انور سلطان
الحوار المتمدن-العدد: 5387 - 2016 / 12 / 30 - 08:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
دعى الأستاذ ضياء شكرجي في مقاله الأخير بعنوان (لا حل إلا بالعلمانية) إلى ضرورة الدعوة الصريحة للعلمانية وشرحها للناس وإزالة اللبس من أذهانهم عنها. واعتقد أن دعوته هذه صحيحة, لكن لا تكفي محاولة تفهيم الناس العلمانية وثمارها الطيبة من إزالة الأسباب الدينية للصراع ومن سلام اجتماعي وأخوة إنسانية ومواطنة متساوية, لأن الصورة السيئة في أذهانهم عن العلمانية زرعها "رجال" الدين المسلمين, نعم "رجال" الدين, ولا بد من التشديد على مصطلح رجال الدين وهم من نصوبوا أنفسهم مفتين تحديدا, إذ هؤلاء هم سبب البلاء كله. لقد زرع رجال الدين المسلمين في أذهان المسلمين أن التعايش الإنساني والمواطنة المتساوية وعدم أهمية دين الحاكم وعدم الحكم بشريعة الله من قطع الأيدي والرؤوس والرجم هي كفر بالله وخيانة للإسلام, وبالتالي تكون الدعوة للعمانية في صميمها هي دعوة للكفر والتحلل من وجهة نظرهم. وإذن فلا تعايش ولا سلام اجتماعي ولا مواطنة متساوية ولتكن الحرب والجهاد. فالقتل في سبيل الله وإراقة الدماء من أكبر القربات.
المشكلة الأسياسية ليست في عدم اقتناع عامة المسلمين بالعلمانية بل في اقتناعهم بمفاهيم فاشية لا تمت للإنسانية بصلة تتضاد مع العلمانية, مما يجعل العلمانية كدعوة إنسانية تساوي بين البشر وتجعل هدف الدولة حماية حقوق وحريات الناس في نظر هؤلاء دعوة للكفر وهدم ثوابت الإسلام الذي يدعو في اعتقادهم إلى استعلاء المسلم وإخضاع الكافر وتحكيم شريعة الله التي نزلت قبل 1400 سنة في كل زمان ومكان, والعلمانية أيضا من وجهة نظرهم دعوة لترك الجهاد في سبيل الله لإعلاء دين الله وإخضاع ما عداه أو محوه. وهذا يحتم مواجهة تلك الأفكار مباشرة.
الدعوة للعمانية وحدها بدون فهم مختلف للإسلام لا تكفي. وترك الإسلام للمفتين الذين احتكروا الحديث عن الإسلام, ونصبوا أنفسهم رجالا للإسلام, سوف يجعل الوضع الثقافي الفاشي يستمر لأن هؤلاء سيطروا على عقول الأكثرية. وهناك طريقان إما نقد الإسلام نفسه وإظهار أنه دين وضعي كما يفعل البعض. أو نقد فهم الإسلام من جهة والتفريق بين ما هو من الإسلام وما هو دخيل على الإسلام من جهة أخرى (مثل القول بوجود مفتين في الإسلام) بغرض الوصول لفهم جديد للإسلام. واعتماد الطريق الثاني يعني أنه لا بد أولا من توعية عامة المسلمين أنه لا يوجد في الإسلام مفتين, وبالتالي تجريد هذه الفئة الكهنوتية من سلاحها الأمضى وهو ادعاء أفرادها أن لهم مكانة دينية واداعاءهم أن الشريعة الاسلامية في جانبها الدنيوي هم من يكتشف أحكامها لكونهم مفتين أوكل الله إليهم مهمة اكتشاف أحكامه التي لا نص فيها وخولهم التوقيع عنه. وهذه أول خطوة في تجديد فهم الدين بدونها لن يتغير أي شئ وستظل هذا الفئة المغتصبة للإسلام تعبث بعقول الناس وستظل تمج سمومها.
قد يقول البعض ليست المشكلة في المفتين الذين نصبوا أنفسهم رجالا للإسلام, بل في الإسلام نفسه, وسواء نصب هؤلاء أنفسهم رجالا للدين أم لا فهناك تعاليم صريحة للإسلام لا تتناسب مع العصر. قد يكون هذا صحيحا, لكن المفتنين روجوا وسوقوا للناس أن كل تعاليم الإسلام أبدية ولم تكن زمنية. كان يمكن أن يتطور فهم الدين لولا هذه الفئة الكنهوتية التي نصبت نفسها حارسة على الدين ومنعت أي محاولة لفهمه فهما جديدا والتعاطي معه بشكل مختلف.
هل الإسلام قابل للإصلاح, أو هل فهم الإسلام قابل للإصلاح والتجديد, أو هل يمكن التعاطي مع الإسلام بشكل مختلف؟
لا يهم العنوان, إصلاح الدين أو تجديد الفهم, المهم أن يتم وضع تصور جديد للدين سواء سُمي إصلاحا أو تجديد فهم.
اعتقد أن أكثرية المسلمين سوف يتقبلون فهما جديدا للدين يوفق بينه وبين العلمانية والمفاهيم الإنسانية ينقذهم من المأزق الإنساني والحضاري الذي وضعهم فيه المفتون.
في محاولة للإصلاح الديني أو لفهم الإسلام فهما جديدا لا بد من التأكيد أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية للأسباب التالية:
(1) أن أحكامه جميعا توقيفية أي لا يحق لأحد زيادة حكم واحد عليها.
(2) وأن أحكامه الدنيوية زمنية, أي نزلت لعصرها لا لكل العصور, ومن ذلك أحكام الجنايات (القطع والجلد والقصاص). ووقف العمل بحق المؤلفة قلوبهم وإخراج الأرض من الغنائم في عهد عمر, والتحرج اليوم من قطع يد السارق ورجم الزاني, يدل كل ذلك على زمنية الأحكام. وما يدل على صلاحية تلك الأحكام الدنيوية للحياة اليوم هي التعقيدات الكبيرة التي تحدثها محاولة التوفيق بين تلك الأحكام والحياة اليوم مثل ما يسمى بالإقتصاد الإسلامي. فقد كانت أحكام لمجتمع بسيط غير معقد ولا تصلح لمجتمعات اليوم إطلاقا.
(3) علاقة الدين بجوانب الدنيا المختلفة علاقة, ومنها السياسية, علاقة مابدئ عامة لا أحكام تفصيلية. وأمر التفاصيل متروك للناس بما وهبوا من عقل.
(4) وأن التشريع الدنيوي الوضعي أساسه العدل والمصلحة وهو غير محرم في الإسلام ولا يوجد أي دليل صريح يحرم التشريع الوضعي الدنيوي.
(5) وأن الإسلام ليس فيه رجال دين يعرفون أحكام الله الغائبة لأنه لا يوجد لله أحكام غائبة يجب اكتشافها. ولا يوجد دليل على وجود مفتين في الإسلام يبينون للناس أحكام الله فيما لا نص فيه. لا يوجد دليل واحد على أنه توجد لأحد مكانة دينية تخوله الحديث نيابة عن الله والتشريع باسمه.
(6) يجب ألا تجعلنا زعامة النبي السياسية –أي نبي- نخلط بين مهمة النبي الدينية وبين دوره السياسي كزعيم سياسي دنيوي لاتباعه عندما يكونون مجتمعا مستقلا, وبالتالي نخلط بين الدين والسياسية مما يجعلنا نعتقد أن السياسية خاضعة للدين أو أن هناك صلة وطيدة بينهما على مستوى التفاصيل. وإذا حدث خلط من هذا النوع سوف يؤدي إلى إفساد السياسة وجعلها تحت رحمة فئة قليلة من الناس يصدرون في حقيقة الأمر عن عقولهم ومصالحهم الخاصة ويزعمون للعامة أنهم يمثلون الله, وسيؤدي أيضا إلى إفساد الدين وتحويله إلى ورقة سياسية. إن لم يؤدي ذلك إلى دولة دينية يحكمها المفتون سوف يؤدي إلى تحالف دكتاتوري كهنوتي بين الحكام المستبدين والمفتين. وسوف تكون المصلحة العامة والحريات والحقوق أكبر ضحايا هذا التحالف الذي يزعم القداسة.
(7) لم ينشئ محمد دولة, بل كان من الناحية السياسية زعيم جماعة دينية. والوضع السياسي لهذه الجماعة هو وضع ما قبل الدولة مثلها مثل قبيلة قريش وأي قبيلة أخرى. لم يتوفر شرط الدولة الرئيسي وهو انقسام المجتمع إلى طبقتين, طبقة حكام يمتلكون جيشا يخضوعون به المجتمع لسلطتهم ويجبون منهم عوائد لإدارة الدولة, وطبقة محكومين هم بقية المجتمع. ولم تنشأ الدولة إلا على يد معاوية, وكانت الفترة بين وفاة محمد ونشوء الدولة الأموية عبارة عن فترة انتقالية بين مجتمع الدولة ومجتمع ما قبل الدولة. إن الدول لا تنشأ باتفاق طوعي ينقسم فيه الناس إلى حكام ومحكومين, بل تتمخض عن صراعات عسكرية سياسية عنيفة تقود إلى هذا الإنقسام أو إلى تفتت المجتمع إلى قبائل وجماعات مستقلة عن بعضها, أو بقاءه كذلك وعدم قدرة طرف أو جماعة على إخضاع بقية الأطراف أو الجماعات.
يمكن الدعوة للعمانية صراحة وإقناع الجماهير بحقوق الإنسان وأحترامها, وأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ثمار العلمانية, مع عدم الدخول في جدال في التفاصيل حول الدين بل تأكيد الخطوط العريضة من عدم وجود رجال دين في الإسلام تحت مفهوم الفتوى الدخيل على الإسلام, وعدم وجود أحكام دنيوية أبدية بل زمنية, وأن علاقة الدين بكل جوانب الدنيا علاقة مبادئ عامة دون تدخل في التفاصيل.
وختاما, هذه ليست دعوة بتبني كل العلمانيين لخطاب ديني, فهم من أديان مختلفة وربما بعضهم لا ديني, ولكن تنبيه إلى أهمية وجود فهم جديد للإسلام يتوافق مع العلمانية وإلا لن تحقق الدعوة للعلمانية أي تقدم إلا إذا تخلى أكثرية المسلمين (الذين يشكلون الغالبية الساحقة في الجغرافيا العربية) عن الإسلام. وجود تصور جديد للإسلام سوف يساعد العلماني المهتم بالخطاب الديني على مجابهة الفئة الكنوتية على المستوى النظري وعدم ترك الدين لها تعبث بواسطته ليس بحياة الناس بل يعقولهم أيضا وتلهو به كيف تشاء وتسخره لأهوائها ومصالحها الدنيوية وأقلها المكانة الإجتماعية التي تتمتع بها دونوجه حق وكأنهم آلهة صغيرة. ويجب أن نفرق بين الكهنوت المسيحي والمفتين المسلمين, فذاك كنهوت لا يدعي أن الله أو كل له اكتشاف شرعه بينما الأخير يدعي ذلك وبالتالي فهو كهنوت مضر وخطير للغاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط مقال الأستاذ ضياء شكرجي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=542990
#انور_سلطان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟