|
وطن صديق.. وطن عدو
فريدة موسى
الحوار المتمدن-العدد: 5383 - 2016 / 12 / 26 - 23:17
المحور:
حقوق الانسان
الوطن هو كل تلك المعاني التي نعجز عن التعبير عنها وتعجز مشاعرنا عن وصفها وتتضاءل الكلمات أمام عظيم فحواها. الوطن جغرافياً مساحة من الأرض يعيش عليها مجموعة من البشر يتكلمون لغة واحدة ويتقاسمون تاريخاً وثقافة وعادات وتقاليد واحدة أيضاً. ولكن تعالوا بنا نتأمل ذلك التعريف بناء على معطيات عالمية جديدة تبعاً لظهور أوطان حديثة الميلاد كدول مثل أمريكا وكندا وأستراليا، تلك الدول التي تأسست حديثاً كدول مستقلة ذات سيادة بفعل هجرات متنوعة لأعراق مختلفة وغير متجانسة من البشر من جميع أنحاء العالم وصولاً إلى دولة المهجر التي أصبحت وطناً بديلاً عن الوطن الأم للشخص المهاجر أياً كان المكان الذي أتى منه. ولا يمكننا تجاهل التجاوزات العنصرية والمشاحنات التي حدثت بين المهاجرين إلى الأرض الجديدة في البدء، مما كان جديراً بتهديد فكرة المواطنة وضرب الدولة في مقتل وتحويل مجتمعها إلى عصابات عرقية كل عصابة تقف بالمرصاد للأخرى مهددةً بذلك سيادة الدولة على أراضيها، إلا أننا نكتشف أن هذا لم يحدث. ودعونا نطبق هذا الكلام على دولة كدولة أمريكا التي لا يخفى على أحد تاريخها الذي مرَّ بحقبة عنصرية تجاه المهاجرين الأفارقة والأيرلنديين والإيطاليين والآسيويين في بدء تأسيسها، إلا أن هذا سرعان ما تغير تماماً، وذلك مع الأخذ في الاعتبار عمر دولة أمريكا الذي لا يتجاوز الثلاثة قرون. وثلاثة قرون تُعد مدة قصيرة جداً في عمر الأمم، إلا أن أمريكا استطاعت تجاوز تلك الآفة عندما أدرك الأمريكيون الأوائل أن هذا الوضع المجحف سيتسبب في هدم الدولة الوليدة ويحول الحلم الأمريكي إلى كابوس، لهذا عندما قامت الحرب الأهلية الكبرى بين الشمال والجنوب (1861-1865) حيث دعا الرئيس أبراهام لينكولن لإلغاء استرقاق البشر واستعبادهم كانت الحرب بين الرجعية والتقدمية، بين فكرة الوطن العنصري المنحاز لفئة ما أو عرق ما وبين فكرة الوطن الذي يمكنه استيعاب الجميع والذي يحترم مبدأ المواطنة ويُقيم دولة العدالة الاجتماعية في منأى عن أي تفرقة عنصرية أو عرقية أو دينية. وبعد انتهاء الحرب انتصر الطرف صاحب الأفكار الليبرالية المنحازة لحقوق الإنسان وتم إلغاء العبودية وتحققت المساواة بين جميع المواطنين بعيداً عن اللون والعرق والدين والمكانة الاجتماعية وتم إعلاء قيمة الفرد وحقه الإنساني الشرعي في الحياة بكرامة وممارسة حريته كمواطن يحمل الجنسية الأمريكية له كل الحقوق وعليه كل الواجبات التي يقرها الدستور والقانون الذي يوفق الأوضاع ويتعامل مع المنازعات بين أفرادها لإقامة حياة مجتمعية متزنة يقوم فيها المواطن بواجباته ملتزماً بالدستور والقانون ويحصل بالمقابل على كامل حقوقه. وهكذا خرجت دولة الولايات المتحدة للعالم دولة مستقلة استطاعت استيعاب كل تلك الأعراق المختلفة والثقافات المتنوعة، فتقزمت العنصرية أمام العدالة الاجتماعية وذابت أعراق وثقافات المواطنين في بوتقة الوطن الجديد تدريجياً حتى نسي المهاجرون أوطانهم الأولى وانخرطوا في إحساس الانتماء للوطن الجديد، وأصبح كل من يروجون لإقصاء فئة أو فصيل أو عرق منبوذين فكرياً لدى مجتمع إيمانه الأول والأخير بالدستور والقانون وثقته مُطلقة في المساواة التي تضمن للجميع اتزاناً مجتمعياً يؤكد على فكرة المواطنة الحقة. إذن، نحن هنا بصدد التعامل مع وطن أعلى من قيمة الفرد ومنحه حقوقه الإنسانية فأصبح وطناً يستحق عن جدارة لقب وطن.. نعم، فأي وطن ينكر حقوق مواطنيه يصبح سجناً مفتوحاً وغابة بشرية يتناوب فيها البشر على انتهاك حقوق بعضهم البعض، بل إن هذا التعبير يُعد مجحفاً للغاية، فحتى الغابة لديها قوانينها التي تنظم العلاقة بين ساكنيها. ومن هنا نستخلص المغزى الحقيقي لمعنى الوطن والمواطنة، فالوطن ليس تلك المساحة الجغرافية المحددة فوق الخريطة فقط والتي قد تتحول إلى منفى كبير يشعر فيه المواطنون بالعزلة والقهر، مما يحيل المواطن إلى الشعور بأن وطنه يضطهده وينتهك حقوقه ويضرب بعرض الحائط آماله وأحلامه وطموحاته. الوطن الصديق هو الذي يعزز مبدأ العدالة والحرية ويؤمن بدولة القانون ويضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه انتهاك حقوق الآخرين أو تهديد الأمن القومي. وبين الأوطان الصديقة والأوطان العدوة تقوم دول وتسقط دول أخرى، ويصبح معنى الوطن في عالم يطمح إلى السفر إلى الفضاء لاستكشاف كواكب جديدة رهين تلك القيمة الكبرى لمعنى المواطنة وحقوق المواطن وواجباته. الوطن الصديق هو الذي يؤمن بالمواطن قبل أن يُطالب المواطن بأن يؤمن به، وإلا تحول هذا الكيان الجغرافي إلى وطن عدو يقهر ويقمع ويبدد حقوق مواطنيه.
#فريدة_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثالوث الموت المقدس السطحية .. اليأس .. الرجعية الدينية .....
-
امرأة هشة ورجل عصابي
-
أنا الديكتاتور
المزيد.....
-
غرق خيام النازحين على شاطئ دير البلح وخان يونس (فيديو)
-
الأمطار تُغرق خيام آلاف النازحين في قطاع غزة
-
11800 حالة اعتقال في الضفة والقدس منذ 7 أكتوبر الماضي
-
كاميرا العالم توثّق معاناة النازحين بالبقاع مع قدوم فصل الشت
...
-
خبير قانوني إسرائيلي: مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت ستوسع ال
...
-
صحيفة عبرية اعتبرته -فصلاً عنصرياً-.. ماذا يعني إلغاء الاعتق
...
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|