جعفر الحكيم
الحوار المتمدن-العدد: 5396 - 2017 / 1 / 8 - 15:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حوارات في اللاهوت المسيحي 10
السنوات (المخفية) من حياة يسوع الناصري
في حياة السيد المسيح حقبة زمنية تمتد من طفولته لغاية بلوغه سن الثلاثين, تعتبر بشكل عام فترة غامضة, حيث لا تتوفر تفاصيل حول تلك المرحلة العمرية من سيرته الشخصية, وقد أطلق بعض الباحثين في التاريخ على تلك الحقبة مصطلح( السنوات المجهولة)
بينما ارى انها ليست فترة (مجهولة) ولكنها (مخفية) بمعنى أن هناك قصد من وراء التعتيم وإغفال ذكر تلك الفترة المهمة.
المتتبع لسيرة حياة يسوع الناصري في الأناجيل, سيجدها تخبرنا عن إرهاصات فترة ولادته والتي ذكرناها في المقال السابق, ثم تخبرنا عن ختان الطفل وتسميته حسب العرف اليهودي عند بلوغ عمره ثمانية أيام, وعن صعود والديه به للهيكل من اجل مباركته
ثم تسكت الأناجيل عن بقية فترة حياة يسوع الناصري حتى بلوغه سن الثلاثين من العمر حين بدأ كرازته ( دعوته) باستثناء حادثتين
الأولى تفرد بها كاتب انجيل(متى) والذي قام باختراع قصة وهمية ملخصها:
ان الحاكم الروماني (هيرودوس) علم من المنجمين المجوس بولادة ملك اليهود العظيم, فاصدر امرا بقتل جميع أطفال اليهود الذكور دون سن العامين, فجاء الملاك بالمنام إلى يوسف والد يسوع, وأمره ان يهرب بالطفل إلى مصر, فهربت عائلة يسوع لمصر ولم ترجع الا بعد موت (هيرودس) عام 4 ميلادي.
وهذه القصة التي اخترعها وتفرد بها كاتب إنجيل ( متى) من دون بقية الأناجيل, لا أصل تاريخي لها, ولم يذكرها غيره من مؤرخي تلك الفترة ولا حتى كتبة الأناجيل الآخرين, وغرض مخترع هذه القصة واضح لكل متتبع للأسلوب الساذج لكاتب (متى) في اختراع قصص او تلفيق عبارات ومن ثم ربطها بنصوص مجتزأة من العهد القديم, ليصنع منه كوكتيل يقدمه للمتلقي على شكل نبوءة !!
وهكذا فعل بالضبط حين اخترع قصة هروب العائلة إلى مصر, فقد قام بربطها بنص مجتزأ من سفر هوشع(من مصر دعوت ابني) ثم ليخبرنا بكل ثقة أن هذه النبوءة تحققت في يسوع!! فاضحا بذلك اسلوبه الساذج في التدليس وبتر النصوص, لأن النص الأصلي يتحدث بشكل جلي عن يعقوب(إسرائيل ) وليس عن غيره (لما كان اسرائيل غلاما احببته ومن مصر دعوت ابني) هوشع 11-1
الحدث الثاني المذكور في الأناجيل هو قصة تخلف الصبي يسوع (12 عاما) عن والديه, وبقائه في الهيكل مما تسبب في ذعرهما ورجوعهما إلى أورشليم بحثا عن الصبي المفقود, وسنعود لتفاصيل القصة لاحقا في هذا المقال, وفي مقالات أخرى!
ان الغموض والتعتيم حول حياة يسوع الناصري في فترة ما قبل سن الثلاثين, أثار شهية بعض المؤرخين في وضع سيناريوهات عديدة بعضها أقرب للخيال منها للواقع!
ومن أشهر الفرضيات التي وضعها بعض المؤرخين, فرضية سفر يسوع للهند ومكوثه هناك حيث أخذ التعاليم الهندوسية!
بعض المؤرخين افترضوا ذهابه الى شرق الاردن حيث تتلمذ عند طائفة اليهود الاسينيين, في حين افترض فريق اخر سفره مرة أخرى إلى مصر حيث تلقى تعليمه للفلسفة اليونانية التي كانت سائدة في الإسكندرية
وقد رد العديد من اللاهوتيين والمؤرخين المسيحيين على هذه الفرضيات والدعاوى و فندوها.
ان مفتاح الإجابة على السؤال الملح, أين قضى يسوع الناصري معظم فترة حياته قبل بدئه في الكرازة, وماذا كان يفعل طوال تلك الفترة الممتدة على مدى ثلاثين عاما, نجده في ثنايا نصوص الأناجيل, أيضا من دراسة طبيعة المجتمع اليهودي في تلك الحقبة الزمنية.
لقد كان يسوع الناصري شابا يهوديا متقد الذكاء والنشاط, من أسرة يهودية متدينة ومنخرطة في النشاط الكهنوتي اليهودي, وقد أخبرتنا الأناجيل ان يسوع الناصري ومنذ فترة صباه كان مشدودا الى الاجواء التعليمية الدينية لليهود في هيكلهم المقدس.
وبالعودة الى قصة فقدان مريم وزوجها يوسف لابنهما الصبي يسوع ذو الاثني عشر عاما, خلال رحلة عودتهم من زيارة أورشليم, الامر الذي اثار الخوف لديهم و اضطرهم إلى الرجوع للمدينة بحثا عن ابنهما, حيث وجداه في الهيكل يصغي للكهنة ويتعلم منهم
(وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا.
وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ.
وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ.
وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ.
وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ.
فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!
فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي بيت أَبِي؟) لوقا 2- 43-49
ونلاحظ هنا ان كاتب الإنجيل أراد إضفاء نوع من الاثارة والتشويق, فأضاف تكملة من عنده في العدد 50 من الاصحاح
(فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا)!!
ولا نعلم لماذا لم يفهما؟ وهما الشخصان الوحيدان اللذان يعرفان سر الصبي(الإله) و سر ولادته من الروح القدس!
ولو تجاوزنا إشكالية خوف (ام الرب وابيه) على الصبي(الرب) وكذلك عدم فهمهم لمغزى كلام ابنهما (الرب)
فإن هذه القصة تؤشر لنا ان الصبي كان مولعا بالبقاء في الهيكل حيث أجواء تعلم الناموس وأساسيات الدين اليهودي
واذا اخذنا بالاعتبار ان الشاب اليهودي يسوع, كان من أسرة متدينة , فمن الطبيعي جدا ان ترسل هذه الأسرة ابنها حينما يكبر إلى أورشليم حيث يتلقى علوم الناموس اليهودي ويتعلم من كهنة وأساتذة الهيكل المقدس ما يمكنه من اكتساب ثقافة دينية تؤهله ليكون معلما لمجتمعه في قريته عندما ينهي تعليمه ويرجع إليهم, ويسوع كما يظهر كان متحمس وشغوف لنيل أكبر قسط من علوم الناموس
ان عادة ارسال عوائل اليهود المتدينة لابنائهم الى اورشليم من أجل التعلم في هيكلها المقدس, كان أمر شائع وطبيعي, وقد رأينا في سيرة حياة (شاول- بولس) ان أسرته ارسلته حينما كان شابا,من طرسوس(في تركيا) إلى أورشليم ليتعلم ويتبحر في الناموس.
وبعد نيل الشاب اليهودي يسوع الناصري القسط الوافي من التعليم في هيكل اليهود المقدس,من الطبيعي أن يقوم بدوره في مهمة التعليم سواء في الهيكل, او عندما يرجع إلى قريته, ليقوم بتعليم أبناء قريته والقرى المجاورة وإرشادهم وتوضيح المسائل الدينية التي تشكل عليهم, وفق تعليمات الناموس اليهودي, وفي إنجيل (لوقا) نجد إشارة لهذا الأمر حيث ذكر كاتب الإنجيل ان يسوع
(جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ) لوقا 4-16
وايضا ذكر في نفس الاصحاح ( وانحدر إلى كفرناحوم ، مدينة من الجليل، وكان يعلمهم في السبوت) 4-31
فيسوع كان(متعودا) على ممارسة طقس قراءة التوراة وتعليم المؤمنين اليهود في معابد قريته والقرى المجاورة.
ونجد ايضا اشارة مهمة وردت في إنجيل (متى) أثناء سرد قصة القبض على يسوع حيث نجده يخاطب الجموع قائلا:
(كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي)
وكلام يسوع واضح, فهو يخاطب اناس يعرفوه جيدا من خلال تردده وإلقاء الدروس والمواعظ بشكل متواصل في الهيكل.
من هنا يتضح لنا ان الشاب اليهودي يسوع الناصري قضى سنين حياته مثل أي شاب يهودي متدين وناشط بشكل متحمس مع ذكاء متقد, في تلقي العلوم الدينية في الهيكل المقدس من اجل التبحر في الناموس اليهودي, وبعدها مارس التعليم والإرشاد لغيره من اليهود في أورشليم وفي قريته والقرى المجاورة لها, قبل بلوغه سن الثلاثين وشروعه بدعوته التجديدية الإصلاحية بالتزامن مع دعوة قريبه (يوحنا المعمدان) الشاب اليهودي ذو التوجه الاسيني (التطهري) والذي أطلق دعوته و تبشيره بقرب مجيء المسيح الموعود.
وهنا قد يبرز تساؤل لدى القارئ الكريم, ما المشكلة في سيرة حياة يسوع قبل بدء دعوته؟ و لماذا تم إخفاء هذه الفترة؟
والجواب ببساطة هو, النزعة التلقائية لكتبة الأناجيل نحو إضفاء هالة التقديس و( أسطرة) شخصية البطل الخارق لنواميس الطبيعة, فلم يكن لائقا اظهار يسوع( الأسطورة) بمظهر (المتعلم) بل على العكس كان هناك حرص شديد على إظهاره بمظهر (العالم) بلا تعليم, كما نجد ذلك في بعض النصوص التي مررها كاتب إنجيل( يوحنا) ,المتأخر في الترتيب الزمني , حيث تتعاظم هالة القداسة بمرور الزمن!
ان اخفاء تفاصيل القسم الأعظم من حياة يسوع الناصري كان أمرا مقصودا و مدروسا بعناية فائقة من السادة كتبة الأناجيل, الذين أخبرونا عن تفاصيل أخرى(غيبية) لم يكونوا شهود عيان لها مثل مخاطبة الملاك لمريم (أم الرب) وظهوره في المنام ليوسف النجار (أبو الرب) ومع ذلك أغفلوا ذكر ثلاثين عاما من حياة يسوع الناصري, ثم أظهروه فجأة قبيل بدء كرازته وهو يفتتح سلسلة المعاجز بمعجزة ( صنع الخمر) للمدعوين السكارى في احد الاعراس!!
د. جعفر الحكيم
#جعفر_الحكيم (هاشتاغ)