|
صديقي معتز الدمرداش
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5404 - 2017 / 1 / 16 - 14:13
المحور:
بوابة التمدن
صديقي معتز الدمرداش
صديقي معتزّ، لن أعزّيك في ماما كريمة. فالأمهاتُ لا يُعزَّي فيهنّ. ليس لأن فقدَهن أكبرُ من عزاءات الناس للناس، وليس لأن الحرمانَ منهنّ أهولُ من مواساة الأصدقاء والأهل للفاقدين أمهاتهم، بل لأنهنّ لا يمُتن. الأبناءُ يحملون أسماءَ آبائهم. لهذا يفرح الناسُ بالولد لأنه سيخلّد أسماءهم. ومَن لا يُنجبُ ولدًا تُسمّيه العربُ "أبترَ"، لأن اسمه ونسبه أصبح مبتورًا من كتاب الخلود! حساباتٌ طفولية! فإن كّنا لا نحملُ أسماء أمهاتنا، فلأننا نحمل منهنّ شيئًا أكبر من الاسم الاعتباطيّ وليد المصادفة. نحن نحملهنّ بكاملهنّ في تاريخنا وأرواحنا كما حملننا بكاملنا في أحشائهنّ وفي أعمارهنّ. لهذا لا تموتُ الأمهاتُ. لكنّه الفقدُ يا عزيزي. الفقدُ الجسديّ الفيزيقيّ. فقدُ أصواتهنّ في فضاءات البيوت. فقدُ شكلهن في بيابي المآقي. فقدُ أكُفّهن الحانيات تربتُ على ظهورنا وقت التعب. فقدُ دعواتهنّ في لحظات العُسر. فقدُ إشراقة ابتسامهنّ حين نرنو بأبصارنا نحوهنّ. وفقدُ لهفتهنّ حين نغيب. حين شاهدتُ صورة زفاف ماما كريمة مختار على والدك نور الدمرداش، تذكرتُ صورة أمي في فستان زفافها على أبي. كانت أمهاتُنا جميلات وأنيقات وقتَ كانت مصرُ مصرَ. حين هاتفتُك قبل يومين، تبعثرتُ الكلماتُ فوق لساني كعادتي في لحظات العزاء والرثاء والمواساة. أنا التي أنفقتُ عمري في التفتيش داخل خبيئة اللغة وأسرار الكلمات، أتلعثم حين أبحث عن كلمات مواساة لأحبائي حين يفقدون غاليًا. وهل أغلى من الأمّ؟! قلتَ لي وصوتُكَ يشرِق بالدمع: “خلاص يا فاطمة مبقاش فيه ماما كريمة!”، ولم أدرِ ما قلتُ لك وقتها فقد هرب الكلامُ منّي. لكنني أقول لك الآن ما قلتُه لنفسي حين طارت أمي للسماء وتركتني وحيدة، مثلما أنت الآن وحيدٌ. واسيتُ نفسي بحيلة ماكرة أقترحُها عليك. أقنعتُ نفسي أن في موت الأمهاتِ شيئًا جميلا. شيئًا حانيًا. أنهنّ لن يمتن مرّة أخرى. أرحمُ ما في موت الأمهات أنهن لا يمتن مرتي. بل مرّة واحدة؛ يختفي بعدها خوفُنا من موتهنّ. عشتُ عمري كلّه، منذ طفولتي وحتى عام 2008، مرتعبةً من فكرة موت أميّ. ماذا سيكون شكلُ العالم حين تختفي منه أمي؟! رعبٌ دائمٌ أضجّ مرقدي وأتعس صحوي. لم أتخلص من ذاك الهمّ المقيم القاتل إلا مساء يوم 5 سبتمبر 2008، حين ذهبت أمي للسماء وتركتني ويدي لا تزال معلّقةً في طرف ثوبها. أقنعتُ نفسي يومها أن موتها اليومَ سيكون الضمانة الوحيدة لي بأنني لن أخاف موتَها بعد ذلك أبدًا، وفي هذا بعضُ العزاء. سأكون صادقة معك وأخبرك أنني اكتشفتُ بعد برهة سخافة الفكرة. لأنها لم تمُت يومها، وفقط، بل صارت تموت كلّ يوم منذ ذلك التاريخ، وحتى أموتَ أنا. كلما مررتُ بمشكلة أو بلحظة حزن، شعرتُ بموت أمي. كلما ظلمني أحدٌ أو قستِ الحياةُ عليّ شعرتُ بموت أمي. أجري إلى دولاب ملابسي وأُخرجُ شالَ أمي الصوفيّ وأتدثّر به فأكاد أُحسُّ بذراعيها تحضنانني فأهدأ. لكن الله كان رحيمًا بي وأرسل لي أمًّا بديلة عوّضتني عن ماما سهير التي تركتني في أشد لحظات احتياجي لها. أنا محظوظةٌ بأمي الجديد "آنجيل" التي أرسلتها أمي الحقيقية لتقوم مقامَها. لكنك أيضًا محظوظٌ أكثر منّا جميعًا يا معتزّ. لأن ماما كريمة لم تكن أمَّك وحدك يا حبيبي بل أم المصريين جميعًا، والعرب جميعًا، فكأنما حزنك عليها يتشاركه معك ملايين الأبناء وملايين الأشقاء. فحين كانت أمّي لي أنا وشقيقي فقط، وانقسم حزننا عليها على اثنين، كانت والدتك لك ولي ولكل من ينتمون لجيلنا وما تلانا من أجيال، فتوزّع الحزنُ عليها على الجميع. وأنت محظوظ كذلك لأن أمَّكَ خالدةٌ في أعمالها الرفيعة التي محفورةٌ في قلوبنا جميعًا. فإن اشتقتَ إلى صوتها يا شقيقي فهو على مرمى ضغط زرٍّ على الميديا، وإن راودك الحنينُ إلى ابتسامتها فهي هناك في كل شاشة وكل صفحة. ربما تجد كلامي نظريًّا لا قيمة عملية له، وأجدُه أنا مثلما تجده. كلماتُ العزاء والمواساة دائمًا فقيرةٌ وساذجةٌ مهما ضفّرناها بالفلسفات والنظريات والصور الشعرية. الفقدُ تجربةٌ شخصية لا يشاركنا فيها أحدٌ ولا يقتسم أحزانَنا معنا أحدٌ. لكنها محاولاتُ البحث عن شيء من السلوى وسط ركام الحَزَن. قلبي معك، وفي قلب مصرَ تعيشُ خالدةً أيقونةُ الحنوّ والعذوبة والدفء: كريمة مختار.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شريهان … قطعة البهجة والعذوبة
-
صدقةٌ جبرية …. منحةٌ من الله!
-
الوسادةُ الإلهية …. كنزُك
-
بيكار … ريشةٌ ملونة طمسها الظلام
-
متى ينتهي كتابي عن الإمارات؟
-
لأن الله يرى ولأن مصر تستحق!
-
طائرةٌ للفاسدين والسد العالي الجديد
-
الأقباط … يركلون أمريكا
-
لأن الله يرى!
-
الشنطة بيني وبينك
-
المصري اليوم تحاور الشاعرة فاطمة ناعوت
-
على هامش البطرسية
-
أيها الجندي … أنت تجرحني!
-
الجميلةُ المغدورة، اليومَ عيدُها
-
من حشا الحزام الناسف بالشظايا؟
-
قُبلة يهوذا
-
لهذا لم أحادثك يا صبحي!
-
دموعُ الفارس | إلى محمد صبحي
-
شجرةٌ وأربعُ عيون
-
محاكمة نجيب محفوظ وأجدادنا والفراشات
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
حَمّاد فوّاز الشّعراني
/ حَمّاد فوّاز الشّعراني
-
خط زوال
/ رمضان بوشارب
-
عينُ الاختلاف - نصوص شعرية
/ محمد الهلالي
-
مذكرات فاروق الشرع - الرواية المفقودة
/ فاروق الشرع
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 9
/ ريبر هبون
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة ,, العدد 8
/ ريبر هبون
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 7
/ ريبر هبون
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة الالكترونية , العدد 6
/ ريبر هبون
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة , العدد 5
/ ريبر هبون
-
صحيفة الحب وجود والوجود معرفة العدد 4
/ ريبر هبون
المزيد.....
|