|
الاقصاء الاستباقي
عمر إدلبي
الحوار المتمدن-العدد: 1423 - 2006 / 1 / 7 - 09:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تجاوز الماضي أصبح ضرورة ملحة لسورية ، وهو أحد أهم الخطوات للارتقاء بوعي جميع أبناء الوطن السوري فوق ماضي الدم والاحتراب والتوترات والعصبيات ، وهو بدون شك مطلب جميع السوريين الوطنيين المعنيين بإنقاذ سوريا مما هي فيه ومما هي معرضة له في المستقبل من تشرذم وانعطاف نحو التعصب والممارسات الثأرية ذات المرجع العصبوي. والخيار الديمقراطي الوطني بما يشكله الآن من مدخل لازم وحاسم لإنقاذ سوريا يستلزم تجاوز الماضي بمعاناته الضخمة وأثقاله الكبيرة التي ينوء تحت منعكساتها المواطن السوري في واقعه المعيش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً. والوصول إلى العتبة النفسية التي يمكن معها تجاوز الماضي يحتاج - بلا شك – إلى مراجعة هذا الماضي نقدياً - وبعين تنظر إلى المستقبل – على أسس منهجية تتخذ من الجرأة على الاعتراف بالأخطاء والنواقص الذاتية مقدمة أولية للقراءة النقدية المدققة في تجربة وممارسات جميع الأطراف السياسية السورية في الماضي،( سلطة ومعارضة، يمين ويسار)، وبروح جدية تهدف أول ما تهدف إلى رأب الصدع في جسد الحوار الوطني الشامل بين جميع الأفرقاء، فهل يحدث هذا الآن؟ البعض ما زال مصراً على تغييب الآخر، إن على صعيد المشاركة في الحياة السياسية أو حتى في الحوار، وهذا الموقف المتشنج من قبل النظام السوري وافق هوى بعض أطراف المعارضة السورية ، فهل هناك خطر فعلي في السماح للأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية بالعمل السياسي في سوريا؟ الديمقراطية الآن ووسط هذه الموجة العاتية من الاختلالات والاهتزازات الدولية والإقليمية والعربية تشكل ضرورة لازمة لإعادة إنتاج الصيغ الوطنية الواعية والاستقواء بها على العصبيات والروابط الاجتماعية الما قبل وطنية ( طائفية، عشائرية، إثنية، دينية... إلخ ) التي – وللأسف- تشكل المشهد المجتمعي السوري راهناً. إن الديمقراطية ليست صناديق انتخاب فحسب، وهي قبل أيّ تحديد معرفي لها سلوك وموقف من الإنسان الفرد، والفرد هنا مفهوم يحيل إلى الإنسان العضو في المجتمع التشاركي، ولا يستند إلى الفردية البدائية التي تمثل بواكير نشوء البشرية، إنه الفرد المواطن ضمن جماعة بشرية متوافقة على أن أفرادها أحرارٌ بفردانيتهم واجتماعيتهم وروابطهم الاجتماعية الديمقراطية، هذه هي الديمقراطية التي يحتاجها الوطن السوري راهناً ومستقبلاً ، ديمقراطية الوعي، ديمقراطية الحقوق لا ديمقراطية الواجبات فحسب، فبالديمقراطية يصبح الحق هو المفردة الأكثر تعبيراً عن المواطن ومركزه القانوني. وكي لا نغالط منطقنا في مقاربة مفهوم الديمقراطية، لابد لنا من الإقرار بأن الكتل السياسية الحزبية التي تنبني على أسس دينية هي كتل سياسية دون مستوى الديمقراطية التي أكدنا على محدداتها، وربما نتفق من حيث المبدأ مع أصحاب النيات الحسنة من الرافضين دخول الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية إلى الحياة السياسية في سوريا بحجة غياب الديمقراطية الاجتماعية عن المرجعية التي تؤسس برامج الأحزاب الدينية، مما يدفع للخشية من ممارسات تمس صلب الحريات الاجتماعية التي توافق عليها السوريون منذ الاستقلال. ولكننا لايمكن أن نتفق مع أصحاب النيات السيئة لأنهم ليسو موضع ثقة لدينا في خياراتهم ومواقفهم وبرامجهم التي لم تكن في يوم من الأيام معنية بالشأن الوطني قدر عنايتها بمصالحهم الضيقة الدونية، ولاسيما في ترويج تصويرهم المبالغ فيه لقوة ووحشية وتطرف التيار الديني ودعاته في سوريا، وبالتالي استنادهم إلى هذا التصور للاستمرار في نظام مصادرة الحريات واحتكار السلطة وتخويف السوريين – ولاسيما الأقليات الدينية والمذهبية- من وحش تطرف الأكثرية وتيارها الديني. وفي ردنا على هذا الموقف الإقصائي الاستباقي نؤكد على مايلي: أولاً: إن الديمقراطية ليست هدية مجانية يقدمها نظام حكم سياسي لمواطنيه، إنها تضحيات من أجل الأسمى، والأسمى هنا هو الحرية بما هي شرط التكليف وممارسة العمل والالتزام بمسؤولية تنظيم وإدارة المجتمع، دون انتظار هبات الآخرين، وهي بالتالي مغامرة من أجل الأفضل وتحتمل قدراً من المخاطرة المتمثلة بممارسات لا ديمقراطية من قبل تيارات سياسية قد تشكل أغلبية في وقت من الأوقات وتعزف على وتر الدين أو الطائفة أو العشيرة، إلا أن هذه المخاطر من طبيعة الحراك السياسي ولا تشكل مبرراً لقبول غياب الديمقراطية خوفاً من انتكاسات قد تحصل كما قد لا تحصل، وإقصاؤنا استباقياً لمن نعتقد بخطورتهم مستقبلاً يمثل انتهاكاً للديمقراطية التي ننادي بها، وسلوكاً لا يختلف في جوهره عن سلوك الديكتاتورية، وسيكون الأمر كما لو قبلنا بالخروج من المغامرة قبل أن تبدأ فعلياً. ثانياً: إن توسيع إطار الحريات إلى الحد الذي يسمح بتشكيل وعي وطني ديمقراطي يسهم في تكريس ثقافة الديمقراطية في المجتمع، مما يسمح ببناء وعي مجتمعي مؤمن بالمصالح الوطنية لجميع أفراده، ويدافع عنها سلمياً ضد أيّ محاولة لانتهاك العقد الوطني الذي توافق الجميع على الاحتكام إليه، والذي يجب أن يقوم على الثقة المتبادلة بين أطرافه في حماية الضمانات الأساسية للديمقراطية، ومثل هذا التوسيع للحريات يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع مستوى حضور النخب السياسية والاجتماعية لتمارس دوراً وطنياً وإنسانياً وعقلانياً، تستطيع بواسطته مواجهة التحدي الهام المتمثل في التعبئة والتحريض على الانتماءات الما قبل وطنية، وتشكل بالتالي رافعة للعمل الوطني الديمقراطي. ثالثاً: إن الأغلبية في النظم الديمقراطية لم تكن في يوم من الأيام أغلبية أبدية، فالأغلبية تجمعها دائماً التوجهات والرؤى والمصالح، ولهذا فهي معرضة باستمرار لإعادة التشكيل، بما في ذلك تحولها إلى أقلية كلما تنافرت المصالح والرؤى والتوجهات. رابعاً: إن الظرف المجتمعي السوري بمكونات وعيه المتأخرة نسبياً غير مؤهل لتجاوز مثل هذه التشكيلات السياسية الما قبل وطنية، والتي تجد فيها الفئات المكونة لها ما يكفل تحقيق التوازن الديمقراطي الشكلي على الأقل، وهو حالياً توازن يطفئ نار الاحتراب الفئوي، ومثل هذا التوازن يعتبر مقدمة لإنهاء مسببات مثل هكذا احتراب مستقبلاً، وهذا برأينا يشكل خطوة لا بأس بها على طريق تكوين ثقافة ووعي مجتمعيين بالتشكيلات الأكثر ديمقراطية ووطنية. خامساً: إن الإقصاء الاستباقي الذي يمارسه النظام السوري ويتفق في موقفه هذا مع بعض أطراف المعارضة يرجع في رأينا إلى انعدام ثقة هؤلاء بأنفسهم وتقصيرهم في تشكيل البديل الديمقراطي القادر على استقطاب الشارع. ختاماً : نرى أن هذا الإقصاء الاستباقي يمثل شرطاً يضعه الإقصائيون لدخول ساحة الحوار والمشاركة غير المفتوحة أصلاً، وهو بالتالي دعوة إلى بناء يفتقر أحد أهم ركائزه، فالتعددية السياسية تتطلب منافسة حرة وسلمية على السلطة من الجميع دون استثناء أو تمييز على أيّ أساس كان، ومنطق الوصاية والسيطرة على الحراك والحوار السياسيين منطق لا يمثل توجهاً جاداً نحو الديمقراطية، فما معنى أن ندعو للحوار مع الآخر ما لم يتضمن هذا الحوار حوارنا مع الآخر المختلف؟ هل يكفي لإطلاق الحوار أن نفصل آخراً على مقاس أطروحاتنا ونجلسه على طاولة الحوار كما فعل مؤتمر البعث ؟ هذه العقلية المنغلقة إحدى أكثر الأدوات قدرة على هدم وتفتيت النسيج الوطني ودفع المغيبين إلى أقصى درجات الانفعالية ، والعمل على برامج أكثر تطرفاً وتخلفاً، وفي نفس الوقت تقدم نفسها كخير مخلص وقائد للفئات التي يطالها التهميش والقمع، وربما بوسائل غير سلمية، وبالتالي تتهيأ الأجواء لبروز روح الثأر الاجتماعي والطائفي والأقوامي التي تقود الوطن إلى كوارث لا تحمد عقباها، سبق أن عرفها السوريون واكتووا بنارها، سواءً على أيدي المتطرفين المعارضين أو على أيدي متطرفي السلطة وأجهزتها الأمنية. فهل هذا ما يطمح إليه دعاة التحديث والتطوير؟ انتبهوا أيها السادة! وطننا في مأزق، وحتى نخرج منه علينا أن نكون معاً، ولن نقبل بأقل من كامل الحقوق الديمقراطية لأبناء الوطن جميعهم.
#عمر_إدلبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|