدارة بأبطال يكدح كل واحد منهم بإقناعنا أنه كان باري القوس ومكتشف البارود وأنه صاحب الموقف الأصح. صدق الذين شخصوا دوافع الدولة بطرد أهل القرية وإحلال مستوطنة يهودية مكانهم، فوراء هذا الإمعان يتجسد فكر الحركة الصهيونية التي خططت للاستيلاء على الأرض وتهجير أو تشتيت أصحابها. وقد يصدق تكهن آخرين بأن ما يحدث من صدامات في أم الحيران قد يصبح مقدمة لفورة غضب تمتد إلى ما هو أبعد من النقب وأهله، كما حدث بعد قضية تهجير قرية أم السحالي التي اعتبرها الكاتب سليمان أبو إرشيد مقدمةً لانتفاضة القدس والأقصى في عام ألفين. مع هذا فأنا أرى أن دور النخب والقيادات يجب أن يتعدى مهمة تشخيص المخاطر وتأكيد نوايا إسرائيل العدوانية تجاه مواطنيها العرب. فالقضية الأهم ستبقى منوطة بإعطاء الحلول لهذه الجماهير المستهدفة ووضع برامج نضال ناجحة في إفشال مخططات حكومة إسرائيل الحالية والإجابة على السؤال- كيف من الممكن أن تمنع قيادات هذه الجماهير سوء المصير الذي ينتظر أم الحيران وغيرها، كما حدث من قبل "أم السحالي" أو مثلًا مع قرية عرب "المفجر"؟ ولمن نسي هذا الاسم أو لم يسمعه من قبل أذكر أننا بصدد قرية كانت تقع جنوبي مدينة حيفا، عند مصب نهر المفجر، وفي المكان الذي بنيت فيه محطة توليد الكهرباء في الخضيرة. كانت القرية مقامة على تلة بارتفاع 25 مترًا وتشرف على البحر المتوسط.. لم يهجرها سكانها العرب في عام النكبة، لكن سلطات إسرائيل لاحقت سكانها، بذرائع مشابهة لحالة أم الحيران. حاصرت الدولة وأذرعها وجود القرية بكل الوسائل بما فيه قيام المصانع القريبة بضخ المياه العادمة إلى نهرها فتلوثت مياه الشرب عندهم. كان في القرية حتى العام 1973مدرسة ابتدائية، لكنها هدمت بأمر من سلطات الإسرائيلية، فتشتت طلابها وعددهم 168 طالبًا وتوزعوا على مدارس كفرقرع وباقة وعارة وعرعرة. ثابرت إسرائيل على التضييق وملاحقة أهل القرية ب"القانون" طورًا و"بالكانون" أحيانًا، حتى اضطر آخر سكانها مغادرتها في العام 1978، فهدمت بيوتها وأقيم مكانها متنزه، وانقطعت عنه المياه العادمة وصار مزارًا يحن إلى أصحابه. جئت على ذكر قرية" المفجر" لأنني وأبناء جيلي شاركنا في تلك السنوات وكنا طلابًا في الجامعات الإسرائيلية، في المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات ضد تهجيرها. مثلنا فعلت قوى عربية كثيرة. لم تنجح تلك النضالات في منع المأساة عن أهلها الذين تهجروا إلى عدة قرى محيطة. كانت تلك تجربة جديرة بالدراسة، ولا أعرف إذا ما قام أحد من الأحزاب والحركات السياسية بدراستها هي أو غيرها؟ ومن منهم استخلص النتائج والعبر؟ لكنني أعرف ومثلي يعرف أبناء جيلي، أن قرية "المفجر" هدمت وهجر سكانها، وعندما شاهدت ما جرى مع أم الحيران وقرأت ما يكتب في ذلك، شخصت أمامي تلك الرايية وهي "تنده" على من ضيع فرصة الإفادة والتعلم من التجارب والخسارات. جثمان يعقوب أبو القيعان، وأكوام حجارة البيوت المهدومة، ووجه أيمن عودة المكسو بالأحمر يعيدوننا إلى حيث المبتدأ والقضية المصير: كيف يمكن إنقاذ قرية "أم الحيران" من مصير مشابه لقرية "المفجر"؟ فإذا نجحنا بالإجابة عن ذلك عندها قد نخلّص الجماهير العربية من ويلات انتفاضة أخرى وتوابعها، رغم من سيفتش بين أعمدة دخانها ويسعى وراء مجد وأكاليل غار، هذا إلا إذا آمن البعض أن هذه الأرض تشبه الغمد الذي لن يسع إلا سيفًا واحدًا. لست ممن يؤمنون هكذا، فبين أم الحيران والمفجر ينام حلم !
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أقاتل ويبكي؟
-
الحركة الأسيرة.. ومضى عام آخر
-
رسالة مفتوحة الى مريام نائور
-
الشجاعة مقرون بها عطب
-
مات -نوعم- فلماذا نحزن؟
-
وحدة غير كافية
-
إنه الكرمل، صوت القبرة
-
مؤتمر فتح وفجره المأمول
-
ترامب هناك ترامب هنا
-
مفارق ال 48
-
لجنة في اسمها رسمها
-
موت البنات..وأين الشرف!
-
بيروت خيمتكم ، الجليل خيمتنا
-
قيادة سياسة ومال
-
شمعون بيرس مات صدقوا يا عرب
-
عمان هي الجمر والماء
-
عودة مواسم الاستشهاد
-
هل تنتظر القدس رحيل بيرس؟
-
من منكم بلا خطيئة؟
-
ما تقوله الروابي في فلسطين
المزيد.....
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|