|
آفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية في العالم العربي
إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)
الحوار المتمدن-العدد: 5390 - 2017 / 1 / 2 - 06:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
آفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية في العالم العربي
دراسة مهمة نشرها باللغة الإنجليزية مارك لينش، وهو باحث تتركّز أبحاثه على سياسات العالم العربي. وتعرض فيها للتجربة المغربية في متن مقاله نعرضها للقارئ باللغة العربية.
تُواجه الأحزاب الإسلامية العربية تحديات وفرصاً استثنائية في آن، غداة انتفاضات 2011. فبعد عقود من مواجهاتها مع الأنظمة الاستبدادية، يتعيّن عليها الآن خوض غمار سياقات محلية وإقليمية وداخلية إسلامية غاية في الجدّة. وعلى رغم أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر شهدت ظاهرة الصعود والسقوط المُذهلة، إلا أن تجربتها لم تتطابق مع تجارب أحزاب إسلامية أخرى كانت أكثر نجاحاً في التأقلم. إذ أن التغييرات التي اعتمدتها هذه الأحزاب، أصلحت ورمّمت هيكلتها، وإيديولوجيتها، وإستراتيجيتها بطريقة أربكت وناقضت التوقعات المديدة عن أفكارها وسلوكياتها. اتجاهات الأحزاب الإسلامية • كانت استعدادات الأحزاب الإسلامية هشّة في التعاطي مع الاستهلالات السياسية بعد الانتفاضات العربية في 2011، لكن العديد منها تأقلم مع تبعاتها بطرق براغماتية ومتنّوعة. • كان صعود وسقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر فاقع الأهمية عبر المنطقة، لكن تجربتها لم تكن مقياساً معيارياً بالمقارنة مع أحزاب إسلامية إقليمية أخرى. • واصلت الأحزاب الإسلامية المشاركة بنجاح في الانتخابات الديمقراطية، على رغم الضغوطات المحلية والإقليمية. • أسفرت التحديات للتماسك والتراتبية التنظيمية التي واجهتها العديد من الحركات الإسلامية، علاوة على فشل القادة المُسنين، عن بروز مجادلات داخلية حول القيادة، والإيديولوجية، والإستراتيجية. • تتواجه الأحزاب الإسلامية، التي فوضعت نفسها تقليدياً كبدائل عن المنظمات الجهادية العنيفة، مع تيارات إقليمية تتفاقم فيها النوازع الطائفية والتطرف بشكل مطّرد. خلاصات وتوصيات • يتعيّن الإطلالة على الأحزاب الإسلامية ليس بوصفها أطرافاً إيديولوجية محضة، بل كحركات سياسية عقلانية تتفاعل مع فرص وتحديات سياسية مميّزة في كلٍ من بلدانها. • ستواصل الأحزاب الإسلامية لعب دور مهم في سياسات معظم الدول العربية، على رغم الضغوطات التي واجهتها في غضون السنوات الأخيرة. • لأن الأحزاب الإسلامية تميل إلى التأقلم مع البيئة السياسية التي تعمل في إطارها، يجب على الأنظمة توفير فرص لاستمرار مشاركتها في السياسات الرسمية بدلاً من دفعها إلى العمل السرّي أو المقاومة العنيفة. • بالأجمال، وضعت الأحزاب الإسلامية نفسها كحركات وسطية، ووفّرت للمواطنين من ذوي الاتجاهات الإسلامية فرصة المشاركة في حياة سياسية غير عنيفة داخل التيار الرئيس السائد. وهي تربح عبر الدفاع بالتحديد عن هذا الموقع الوسطي، لا بالانسياق نحو المواقف المتطرفة التي تؤدي في خاتمة المطاف إلى تهميشها. • يفرض صعود الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً وباقي الحركات السلفية- الجهادية تحديات على الأحزاب السياسية، من خلال تقديم نموذج يبدو أكثر نجاحا. لكن، بسبب الحاجة إلى حاجز فعّال ضد التطرف، يمكن أن تُطلق النكسات العسكرية والسياسية التي تنزل حالياً بالدولة الإسلامية، فرصاً لإحياء البدائل السياسية الإسلامية المُنغرسة في التيار الرئيس. مقدّمة: ضرورات التحوُّل الجذري هزّت الانتفاضات السياسة العنيفة أركان الأحزاب السياسية في العالم العربي خلال السنوات الخمس الماضية. فبعد عقدٍ من المشاركة السياسية الصبورة، والتواصل مع الغرب، والتموضُع الحذر ضد تنظيم القاعدة، هرعت أحزاب سياسية عدة (كلها شطور من جماعة الإخوان المسلمين الأوسع) إلى التربُّع على مناصب في السلطة السياسية غداة الانتفاضات العربية في 2010-2011. كانت هذه الأحزاب حصدت انتصارات انتخابية في مصر وليبيا والمغرب وتونس، ولعبت أدواراً رئيسة في الائتلافات السياسية التي تشكّلت بمساندة غربية في سورية واليمن. بيد أن هذه الاستهلالات سرعان ما ارتكست. فحزب النهضة التونسي تنحّى عن السلطة في يناير 2014، في خضم اضطرابات سياسية؛ وإسلاميو ليبيا أبلوا بلاءً سيئاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في أواخر حزيران/يونيو 2014. والأكثر مدعاة للذهول، كان الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجيش المصري وأطاح فيه محمد مرسي، أحد قياديي جماعة الإخوان الذي انتّخِبَ رئيساً العام 2012، ما أشعل حملة قمع عنيفة ضد هذه الجماعة في طول المنطقة وعرضها. هذه الارتكاسات لم تقوّض المكاسب السياسية قصيرة العمر التي حققتها الأحزاب الإسلامية وحسب، بل عرقلت كذلك الاستراتيجيات التدرُجية التي حيكت بتأنٍ ودراية، ونالت من معتقدات إيديولوجية واستراتيجية عريقة، وأعادت تشكيل تضاريس الأحزاب الإسلامية. قُبيل الانتفاضات العربية، كانت معظم الأحزاب الإسلامية تطرح استراتيجيات سياسية، وهياكل تنظيمية ومواقف إيديولوجية، مُستقرة نسبياً ويمكن استقراء مسارها. بيد أن الاستهلالات السياسية للعام 2011 والارتكسات اللاحقة في السنوات التالية، فرضت متطلبات جديدة على هذه الحركات. فالمناورات المُتسرِّعة والجانحة، حلّت مكان الاستراتيجيات السياسية الحذرة بعيدة المدى، حين انبرى الإسلاميون لاقتناص الفرص الجديدة والرد على تحديات مُستجِدة. واليوم، تجد معظم الأحزاب الإسلامية نفسها تخوض غمار بيئة مجهولة المعالم، وتعاني من أشكال جديدة من قمع الدولة، والاستقطاب الاجتماعي، والمتاعب التنظيمية، والتنافسات الإقليمية، والعداء الدولي، والتنافس داخل صفوف الإسلاميين. لطالما اعتُبِرَ فشل الإخوان المسلمين في مصر مؤشِّراً على وجود حالة مَرَضِيَة أوسع لدى الأحزاب الإسلامية. وهكذا، فُسِّرَت اعتبارات، على غرار الخيارات البائسة والسلوكيات التنفيرية وفشل جماعة الإخوان في نهاية المطاف بعد 2011، بكونها ناشئة عن خاصيات هياكلها التنظيمية والإيديولوجية الإسلامية. لكن، في المقابل، انتهجت هيئات وطنية أخرى في جماعة الإخوان سلوكاً مغايراً تماماً إزاء التطورات السياسية الإقليمية الأخيرة، وكانت أوفر حظاً بالنجاح. وحتى في داخل مصر، برزت مقاربات غاية في التباين تبعاً لخطوط الانقسامات الإيديولوجية، أو الداعمات بين الأجيال، في داخل جماعة الإخوان نفسها. والحال أن سجل حقبة ما بعد انتفاضة 2011، لا يدعم الفرضية بأن الإسلاميين هم على وجه الخصوص لاعبون إيديولوجيون، أو بأن الغطاء انكشف عن كونهم غير قادرين أصلاً على الاشتراك في السياسات الديمقراطية. ثُمَ: لا تواجه كل الأحزاب الإسلامية آفاقاً قاتمة، لا بل وَجَدَ بعضُها خارج مصر فرصاً جديدة لترقية أجنداتها السياسية. لكن، ماذا لدى الطيف الكامل من التأقلم السياسي للأحزاب الإسلامية الرئيسة ليقوله عن أوضاعهم الراهنة وعن آفاق مستقبلهم السياسي المُحتمل؟ أفضل ما يُعلِّل المروحة الواسعة من المحصلات الأخيرة هو السياق السياسي، وليس الخصائص الكامنة في الإيديولوجية أو المنظّمة الإسلاميّين. إذ لدى هذه الأحزاب خيارات شكّلها وبلورها السياق السياسي المحلي، وحقق بعضها نتائج أفضل من الأخرى في شق عباب البيئات الجديدة. لا يتعيّن فهم خيارات الأحزاب الإسلامية على أنها محض تعبيرات عن إيديولوجيتها، بل كرد على الفرص والتحديات السياسية. ومثل هذه الخيارات تقودها غالباً، وبأكثر مما يتبدّى للعيان، التكتيكات بالدرجة الأولى وعلى نحو أقل التحولّات الإيديولوجية. وكما أوضح الزعيم النافذ لحزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، في مقابلة أغسطس 2016، انبثقت التغييرات في حزبه بثبات من السياقات السياسية. كان النهضة حركة إسلامية سريّة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تعمل على مقاومة النظام الاستبدادي، لكنها أصبحت حزباً سياسياً تقليدياً بعد ثورة 2011، حين بدأت تتنافس في إطار نظام ديمقراطي. ويمكن معاينة نمطٍ مشابه لدى العديد من الأحزاب السياسية في المنطقة، حيث كانت، ويحتمل أن تبقى، البراغماتية والحذر، وليس الإيديولوجية أو الحماسة الثورية المتَّقدة، هي المبادئ الهادية للأحزاب السياسية الإسلامية الرئيسة، طالما تُوفّر الأنظمة السياسية مثل هذه الفرص. جرى اختبار هذه البراغماتية بحدّة من قِبَلْ كلٍ من الفرص والتهديدات في البيئة الإقليمية الجديدة، وكان في الوسع تلمُّس تأثيراتها الأبرز في حظوظ جماعة الإخوان المصرية التي تحولّت ظروفها بعمق عبر ارتقائها سلم السُلطة، ثم عقب الانقلاب العسكري وقمع الدولة الذي تلاه. في البداية، حصدت الجماعة سلطة سياسية لا تُصدَّق، وانتقلت من الهامش إلى قلب المؤسسات السياسية، وألقت عنها رداء السرّية والحذر الذي لطالما دمغ سلوكياتها طيلة عقود. وهكذا، وجدت الجماعة نفسها تتنافس ليس مع الليبراليين والدولة العميقة وحسب، بل أيضاً مع السلفيين الأكثر إيديولوجية، مثل حزب النور الذي تحدى أوراق اعتمادها الإسلامية. بعد الانقلاب، خسرت جماعة الإخوان حضورها الجلي والقوي في المجتمع؛ ذلك الوجود الذي تطوّر على مدى عقود من خلال شبكات الخدمات الاجتماعية المُسهبة والتواجد العام الذي جرى التسامح معه. وعلى رغم أنه من الصعب على وجه اليقين معرفة كم من الشبكات التنظيمية والدعم الأساسي لا يزال سليماً وموفوراً، إلا أن قمع النظام لجهازها السياسي ومنظماتها غير الحكومية أجبرها على العمل السري مجددا. لكن، حتى لو لم تختف الشبكات الاجتماعية والشخصية، فقد وجدت الجماعة نفسها مضطرة إلى العمل في ظل قيود جديدة في منتهى القسوة. والآن، تبتلي هذه المنظمة المشهورة بانضباطها بصراعات علنية حول الصلاحيات التنظيمية والاستراتيجية والسياسية. تُعتبر التجربة المصرية، غالباً، نمطاً نموذجياً لمسار كل الأحزاب الإسلامية. لكن الأمر ليس على هذا النحو. فهذه الأخيرة انتهجت مسارات سياسية متباينة، ووفّرت صوراً مفيدة عن الأوضاع السياسية والمؤسسية الجديدة التي تعمل حالياً في إطارها غداة فشل الانتفاضات العربية. وهذا يتطلب إعادة النظر في الاستنتاجات الراسخة حول إيديولوجية هذه الأحزاب، وإستراتيجيتها، وتنظيمها. بكلمات أوضح، تمثّل تجربة جماعة الإخوان المصرية بالنسبة إلى الأحزاب الإسلامية درباً واحداً فقط، عبر مجموعة جديدة ومعقّدة من معطيات التجربة والخطأ. فجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، على سبيل المثال، واجهت شكلاً مماثلاً من القمع الاجتماعي والسياسي، وإن يكن أقل حدّة مما جرى في مصر. لكنها مع ذلك اختارت في أيلول/سبتمبر 2016 أن تخوض معمعة الانتخابات البرلمانية وأبلت فيها بلاءً حسنا. وفي تونس، أبرم حزب النهضة تحالفاً سياسياً مع أعتى منافسيه بعد أن تنحى طواعية عن السلطة. وفي المغرب، عثرت الأحزاب السياسية، على غرار حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، طريقة للعمل بفعالية ضمن بيئات سياسية مُتسامحة نوعاً ما، من خلال ممارسة استراتيجيات التقليص الذاتي للترشيحات الانتخابية، وطمأنة المنافسين، والفصل بين الحركة والحزب. وفي ليبيا وسورية، وضعت الأحزاب الإسلامية نفسها بين الجماعات العلمانية وبين الجهاديين في سياق نزاعات متعددة الأقطاب. وفي الكويت واليمن، تحمّلت الأحزاب السياسية، التي لطالما كانت جزءاً من التيارات الرئيسة في البلاد، فترة من الإقصاء، قبل أن تعود إلى الانغماس في حمئة اللعبة السياسية. وبالتالي، يتعيّن تحليل سلوكيات الأحزاب الإسلامية على قاعدة أنها ردود فعل براغماتية على ظروف سياسية شكّلتها ديناميكيات محلية وإقليمية وداخلية إسلامية. هذه البيئة الجديدة أثّرت على كل الأطراف السياسية وليس فقط على الإسلاميين. غالباً ما تُدرس الأحزاب الإسلامية بمعزل عن المجال السياسي الأوسع، ما قد يدفع إلى المبالغة في حجم قوتها أو بمناحي فشلها. لكن، في عالم عربي يمر في مرحلة انتقالية، تجهد كل الأطراف للعثور على أنماط فعّالة من العمل السياسي، واتخذت كلها أيضاً بشكل مذهل قرارات مخطئة. وهكذا، كانت الاضطرابات السياسية التي شكّلت السلوكيات الإسلامية، هي نفسها التي دفعت إلى بروز التيارات المتطرفة ضد الإسلاميين في الشرق الأوسط، بخاصة في بلدان المرحلة الانتقالية مثل مصر وتونس. مارست بعض الأحزاب الإسلامية سياسات أفضل بكثير من الآخرين في السياسات المضطربة للسنوات المنصرمة. بالطبع، ليس الهدف هنا التقليل من مدى تعقّد وشدة التحديات التي تواجه العديد من الأحزاب الإسلامية في حقبة ما بعد 2011 في الشرق الأوسط. فالقمع الإقليمي والمحلي فرض ضغوطات هائلة على أفرع جماعة الإخوان المسلمين في البلدان العربية الرئيسة، ونال من سمعة إيديولوجيتها، وسمّم حضورها في المجتمع. بات من الصعب اليوم في مصر والأردن تبيّن ملامح جماعة الإخوان: فهي مُنقسمة، ومُرتبكة، ومُجرّدة من معظم مواردها الراسخة في السلطة السياسية. ويبدو أن أفرعاً أخرى أكثر نجاحاً، في المغرب وتونس، تتحرّك بعيداً عن الأشكال التقليدية لمنظمات الحركات الإسلامية، كي تبقى أطرافاً سياسية فاعلة. لكن صعود نجم الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً قلب الاستراتيجية الإيديولوجية والسياسية للأحزاب الإسلامية الرئيسة، بعد أن بدت هذه الأخيرة بالنسبة إلى الشبان الإسلاميين الغاضبين والمعبئين حركات عفا عنها الزمن. وعلى رغم أن خسائر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية أخمد جاذبيته ومزّق صورته بكونه قوة لا يُشق لها غبار، إلا أن إنزال الهزيمة به لا يُحتمل أن يُبطل مفاعيل الأضرار التي لحقت بمبادئ الاعتدال واللاعنف. وقد واجهت بعض الأحزاب الإسلامية، إن لم يكن كلها، هذه الضغوطات، فيما كانت تنتصب في وجهها تحديات غير مسبوقة لمواردها وهياكلها التنظيمية الداخلية، ترافقت مع انقسامات جديدة واتساع فجوة شقوق الصدع القديمة. ويحدث كل ذلك في وقت بُتِرَ فيه رأس القيادة أو على الأقل وَهنَ وضعُف. سيكون من السابق لأوانه تماماً شطب الأحزاب والمنظمات الإسلامية. فجذورها المُنغرسة عميقاً في الأرض ومرونتها الحيوية حتى وهي تواجه نظاماً قمعياً استثنائيا، تشي بأنها ستواصل لعب دور حاسم في سياسات المنطقة، كما فعلت منذ عقود. وهذا على أي حال ما تؤكده الحقيقة بأن الأحزاب الإسلامية في الأردن والمغرب وتونس أبلت أداء انتخابياً حسناً خلال العامين المنصرمين. وحتى في البلدان التي كان عمل مثل هذه الأحزاب هو الأسوأ، كمصر، لا تزال شبكات وحركات حيوية ومهمة مرتبطة بجماعة الإخوان موجودة على الأرض. وعلى رغم أن آلافاً عدة من جماعة الإخوان المصرية مسجونون، أو منفيون، أو قتلى، إلا أنه يُستبعد أن تختفي ببساطة هذه المنظمة الضخمة والمُتجذرة. وتدل التجربة التاريخية أن جماعة الإخوان قادرة على التأقلم مع الصعوبات وتجديد نفسها. ثم أن الفشل المُحتمل لمنافسيها في تحقيق هيمنة سياسية أو في إيجاد أنظمة سياسية مستقرة، سيخلق لها منافذ واستهلالات جديدة. لكن السؤال هنا هو أي قسمات تنظيمية، وسياسية، وإيديولوجية ستُميِّز هذه الجماعة المتجددة، وهل ستكرر الأحزاب الإسلامية الجديدة الأنماط القديمة من السلوكيات؟ الأحزاب السياسية بعد الانتفاضات العربية قبل خمس سنوات، كان من العسير التكهّن بأن جماعة الإخوان في مصر وزميلاتها في كل أنحاء العالم العربي، ستكون على قدر الصعوبات التي انفجرت في وجهها اليوم. ما كان يبدو آنذاك هو أن الاستراتيجية السياسية والهيكلية التنظيمية والإيديولوجية للجماعة كانت مستقرة نسبياً ويمكن استشرافها، على رغم الجدل المتواصل الذي كان يحوم حول أهدافها النهائية وطبيعتها الحقيقية. لقد شاركت جماعة الإخوان بفعالية في الانتخابات البرلمانية العام 2005، وواجهت قمعاً متصاعداً في السنوات اللاحقة. وهذا ولَّد قدراً من التضامن مع مجموعات المعارضة غير الإسلامية. وفي الأردن، حافظت جبهة العمل الإسلامي- الذراع السياسي لجماعة الإخوان في البلاد- على موقع ثابت، وإن مُتنازع عليه، بوصفها مُعارضة موالية. وخاضت أحزاب مُتفرّعة من جماعة الإخوان الانتخابات في العراق، والكويت، والمغرب، واليمن. كما طرح مثقفون مرتبطون بالجماعة مجموعة متّسقة من الأفكار حول الديمقراطية واللاعنف، وغازلوا شركاء سياسيين في المنطقة. وبالمقارنة مع التطرف العنفي للقاعدة، كان في وسع جماعة الإخوان طرح فلسفة واستراتيجية ولغة مغايرة للغاية. والحال أن ثمة سمات أساسية ميّزت الحضور السياسي للأطراف المتفرعة من جماعة الإخوان في العقود التي سبقت الانتفاضات العربية، أبرزها: • أنها تمتعت بتراتبية وهيكلية تنظيمية مُحكمة، فرضت درجة عالية من التجانس والتساوق الإيديولوجي والسلوكي على أعضائها. • كان لديها حضور علني بارز، حتى حين كانت تُحظَر رسميا، وامتلكت شبكات خدمات اجتماعية واسعة ووجود سياسي وإعلامي نافذ. • تبنّت إيديولوجيا وسطية، حددت طبيعة ممارساتها السياسية وعقيدتها الدينية، واعتمدت على مرجعية مروحة من المفكرين والمثقفين. • شاركت في الانتخابات كلما سنحت لها الفرصة- من اتحادات الطلبة إلى الانتخابات الوطنية- وأبلت بلاء حسنا. • اعتنقت مبدأ اللاعنف، وميّزت نفسها عن القاعدة، مُطمِئَنة بذلك الحكومات الغربية، وحمت نفسها من قمع الدولة. • وفي حين أنها ساندت قضايا إقليمية كبرى، على غرار فلسطين، إلا أنها قبلت في الممارسة مفهوم الدولة- الأمة، ومحضت الأولوية للأهداف السياسية الوطنية على حساب التزاماتها العابرة للوطنيات. يمكن تلمّس التغييرات الأكثر عمقاً التي حدثت بعد 2011 في مصر، حيث تبخّرت كل هذه السمات الرئيسة. فلم يعد لجماعة الإخوان المصرية حضور علني قوي في المجتمع، أو شبكات خدمات اجتماعية واسعة النطاق. وتواجه منظمتها الآن معارضة داخلية، ويُثير أعضاؤها الشك حول مبدأ اللاعنف الذي تعتنق. وقيادتها المُبعثرة باتت أقل قدرة على ممارسة السيطرة على التنظيم. ثم أنه لم يعد بمقدور الإخوان خوض غمار التنافس الانتخابي. في بلدان أخرى، تأقلمت المنظمات الإسلامية بشكل مختلف مع هذه التحديات الجديدة. البعض منها حافظ على الأشكال المؤسسية والاستراتيجيات السياسية التي وُضعت قبل انتفاضات 2011، فيما عمدت منظمات أخرى إلى نبذ أو تغيير بعض القسمات الرئيسة لمحاولة الحفاظ على مواقعها السياسية والاجتماعية العامة. كذلك، تباينت الخيارات بين الجماعات الإسلامية: فبعضها نجا من القمع واختار العودة إلى الحياة السياسية، والبعض الآخر انخرط في السياسات ما بعد الإسلامية، من خلال السماح لنفسها بأن تُستتبع من قِبَل النظام. وهناك طرف ثالث خاض الحروب الأهلية، أو سعى إلى تبيان قيمته لأنظمة عربية. النجاة من القمع ومعاودة العمل السياسي واجه فرعان من جماعة الإخوان، في الكويت والأردن، ضغوطاً قوية من النظامين في بلادهما. وهما خَلُصا، بعد مقاطعة مُتكررة للانتخابات، إلى أن هذه الاستراتيجية لم تفعل شيئاً سوى زيادة تهميشهما، ولذلك قررا العودة إلى الحياة السياسية. في الأردن، كانت جبهة العمل الإسلامي لسنوات عدة في طليعة الحركات الإسلامية، من حيث المشاركة السياسية. وهي انخرطت في العديد من الانتخابات البرلمانية بعد العام 1989 حيث برزت بكونها الحزب المعارض الرئيس، لكنها قاطعت انتخابات أخرى بسبب شكاويها من تلاعب النظام بالقانون الانتخابي. بيد أن قرار مقاطعة الانتخابات العام 2013 قَسَمَ الحركة وسعى بعض قادتها إلى ممارسة دور أكثر مجابهة، في حين حث آخرون على الاصطفاف بشكل أوثق مع النظام. وقد استغلت الحكومة الأردنية هذه الشروخ داخل جماعة الإخوان الراسخة لدعم تأسيس منظمة إخوان جديدة، فيما كانت تُصادر أصول المنظمة القديمة وتُلغي وضعيتها القانونية. وفي حزيران/يوليو 2016، أعلنت جبهة العمل الإسلامي، على رغم الضغوط، أنها ستشارك في الانتخابات المقررة في أيلول/سبتمبر، مُنهية بذلك سنوات من المقاطعة الانتخابية. وهي أقدمت على هذه الخطوة من خلال طرح مرشحين في قوائم انتخابية متعددة، وحجّمت رسالتها السياسية كي تُقلّص من الشعارات الإسلامية لصالح تحالفات أوسع. وعلى رغم أن الإقبال على أقلام الاقتراع كان ضئيلاً، إلا أن جماعة الإخوان حصدت 16 مقعداً من أصل 130 في البرلمان. في الكويت، كان فرع الجماعة، الحركة الدستورية الإسلامية، يشارك منذ أمد بعيد في الانتخابات البرلمانية، ويتمتع بدور بارز في الحياة السياسية. لكن مؤخرا، بزّت الأحزاب السلفية الحركة في الطيف الإسلامي. كما ألحق تنامي الحكم الاستبدادي في البلاد وقمع جماعة الإخوان المسلمين في بلدان مجلس التعاون الخليجي خسائر إضافية بالحركة الدستورية الإسلامية، وحدّ من قدرتها على المشاركة السياسية، فقاطعت انتخابات عامي 2012 و2013. لكن الحركة أعلنت في مايو 2016 أنها قررت المشاركة في الدورة التالية من الانتخابات البرلمانية. وفي انتخابات 26 نوفمبر 2016، كان أداؤها جيداً وحصدت أربعة مقاعد من أصل خمسة، فيما فازت المعارضة الأوسع بنحو نصف المقاعد. برّر قادة الحركة العودة إلى المشاركة بتعابير واقعية وعملية، فقالوا أن المقاطعة سمحت للبرلمان بتبرير سلسلة من القوانين الارتكاسية، وباعدت الحركة عن المجتمع الكويتي. والحال أن الليونة الحيوية لهذه الحركة وقابليتها للتأقلم، كرّست حضورها كطرف طبيعي في النظام السياسي الكويتي، تماماً كما أن هذه العودة أكدت قدرة السياسات الكويتية على مقاومة الضغوط المُوجَّهة ضد جماعة الإخوان من الشركاء الأقوى في مجلس التعاون. اختارت جماعات إسلامية أخرى أن تنخرط في شكل من أشكال السياسات ما بعد الإسلامية، عبر السماح لنفسها بأن تُستتبع على يد الأنظمة. في المغرب، أدى حزب العدالة والتنمية هذا التوجّه بحماس، وبَزَغَ بنجاح في الحكومة عبر قبوله قيود النظام الملكي. وفي المقابل، تجنّب هذا الأخير القمع، ودعا الحزب إلى خوض الانتخابات، ثم سمح له بتشكيل حكومة بقيادة رئيسه عبد الإله بنكيران. لقد اختبر الحزب كلاً من منافع وتكاليف السلطة الحكومية، في نظام تُديره عملياً المَلكيَة، واستندت استراتيجيته، كما يقول الباحث محمد مصباح، على اللعب وفق قواعد الملكية، لَكن من دون الاصطفاف كليّاً مع القصر. وجد حزب العدالة والتنمية نفسه يتسنّم مسؤوليات جسام، لكن في الواقع من دون صلاحيات للقيام بأي شيء. صحيح أنه ربح فُرص محسوبيات مهمة، وتَجذَّرَ مؤسسياً في النظام السياسي، خاصة على المستويات المحلية، لكنه في المقابل خسر المصداقية بين القطاعات الإسلامية في المجتمع لصالح منافسته الإسلامية جماعة العدل والإصلاح. ومع ذلك، وعلى رغم كل الإثباط بسبب عدم تحقُّق أي تغيير سياسي حقيقي، كانت قيمة التوقُعية (القدرة على التكهن بالخطوات التالية) لدى الأحزاب الإسلامية واضحة للعيان، حيث اكتشف حزب العدالة والتنمية أنه من السهل نوعاً ما العمل في إطار نظام اعتاد عليه. وهكذا، اقتنص الحزب الفرص التي لم تفرض تحديات كبرى على النظام السياسي القائم، وآتت استراتيجيته السياسية أُكلها في أكتوبر 2016 حين فاز الحزب ثانية بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية (حصد 152 مقعداً مقابل 102 لمنافسه غير الإسلامي حزب الأصالة والمعاصرة) ودُعِي إلى تشكيل حكومة جديدة. وفي تونس كذلك، سعت المنظمة الإسلامية الأكبر، النهضة، إلى تحويل دورها، بعد تغيّر الظروف على إثر استلامها السلطة العام 2011. كان يجري باستمرار الإطلالة على مسارها بكونه أفضل من توجهات جماعة الإخوان المسلمين المصرية. ففي حين رفض الرئيس المصري السابق محمد مرسي أي تسويات أو حلول وسط، ما دفع الإخوان إلى هوة الكارثة، اشتق زعيم النهضة راشد الغنوسي طريقاً نحو الوفاق، ما أشرع الأبواب أمام تعزيز وتدعيم عملية الانتقال الديمقراطي الهشّة. لقد بدا أن قرار النهضة بالتخلي عن السلطة طوعاً في خضم الازمة السياسية، كان بمثابة تبكيت للرأي الذي يقول أنه حين يصل الإسلاميون إلى السلطة لن يتخلوا عنها أبداً بعد ذلك. أسفر سعي حزب النهضة لتحقيق التوافق إلى تحالف مفاجئ بينه وبين منافسه اللدود السابق نداء تونس، الذي وصل إلى السلطة عبر أجندة مناوئة بشدة للإسلاميين، وكان ثمرة ذلك قدرٌ من الاستقرار السياسي على حساب الدعوات إلى تغييرات سياسية أسرع. جاءت عمليات إعادة الاصطفاف التي قام بها حزب النهضة، رداً على وجه الخصوص على تهديدات سياسية وفرص محددة. إذ واجه الحزب، على رغم كل جهوده لطمـأنة التونسيين والانخراط في سياسة التوافق حين كان في السلطة خلال الفترة المُبكرّة التي تلت الثورة، حالة من الاستقطاب والشكوك كانت بالحدة نفسها تقريباً التي عاينتها جماعة الإخوان في مصر. صحيح أن الجيش والمؤسسة الأمنية في تونس لم تكونا قويتين ولامُتجذرتين كما في مصر، إلا أنه تعيّن على حزب النهضة أن يتعاطى مع مجتمع مدني غير إسلامي أقوى وجيّد المأسسة. ولهذا صوّت مؤتمر حزب النهضة في أيار/مايو 2016 لصالح فصل الحزب السياسي عن الحركة الاجتماعية، وهي خطوة حذت حذو تطورٍ مماثل في حزب العدالة والتنمية المغربي. وعلى رغم أن المضاعفات العملية لهذا الفصل لا تزال غامضة، لا يزال على النهضة خوض غمار انتخابات وفق هذا الترتيب الجديد. في الجزائر، توجّب على حركة مجتمع السلم، وهو حزب متفرّع من جماعة الإخوان المسلمين، العمل في بيئة شكّلتها بعمق الحرب الأهلية الدموية في حقبة التسعينيات. وقد انبثق موقف الحركة التصالحي مع النظام من صدمة الانقلاب العسكري الذي أعقب الانتصارات الانتخابية الإسلامية في أوائل التسعينيات، وما تلاه من انفجار النزاع. أيّدت الحركة، بوصفها الوجه المقبول للإسلام السياسي في ظل نظام مناوئ بعنف للإسلاميين، العملية السياسية التي قادها النظام، ووافقت على المشاركة في حكومات عدة. بيد أن الانتفاضات العربية عقّدت هذا التوجُّه من خلال تمكين أولئك المُصممين على زعزعة، إن لم يكن إطاحة، النظام السياسي الراكد الذي كانت الحركة وجدت لها في إطاره مطرحاً مريحا. وفي كانون الثاني/يناير 2015، تحرّك هذا الحزب لإعادة التموضع كلاعب أكثر استقلالية عشية عملية الانتقال الرئاسية المتوقعة.12 وهذا كان مؤشراً على وجود نيّة لخوض الانتخابات، في الوقت نفسه الذي تتواصل فيه الحركة مع المعارضة، على رغم أن هذه الأخيرة اعتبرتها مُوغلة في الاستتباع للنظام وليست حزباً معارضاً على الإطلاق. كل هذه الحالات تشي بأن الأحزاب المُتفرعة من جماعة الإخوان المسلمين تتأقلم مع البيئات السياسية الجديدة، من خلال مواصلة الالتزام باستراتيجية المشاركة الانتخابية. لكن هذه الأحزاب، وعلى عكس الحالة المصرية، نجت من الضغوط المُستجدة واقتنصت الفرص المتوافرة. هذه النجاحات يجب أن تُوزن وتُقارن بفشل جماعة الإخوان المصرية، حين يجري تقييم أداء الحركات الإسلامية ومستقبلها. القتال في الحرب الأهلية ثمة مسار ثالث انتهجته الجماعات الإسلامية خارج مصر، تمثّل في إعادة تعريف نفسها عبر الانخراط في النزاعات كجزء من ائتلافات أوسع. فهذه، مثلاً، جماعة الإخوان المسلمين السورية التي قامت بقسط وافر من عملية التنظيم المُبكر للانتفاضة السورية ولعبت، بفضل الدعم القطري والتركي لها، دوراً قيادياً في المجلس الوطني السوري وفي العديد من عمليات المعارضة السورية المُنطلقة من تركيا. لكن هذه الجماعة افتقدت إلى الحضور البارز داخل سورية، بفعل القمع العنيف الذي مارسه ضدها الرئيس حافظ الأسد آنذاك بعد اندلاع صراعها مع نظامه العام 1982. مع ذلك، ساعد الوجود الخارجي البارز الجماعة على الانخراط في الدبلوماسية الدولية المُحيطة بانتفاضة 2011. ومع تحوّل الاحتجاجات في سورية إلى تمرد مسلّح تقدّمت فيه الصفوف الجماعات الجهادية المُتشددة، وجدت الجماعة نفسها في موقف صعب. وهي جهدت للحفاظ على منحى إسلامي معتدل في بيئة تطغى عليها النزعة الجهادية أكثر من أي وقت مضى، حتى حين تبنّت الحركات الجهادية تكتيكات الجماعة الخاصة بتقديم الخدمات الاجتماعية والحكامة. وقد أفادت الجماعة من الاحتضان القطري والتركي لها، فيما كانت مُستهدفة من قبل حلفاء السعودية داخل منظمات المتمردين، بسبب عداء المملكة لمنظمات الإخوان.13 في ليبيا، كانت جماعة الإخوان في البلاد واحدة من أطراف عديدة التأم شملها في ائتلاف مُعارض فضفاض ضد معمر القذافي. وفي حقبة ما بعد القذافي، استخدمت الجماعة المساعدات المالية والإعلامية والعسكرية والسياسية التي قدمتها قطر وتركيا كي تقتطع لنفسها دوراً قويا. وفي حين أن الجماعة لم تبلِ بلاء حسناً في أول انتخابات ليبية، فقد باتت منخرطة بعمق في مراكز القوى الناشئة هناك. كما أنها أصبحت هدفاً رئيساً، وطرفاً، في المشهد السياسي الليبي الذي انقسم بشدة بعد سقوط القذافي، وجهدت للحفاظ على موقف سياسي واجتماعي مُتّسق، فيما هي عالقة بين مطرقة التيارات الجهادية الصاعدة وبين سندان الهجوم المناوئ للإسلاميين الذي تدعمه الإمارات العربية المتحدة ومصر. بيد أن بروز تهديد الدولة الإسلامية، سمح لها باستعادة بعض الجاذبية من خلال تموضعها داخل ائتلاف معارض وإلى جانب حكومة وفاق وطني مدعومة دوليا. بيد أن حالة الاستقطاب لاتزال حادة، وكذا الأمر بالنسبة إلى الشكوك بجماعة الإخوان في صفوف داعمي مجلس النواب الذي انتّخب العام 2014، وفي أوساط حركة الكرامة التي يتزعمها المشير خليفة حفتر. في المناطق الفلسطينية، وجدت حركة حماس، التي تنشط في سياقات مؤسسية مختلفة وتنطوي على تاريخ غاية في التباين في مجالي الحكامة والعنف، نفسها في مواجهة كل هذه التغييرات. فقد حدّت السياسات الإقليمية للغاية من قدرتها على الحكم في قطاع غزة، أو من تعبئة الدعم في أوساط المجتمع الفلسطيني الأوسع. وحتى خلال السنة التي حكمت فيها جماعة الإخوان مصر، لم تفعل القاهرة شيئاً للتخفيف من الحصار المفروض على القطاع. ومنذ الانقلاب، تعاون نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي على نحو وثيق مع إسرائيل لتعزيز الحصار حول غزة، وصنّف حماس جهارا، جنباً إلى جنب مع جماعة الإخوان، كعدو. علاوة على ذلك، أفرغت الحرب الأهلية السورية ما يّسمى محور المقاومة (الذي يضم إلى حماس، حزب الله وإيران وسورية) من مضامينه السياسية وكلّف حماس قاعدتها في دمشق. ثم جاء التقارب الصامت بين إسرائيل والعديد من الأنظمة العربية، والذي كان دافعه جزئياً تشاطر معارضة الاتفاقية النووية مع إيران التي قادتها الولايات المتحدة، ليفاقم الضغوط المالية والسياسية على حماس. وفي إبريل 2016 أعلنت الحركة، وكجزء من الجهود لتبنّي موقف جديد، قطع علاقاتها رسمياً مع جماعة الإخوان. تظهير قيمة القوى الإقليمية تبنّت الجماعات الإسلامية مساراً رابعاً، كمن في تجنُّب الضغط من خلال الانخراط في العمل لحساب قوى إقليمية. وهكذا، شارك حزب الإصلاح اليمني كلياً في الانتفاضة ضد نظام الرئيس علي عبد الله صالح في الفترة بين 2011- 2012، ثم وجد لنفسه لاحقاً موقعاً مريحاً داخل ائتلاف عسكري تقوده السعودية ضد المتمردين الحوثيين. كما تجنّب الحزب الحملة الخليجية الأوسع ضد الإسلاميين، من خلال تحويل نفسه إلى لاعب في الحروب الإقليمية بالواسطة، وتحرّك بليونة بين التحالفات في ساحة سياسية غاية في الاضطراب تتنازع فيها إيران والسعودية ودولة الإمارات. حزب الإصلاح نفسه هو ائتلاف واسع يضم ليس فقط جماعة الإخوان المسلمين، بل أيضاً شبكات سلفية وجهادية متطرفة، إلى جانب مجموعات غير إسلامية. وبعد أن نُحِّيَ جانباً خلال الاندفاعات الإقليمية ضد جماعة الإخوان، أعاد حزب الإصلاح بناء الجسور مع السعودية واحتّل موقعاً مركزياً في الائتلاف الذي تقوده هذه الأخيرة. في البحرين، وعلى عكس معظم دول مجلس التعاون الخليجي حيث مثّلت الأحزاب السياسية تهديداً سياسيا، تناغم فرع جماعة الإخوان، المنبر، بشكل مريح مع استراتيجية النظام الطائفية. فهو، بتعبئته الدعم السنّي للنظام ضد الغالبية الشيعية في البلاد، حوّل نفسه إلى طرف لا غنى عنه للملكية الهشّة، حتى في ذروة الحملات الإقليمية المناوئة للإسلاميين. وهذا الدور الطائفي وفّر له الحماية من الحملات الإقليمية، على رغم اعتماد البحرين الكبير على السعودية. هذا التنوُّع هذه التجارب يجب أن يكبح أي استنتاجات مبسّطة حول الأحزاب أو الحركات الإسلامية. فالإسلاميون سيواصلون المشاركة في الأنظمة السياسية كلما سنحت لهم الفرصة، بيد أنهم هدروا قدراً كبيرا من الرأسمال السياسي الذي راكموه خلال عقود من التواصل الاجتماعي وسياسات المعارضة. التجربة المصرية ورد فعل الإخوان تُعتبر تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر مركزية لمنظمات الإخوان في بقية أنحاء الشرق الأوسط. فالنجاحات والنكسات التي أصابت الجماعة المصرية، طرحت مروحة من الفرص والقيود الوطنية والإقليمية لجماعات الإخوان في بلدان أخرى. قبل الانتفاضات العربية، كانت جماعات الإخوان في المنطقة مستقلة، لكنها سعت بالإجمال إلى الحصول من القاهرة على التوجيه والدعم. بيد أن السقوط الصادم والمفاجئ للإخوان من السلطة في العام 2013، قَلَبَ هذه العلاقة الراسخة مع هذه المنظمات الوطنية التي انصبَّت خياراتها لاحقاً على سياقات تحددها التفاعلات المحلية والإقليمية والداخلية الإسلامية، أي على تفاعلات تنطوي على أحداث مصر ومضاعفاتها. المجال المحلي على المستوى المحلي، مزّقت الانتفاضات العربية أنماطاً سياسية راسخة مارستها بعض الأحزاب الإسلامية، أولاً من خلال فتحها مسارات إلى السلطة الحقيقية، ثم إغلاقها بالقوة. وكانت الاستهلالات السياسية الأولّية هي الأكثر إثارة لعدم الاستقرار للإسلاميين أكثر من لاحقاتها التي انطوت على القمع المألوف. لطالما عملت الأحزاب الإسلامية داخل المؤسسات السياسية التي قبلت إلا تصل فيها إلى السلطة. بيد أن إطاحة الرئيسين حسني مبارك وزين الدين بن علي أزال بقوة هذا الغطاء عن طموحاتها. فقد سمح اندفاع التعبئة الشعبية للمنظمات الوطنية في جماعة الإخوان بالفوز بسلطة غير مسبوقة في الانتخابات في مصر والمغرب وتونس. كما لعبت فروع الجماعة أيضاً أدواراً رئيسة في الائتلافات المُعارضة في ليبيا وسورية واليمن، وحظيت بدعم غربي كبير. فيما كانت منظمات الإخوان تتأقلم مع الظروف المحلية والإقليمية المتغيّرة، جاء الفشل الكارثي لجماعة الإخوان في تحقيق عملية الانتقال بنجاح، ليُلقي بظلاله الكثيفة على هذه الخطوة. فبعد سقوط مبارك، أفادت جماعة الإخوان بسرعة من الاعتراف القانوني غير المسبوق بها وأيضاً بدرجة من السلطة المؤسسية في خاتمة المطاف،17 لكنها واجهت ليس شكوك القوى غير الإسلامية والسلطة المتجذرة لجيش معادٍ لها بعنف وحسب، بل أيضاً تحدٍ سياسي جديد تمثّل في حركة سلفية مُطلقة العنان. إضافة إلى ذلك، أثار صعود جماعة الإخوان إلى السلطة عبر انتخابات برلمانية ورئاسية حركة ارتجاعية عنيفة. ذلك أن منظمة لطالما روّجت سمعة لها بأنها مستقيمة ونزيهة، وجدت نفسها فجأة موضع شكوك عميقة، وعزلة عن مجتمع أمضت عقوداً وهي تحاول تشكيله على صورتها. وفي غضون تسعة أشهر من انتخاب مرسي رئيسا، التأم شمل معظم أطراف الطبقة السياسية في إطار جبهة الخلاص الوطني التي تأسست في ديسمبر 2012، بهدف مُحدد هو دحرجة رأسه من السلطة. قلّة فقط قد ترفض الفكرة بأن جماعة الإخوان اتخذت قرارات بائسة خلال مرحلة الانتقال ما بعد 2011. لكنها في المقابل لم تكن الطرف الوحيد الناكث بالوعود وغير الكفء، ناهيك عن أنها ليست فريدة في فشلها السياسي خلال هذه الفترة المضطربة. كل طرف سياسي في مصر اتخذ قرارات كارثية في ذلك الوقت، مُستخدماً خطاباً يتعتعه التطرف العنيف ولاجئاً إلى العنف. ثم أن الجيش المصري حَكَمَ بشكل كارثي هو الآخر فبراير إلى يونيو 2012، فأغضب الطبقة السياسية، وسعى إلى احتكار السلطة، واستخدم القوة ضد المُحتجين. أما جبهة الخلاص الوطني، فهي تحرّكت مباشرة إلى المطالبة بإطاحة مرسي بدل السعي، أولاً، إلى تغيير سياسات الرئيس. بدورهم، أخطأ النشطاء مراراً في قراءة المناخ السياسي، ثم اصطفوا بشكل كارثي أيضاً إلى جانب الجيش في عملية الإطاحة بمرسي، مُمهدين بذلك الطريق أمام قمعهم وتهميشهم هم أنفسهم. لكل هذا سيكون أمراً مُضللاً تفسير الفشل الفريد لجماعة الإخوان، بالتركيز على استطلاع أمراضهم التنظيمية أو الإيديولوجية. فالبيئة السياسية في مصر آنذاك كانت غاطسة في حالة من الإبهام وعدم اليقين المؤسسي. وفي السنتين اللتين تلتا إطاحة مبارك، سعت الجماعة إلى التصالح مع الجيش الذي اعتبرته المنافس الأكثر قوة لها على السلطة، على حساب قطاعات الناشطين المُنقسمة على نفسها. وقد اختار بعض الناشطين أيضاً أن يحذو حذوهم العام 2013 ليحصدوا نتائج فاجعة مُماثلة. جرت الانتخابات الرئاسية الحاسمة في مايو- يونيو في غياب دستور جديد، ما عنى أن الناخبين والمرشحين على حد سواء لم يعرفوا أي صلاحيات سيقبض على ناصيتها الرئيس المُنتخب. كان القضاء قد حلّ البرلمان قبل فترة وجيزة من الانتخابات، الأمر الذي خلق فراغاً تشريعياً، في الوقت نفسه الذي كان يسعى فيه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهي الهيئة المُمثلة للجيش، للاحتفاظ بالسلطات الرئيسة. وقد ألقت مكائد أجهزة الأمن والمخابرات، جنباً إلى جنب مع مواقف هيئة القضاء، والخوف من التلاعب بالنتائج أو قَلبِها، بثقلها كاملاً على كل الحسابات. وكانت مخاوف مماثلة تقف وراء المناورة السياسية الرديئة التي قام بها مرسي، أي "تلقُّف السلطة" في 2012، والتي ادعى فيها امتلاك صلاحيات غير مقيّدة لإقرار دستور جديد من دون مراجعة قضائية، لأنه اعتبر المحاكم المصرية مُسيّسة بعمق. أسفر الانقلاب العسكري عن تمزيق جماعة الإخوان إلى درجة حوّل معها هذه المنظّمة إلى كيان سياسي مختلف تماما. فقيادة الجماعة عُطِّلَت بوجه الإجمال، وباتت المنظمة الآن منقسمة بين مراكز قوى عديدة داخل مصر وخارجها.- بيد أن قمع جماعة الإخوان لم يكن وحيد عصره، إذ أن منظمات الإخوان في مصر وسورية وتونس نجت هي الأخرى من حملات سياسة الأرض المحروقة في العقود المنصرمة، لكنها أطلّت برأسها ثانية لتلعب أدواراً رئيسة حين تغيّرت الأحوال. أما جماعة الإخوان الأردنية، فقد انقسمت وجُرِّدَت من ركائزها المؤسسية. وحين اصطدمت أفرع الجماعة القائمة منذ أمد طويل، بما في ذلك حركة حماس والجماعة الأردنية، بتصميم دول الخليج على تصنيف الإخوان في خانة المنظمات الإرهابية، أعلنت انفصالها عن المنظمة الأم. بيد أن البيئة السياسية لحقبة ما بعد الانقلاب في مصر، ذهبت أبعد بكثير من عملية قمع الدولة. ذلك أن الاستقطاب الذي شقّ الرأي العام حيال مسألة الإسلاموية، قوّض التموضع الدقيق لجماعة الإخوان، وبات من الصعب عليها احتلال موقع الوسط لأنه ببساطة لم يعد هناك وسط. ثم جاء الشعور العميق بالظلم الذي شعر به العديد من أعضاء الجماعة حيال الانقلاب وحملة القمع التي تلته لينسف القيمة المعيارية لاحتلال موقع الوسط. كما أن ما بدا أنه تحوّل من جانب الرأي العام المصري ضد الإخوان، فضّ في لحظة ما أمضت الجماعة عقوداً في بنائه، وأثار أسئلة استراتيجية وسياسية أكثر عمقا. يظهر أن الأحزاب الإسلامية تُنجز الأفضل حين تنشط في إطار قواعد مؤسسية مُحددة، هذا على رغم أن بعض الأفرع الوطنية أثبتت أنها تكون أكثر ليونة من الآخرين حين تتغيّر قواعد اللعبة فجأة. وهنا تتطلّب استراتيجيات ضبط الذات، كتلك التي مارستها النهضة بتوجيه من راشد الغنوشي، تنازلات أكبر مما قد تُمليه موازين القوى الموضوعية. إذ حتى جهود التطمين الواضحة والمتّسقة، تُواجه مقاومة من المخاوف- التي لطالما أذكى نيرانها إعلام النظام والدعاوي المعادية- التي يثيرها الإسلاميون لدى الآخرين حول نواياهم الحقيقية والنهائية. القادة الأذكياء قبلوا الفكرة بأن الحركات الإسلامية تواجه عبئا أثقل، في مجال تقديم إثباتات إلى الجمهور غير الإسلامي في الداخل والخارج، وهم يسعون إلى الطمأنة وليس إلى الإصرار على سرديات الاضطهاد والشهادة. بيد أن هذا لا يعني هجر الآمال بالوصول إلى السلطة أو تحقيق المصالح الذاتية. علاوة على ذلك، يمكن لاستراتيجيات الطمأنة والتعاون أن تؤمّن غالباً المصالح الحزبية بفعالية أكثر من استراتيجيات التطرف ورفض التسويات. والحال أن الأحزاب الإسلامية لها باع مديد في ممارسة النفس الطويل، وستجد من الأسهل عليها، وعلى الأرجح أكثر بكثير مما يتوقع الكثيرون، أن تتأقلم مع الظروف المُعادية في مرحلة مابعد الانتفاضات في البلدان العربية. الحَلَبَة الإقليمية باتت جماعة الإخوان المسلمين أيضاً مُقحمةٌ في سياسات القوة الإقليمية أكثر من حقبات سابقة، وتنحو منظماتها لأن تكون عابرة أكثر للوطنيات، ومُعتمدة أكثر على رعاة الدولة، وأيضاً أكثر تأثراً بالأحداث الخارجية. وتبعاً لذلك، أصبح من المُتعذَّر فهم تطور كل فرع وطني من الإخوان بمعزل عن البيئة الإقليمية المُتحوِّلة. طيلة سنوات عدة بعد العام 2011، كانت جماعة الإخوان عالقة في أتون الحرب الأهلية الناشبة بين قطر وتركيا، من جهة، وبين السعودية ودولة الإمارات، من جهة ثانية. وقد وفّر الدعم القطري والتركي لشبكات الإخوان مدخلاً إلى الموارد المالية والإعلامية الحيوية والضرورية خلال مراحل الانتقال، لكنه تركها على نحو مطرد فريسة الانطباع بأنها تخدم أجندة خارجية. أما السعودية والإمارات، فقد عبّأت القوى المناوئة للإسلاميين في مصر وليبيا وتونس، وتزعمت بعد الانقلاب المصري جهداً عالمياً لوَسم جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية. وقد نما هذا التجمع الإقليمي الأخير في السنوات الأخيرة، عقب انحسار التوتر بين قطر والسعودية بفعل تصاعد التركيز على إيران والصراعات الطائفية. والحال أن الانتفاضات العربية نقلت اهتمامات جماعة الإخوان من البعد الوطني إلى الأبعاد الإقليمية بطرق عدة. فالانقلاب المصري، بسحقه قيادة جماعة الإخوان ودفع الكثير من قادتها إلى المنفى، جعل المنظمة عابرة للوطنيات بشكل لم يسبق له مثيل منذ الخمسينيات. وهذا ولَّدَ قيادة خارجية أقل انغراساً عضوياً في سياسات البلاد وثقافتها، الأمر الذي كان له تأثير كبير على أفرع الجماعة في كل مكان. وبالمثل، فعّل الدعم الإقليمي للانتفاضة السورية الشبكات العابرة للوطنيات التابعة للإسلاميين الناشطين في سورية والإقليم للعمل على جلب التمويل ودعم قضية المتمردين السوريين، فيما كانت تعمل في الوقت عينه على ترقية حظوظها السياسية في بلادها. لم يجر تقدير المضاعفات المباشرة وغير المباشرة لتطور المنظور العابر للوطنيات لدى الجماعة حق قدره. والانقلاب المصري مَثَلٌ فاقع على ذلك، حيث أدى نجاحه إلى تشجيع القوى المناوئة للإسلاميين وزرع الرعب في قلوب الإسلاميين في بلدان أخر مثل ليبيا وتونس. والأرجح أن هذه الحصيلة المصرية هي التي دفعت حزب النهضة إلى أحضان موقف أكثر حَذَراً، يستند إلى التقليل من قيمة الإيديولوجية لصالح إدماج الجميع. وعلى نحو مماثل، لا يمكن فصل أزمة الإخوان المسلمين في الأردن عن أزمة الإخوان في مصر.22 كذلك، خطا حزب العدالة والتنمية المغربي بعد الانقلاب المصري خطوات عدة نحو المصالحة، تضمنت في ما تضمنت التنازل عن وزارات رئيسة إلى أحزاب موالية للنظام. أما في الكويت، فقد وجدت الحركة الدستورية الإسلامية وشخصيات إسلامية تحظى بشعبية، على غرار طارق السويدان، أنفسهم في وضع مأزوم بعد دعم النظام الكويتي للانقلاب، خاصة حين نتذكّر المساندة القوية التي أبدوها لجماعة الإخوان في مصر. في المقابل، جذبت الاستراتيجيات الناجحة الانتباه أيضاً بوصفها مصدر تقليد. وهكذا، درس إسلاميو تونس بعناية إنجازات حزب العدالة والتنمية المغربي، وكذا فعل بعض المصريين. وكما قال عزت نمر، عضو جماعة الإخوان المصرية، بدهشة:" لماذا يحصد حزب العدالة والتنمية النجاح، فيما الأطراف الأخرى في الإسلام السياسي تقطف الفشل؟ كيف استطاع هذا الحزب بعد مكوثه أربع سنوات في السلطة أن يحافظ على شعبيته؟ وهو أجاب على هذين السؤالين بأن حدد بؤرة جاذبية الحزب في تركيزه على الانتخابات البلدية التي سمحت للحزب بتحقيق أداء قوي، من دون تحدي النظام السياسي الوطني. هذا النوع من التثاقف والتعلُّم من تجربة الأحزاب الإسلامية الأخرى، كان نمطياً ونموذجياً أكثر من أي سيطرة تنظيمية مباشرة عابرة للوطنيات. فأعضاء جماعة الإخوان الأردنية، على سبيل المثال، كانوا يبحثون عن إلهام، ويشتاقون أن يكون لهم "غنوشهم" الخاص، أي زعيم قوي قادر على قيادة دفّة المنظمة في بيئة مضطربة. وجماعة الإخوان السورية تعلّمت من قدرة شقيقتها الليبية على الاندماج في معارضة مسلّحة يدعمها الغرب. وقد سهّلت الاتصالات الشخصية والتنظيمية هذا التعلُّم، كما سهلتها أيضاً التغطية الصحافية، والنقاشات على شبكات الانترنت المشتركة، ومنابر البث الإعلامي التي تربط مابين إسلاميي التيار الرئيس السائد عبر المنطقة. ترك الإعلام العربي العابر للقارات بصماته أيضاً على البيئة السياسية الأعرض التي تعمل هذه الأحزاب في إطارها. والواقع أن الإعلام بلور بنشاط كلاً من المواقف الإقليمية الإيجابية والسلبية إزاء جماعة الإخوان. فالمنافذ الإعلامية التي تُسيطر عليها السعودية والإمارات وحلفاؤهما، نددت وأقذعت بهذه الأحزاب باستمرار، ما فاقم ظاهرة الاستقطاب والشيطنة التي أضرّت كثيراً بسمعتها الشعبية. ولعب الإعلام الموالي للإخوان، على غرار فضائية "الجزيرة مباشر مصر" دوراً تقسيمياً مماثلاً، لكن هذه المرة عبر ترقية سردية تركّز على فضائل الإسلاميين وشرور خصومهم. كما كانت وسائط الإعلام التابعة لجماعة الإخوان المصرية التي تبث من تركيا مثيرة للجدل هي الأخرى، حتى أحتّج حتى بعض أعضاء الجماعة من أنها غاية في التحريض والتطرف العقيدي حين كانت تدعو إلى العمل الثوري. بيد أن آخرين أطلّوا على هذه المنافذ الإعلامية بوصفها عاملاً لازباً في السلوكيات السياسية، في ضوء التقييد الذي تفرضه ظروف القمع على حدود التعبئة. عدا الخليج، كانت سياسة تركيا عاملاً حاسماً في هذه الديناميات الإقليمية. فقد دعم رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء ثم رئيس الجمهورية التركي، جماعة الإخوان بطريقة جوهرية وعبر مجالات شتى. إذ هو احتضن لاجئي الإخوان الهاربين من مصر، وتبنّى إعلامه موقفاً نقدياً حاداً ضد الانقلاب المصري، وروّج بحماس لسردية الشهادة التي أحاطت بمجزرة 14 أغسطس 2013 في مسجد رابعة العدوية. علاوة على ذلك، عملت تركيا عن كثب مع جماعة الإخوان في داخل دوائر المعارضة السورية. لكن كان يمكن لمحاولة الانقلاب التركية في يوليو 2016 أن تؤدي إلى تقويض عميق لشبكات الإخوان المسلمين ولاستراتيجيات أردوغان لو نجحت في إطاحة هذا الأخير. وفي حين أن أردوغان استعاد زمام السيطرة، إلا أن نجاته بشق النفس أبرزت نقاط ضعف حركة تقودها على نحو مطرد قيادة من الخارج، وتعتمد على رعاة أجانب متقلبين. الحلبة الداخلية الإسلامية لم تحظَ تداعيات التغيرّات الدراماتيكية خلال السنوات الخمس الماضية على أحزاب التيارات الرئيسة الإسلامية، في مجال السياسات داخل الصف الإسلامي، بالاهتمام الكافي. فقد بدا بعد الانتفاضات العربية أن المقاربة السياسية لجماعة الإخوان قد سُوِّغَت وبُرّرت على حساب رفض تنظيم القاعدة التغيير الديمقراطي. لكن غداة الانقلاب المصري وصعود نجم الدولة الإسلامية، انقلبت هذه السردية، حول كلٍ من مزايا المشاركة السياسية الديمقراطية والتنديد بفكرة الجهادية، رأساً على عقب. فقد كان للانقلاب المصري مضاعفات مدمّرة على استراتيجية إدماج الجميع الديمقراطية. وفي المقابل، عزّزت الحرب الأهلية السورية التوجهات السلفية الطائفية المتطرفة والجهادية السلفية، على حساب براغماتية الإخوان التقليدية الحذرة. وهكذا، غيرّ صعود الدولة الإسلامية وفشل السياسات الديمقراطية من طبيعة البيئة التي يعمل فيها الإخوان. فبعد سنة واحدة من بروز الدولة الإسلامية، جادل الباحث المصري خليل العناني أن "الدولة الإسلامية تغتنم اللحظة الراهنة لتطرح نفسها كنموذج للشبان المسلمين في كل العالم، وتدفعهم إلى تبنّي إيديولوجيتها وتقليد تكتيكاتها واستراتيجيتها. هذا المسعى لفرض الهيمنة الإيديولوجية تغذّى إلى حد بعيد من النجاحات العسكرية والسياسية المُذهلة لتنظيم الدولة الإسلامية، على رغم أن النكسات العسكرية منذ ذلك الحين في العراق بهَّت من جاذبيته. بيد أن تنظيم الدولة الإسلامية ليس إلا واحد من بين العديد من الجماعات الجهادية العنيفة التي تنشط الآن في أنحاء العالم العربي، وتسعى إلى تجنيد مقاتلين من صفوف الشبان الإسلاميين الساخطين. لقد بدا أن الحرب على الإرهاب ضد تنظيم القاعدة غداة هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة ستكون سهلة ويمكن التكهن بأبعادها، مقارنة مع المشهد الراهن المعقّد. لكن، خلال السنوات الثلاث الماضية، لم نشهد صعود الجماعات السلفية- الجهادية وقمع الآمال الديمقراطية وحسب، بل أيضاً بروز شكل جديد من التعبئة الطائفية والعامة العاتية والفتاكة دعماً للانتفاضة السورية. إضافة إلى ذلك، بدت البيانات السابقة للإخوان حول المشاركة السياسية واللاعنف عجيبة وغريبة، في وقت تعثرت وسقطت فيه عمليات الانتقال الديمقراطي. وفي نزاعات، مثل ذلك الذي يجري في سورية على وجه الخصوص، مالت آراء التيار الرئيسي العربي، جزئياً على الأقل، لصالح الصراع المسلح، خاصة حين يجري تحديده في إطار سياقات طائفية. وفي هذه الأثناء، وفّرت الحاجة المُلحّة والعاجلة لمقارعة جاذبية الدولة الإسلامية فرصاً جديدة للأحزاب الإسلامية كي تطرح نفسها مجدداً كحواجز مفيدة في وجه الحركات المتطرفة. لكن، بدل أن تتموضع جماعة الإخوان بوصفها تجسيداً قوياً للتيار الرئيس الناجح في السياسات الإسلامية، تنحو إلى التناطح مع منافسين إسلاميين متطرفين من موقع معتدل غير فعّال وعاجز. ومثل هذا الضعف يثير تساؤلات عميقة حول قدرة جماعة الإخوان على اجتذاب أعضاء جدد، أو حتى الحفاظ على أعضائها الحاليين. وإذا لم يكن بمقدور الجماعة استقطاب أعضاء جدد، أو إذا كانت عاجزة عن فعل ذلك إلا عبر اللجوء إلى العنف، فهذا سيجعل من الصعب عليها تجديد نفسها حين تتغيّر الظروف. تعي الجماعات الجهادية تماماً التحديات التي تواجه جماعة الإخوان. فقبل وقت غير طويل، خصّص تنظيم الدولة الإسلامية غلاف مجلته الالكترونية دابق لإدانة "كفر" الإخوان. وهذا يمكن أن يكون قد ظهر أيضا خلال السنوات المنصرمة في أي مطبوعة تصدرها القاعدة. وفي حين أن ردود الفعل كهذه يجب أن تفتح أفاقاً جديدة أمام الجماعة لاستعادة موقعها في التيار العام، إلا أن فشل المشاركة السياسية الديمقراطية قوّض بعمق موقفها إزاء الدولة الإسلامية. ففي الأردن، على سبيل المثال، أجبر الغضب الوطني على إحراق الدولة الإسلامية للطيار الأسير معاز الكساسبة جماعة الإخوان على اتخاذ موقف دفاعي غير معتاد، حيث علقت بين النظام وبين أولئك الذين يتعاطفون مع الجهاديين. وقد سقطت حجج زعيم جبهة العمل الإسلامي آنذاك زكي بني أرشيد بأن جاذبية الدولة الإسلامية تُبرز وتُعزز أهمية "البديل المعتدل" للإخوان على آذان صماء، في خضم التعبئة الجهادية- السلفية وحملات النظام المتواصلة ضد الإسلاميين. بيد أن الجماعة هرعت ثانية إلى إدانة اغتيال الوطني الأردني ناهض حتر في سبتمبر 2016 على يد سلفي لقيامه بنشر رسماً كاريكاتورياً في صفحته على فايسبوك اعتّبر إهانة للإسلام. هذا الإصرار يفصح عن الأهمية التي تعلّقها جماعة الإخوان على أن تبدو قوة إسلامية معتدلة ومعارضة موالية من داخل الطيف الأردني. أدى النزاع السوري، بالمثل، إلى تغيير مركز السياسات الإسلامية. فقد صَدَمَ خطاب محمد مرسي في يونيو 2013، الذي أيّد فيه الجهاد في سورية، العديد من المصريين الذين وصفوه بأنه افتراق جذري عن بياناته السابقة. لكن الواقع أن موقف مرسي لم يكُ انتقالاً إلى التطرُّف، بل محاولة تأقلم مع التوجهات الجديدة في الخطاب الإسلامي، خاصة في منطقة الخليج. فخلال النصف الأول من العام 2013، أصبح جمع الأموال والتعبئة العامة لصالح المتمردين السوريين أكثر طائفية وتشدّدا، تنافست في خضمهما شخصيات عامة إسلامية عبر الخليج لإطلاق أعتى المناشدات الدينية لدعم ما وصفته بـ"الجهاد السوري". في ذلك الوقت، وقع خصوم نظام بشار الأسد تحت هيمنة مروحة واسعة من الفصائل الجهادية- السلفية عدا الدولة الإسلامية (التي تأسست رسمياً في إبريل 2013)، من فرع القاعدة المُسمى جبهة النصرة (أصبحت الآن جبهة فتح الشام) إلى مجموعات قوية على غرار أحرار الشام. كل هذه المجموعات تمتعت بدعم قوي من القوى الإقليمية. وهكذا، محت الحرب في سورية التمايزات بين الجماعات الإسلامية، ودفعت مركز السياسات الإسلامية نحو تحبيذ العنف. وفي هذا السياق، جاء خطاب مرسي المشؤوم في يونيو 2013 متأخراً عن مستوى خطاب إسلاميي الخليج، الأمر الذي لم يعكس تطرفاً جديداً لدى الإخوان بقدر ما عبّر عن تجذُّر وتشدد المجال العام الإسلامي. كانت لعملية التجذّر العام في السياسات الإسلامية في المنطقة في غضون السنوات الماضية، مضاعفات عميقة على الحركات والأحزاب التي تطمح إلى احتلال مواقع وسطي. فقد تابعت معظم الأحزاب الإسلامية التموضع كبدائل لاعنفية عن المنظمات الجهادية- السلفية. وهذا التموضع أثبت كلياً أنه مفيد سياسيا مع كل من الرأي العام وداخل المنظمات نفسها. لكن، إذا ما فشل هذا الاعتدال المُعلن في تحقيق مكاسب سياسية، فقد تقع المنظمات فريسة الإغراء بالتحوّل نحو مواقع وسطى أكثر تطرفاً وطائفية. تطوّر الأحزاب الإسلامية أثبتت الأحزاب الإسلامية، مثلها مثل الأحزاب الأخرى، أنها تتأقلم مع السياقات السياسية والمؤسسية بفعالية في بعض الأحيان وبأقل فعالية في أحيان أخرى. يقول هنا عضو الجماعة حازم سعيد:" شعار جماعة الإخوان هو "وأعدوا". ولذا يجب أن نكون مستعدين لأن الظروف قد تتغيّر". مثل هذه الدعوات إلى المرونة لا تستطيع أن تصرف الأنظار عن الحقيقة بأن ثمة عاملاً إيديولوجياً واضحاً في الفكر السياسي للجماعة وفي ممارساتها تغرسه المنظمة في أذهان أعضائها، ويخترق كلاً من الخطاب العلني والأحاديث في المجالس الخاصة. مع ذلك، ليس ثمة سبب يدعو إلى الاعتقاد أن الإسلاميين يبدون مُغرقين في الإيديولوجية حين يقارَنون بقوى سياسية أخرى. صحيح أن أفكار الإسلاميين تُحدّد أهداف وهويات المنظمات الإسلامية، إلا أن الاستتباعات المحددة لهذه الأفكار قد جرى تحدّيها بكثافة عالية في السنوات الأخيرة من قِبَل كلٍ من ناقدين خارجيين وأعضاء في الداخل. لا بل يميل السلوك السياسي الإسلامي إلى تبيان وجود قدر كبير من الليونة الاستراتيجية وليس إلى شكل أحادي وجامد من السياسات. صيغ تأقلم الجماعة مع الحقائق المحلية في مبدأ الوسطية
وهدفت هذه المقاربة إلى إفساح المجال أمام الإخوان للامساك بناصية التيار الرئيس في الأحزاب الإسلامية (ولكن ليس التيار الرئيس في المجال المجتمعي الأوسع). وقد أملت الوسطية تبنّي استراتيجية صبورة وطويلة الأمد لتحقيق التحوّل الاجتماعي غير المشاركة السياسية، والجهود لإعادة تشكيل الثقافة، والتطور التنظيمي. مثل هذا التشكّل الخاص للأفكار ولّدته سلسلة من الفترات المفصلية الحاسمة التي أفرزتها مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي في حقبة السادات، وبروز منافسين عنيفين. وكل هذا شجّع الإخوان على تبنّي قواعد المشاركة السياسية والتدرجيّة. تمكّنت هذه الأفكار من الصمود داخلياً لأنها بدت ناجحة كإطار عام سياسي وإيديولوجي في العقد الذي سبق الانتفاضات العربية. وهي موضعت الإسلاموية في داخل التيار العام السياسي الوسطي الذي استولى على قضايا شعبية كفلسطين، ومعارضة الاحتلال الأميركي للعراق، والمطالب الديمقراطية. ولأن هذه الوسطية كانت في آن حَدِبَة على صورة المنظمة عن نفسها وفعّالة سياسيا، كان في وسع قادة الجماعة خلق التماسك بين مختلف تلاوينها الداخلية الدينية والسياسية، من دون الحاجة إلى اتخاذ قرارات صعبة. والآن، يبدو من المحتّم أن يدفع السياق الإقليمي الراهن، خاصة منه التطورات في مصر، الأحزاب الإسلامية بعيداً عن مسارات المشاركة واللاعنف. فمنذ الانقلاب، استغرقت جماعة الإخوان في جهود وجودية تبنّت خلالها كلٌ من المنظمة والنظام مواقف عاتية ورافضة للحلول الوسط. وفهمُ هذا الأمر لا يتطلب قدراً من الإيديولوجية أو الميزات التنظيمية الفريدة لفهمه، إذ أن تبنّي بعض الشبان الإسلاميين للمقاومة المسلحة، هو بالتحديد ما يمكن توقّعه بعد مجزرة رابعة العدوية وموجة القمع الكاسح التي تلتها. يمكن لبعض الوقت توجيه هذا الغضب نحو احتجاجات متواصلة للحفاظ على المعنويات الداخلية وتوفير مخارج للأعضاء الساخطين. لكن حين تفشل هذه المقاربة في توليد الدعم الشعبي أو تحقيق مكاسب سياسية، تُصبح الدعوات إلى عمل أكثر جذرية وعنفاً آسرة أكثر. في المقابل، ثمة مناحٍ إقليمية أخرى تدفع الأحزاب الإسلامية قُدُمَاً نحو توجهات المشاركة. فكما رأينا، البدائل المحتملة عديدة. لكن، فيما تتدارس هذه الأحزاب خياراتها، تنتصب أربعة مجالات كانت تتطور وتتأقلم هذه الأخيرة في سياقاتها وهي: الترابط والتماسك التنظيميان، والعلاقة بين الحزب والحركة، والمشاركة الديمقراطية، واستخدام العنف. الترابط والتمسك التنظيميان لطالما اشتهرت جماعة الإخوان في مصر بتنظيمها الداخلي المُتقن. ويكمن جوهر النجاح التنظيمي للإخوان في الهيكلية التفصيلية المُسهبة للخلية، والمستوى الرفيع من الاندماج الاجتماعي، ما حصّن الحركة إلى حد ما ضد قمع الدولة. وقد اعتمدت المنظمة على هرمية جامدة لنقل التعليمات من القيادة إلى القاعدة، فيما كانت تُجري انتخابات دورية منتظمة لتوفير قدر من المساءلة للأعضاء. هذه الهيكلية المُميّزة تقف وراء التعبئة السياسية الناجحة، حيث سمح التنظيم الداخلي للإخوان ببروز وتيرة مرتفعة للغاية من تلقين وترسيخ العقائد، والإشراف والرقابة، والانضباط الداخلي. وحين كان يزف أوان إدارة الحملات الانتخابية أو خوض حروب شوارع، كان في وسع الجماعة أن تفعّل بسرعة وفعالية أعداداً كبيرة من الأنصار للعمل بوتيرة منسّقة. عُرِفَ عن جماعة الإخوان على نحو خاص بأنها متماسكة ومترابطة تنظيمياً وقادرة على تجنُّب الانشطارات الكبيرة. أما حوادث الانشقاق الداخلي- مثل تشكيل حزب الوسط الذي انبثق من صدع في الجماعة العام 1996، أو تأديب أعضاء شبان مُدوّنين في أواخر العقد الأخير لتحديهم القيادة الرسمية من خلال طرح المناقشات الداخلية علنا- فلم تؤثّر في خاتمة المطاف سوى على أقلية صغيرة من الأعضاء. كما أن حفنة الاستقالات، حتى من شخصيات معروفة، لم يكن لها سوى تأثير ضئيل على منظمة بهكذا حجم ضخم. بيد أن الفترة التي سبقت مباشرة الانتفاضات العربية شهدت مناكفات عنيفة وغير عادية، خاصة بعد أن أسفرت انتخابات الإخوان في 2009-2010 عن تركيز السلطة في يد فصيل محافظ، وإبعاد كبار القادة الإصلاحيين. ألحقت حملة القمع المصرية أضراراً بالغة بالقدرات التنظيمية لجماعة الإخوان. فقد أُلقي بالآلاف في غياهب السجون، وتم فرض حظر قانوني على 500 منظمة غير حكومية مُرتبطة بالجماعة، وصودرت أصول الأعضاء القياديين، ومُحِقَ حضورها العلني، وشُلّت خطوط اتصالاتها الداخلية. لم يعد في مقدور قيادة الجماعة ممارسة سيطرة فعّالة، في ضوء ردود الفعل الحادة للكوادر الشابة وعمليات التحريض من الخارج. وفي حين يبدو أن بعض عائلات الإخوان تواصل الاجتماع، خاصة في القاهرة، وأن هيكلية الجماعة لا تزال سوّية، إلا أن القيادة تحطمت إلى حد كبير بفعل الاعتقالات، والقتل، والنفي. أما القادة الباقون فهم يتصارعون في ما بينهم على السيطرة، فيما قُطِعَت الاتصالات بين خلايا الإخوان العديدة وبين القيادة.41 وحتى حين حاول قادة الإخوان الحفاظ على مقاربة اللاعنف، افتقدوا إلى القدرة التنظيمية لإنفاذ أفكارهم بين الأعضاء الساخطين والمتمردين. وكما يقول الباحث عبد الرحمن عياش:" كانت الفترة منذ إطاحة مرسي غاطسة في حالة لم يسبق لها مثيل من الفوضى والاضطراب، إلى درجة أنها خلقت في الواقع منظمة جديدة. مثل هذه الفوضى تعقِّد أي شكل من أشكال العمل المتّسق وطويل الأمد الذي يمكن أن تقوم به المنطقة، ويشل قدرتها على الحفاظ على الانضباط في صفوفها. وحتى لو اختارت القيادة التصالح مع النظام، ستجد صعوبة فائقة في حمل الأعضاء على الامتثال لهذا القرار. هذا الوضع أنتج درجة عالية من الجدل الداخلي ونزاعات الأجنحة حول الاستراتيجية، والقيادة، والقرارات التنظيمية، ودَفَعَ مسار الخلافات إلى خطوط تخالفية عدة. فقد أصبح الصدع بين الأجيال جلياً وناتئاً أكثر من أي وقت مضى، حين أصاخ الإخوان المُسنين السمع مجدداً إلى استراتيجيات البقاء التي طُبِّقَت في حقبات سابقة من القمع العنيف، فيما حضّ الأعضاء الشباب على المجابهة مع النظام المصري. ثم كانت هناك أيضاً قسمة أخرى قديمة اتخذت هذه المرة أهمية مستجدة، بين قادة الإخوان المُركزين على السياسة وبين القواعد الأكثر تشديداً على الجانب الديني؛ وقسمة ثالثة بين مختلف أفرع الجماعة في المنفى وبين قيادة بازغة داخل البلاد. أدى هذا الصراع على السيطرة بين جناح القيادة في مصر وبين جناح المنفى إلى قِسمة المنظمة الإسلامية بشكل لم تعهده من قبل. هذه الخلافات كانت جزئياً لوجستية، بمعنى أن وجود كبار القادة في السجن وتبعثر الكوادر القيادية الوسطى بين دول عدة، جعل التنسيق أمراً في غاية الصعوبة. بيد أن ذلك عَكَسَ أيضاً خلافات حقيقية حول الاستراتيجية السياسية والإيديولوجية. فبدلاً من استراتيجية التوافق، باتت أجنحة الإخوان الآن منقسمة بشدة حول جملة مسائل، منها: مدى شرعية الحوار مع الدولة، وتشكيل حكومة في المنفى، والدعوات المتواصلة لمتابعة الاحتجاجات، واستخدم العنف، وحتى حول كيفية اختيار القادة. ثمة الآن العديد من أعضاء الجماعة الذين يريدون أن يتم اختيار قادتهم ليس على أساس الكفاءات التقليدية، مثل الخدمة المديدة داخل المنظمة أو العلاقات مع القادة الحاليين، بل على قاعدة الفاعلية الراهنة. وهم يرفضون، بهذه الطريقة، الاستبداد الداخلي، ويطالبون بديمقراطية تنظيمية حقيقية. أما الأعضاء الشبّان، فهم معادون علناً للمطالب التقليدية حول الطاعة للقادة الذين يتهمونهم بالفشل. وفي خضم هذه الصراعات الداخلية على السلطة، يمتلك الحرس القديم الموارد المالية والاتصالات الدولية، لكنه يفتقد إلى دعم قوي من لدن الأعضاء الشبان في مصر الذين يشكّلون ما تبقى من قوة الحركة. والحال أن كل هذه التنافسات لم تجرِ داخل الدوائر المُغلقة والمُتكتمة لسياسات الإخوان وحسب، بل أيضاً على منابر الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، زعمت شخصيات عدة، بينها الاسم المستعار محمد منتصر، أنها الناطق الرسمي باسم الجماعة. وفي أواخر مايو 2016، ظهر موقع الكتروني يعود إلى حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين مجدداً على الشبكة الالكترونية، على رغم اعتراضات قادة بارزين معروفين في هذا الحزب. علاوة على ذلك، بات أمراً روتينياً أن يناقض البعض أو ينفي بيانات تُصدرها المنابر الرسمية للإخوان. وتُوضح مثل هذه الانقسامات مدى انهيار الهيكلية الهرمية والانضباط في المنظمة اللتين لطالما اعتُبرتا من بين أهم قسماتها الحيوية. عملت المنظمة على التغلّب على هذه الخلافات، من خلال سلسلة من مبادرات الإصلاح الداخلي. والواقع أن جماعة الإخوان تمتعت دوماً بآلية ديمقراطية نسبياً في عملية اختيار قيادتها، حيث يجري انتخاب مجلس الشورى ومكتب التوجيه مباشرة من قاعدة المنظمة. وفي العام 2009، أثار الحنق مما اعتُبر تلاعباً بهذه العملية خلال انتخاب مكتب إرشاد جديد، موجة استقالات من قادة بارزين. وفي فبراير 2014، بدأ ناشطون شبان، بدعم من قادة كمحمد كمال ومحمد وهدان، بالضغط لإجراء انتخابات جديدة بهدف وضع شخصيات فعّالة على الأرض في هيكلية القيادة الرسمية. وبالفعل، جرت نقاشات حول مثل هذه الانتخابات طيلة عام 2015، لكن من دون التوافق القادر على مصالحة مختلف الأجنحة. وقد قاومت القيادة التقليدية، ومعظمها في المنفى، هذا التحدي لسلطتها، لكنها اتجهت في ربيع 2016 إلى قبول الانتخابات الداخلية. بيد أن جماعة الإخوان في مصر لم تكُ الفرع الوحيد الذي يشهد تمزقات تنظيمية حادة. فخلال العام المنصرم، كما أشرنا، كانت جماعة الإخوان في الأردن هدفاً لتحدٍ غير مسبوق لتماسكها التنظيمي، وطفت الخلافات الداخلية التي كانت تعتمل منذ فترة طويلة إلى السطح في أكتوبر 2013، مع ما أُطلق عليه مبادرة زمزم بقيادة قادة إصلاحيين في الحزب، معظمهم ينحدرون من الضفة الشرقية. وقد طرد مجلس شورى الجماعة قادة زمزم في فبراير 2014. وبعدها بعام، وافقت الحكومة على طلب من مجموعة تضم قادة زمزم لتأسيس جمعية خيرية تحمل اسم جمعية جماعة الإخوان المسلمين. وهكذا، ما بدأ كمذكرة داخلية لتحقيق الإصلاح، تطوّر- بدعم من النظام- إلى انشطار كبير. خاطرت مبادرة زمزم بتفكيك جماعة الإخوان على خطوط صدع قديمة، تتمثّل أساساً بالعلاقات بين المنظمة الأردنية وحماس. إذ سبق أن انشطرت الجماعة إلى مكوّنات عدة لمدة أكثر من عقد،48 وكان هذا الانقسام وطنياً-إثنياً وسياسيا. فقد امتعض الشرق أردنيون من دور الفلسطينيين في المنظمة ومن تركيزهم على الشؤون الفلسطينية على حساب السياسات المحلية الأردنية، فيما كان الصقور التنظيميون يُحبّذون مقاربة أكثر صدامية مع الحكومة الأردنية. ويوضح قائد زمزم رُحيل الغرايبة بأن "جذر المسألة هي الانقسامات الديمغرافية، حيث أن حماس تغلغلت في صفوف الجماعة في الأردن لسنوات عدة وفرضت أجندتها الخاصة". حين نالت جمعية جماعة الإخوان المسلمين الاعتراف الرسمي من الدولة الأردنية، جُرِّدت جماعة الإخوان القديمة من الاعتراف الشرعي بها، وجرى نقل قسط كبير من مواردها المالية والمادية إلى المنظمة الجديدة. وبذلك، أطلق النظام الأردني معركة وجودية حول هوية الجماعة، والتنظيم، والهدف. لقد فهم القصر أن إزاحة جماعة الإخوان كلياً يشكِّل خطراً، لأنه سيزيل إحدى القنوات الرئيسة التي يمكن من خلالها أن يشارك الشبان من ذوي الاتجاهات الإسلامية في العمل السياسي. ولذا، وبدلاً من ذلك، تحرّك النظام لخلق بديل أكثر طاعة وإذعاناً لأهدافه السياسية. هذه المقاربة الحكومية الفريدة لخلق جماعة إخوان رسمية جديدة ونقل موارد المنظمة الأصلية إليها، أثار قدراً كبيراً من الإبهام والريبة. فجمعية جماعة الإخوان الجديدة تحوز على الاعتراف الرسمي والموارد المالية، لكنها عملياً لا تحظى بالشرعية في صفوف العضوية الأوسع للجماعة أو في أوساط الرأي العام. صحيح أن أربعة أحزاب إسلامية خاضت غمار انتخابات 2016 البرلمانية، لكن ماله دلالة هنا أن المرشحين المرتبطين بمنظمة الإخوان التقليدية هم الذين فازوا. على أي حال، الإجراءات التنظيمية الصارمة ضد منظمات الإخوان في مصر والأردن، تفرض تحديات كبرى على استراتيجياتها الراسخة المتعلقة بتقديم الخدمات الاجتماعية، كوسيلة للتوسُّع والامتداد السياسي والتنظيمي. وإحدى تبعات ذلك كانت الحد بشكل جذري، إن لم يكن، إنهاء، الفرصة للقيام بمثل هذه الخدمات. والسؤال الكبير الآن الذي يتخبط في لججه قادة الجماعة هو: كيف سيؤثّر فقدان هذه الفرص على المواقع طويلة الأمد للأحزاب الإسلامية؟ الحزب مقابل الحركة لم تجذُب أيٌ من التطورات الأخيرة في الطيف الإسلامي تفاعلات إيجابية واسعة، كتلك التي أطلقها قرار حركة النهضة التونسي بفصل الحزب السياسي عن الحركة الدينية وإعادة وَسم نفسها بالتعبير الذي يستخدمه الغنوشي نفسه، أي "الإسلامي الديمقراطي". وقد أعادت هكذا خطوة شجاعة تشكيل الحَلَبَة السياسية الإسلامية بوسائل مشوّقة حظيت باستحسان أنظمة الخليج، وفئات الجمهور المحلي المُعادية بالإجمال للإسلاموية، كما حفزت إسلاميين آخرين على دراستها بعناية. بيد أن خطوة النهضة لم تكُ في الواقع فريدة أو مُستجدة كما بدت للوهلة الأولى. إذ كان ثمة أحزاب إسلامية أخرى تشعر هي الأخرى بالقلق حيال قضية التعايش بين الأوجه الدينية والاجتماعية لمنظماتها، وبين الأجندة العملية المحدودة الكامنة في هوياتها كأحزاب سياسية. وقد حاول بعضها التجاوب مع الضغوط التي مارستها عليها أحزاب أخرى والمجتمع المدني مطالبة إياها برسم خطاً فاصلاً بوضوح بين مسألة أين تنتهي الحركات الإسلامية، وأين تبدأ الأحزاب السياسية. وجرى ذلك في وقت كانت تتعالى فيه احتجاجات النقّاد من أن إدعاء هذه الأحزاب النطق باسم الإسلام وتُمثليه، يُسبغ عليها ميزة تفاضلية غير عادلة مع الناخبين الدينيين. بيد أن الإسلاميين أنفسهم رفضوا غالباً هذه المجادلات استناداً في آن إلى أسس إيديولوجية واستراتيجية، وفضّلوا التمتع بالفوائد الانتخابية التي يوفّرها جهاز له انتشار واسع في المجتمع، بدل تهدئة شكوك منافسيها السياسيين. ثم أن الجهود السابقة لتسوية التوتر بين الحزب وبين الحركة من خلال تشكيل أحزاب سياسية اسمية، نادراً ما أنتجت هيئات منفصلة حقا. وهكذا، بقي حزب العمل الإسلامي في الأردن غير مميّز كلياً تقريباً عن منظمته الأم، تماماً كما حزب الحرية والعدالة المصري في علاقته مع جماعة الإخوان. أما الغنوشي وباقي قادة النهضة فقد طرحوا باستحسان سابقة حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي كان أول من فصل حزباً سياسياً إسلاميا إسلامياً عن حركته الدينية من الناحيتين التنظيمية والبرامجية، كما كان الأكثر نجاحاً من بين كل الأحزاب الإسلامية في العثور على مكان له في مركز السياسات الوطنية. ويلاحظ الباحث خليل العناني أن الخطة البارعة لفصل الحزب عن الحركة هي حصيلة "نقاش قديم ومُتجدد"، لكنه سُوِّيَ غالباً في المراحل السابقة لصالح الإدماج المتواصل.53 بيد أن الوعد الأوّلي بإرساء ديموقراطية حقيقية بعد انتفاضات 2011 ثم ما تلاها من هزّات عمليات الانتقال الفاشلة، منحت هذه الفكرة حفزاً أكبر. وقد ارتدت خطوة النهضة الدراماتيكية، والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، بفصل هاتين الوظيفتين بأهمية أكبر لأنها جاءت في هذا السياق الانتقالي. وهكذا، وصفها الباحث خالد الحروب بأنها "واحدة من أهم الخطوات في تطور الإسلام السياسي منذ نشأته". والآن، ومع هذا الفصل، يمكن لحزب النهضة، مبدئياً، أن يخسر القدرة على الإفادة من موارد الحركة الدينية وخدماتها الاجتماعية، لكنه في المقابل سيربح في مجالات عدة منها توسيع دائرة المنضمين إليه، وتبنّي مواقف خارج أطر الاهتمامات الإسلامية التقليدية، والدخول بسهولة أكبر في تحالفات مع أطراف غير إسلامية. هذا الاندفاع الجديد كان براغماتيا إلى حد بعيد، وهو يجد جذوره في الاعتراف بأن المقاربة التقليدية الخاصة بوضع الحركة الدينية في خدمة السياسات الانتخابية، فشلت فشلاً ذريعا. وقد عَنَتْ هذه البراغماتية أن الفصل سيُثبت، على الأقل في البداية، أنه ذو ديمومة مع نجاح هذا التشكُّل الجديد. لكن، لا يزال يتعيّن على النهضة الذهاب إلى أقلام الاقتراع كحزب سياسي أعيد بناؤه، ولذا، إذا ما فشلت هذه المغامرة في تحقيق نتائج ملموسة، قد تطفو الضغوط لإعادة دمجه في الحركة على السطح مجددا. في الأردن، يعتقد بعض قادة جماعة الإخوان أن فصلاً مماثلاً بين الحزب والحركة قد يوقف ضغط النظام المتواصل على المنظمة. لكن جبهة العمل الإسلامي، وهي إحدى التجليات المبكّرة والأكثر نجاحاً للأحزاب السياسية في الجماعة، لم تنفصل أبداً في الواقع بأي معنى يُعتد به عن الحركة الأوسع. وقد جادل الخبير الإسلامي المتمرّس حلمي الأسمر بأنه في المناخ السياسي الجديد "أدّت الازدواجية بين الحزب والجماعة إلى جعل هذه الأحزاب (الإسلامية) غير فعّالة". بيد أن مثل هذه التقييمات لم تؤد بعد إلى أي قرارات نهائية. يُذكر هنا أنه حتى جماعة الإخوان المصرية انضمّت إلى هذا النقاش، سعياً منها للعثور على مخرج من ورطتها. ففي 7 مايو 2016، وزّعت اللجنة الإدارية العليا لجماعة الإخوان علناً خريطة طريق لإنقاذ المنظمة من خلال انتخابات داخلية جديدة. واقترحت اللجنة، في سياق اعترافها بحقائق الانشطارات العميقة وفشل المبادرات السابقة، إجراء انتخابات فورية لكل مكاتب الجماعة وعقد مجلس شورى جديد في يونيو. لكن شيئاً من هذا لمّا يحدث. جاءت هذه التطورات بعد شهرين فقط من اقتراح عمر دراج، وهو قيادي بارز في الجماعة في حقبة ما بعد الانقلاب، بفصل الحزب السياسي عن الحركة الدينية، كخطوة لإعادة تأهيل المنظمة سياسيا. كما طرح دراج، في إطار النقاشات الداخلية حول إعادة هيكلة جماعة الإخوان، فصل عمل الجماعة الديني والسياسي وامتناع الجماعة عن التعبئة السياسية لفترة محددة من الزمن، كشرط مُسبق لقاء وقف إجراءات النظام التصعيدية ضد المنظمة. لكن حتى الآن، لم تحصد كل هذه المبادرات سوى الريح، ومع ذلك تستمر النقاشات الجيّاشة، فيما يواصل قادة والأعضاء في الجماعة البحث عن استراتيجية فعّالة. مسألة الفصل هذه تبدو أكثر صعوبة بكثير في مصر منها في تونس، بسبب كلٍ من السياق السياسي والتجارب الخاصة لفرعي الجماعة. فقلّة من المصريين ستنسى سريعاً تجربة حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، بما في ذلك استخدام الجماعة الكثيف للخدمات الاجتماعية بهدف حصد الأصوات خلال انتخابات 2011 و2012. ثم أن الجماعة كانت منغمسة بعمق في العمل السياسي خلال السنوات الـ15 الأخيرة، ما جعل التداخل بين نشاطاتها مركزياً لهوية المنظمة، وهيكلتها، وممارساتها. ويبدو من غير المحتمل أن يقبل الشبان الغاضبون من أعضاء الجماعة- المصدومون بالقمع العنيف للنظام، والتعذيب، والقتل الجماعي- بفصل الحزب عن الحركة. كما لا يُظهر النظام المصري أي مؤشرات على أنه قد يُرحِّب بعودة الإخوان إلى الحياة العامة، لا بل هو صعّد مصادرته لأصولهم وصنّف الجماعة كمنظمة إرهابية. على أي حال، باتت فكرة فصل الحزب عن الحركة مُكرَّسة بوضوح كنموذج للمنظمات الإسلامية، حتى ولو كانت هذه تبدو مُترَعة بالاشكاليات في مصر. فالاستقبال الحماسي للمُعلقين المُصطفين مع دولة الإمارات العربية المعادية للإخوان، لقرار النهضة، قد يكون مؤشراً على الاحتمالات التي يمكن أن يوفّرها هذا النهج للإسلاميين المُحاصرين. لكن، أي شكل سيرتضيه هذا الفصل، وكيف سيؤثر على الآفاق الانتخابية للمنظمات الإسلامية، وما إذا كان أعضاء الجماعة مستعدين لقبول هذا الفصل، وإمكان تغلُّب الإسلاميين على شكوك غير الإسلاميين؛ كل هذه ستكون مسائل وأسئلة كبرى في المرحلة المقبلة. المشاركة الديمقراطية لقد استأثرت مسألة ما إذا كانت منظمات جماعة الإخوان ستصبح أكثر اعتدالاً حين تُمنح فرصة المشاركة في السياسات الديمقراطية، بالكثير من النقاشات بين علماء السياسة حول الحركات الإسلامية. لكن جُل هذه النقاشات خرجت مُحبطة. فمنظمة ما يمكن أن تكون معتدلة للغاية في مطالبها السياسية، فيما هي راديكالية جداً في رؤاها الثقافية والاجتماعية. ومواقف مختلف جماعات الإخوان قد تكون متطرفة في العلاقة مع القيم الغربية، لكنها متناغمة تماماً مع التيار الرئيس السائد في العلاقة مع القيم الخاصة ببلدانها. لطالما كانت المشاركة في العملية السياسية الرسمية مؤشّراً فاقعاً على طموح الإخوان المسلمين لأن يصبحوا جزءاً من التيار السائد. وقد نُظر حتى إلى مقاطعة الأحزاب الإسلامية للانتخابات مراراً وتكراراً على أنها تشكّل نقداً للممارسات غير الديمقراطية للأنظمة، لا رفضاً لمبادئ الديمقراطية. لذا، من غير المستغرَب ألا تتوانى الأحزاب الإسلامية في المنطقة عن خوض الانتخابات التشريعية، حتى بعد تعرّضها إلى ضغوط شديدة. تُعتبر تجربة مصر هنا أيضاً إشكالية وشاذّة في سياق المشهد الإسلامي الأوسع، كما أن المسار الذي سلكته البلاد بعد العام 2011 لم يقدّم دروساً حاسمة. ذلك أن فترة الانفتاح الديمقراطي كانت قصيرة للغاية، وترافقت مع غياب القواعد الدستورية أو المؤسسية المُستقرة، ناهيك عن أن الإدماج الديمقراطي أدّى إلى تقلّب حادّ في سلوك الإخوان وسائر الفرقاء السياسيين في مصر. فقد أسفرت الانتفاضة المصرية عن إضعاف الدولة بعمق، وتسلّل انعدام اليقين الحادّ إلى داخل المؤسسات التي كانت سابقاً تنعم بالاستقرار. وتخلّل تلك الفترة إجراء الانتخابات وسعيٌ إلى إرساء الحكامة في ظل غياب دستور جديد وحالة من الاستقطاب الاجتماعي الكثيف والمتسارع، فضلاً عن التدخّل السافر لجهات خارجية لها مصلحة بما ستؤول إليه الأمور. ولعلّ الطموح الذي كان يتنازع الإخوان من جهة، ونوازع الخوف الذي انتابهم من جهة أخرى، في خضم أجواء انعدام اليقين السائدة، توضح بشكل أفضل "اندفاعهم المتهوّر للقبض على مقاليد الحكم" آنذاك. يشي التخندق السلطوي الذي شهدته مصر في السنوات الأخيرة بأن الفرص المُتاحة للإدماج الديمقراطي ستكون ضئيلة في المستقبل المنظور. لكن الإدماج السياسي، شأنه شأن القمع، قد يرتدي أشكالاً عديدة، وقد يمارس هذان الاثنان تأثيراً مختلفاً على الهوية والسلوك التنظيميين. ثمة فارق شاسع بين المشاركة في برلمانات سلطوية إلى حدٍّ ما (حيث لا تواجه السلطة الحاكمة أبداً تهديداً يُذكر)، وبين المشاركة في الأنظمة الديمقراطية بحق (حيث من الممكن حصد الفوز في الانتخابات والوصول إلى سُدة الحكم). وفيما قد يؤدّي إدماج الجميع في ظل الحالة الأولى (الأنظمة السلطوية) إلى تبنّي أهداف سياسية معتدلة أكثر لأن هامش العمل ضيّق، قد تؤدّي المشاركة في الحالة الثانية (الأنظمة الديمقراطية) إلى رفع سقف التطلّعات بإمكانية تحقيق تغيير جذري. لكن التداعيات السببية البديلة واردة هنا أيضاً: فالإدماج السلطوي قد يعزّز الخطاب المتطرّف، لأن الكلام لا قيمة له ما لم يقترن بالأفعال. أما الإدماج الديمقراطي، فقد يشجّع على توخّي الحذر خوفاً من إقصاء الناخبين الوسطيين. باختصار، كان من المنطقي دوماً الحديث عن أنماط اعتدال تختلف باختلاف أشكال الإدماج المتّبعة. ففي حين أن الإدماج السلطوي في المغرب حوّل خطاب حزب العدالة والتنمية وسلوكه إلى خطاب براغماتي ووسطي، كان للإدماج الديمقراطي في تونس، التأثير نفسه على حزب النهضة. لعبت الانتخابات أدواراً عديدة في استراتيجية المشاركة. فحتى حين كان الإخوان يدركون أن الفوز في الانتخابات بعيد المنال، اعتُبرت المُشاركة وسيلة للتواصل مع المجتمع. كذلك، لطالما سعى أعضاء الإخوان إلى تبوّؤ مناصب قيادية داخل المجتمع المدني، وشكّلت الجامعات منبراً أساسياً لخوض النقاشات والتدريب في المجال السياسي، كما باتت الجمعيات المهنية معاقل للإسلاميين. وأتاحت الكتل البرلمانية، حتى عندما لم تكن قادرة على سنّ تشريعات مهمّة، الفرصة لتسليط الضوء على انتهاكات الحكومة والحفاظ على الحضور العام. لذا، لم يكن تسنّم الحكم ضرورياً في إطار هذه المقاربة، بل كان سيلقي أعباء ثقيلة على كاهل الإخوان لتلبية مطالب المعارضة. لكن هذا المسار الطويل تعثّر بفعل التغيرات السياسية التي توالت بوتيرة متسارعة بدءاً من العام 2011. من المدهش كم كانت مواقف الأحزاب التابعة لجماعة الإخوان المسلمين متّسقة لجهة اتخاذ قرار المشاركة في الانتخابات، في ظل العديد من الأنظمة السياسية، وعلى الرغم من تعرّضها إلى القمع بدرجات متفاوتة. عموماً، الأحزاب الإسلامية التي قرّرت في وقتٍ معيّن مُقاطعة الانتخابات، كانت تعود لاحقاً لخوضها. ولم تَحِد هذه الأحزاب عن نهجها هذا خلال السنوات التي أعقبت الانتفاضات العربية. لذا، لن يكون مفاجئاً أن يخوض الإخوان المسلمون مجدّداً غمار الانتخابات بعد سنوات قليلة، حالما تتبدّل الظروف، مع أن هذا الأمر يبدو اليوم مستحيلاً. العنف والتطرّف أثّر تبدُّل السياق السياسي في أعقاب الانتفاضات العربية أيضاً على الحجج والعقائد الإسلامية حول العنف.66 فمنذ وقوع الانقلاب في مصر والمنحى التصعيدي الذي سلكته حركة التمرّد في سورية، بات العنف جزءاً من التيار العام الرئيس في المنطقة، ما شكّل تحدّياً جوهرياً لمنطق اللاعنف الذي وجّه دفّة الإخوان المسلمين خلال العقود السابقة. وفي هذا الصدد، أعاد حازم سعيد، عضو جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تشكيل شعار "سلميتنا أقوى من الرصاص" الذي لايَني يردّده المرشد العام للجماعة، في إطارٍ مختلف، مجادلاً أن الجماعة ترى إلى اللاعنف على أنه مجرّد تكتيك لا مبدأ إيديولوجي جوهري، على عكس الجهاد الذي تعتبره في المقابل مبدأ أساسياً ينبغي تحقيقه أحياناً بحدّ السيف، مضيفاً أن السؤال هو متى يجب الالتزام بمبدأ السلمية ولأي غاية. من الملفت أن مثل هذا الحديث، على الرغم من أنه يعبّر عن وجهة نظر عضو واحد وحسب، بات يُطرح في العلن اليوم. تسلّط هذه المسألة الضوء على المخاطر المُحتملة للمنطق البراغماتي. ففيما كان اللاعنف سابقاً وسيلة فعّالة لاحتلال موقع الوسط وطمأنة الفرقاء المشكّكين من غير الإسلاميين، يبدو أن المناخ الإقليمي الجديد يعطي قيمة للعنف لا بل يطلبه. ومع تزايد زخم التمرّد السوري في العام 2013، بدأت النظريات الجهادية والممارسات العنيفة التي كانت مصدر نفور وإدانة في السابق، تحظى بتأييد علني، لا بل بالإشادة من قِبَل العديد من وسائل الإعلام العامة ووسائل التواصل الاجتماعي العربية. وفي الوقت نفسه، سعت جماعة الإخوان المسلمين في سورية إلى تطبيق رؤيتها الوسطية التقليدية في خضم هذا المناخ المُترَح بالعنف، من خلال بذل جهود حثيثة (أكثر من معظم الجماعات الإسلامية الأخرى) للانخراط مع الأفرقاء غير الإسلاميين وطمأنة الأقليات وإبداء انفتاحٍ على الغرب. لكن مع حلول العام 2015، عاد العديد من الأنظمة العربية إلى قمع مظاهر التبنّي العلني للأفكار الجهادية، ليس فقط بسبب الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة، بل أيضاً لأنها بدأت تعي حجم التهديدات المُحتملة التي تطرحها مثل هذه الجماعات على أمنها. لقد تبدّل المشهد الإقليمي والإسلامي جذرياً على مدى السنوات الأخيرة، بحيث بات من المستبعد أن تلعب جماعة الإخوان دور الحاجز ضد التنظيمات المتطرفة والعنيفة، حتى لو كانت لا تزال تريد ذلك. بل غالب الظن أن يؤدّي العنف المتنامي للسياسات الوطنية والإقليمية وتقهقر البدائل الديمقراطية والسلمية إلى دفع الأفكار السياسية التي يتبنّاها الإخوان المسلمون في اتجاهات أكثر تطرّفاً. لقد تغيّرت نظرة الإخوان المسلمين إلى استخدام العنف على مدى السنوات الأخيرة لأسباب نظرية وعملية في آن، ناهيك عن أن الصدمة الناجمة عن انقلاب العام 2013 تركت تأثيراً بالغاً في نفوس العديد من الأعضاء الشباب. يبدو أن اللاعنف كاستراتيجية قد باء بالفشل، فيما أولئك الذين يستخدمون العنف باتوا يحققون تقدّماً عبر المنطقة. إذ من الصعب رفع راية اللاعنف بينما يتعرّض الإسلاميون السلميون إلى القمع، في ظلّ الحروب التي تدور رحاها في كلٍّ من ليبيا وسورية واليمن. والحال أن التفوق المتصوّر للنموذج الجهادي يرتكز جزئياً على النجاحات التي حصدها مقارنةً مع الفشل الذي مُنيت به حركات التيار السائد. لقد حظي نموذج الدولة الإسلامية بالجاذبية لأنه أظهر مدى فعالية العنف في الاستيلاء على الأراضي، وإقامة الحكامة، والهيمنة على المجال العام. ومع أن الخسائر المتواصلة التي يتكبّدها هذا التنظيم واحتمال أن يُمنى بهزيمة عسكرية في ليبيا والعراق وسورية يحدّان من جاذبية هذا النهج، إلا أن قدرة تنظيم القاعدة وغيره من الشبكات السلفية الجهادية على البقاء والاستمرار طيلة الأعوام الـ15 الماضية، تشي بأن جوهر السردية الجهادية له جذور عميقة. خاتمة: ما مستقبل السياسات الإسلامية؟ لا تشي مكابدات جماعة الإخوان المسلمين في مصر بأُفول الإسلاموية. فقد صمدت الحركات الإسلامية سابقاً في وجه حملات القمع الشرسة التي مارستها الدولة. وعلى الرغم من المضايقات التي تعرّضت إليها حركة النهضة في تونس على مدى عقود، إلا أنها فازت في الانتخابات بعد أقل من عام على إطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي. كذلك نجا الإخوان المسلمون في سورية من الحملة التي شنّها ضدّهم نظام الأسد، والتي كانت أقرب إلى التصفية منها إلى القمع، واضطلعوا بأدوار بارزة في مؤسسات المعارضة التي نشأت في أعقاب انتفاضة العام 2011. كما صمد الإخوان المسلمون في مصر في وجه موجة القمع العاتية التي تعرّضوا إليها على يد نظام الرئيس جمال عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. ويبدو مُحتملاً أن تعاود جماعة الإخوان النهوض مجدّداً بعد الأزمة الراهنة. لكنها ستعود على الأرجح بحلّة جديدة. فالجماعة التي عاودت الظهور في السبعينيات بعد الانفتاح السياسي على الإخوان في عهد أنور السادات، بدت مختلفة بشكلٍ كبير عما كانت عليه في العقود السابقة. وكان التطور الذي شاهدته جماعة الإخوان المسلمين السورية في المنفى في التسعينيات وفي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين مختلفاً تماماً عن مسار جماعات الإخوان الأخرى التي بقيت ناشطة في ظل أنظمة سلطوية. كذلك شهد مسار حركة النهضة التونسية تطوراً دراماتيكياً خلال العقود التي تعرّضت خلالها إلى القمع على يد نظام بن علي، وتبدّى هذا جليّاً في سلوكها وخطابها في المرحلة الانتقالية التي أعقبت العام 2011. وباتت جماعة الإخوان الأردنية الأكثر تقدّمية من بين الأحزاب السياسية الإسلامية في مطلع التسعينيات، حين بلغت الديمقراطية أوجها في الأردن، قبل أن تنزلق مجدّداً إلى غياهب التراجع والانقسام والتهميش بعد عقود من الاضطهاد المطّرد. يُنبئ شطب الفرص الديمقراطية، وصعود تنظيمات عنيفة ناجحة، وتغيّر السياقين الإقليمي والإسلامي بأن منظمات أخرى غير الإخوان المسلمين قد تهيمن على المرحلة المُقبلة من السياسات الإسلامية؛ وذلك لأن النموذج التقليدي الذي تمثّله جماعة الإخوان غير مواتٍ في ظل المناخ الراهن الذي تبدو أبوابه مشرّعة أمام الخصوم الإسلاميين للإخوان. وهذا يعني أن إخفاقات الإخوان المسلمين في مصر بالكاد ألقت بظلالها على الاندفاعة الإسلامية، بل حدث العكس حيث تحوّلت نقطة الارتكاز نحو الشبكات السلفية والجهادية التي تستند إلى رؤى إسلامية أكثر تزمّتاً وأقل مرونة. وفي حين أن التيار الإسلامي السائد اتّسم لعقودٍ بلاعنف الإخوان المسلمين ومشاركتهم في المسار الديمقراطي، إلا أنه بات يتجلّى الآن في سورية، وللعديد من السنّة في دول الخليج، من خلال حركة أحرار الشام ذات الأفكار السلفية الجهادية المُغالية بمذهبيتها. فتح الإسلاميون بخطى حذرة النقاش حول هذه الوقائع السياسية الجديدة وبدأوا يعيدون النظر في إيديولوجياتهم واستراتيجياتهم. وتوفّر هذه النقاشات، التي كثيراً ما تُجرى على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ علني إلى حدٍّ ما، لمحةً عن الجهود الجماعية التي يبذلها الإسلاميون للإحاطة بالأوضاع الراهنة والتأقلم معها. بيد أنهم لمّا يقطعوا بعد شوطاً كبيراً نحو صياغة توافق جديد. وقد تركت المحن التي تخبّط فيها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 2013 بصماتها المريرة والدامغة في نفوسهم، كما أن وقع الانقسامات لا يزال مدوّياً حتى الآن. أما بالنسبة إلى الإسلاميين المغاربة والتونسيين والكثيرين غيرهم، فقد استأثرت متطلبات السياسات المحلية بكامل اهتمامهم. وفي ساحات الوغى مثل ليبيا وسورية، شكّلت ظروف الصراع وجاذبية الإيديولوجات الأكثر تطرّفاً عقبات كأداء يصعب تجاوزها. يلقي هذا المناخ عبئاً أكبر على كاهل الأحزاب الإسلامية كي تنخرط في استراتيجيات الطمأنة والتنازلات الوقائية، في حين تسعى إلى تبوء مناصب جديدة في المجالين السياسي والاجتماعي. ويبدو أن الأحزاب الإسلامية التي تحصد النجاح الأكبر، هي تلك التي نجحت في التكيّف مع الظروف السياسية الوطنية والإقليمية الجديدة، أي التي تعمل من داخل المؤسسات السياسية القائمة، عوضاً عن التصدّي لها. لقد انتصر الإصلاح – أو على الأقل الإدماج للجميع – على الثورة. تمكّن كلٌّ من حزب العدالة والتنمية في المغرب، وجماعة الإخوان المسلمين في سورية، وحزب الإصلاح في اليمن، وحركة النهضة في تونس، والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت، من التكيّف مع الوقائع المحلية والإقليمية والظروف القائمة داخل التيارات الإسلامية، من خلال طمأنة سائر المجموعات حول حسن نواياهم، وممارسة الضبط الذاتي، والالتزام على نحو مقنع بالعمل من داخل النظام عوضاً عن السعي إلى الهيمنة. وغالب الظن أن خطوة النهضة التي لقيت ترحيباً كبيراً وتمثّلت في فصل الحزب عن الحركة، ستؤثر على السجالات الوطنية والإقليمية حول المفاهيم، أكثر من مضاعفاتها على الأرض. أما جماعة الإخوان المسلمين في مصر فهي تواجه مساراً أصعب من ذاك الذي ينتظر معظم نظرائها. فقد أدّى المستوى الحاد من الاستقطاب بين عامَي 2011 و2013، والقمع الشرس الذي تعرّضت إليه في أعقاب الانقلاب العسكري، والحملة التي شنّها النظام ضدّها من دون كلل، إلى المزيد من التشدّد في المواقف المناهضة للإخوان. وباتت الجماعة غير قادرة على شقّ طريقها مجدّداً إلى النظام السياسي، أو حتى إلى بلوغ توافق داخل صفوفها حول هذه المسألة. كما بدا أنها عاجزة أيضاً عن طمأنة عموم المصريين المعادين لها، أو عن بناء تحالفات سياسية جديدة، حتى في ظل تنامي الانتقادات الموجّهة إلى نظام الرئيس عبد الفتّاح السيسي في أوساط النخبة. وقد باءت بالفشل حتى الآن المبادرات الرامية إلى رأب صدع الانقسامات غير المسبوقة التي تشوب الجماعة عن طريق الانتخابات وإعادة الهيكلة التنظيمية. ونحن بانتظار أن تؤتي الحوارات الداخلية أُكلها من خلال بلوغ توافق بشأن الاستراتيجية السياسية التي ينبغي اتّباعها أو بشأن المسائل الإيديولوجية الرئيسة حول العنف والمشاركة السياسية. لكن، ريثما يتحقق ذلك، يُرجّح أن تبقى جماعة الإخوان المسلمين مُستغرقة بانقساماتها ومعزولة عن النظام السياسي المصري السلطوي، لكن الهشّ. وقد تكفّ مصر عن الاضطلاع بدور محوري في مشهد السياسات الإسلامية، والإقليمية بشكلٍ أعمّ. سيكون لتطوّر المؤسسات السياسية، لا للإيديولوجيات الإسلامية، الفضل الأكبر في رسم معالم مستقبل السياسات الإسلامية. فالأحزاب الإسلامية تتكيّف مع الوقائع المحلية والإقليمية، بحيث تغدو عنيفة في خضم الحروب الأهلية، وديمقراطية حالما تسنح أمامها الفرصة لخوض الانتخابات. لقد أفسحت الانتفاضات العربية المجال لدمج الأحزاب الإسلامية في العملية السياسية أكثر من أي وقتٍ مضى. بيد أن ردود الفعل العنيفة التي أُثيرت في أعقاب تلك المراحل الانتقالية قد تؤدّي إلى إقصاء المجموعات الإسلامية عن المشاركة السياسية، وتدفعها عوضاً عن ذلك إلى الحشد والتعبئة ضد الأنظمة السياسية. لا تزال القواعد الشعبية التي عبّأتها الحركات الإسلامية موجودة وحاضرة. وتظهر التحديات التي يطرحها تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة أن ثمة حاجة ماسّة إلى إعادة بناء حواجز ضد التطرّف. وستنجح الأحزاب الإسلامية في التكيف مع هذه التحديات إذا ما كانت قادرة على صوغ استراتيجيات سياسية جديدة مُقنعة وتبنّي مواقف إيديولوجية متناغمة مع الظروف المحلية والإقليمية وتلك القائمة داخل الحركات الإسلامية والتي لا تتبدّل، وكذلك إذا ما استطاعت طمأنة الفرقاء غير الإسلاميين الذين تساورهم الشكوك حيال نواياها، ونجحت في الحدّ من جاذبية التوجهات الإسلامية الأشد عنفاً وتطرّفاً.
#إدريس_ولد_القابلة (هاشتاغ)
Driss_Ould_El_Kabla#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعابد اليهودية بالمغرب
-
كيف يفكر الإرهابي؟
-
لا نعيش اليوم إلا من أجل اللذة... هذا سبيل فقدان إنسانيتنا
-
الصراع المستدم بين المغرب والجزائر في مختلف المجالات: المجال
...
-
الاقتصاد المغربي بعيون أجنبية: غد وردي
-
المغرب : كل جديد كل تغيير كل إصلاح يتم على يد الملك وبفضله
-
هل الاقتصاد المغربي على المسار الصحيح؟
-
حاضرون غائبون
-
هل تم حرق الكساسبة بالفعل؟
-
للمغرب نصيبه من فضيحة “سويسليكس” الخاصة بالحسابات السرية خار
...
-
اقتصاد الريع المرض المزمن المحبط بالمغرب
-
وأخيرا... مفاوضات مغربية إسبانية حول حرب الغازات السامة لكن.
...
-
طفولة أمير يُعدُّ لمهنة ملك الملايين
-
-تحرش- فرنسي جديد منتخبون فرنسيون يستفزون المغاربة أمام سجن
...
-
حارس البلاد والعباد من المخاطر وأحد حماة الوطن في الخفاء
-
أشهر خطابات الحسن الثاني
-
إشكالية التمويل الخارجي للجمعيات المغربية تطفو على السطح من
...
-
كيف خطط الدليمي لاغتيال الحسن الثاني؟
-
التعاون الأمني والعسكري بين المغرب و الولايات المتحدة الأمري
...
-
المغرب ليس عن منأى من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|