دخل الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل يوما إلى قاعة الدرس وهو يحمل صورة شرشل أمام الطلاب ثم قام بتمزيقها ونثرها، وطلب من الطلاب التعرف الآن على صاحب الصورة، فاختلفت الإجابات بين قائل هذا شرشل وآخر هذه عين أو رجل أو ذراع، ثم قام راسل بإعادة تركيب الصورة مرة أخرى فظهر وجه رئيس الوزراء الشهير.
كان درس الفيلسوف راسل عن مفهوم الحقيقة ومنطق الاختزال الصوري، وكيف أن الحقيقة ليست ذات وجه واحد أو بعد واحد بل هي متعددة وهرمية ومركبة ولا يمكن رؤية الحقيقة إلا في صورتها الكلية لأن الاختزال هو تشويه لها.
إن العقل الاختزالي هو عقل متخلف بكل المقاييس سواء كان هذا العقل شرقيا أم غربيا، فالنتيجة واحدة وهي اختصار الظاهرة أو المرحلة أو الحقيقة أو الشخص أو السلوك في تفصيل واحد أو حدث واحد ودمغه بها بصورة قطعية ونهائية وصارمة وجازمة.
والعقل الاختزالي عقل غير قادر على التوليف أو التركيب أو بناء علاقات فكرية أو إيجاد صلات سرية أو داخلية أو روابط بين الأشياء والحوادث والظواهر والأفراد، وهذا العقل السطحي يأخذ الظاهرة أو الفعل أو الحادثة في وجودها الخاص ويتم الحكم عليها من خلاله.
ويقوم هذا العقل على ذهنية الوصم أو الدمغ أو الاختصار ـ اختصار الأشياء والأفراد في موقف أو ظاهرة أو حادثة ـ وعلى حذف مبدأ الصيرورة والتركيز على ثبات صورة واحدة في الذهن عن شيء معين أو ظاهرة معينة أو فرد معين ووضعه في خانة أو علبة محكمة وغلق الباب بصورة أبدية.
كما لو أن هذا الفرد أو تلك الظاهرة لا صلة لها أو علاقة ولا ترتبط بقانون أو صلات خفية أو علنية مع بعضها.
إذن العقل الاختزالي يلغي مبدأ السببية والعلة والميول العميقة والدوافع والعوامل المتشابكة ويركز على صورة النتيجة وسطحها الظاهري وهي صورة مختزلة محذوفة مختصرة لا ترى الشيء أو الشخص أو الظاهرة بل ترى رغبتها الشخصية وصورتها وميولها هي.
إن في المجتمع العراقي أمثلة بارزة على طريقة عمل العقل الاختزالي ومنها على سبيل المثال ذهنية الوصم التي دمغت بها عوائل عراقية سلبا أو إيجابا وحملت سلالات متعاقبة لقب عاهة أو لقب موقف أو لقب رغبة.
هناك، على سبيل المثال، عائلة الأعرج بسبب عرج الجد الخامس أو الرابع، وعائلة الحطاب بسبب مهنة الجد، وعائلة أبو طبيخ، أو عائلة أبو دبس لأن مؤسس الأسرة عمل في الدبس، أو عائلة العميان لأن الجد كان أعمى...الخ.. وقد تدمغ العائلة بصورة إيجابية مدى الحياة بلقب أو موقف أحد أفرادها كعائلة الوزير الفلاني الذي سيظل يحمل اللقب مادامت الشمس تشرق، أو عائلة فلان الشيوعي الذي سيظل شيوعيا ولو صار عضوا في القيادة القومية أو مديرا لبنك ، أو عائلة الجاسوس فلان حيث ستدفع أجيالا من أسرته ثمن عمل فردي قد يكون أو لا يكون صحيحا.
هكذا هو الاختزال والوصم، وهذا العقل الاختزالي غالبا هو سمة المجتمعات المتخلفة التي تعيش في تركيبتها الاجتماعية على الإعادة والاجترار والتكرار والطقسية. أي بتعبير أدق المجتمعات التقليدية الراكدة التي تتسم الحوادث فيها والمواقف بثبات مقزز ويتذكر الناس على مدى عشرات السنين حوادث فردية تافهة
بهذه الصورة يتم اختصار تاريخ الأسرة وتحمل أجيالا متعاقبة لقب عاهات أو مواقف عابرة دون مراجعة أو إعادة نظر، والأمر نفسه ينطبق تماما الانطباق على السلوك السياسي.
مثال ذلك يتم عادة اختصار شخصية عبد الكريم قاسم في سلوك أو تصرف معين ويتم حذف البناء الشخصي للرجل والمرحلة، أو يتم في أحيان كثيرة اختصار المرحوم البارزاني في حادث معين ويتم شطب كل النضال الوطني الطويل، أو التركيز على حوادث قتل في الموصل واختصار الحزب الشيوعي العراقي بها وحذف تاريخه الكبير والشائك والطويل.
وذهنية الاختزال هي نتاج منطقي لعقلية التخلف. ويعرّفها الدكتور مصطفى حجازي على أنها: ( الاختزال عملية نفسية علائقية، يختصر فيها الشخص إلى أحد أبعاده، أو وجه من وجوده، أو إحدى خصائصه فقط. وهكذا لا نعود ندركه إلا باعتباره تلك الصفة أو الخاصية. وفي هذا اعتداء على إنسانيته، واعتداء على حريته في أن يكون غير ما نريد. ويتخذ الاختزال طابعا سلبيا معظم الأحيان، كأن لا نرى من الشخص إلا إحدى خصاله السيئة ونوحده معها. وهنا تدخل التحيزات والأحكام المسبقة والأفكار المنمطة كثيرا. وتؤدي إلى مواقف إدانة وتعصب.
لكن، يضيف الدكتور حجازي، قد يختزل الآخر إلى إحدى خصاله الطيبة، كاختزال المرأة إلى مجرد دور الأم مع ماله من قيمة. وهكذا فالميول الاختزالية تمنع رؤية الآخر على حقيقته، فهي تبخسه، أو ترفعه إلى مصاف المثل الأعلى. وتنطلق الميول الاختزالية من اتجاهات أنانية أو أنوية: أن لا يكون الآخر سوى ما نريده له...).
وهذا اعتقال للآخر وحبس وسجن له في خانة دون منحه الحق في أن يتغير أو يموت أو يتحرك أو يفكر أو يبدل مواقفه أو يراجع نفسه. وعلى سبيل المثال مرة التقيت بأصدقاء قدامى في السويد سنة 93 وسألوني عن شخص فقلت لهم: لقد أعدم لهروبه من حرب الخليج الأولى. وقد أدهشني رد الشماتة المشمئز وحين سألت لماذا؟ كان الجواب أغرب:
ـ هل تذكر كيف كان يراقب الناس في عام 70؟!
لقد حبس هذا المسكين في خزانة حديدية ولم يشفع له حتى حبل المشنقة لأن الصورة النمطية قد غرزت في عقل متخلف اختزالي صوري سطحي راكد جامد ميت شاحب لم يعد قادرا على رؤية الحياة في تحولاتها وينابيعها المتفجرة وفي صيرورتها ولا في نموها أو في عواصفها الفكرية والسياسية والعلمية ولا في قفزاتها السريعة خاصة ونحن في عصر القرية الفضائية وفي عصر تأجير الأرحام وبنوك الحيامن والاستنساخ.
إن الشعب الألماني يعرف جيدا أن الروائي غونتر غراس حامل جائزة نوبل كان عضوا في الشبيبة النازية في فترة من فترات حياته، ولكن كان يعرف أيضا كيف كانت قضية الانتماء السياسي تتم في ألمانيا. لذلك لم يتم اختزال غراس في موقف واحد وحذف تاريخه الثقافي والأدبي ولا شخصيته الإشكالية المثيرة للجدل وحروبه اليومية الكثيرة التي أغنت الحياة الثقافية والسياسية في ألمانيا.
والأمر نفسه ينطبق مثلا، على الروائي النرويجي وهو حامل جائزة نوبل في الآداب كنوت همسون الذي وقف إلى جانب النازية حين احتلت بلده وأوشك هذا الموقف أن يقوده إلى حائط الإعدام لولا حملة تضامن واسعة عالمية وداخلية كانت تطالب بفهم أعمق لموقف كنوت الذي ربما تلقى معلومات خاطئة عن النازية التي طرحت نفسها بصورة جذابة ومنقذة لأوروبا، أو ربما تعرض إلى ضغط، أو كان كبير السن، أو مريضا، أو أساء فهم الموقف، أو وقع في ( الخطأ الإنساني)...الخ. وخرج من السجن ومات لكن الشعب النرويجي اليوم لا يختزل هذا الكاتب الكبير في لحظة واحدة على قساوتها رغم إعدام المتعاونين مع المحتل.
الأمر نفسه ينطبق على بعض مواقف الشاعر الجواهري والمتنبي والحصيري والسياب وغيرهم الكثير. لكن هناك فرقا بين موقف عابر قائم على ضغوط أو سوء تقدير وموقف قائم على القصدية ويتسم بطول المدة وعمقها.
إن العقل الاختزالي هو أيضا عقل إسقاطي. وحسب الدكتور حجازي( أحكام الإنسان المتخلف على الظواهر والأشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطيعة. ذلك أن طغيان الانفعالات بإلغائها لوظيفة النقد العقلي تفتح الباب واسعا أمام بروز الميول الاختزالية. يتحول الآخر إلى مجرد رمز للسوء أو الشر أو التعطيل أو الخطر أو العنف أو الحب أو العون.الخ. منذ تلك اللحظة يتحدد التعامل معه والموقف منه انطلاقا من دلالة الرمز الذي أعطي له).
إنه مأزق عقلاني حسب الدكتور حجازي، ومأزق نفسي حسب عالم النفس الأمريكي بول هوك في كتابه( ابق رأسك عاليا). ويتساءل بول هوك: كيف يمكن الحكم على شخص واحد بسبب موقف أو الاستنتاج أن برميلا كاملا من التفاح فاسد بسبب تفاحة واحدة؟.
إن الإنسان، يقول بول هوك، مجموعة هائلة من الخواص والصفات الجسدية والوراثية والثقافية والاجتماعية، وهي في تبدل دائم، ولا يمكن الحكم عليه بناء على صفة أو خاصية. كما أن القول أن فلان سيء أو جيد يتطلب تحديد في أية ساعة أو موقف أو لحظة كان سيئا أو جيدا، لأنه سيكون خلاف ذلك في لحظة تالية. كما أن معايير الحكم على هذا الموقف تختلف من شعب إلى شعب فالمعايير نسبية، وما هو موقف غير أخلاقي مثلا في لندن قد يكون أخلاقيا في البيرو. ألم يقل المثل الإنكليزي ( رذائل بيكادلي ـ حي لندني سيء السمعة ـ هي فضائل بيرو). أي كل ما هو مرفوض في بيكادلي على انه سلوك لا أخلاقي هو السلوك المعياري والنمطي في البيرو.
كيف يمكن ،مثلا، قراءة موقف بعض القبائل المكسيكية البدائية التي تقتضي تقاليدها أن ينام الضيف مع زوجة المضيف في الليلة الأولى؟ كيف يمكن الحكم على سلوك من هذا النوع عراقيا؟!
إن العقل الاختزالي هو عقل " أو اللاعقل " تنقصه المحاكمة المنطقية القائمة على رؤية الأشياء والحوادث والظواهر والأفراد والوقائع بناء على عقل جدلي يبدو فيه كل شيء في تحول وولادة وموت وانبعاث وتكوّن وصيرورة.
أما العناد والثبات والرسوخ، وهي سمات تميز العقل الاختزالي، وتصور على إنها ( ثبات مبدئي) فهي إلغاء لجدلية العقل.
إن فكرة الثبات المبدئي، وهذا موضوع آخر، هي خاصية عقل الاختزال، لأن الأفكار فرضيات في تحول وتغير وإعادة قراءة مستمرة.
الأفكار ليست مبادئ أخلاقية يشكل الخروج منها أو مراجعتها خروجا من مبادئ الشرف كما فسرتها قبائل اليسار في العالم العربي، بل الأفكار هي فرضيات قد تكون صحيحة اليوم وقد تكون خاطئة غدا.
ولو كان العناد موقفا، فأنا رأيت حميرا تغرز حوافرها في الأرض ولا تتحرك..!