|
أحببت ما تخلف عن السنة الماضية من نباتات السرخس
حسين علوان علي
(Hussain Alwan)
الحوار المتمدن-العدد: 5387 - 2016 / 12 / 30 - 08:03
المحور:
سيرة ذاتية
* [هذه الأشياء قد أحببتها الغبار الشفيف في نعومة الريش والأسقف الرطبة وراء ضياء المصباح] روبرت بروك
لماذا أعشق الأماكن المجهولة المنزوية الساكنة في ثنايا الطبيعة الهاجعة، سؤال تبادر لذهني دوما كلّما وجدتني أراقب مثلا زاوية مهملة على جانب محطة سكة حديدية، حيث يستلقي العشب على الجوانب واهبا خضرته بكل رهافة وكرم [ وحيث القطار اللاهث وقد تلاحق دخّانه ]، أو في زاوية من مسرح خلف الكواليس إذ تتراصّ أزياء مسرحية جسدت شخصيات متعددة متباينة ضمتها خلف نسيجها، واحتوت ثورة مشاعرها وتوهج فرحها وهول قسوتها، و[ حيث الرائحة الذكية التي تفوح من الملابس القديمة وما شابه ] . ماذا عن تلك الأكمة في البستان في اطراف الحي، تلك التي مرّ بها الجميع منغلقين على نزوات جامحة ورغبات دفينة، وعطش فاحش لإرضاء نزوات عابرة و منسية في هذا الكون المهيب، سواء أكان الذئب الذي يغير في المساء باحثا عن طريدة، أو مهرب يتستر بالظلام ليمرر صندوق شاي، أو عاشقان اخترعا ألف حيلة ليتُما اللقاء في تلك الخلوة وهما يشتعلان بالرغبة، أو الفلاح الذي يقطف ثمر البرتقال المشبع بالأصفر المحمرّ تحت الشمس الساطعة، وحتى مالك البستان الذي يظن أنه يملك الأكمة التي لا يملكها أحد رغم كلّ التأريخ المفتعل والقوانين التي تُشَرّع الامتلاك القسري وتهب من لا يملك ما لا تملك، هو أيضا لا يكفّ عن التفكير بحسابات البيدر والحقل، كلّ هؤلاء وغيرهم مرّوا بالأكمة دون أن تلفت انتباههم، بينما لمحتهم هي بكل تفان وتأست لحالهم وأملّت نفسها بأن هؤلاء قد يصحون يوما ليتلمسوا الحقيقة الكبرى التي يتناسونها، أن هذا العالم الرائع الجميل عالم زائل ويا للخيبة، وأن اللحظة التي تمر دون مواربة قرب أكمة السرخس المنزوية إنما هي لحظة ضائعة لم تٌنَفِذ نفسها كما يجب، وأنها مسؤوليتنا في ان نتشرب جمالها المتاح لأن أحدا ما لن ينبهنا.. غير شاعر راحل.
[ ثم أنا أهوى الملاءات التي سرعان ما تذوب المتاعب في رقتها الرطيبة وأعشق الخشب المحبب والشَعر الذي يفيض حيوية وينساب لماعا في حرية ومن غير كلفة وأقواس قزح ، والدخان الأزرق المحزون المتصاعد من الخشب وحبات الندى البراقة الراقدة في أحضان الزهر الرطيب]
لماذا تمتلك هذه الأماكن والأشياء كل هذا السحر وهذه الأهمية وتجلب كل هذا الحبور؟. طالما أحسست بالمتعة الغامرة وأنا أراقب عامل المقهى وهو يعدّ أباريق الشاي الخزفية على موقد الفحم الكبير حيث تصطفّ متراصة بزخارفها وألوانها المتنوعة، تلك الحزمة من الحركات المكرورة التي يمارسها عن قناعة تامة قرب حرارة الموقد تُعبر عن معنى من معاني الخلق في زاوية مجهولة لا يحفل بها أحد، يمكن أن تبقى كذلك لسنين طويلة، يصطبغ الخزف فيها بأثر النار الحارقة، ويشعّ الجمرعلى جوانبه اللماعة ليخدر الشاي على مهل وروية، ثم نأخذ لنحتسيه في العصرية على النغم البرّاق لصوت فائزة أحمد ونجاة وشادية، فتلتمع على الحيطان أمانينا وتختلط أوهامنا وتتفجر سواقينا.
[ والفراشات الحالمة التي تعبّ رحيقها في ظلال القمر وما في الآلة من جمال صارم لا ينم عن عاطفة أو انفعال وبرك الماء الدافئ وملمس الفراء والأصابع التي تمتد في صداقة وود ومودة فتشيع في النفس ما تشيعه الرائحة الطيبة من شعور بالراحة والاطمئنان ]
أحببت طقس الخِبازة في التنور أكثر مما أحببت الخبز نفسه، طوق جدائل السعف الذي احتوى خبز بلادي وطحينه وعجينه وملاءاته المحلقة في أماسي الصيف، هناك حيث عرفت لوحات ( مارك شاغال) الطائرة لأول مرة فقررت أن أصغي لهمس الجمال. ثم وجدتني دون أن أدري لماذا، أحب نوارس السحاب الأبيض المعلق في أطراف السماء وتحته نوارس الطيور التي تمطر أجنحتها مطراً أزرق على النهر اللصيق الى كل المدن التي عرفتها هناك عبر البحار، وحتى هنا في الأرض الغريبة كذلك، حيث وجدتني أحب دون أن أدري آلافاً من الأشياء والناس والأنهار والفنون والجنون، والنساء والخمرة والغليون والأشجار الهائلة، والسناجب وأكوام الثلج والأمطار الهاطلة والبحيرات المهيبة. [ أسماء عزيزة وآلاف الأشياء تتزاحم في خيالي : اللهب الذي يتصاعد في جلال ملكي والماء العذب الذي يتدفق من صنبور أو نبع وماتخلف عن السنة الفائتة من نباتات السرخس ]
العالم مشروع للحب في كل زمان ومكان، الحب هوية عالمية كونية ، ومشاعر تحس بها كل الكائنات كيفما كانت وأينما قبعت، إنه لوعة ذائبة في الهواء وشعلة باهرة تسربت في الضياء. انه حولنا في كل مكان.. وليس علينا إلاّ أن نبادر ونتلمسه بأنفسنا. ______________ واشنطن- 2004
* كل ما هو بين قوسين مقاطع من قصيدة (العاشق) للشاعر الاميركي روبرت بروك
#حسين_علوان_علي (هاشتاغ)
Hussain_Alwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اناشيد المغني
-
أنهارنا، وألوانهم
-
السينما والصحافة - 2 - الصحافة حين تخفي نصف الحقيقة .
-
السينما والصحافة -1- فيلم كلّ رجال الرئيس
-
أيّ قلب ذاك الذي عندكَ؟
-
الموت الثمين والحياة المؤجلة.. قراءة في مجموعة قصائد مختارة
...
-
مرثية إلى ياسين عطية*
-
أبواق حزينة
-
جزيرة الغرقى المحبين
-
أول الموج
-
فيلم عازف البيانو- تحفة لرومان بولانسكي وفيض من ثرائه
-
قراءة في فلم (غراند تورينو) لكلنت ايستوود
-
الفلم الالماني حياة الاخرين - الخيار الاخلاقي في مواجهة سلطة
...
-
فيلم السقوط.. الساعات الاخيرة من حياة هتلر والرايخ الثالث.
-
يا وجود
-
أصل الشر!
-
مسرحية فان كوخ - الطريق إلى الشمس
-
السومري الدائن في زاهي الكتابة.
-
حين تقع في غرام مدينة
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|