|
المد الثوري - البلشفية طريق الثورة
آلان وودز
(Alan Woods)
الحوار المتمدن-العدد: 5391 - 2017 / 1 / 3 - 10:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الفصل الثاني: الثورة الروسية الأولى
المد الثوري
آلان وودز ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي
بعد مذبحة 09 يناير انحسرت الحركة في سان بيترسبورغ مؤقتا، حيث كان عمال العاصمة يقيِّمون الموقف بحذر. لم تحقق مظاهرة فاتح ماي في سان بيترسبورغ النجاح، إذ لم يشارك فيها سوى بضعة مئات فقط. ومع ذلك فطوال فصلي الربيع والصيف عام 1905، تأرجح البندول باستمرار نحو اليسار. وفي الوقت الذي كان فيه عمال العاصمة يتراجعون مؤقتا إلى الوراء لتقييم الوضع، بدأت المحافظات الأكثر تخلفا تنهض للنضال. يوم فاتح ماي، أضرب 200.000 عامل في حوالي 200 مدينة في جميع أنحاء روسيا. أثارت الأحداث التي شهدتها سان بيترسبورغ موجة من النضالات في جميع المحافظات. وكان عمال النسيج في مقدمة الحركة. يوم 12 ماي، اندلع إضراب عام في معقل البلاشفة إيفانوفو- فوزنيسينسك، وهي بلدة للنسيج تضم 70.000 عامل، واستمر 72 يوما. في ذلك الوقت كان عدد البلاشفة في إيفانوفو- فوزنيسينسك أكثر من 400. قاد المفاوضات مندوبو عمال منتخبون كانوا ينظمون لقاءاتهم في "اجتماع لممثلي الوفود"، وهو مجلس سوفييت في كل شيء إلا الاسم. ومن أصل 128 مندوبا (من بينهم 23 من النساء) كان هناك حوالي 30 بلشفيا.
حافظ سوفييت إيفانوفو- فوزنيسينسك على النظام في البلدة وأصدر تصريحات وأنشأ ميليشيات وسيطر على الصحافة، وبالتالي قام عمليا بفرض حرية الصحافة والتعبير والتجمع. مكنت اللقاءات الجماهيرية اليومية جماهير العمال من التعلم وتبادل الخبرات. نظر فلاحو المناطق المجاورة بأمل إلى السوفييت الذي كانوا يرسلون إليه ملتماساتهم. وحدة النضال بين العمال والفلاحين كانت تصهر ليس بالأقوال بل بالأفعال، عن طريق حركة العمال أنفسهم. ابتداء من 23 ماي أصدر الفرع المحلي للحزب نشرة دورية حول سير الإضراب. وبحلول نهاية يونيو، وصلت منظمة إيفانوفو- فوزنيسينسك البلشفية الى 600 عضو، مع ما بين 15 و20 من خلايا المصانع. في بلدة النسيج في لودز في بولندا، تحولت جنازة عامل قتل على يد القوزاق إلى مظاهرة سياسية جماهيرية، يوم 15 ماي، رفعت خلالها شعارات مثل "فليسقط النظام القيصري!" و"عاشت الثورة!". اجتاحت موجة من الإضرابات والمظاهرات بولندا وليتوانيا، وبلغت ذروتها في 23 يونيو في إضراب عام وانتفاضة في لودز، ومظاهرات تضامن في وارسو وأوديسا.
بدأت موجة الإضرابات، التي اجتاحت جميع المناطق الصناعية تقريبا، طوال فصلي الربيع والصيف، تتخذ طابعا سياسيا على نحو متزايد. في شهر مارس كان عدد الإضرابات السياسية أقل من 30%، لكن بين شهري أبريل وغشت ارتفع الرقم إلى 50 و70%. كان ممثلو العمال في لجان المصانع ولجان الإضراب يقودون الحراك في كل مكان. ولم تكن مجالس السوفييت، في بدايتها، سوى لجنة إضراب موسعة، وجهازا لنضال العمال ضد الرأسماليين. السوفييتات في روسيا، تلك المنظمات الفعالة بشكل رائع والمرنة والتي تمثل بحق العمال، لم تكن من اختراع لينين أو تروتسكي، ولم يرد لها أي ذكر في كتابات ماركس وإنجلز. لقد كانت نتاج عبقرية الابتكار والمبادرة من طرف العمال والعاملات. كانت السوفييتات تتجه لأن تلعب دورا محوريا في مجمل مسار تطور الثورة، لا سيما أثناء وبعد إضراب أكتوبر الكبير.
ليس فقط عمال المدن بل كذلك الفلاحون صاروا يدخلون تدريجيا إلى مدار الثورة. طوال فترة الصيف كانت هناك اضطرابات للفلاحين وإضرابات العمال الزراعيين في منطقة البلطيق وأوكرانيا والدون وكوبان والقوقاز. في بعض المناطق، سيطر الفلاحون على مناطق بأكملها تقريبا وسيروا شؤونهم بأيديهم. حاول المناشفة استخدام هذا دليلا على صحة نظريتهم حول "الحكم الذاتي الثوري". لكن الحقيقة هي أنه ما لم تأخذ الطبقة العاملة السلطة، فلن يكون لهذه المبادرات المحلية سوى طابع عرضي. وفي حين توجه المناشفة بأنظارهم نحو لبراليي الزيمستفو، فإن لينين صار على اقتناع متزايد بأن الحليف الوحيد الممكن للعمال في نضالهم لإسقاط الاستبداد هم الفلاحون، وخاصة الفلاحون الفقراء. كانت رؤيته للثورة تتمثل في أوسع حركة ممكنة للعمال والفلاحين للإطاحة بالنظام القيصري وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة (الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين) والتي، دون أن تتجاوز حدود الرأسمالية، ستنجز البرنامج الديمقراطي الأكثر جذرية وشمولية، بأن تعمل، أولا وقبل كل شيء، على مصادرة الملكيات الكبيرة وتسليم الأرض للفلاحين.
إلى حدود عام 1905، تألف البرنامج الزراعي للحزب من سلسلة من المطالب المحدودة التي من شأنها أن تخفف الأعباء عن الفلاحين، ولا سيما استعادة الأوتريزكي (otrezki)، أو "قطع الأراضي"، أي تلك الأراضي التي انتزعت من الفلاحين بموجب بنود قانون تحرير الاقنان لعام 1861. لكن الآن صارت الثورة في المدن تنتشر بسرعة إلى القرى. وكان الشعور العام بين الفلاحين لصالح الاستيلاء على أراضي الملاكين الكبار. صار برنامج الحزب القديم متجاوزا بشكل كامل. أمام الوضع الجديد في القرى قام الحزب بإعادة صياغة برنامجه الزراعي ليشمل مصادرة جميع أراضي الملاكين الكبار وأراضي الحكومة والكنيسة والرهبان والقيصر. لقد خلقت الأجواء المتغيرة في القرى للمرة الأولى إمكانية العمل الاشتراكي الديمقراطي بين الفلاحين.
على الرغم من أن الحزب كان ما يزال ضعيفا هناك، فإنه تم إنشاء بعض الحلقات في مناطق مثل نيجيغورود وسمارة وساراتوف وكازان وتفير. أصر لينين على إنشاء مجموعات اشتراكية ديمقراطية بحتة في القرى، تتألف من عمال المزارع والبروليتاريا الريفية. وبعدها فقط يمكنهم أن يسعوا إلى عقد اتفاقات للعمل المشترك مع المجموعات الديمقراطية الثورية الأخرى. لكن الشرط المسبق كان هو الحرص على عدم طمس الفرق بين العمال والفلاحين الملاكين الصغار.
يمكننا أن نرى وصفا مثيرا للاهتمام لعمل المحرضين البلاشفة في القرى في رواية شولوخوف الشهيرة "وبهدوء يجري الدون"، التي تصف كيف ينظم البلشفي ستوكمان مجموعة من القوزاق حول حلقة لقراءة الشعر ومحو الأمية: «بعد مرحلة غربلة واختبار طويلة، بدأت مجموعة صغيرة من القوزاق تجتمع بانتظام في ورشة ستوكمان. كان ستوكمان قلب وروح المجموعة وكان يعمل مباشرة في اتجاه الهدف الذي كان هو الوحيد الذي يفهمه تماما. كان يدخل في وعيهم البسيط مثلما تدخل الدودة في الخشب، غرس فيهم الاشمئزاز والكراهية تجاه النظام القائم. في البداية وجد نفسه في مواجهة مشاعر باردة من عدم الثقة، لكن ذلك لم يثبط عزيمته، فحتى تلك المشاعر يمكن هزمها».[1]
خلـَّـف ذلك الغليان، الذي كانت تعرفه القرى، تداعيات هامة داخل صفوف القوات المسلحة، والتي كانت تتكون في معظمها من الفلاحين. لكن، وكما يحدث في كثير من الأحيان في تاريخ الثورات، اندلعت الثورة لأول مرة في الأسطول، الذي هو أكثر انطباعا بالهوية البروليتارية. كان عمل الحزب بين الجنود والبحارة أكثر صعوبة من العمل بين الفلاحين. عشية ثورة 1905، كان الحزب يمتلك فقط ثلاث مجموعات منظمة داخل القوات المسلحة. لكن في مسار الثورة ارتفع هذا العدد إلى ما مجموعه 27 مجموعة.[2]
كان السبب المباشر لتمرد "بارجة بوتيمكين" هو رداءة الطعام، لكن السبب العميق وراءه كان هو السخط العام على سير الحرب وتراكم تناقضات لا تطاق على مدى عقود وأجيال.
لقد خلفت الهزائم العسكرية مزاجا حادا من الاستياء في صفوف الجنود، مما جعلهم أكثر تقبلا للتحريض الاشتراكي الديمقراطي. كان لخبر إبادة الأسطول الروسي في تسوشيما (14-15 ماي 1905) تأثير قوي جدا على قوات البحرية. وكما يحدث عادة أثناء تمرد قوات البحرية، كان الدور القيادي لضباط الصف، الذين يتم اختيارهم عادة من بين العناصر الأكثر قدرة وذكاء بين البحارة، والذين يخلق عندهم قربهم من الضباط الكبار ازدراء عميق الجذور لهؤلاء الأخيرين. صارت التوترات والصراعات، التي أثارتها غطرسة وعدم كفاءة الضباط الكبار، لا تطاق بشكل متزايد، خاصة عندما بدأت تتعلق بمسائل الحياة أو الموت في زمن الحرب. كان مثل هذا الصدام بين ضباط الصف والضباط الكبار هو بالضبط ما أدى إلى اندلاع التمرد الشهير على بارجة الأمير بوتيمكين تافريشيسكي، يوم 14 يونيو 1905، والذي خلده فيلم آيزنشتاين الكلاسيكي "بارجة بوتيمكين".
كان السبب المباشر للتمرد هو رداءة الطعام، لكن السبب العميق وراءه كان هو السخط العام على سير الحرب وتراكم تناقضات لا تطاق على مدى عقود وأجيال. رسى أسطول البحر الأسود في الميناء الجنوبي بأوديسا بالضبط عندما كانت تلك المدينة في قبضة إضراب عام. لم يكن في مقدور لا الانضباط العسكري ولا الرقابة البوليسية أن تمنع التحريض الثوري من الوصول إلى السفن الراسية على بعد بضعة أميال فقط. قبض طاقم المتمردين على جميع الضباط الكبار، باستثناء القائد وستة ضباط آخرين كانوا قد قتلو. انتخب البحارة لجنة من بين صفوفهم والتي أخذت مبادرة جريئة بالإبحار إلى أوديسا لطلب الدعم من العمال. وتجمع حشد كبير حول جثة البحار غريغوري فالولينشيك، الذي قتله أحد الضباط الكبار. اندلعت مظاهرة ضخمة وعقدت اجتماعات جماهيرية شارك فيها محرضون اشتراكيون ديمقراطيون. لقد أظهر ذلك كلا من الجانب القوي والجانب الضعيف للحركة العفوية والأولية للجماهير. كانت جميع العناصر متوفرة لأجل ربط الجيش بشكل حاسم مع الشعب الثوري، لكن وبسبب عدم وجود قيادة واعية، لم يكن في مقدور "الجمهورية العائمة" إلا أن تكون ذات طابع عرضي، لكنها مع ذلك كانت استباقا لالتحاق الجنود والبحارة بمعسكرالسوفييت في عام 1917.
أصابت هذه الأحداث سلطات أوديسا بالصدمة، واستمرت لفترة من الزمن لا تعرف ما يجب القيام به. في الواقع كانت السلطة بين أيدي العمال، لكنهم تصرفوا دون أي منظور واضح ودون سياسة عامة أو خطة شاملة. وفر ذلك للسلطات الوقت لتركيز قواتها ضد أوديسا. أرسلت قوة بحرية ضد بوتيمكين، لكن المتمردين نجحوا في الفرار إلى رومانيا. وتم قمع الثورة في أوديسا بوحشية. وبالتالي فشل تمرد بوتيمكين في أن يؤدي إلى الانتفاضة، رغم أن الوضع كان يحبل بها. لكن ذلك التمرد لم يمر دون أن يترك بصمته، فالحكومة التي أرعبها حجم الحركة الجماهيرية وعلامات التفكك الداخلي في صفوف القوات المسلحة، أعلنت عن إجراء انتخابات لمجلس الدوما (البرلمان). وبعد عشرة أيام تم إبرام سلام مع اليابان وفقا لشروط مذلة. من وجهة نظر عسكرية بحتة كان في مقدور روسيا، وعلى الرغم من نكساتها السابقة، أن تكسب من استمرار الحرب. كانت احتياطيات اليابان من الرجال والمال قد استنفدت تقريبا. لم تكن القوة العسكرية لليابان هي التي أدت إلى إبرام روسيا لاتفاق السلام، بل التهديد بالثورة في الداخل هو ما دفعها إلى ذلك. كان إيقاف الحرب بشكل سريع أساسيا للحفاظ على نظام الحكم المطلق.
هوامش:
[1] Sholokhov, And Quiet Flows the Don, p. 259.
[2] Istoriya KPSS, vol. 2, p. 90.
#آلان_وودز (هاشتاغ)
Alan_Woods#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف كان الحزب يمول نفسه - البلشفية طريق الثورة
-
الثورة الروسية الأولى - البلشفية طريق الثورة
-
لينين و-أعضاء اللجنة- - البلشفية طريق الثورة
-
البلشفية طريق الثورة - لجنة شيدلوفسكي
-
البلشفية طريق الثورة - الثورة بدأت
-
الأحد الدامي - البلشفية طريق الثورة
-
إضراب بوتيلوف - البلشفية طريق الثورة
-
البلشفية طريق الثورة - الأب غابون
-
الثورة الروسية الأولى -الزوباتوفية-
-
التاسع من يناير 1905 - البلشفية طريق الثورة
-
قطيعة تروتسكي مع المناشفة والانشقاقات في صفوف الأغلبية - الب
...
-
الحرب مع اليابان - الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروس
...
-
روزا لوكسمبورغ- البلشفية طريق الثورة
-
ارتباك في صفوف القواعد - البلشفية طريق الثورة
-
المعنى الحقيقي لانقسام 1903 - البلشفية طريق الثورة
-
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يخلق صدمة في كل أوربا
-
كتيّب «مدخل للماركسية»
-
ميلاد الحركة الماركسية الروسية - المؤتمر الثاني - البلشفية ط
...
-
البلشفية طريق الثورة - توترات في صفوف هيئة التحرير
-
2016: عالم على حافة الهاوية
المزيد.....
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|