جعفر الحكيم
الحوار المتمدن-العدد: 5377 - 2016 / 12 / 20 - 19:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شخصية يسوع الناصري من أهم الشخصيات المؤثرة على امتداد التاريخ الإنساني,وبنفس الوقت من أكثر الشخصيات التي أثارت الجدل والتباين في النظرة إليها والموقف منها, فاختلف تقييمها من بلوغ الذروة في التقديس إلى التطرف في مهاجمتها والازدراء منها , مع وجود تقييمات ونظرة أخرى مختلفة بين الموقفين.
من ناحية البحث التاريخي لا توجد نصوص تاريخية موثقة تروي ظمأ الباحثين, سوى ذكر عابر ومقتضب, بينما ازدحمت النصوص المسيحية المقدسة بذكر تفاصيل غزيرة عن هذه الشخصية , وتعتبر الأناجيل القانونية الأربعة بمثابة توثيق لسيرة يسوع الناصري الشخصية , ولا غنى لأي باحث عن الرجوع إليها والتعرف على شخصية (يسوع) من خلالها.
مشكلة الأناجيل أنها كتبت من قبل أشخاص مؤمنين ومحكومين بالنظرة القداسوية لشخصية يسوع الناصري, وخاضعين تلقائيا للتأثير الإيماني الذي يجعلهم مشدودين وجدانيا لهذه الشخصية وواقعين تحت تأثير(اسطرة الشخصية) فيكتبون ما يوافق انبهارهم واعتقادهم الإيماني الذي يصبح لا شعوريا هو البوصلة في رسم معالم شخصية الأسطورة التي يريدون تصويرها للناس, ومن المعتاد في هكذا حال أن يسطر الكاتب ما يريد من الآخرين أن يصدقوا أنه الحقيقة , أو ما توهمه بانها الحقيقة نتيجة التأثير العقدي أو العاطفة الوجدانية المؤدلجة.
في هذا المقال نحاول تتبع بعض المعالم في شخصية يسوع الناصري التي رسمها لنا كتبة الأناجيل, مع التأكيد أن الكلام هو محاكمة للنص الإنجيلي , ولا يعني بالضرورة أنه حكم على الشخصية الحقيقية للسيد المسيح.
السيد المسيح اعلن عن نفسه انه ( انسان) بشكل واضح وصريح (وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ) يوحنا 8
والكتاب المقدس أعلن بشكل واضح لا يحتمل التأويل أن كل إنسان يخطئ (لأنه ليس إنسان لا يخطئ ) سفر الملوك.
ورغم محاولة كتبة الأناجيل إحاطة شخصية المسيح بهالة محكمة من الغلو التقديسي والاسطرة الإيمانية, لكن المتتبع لسيرة يسوع الناصري التي تصورها الاناجيل, يخرج بانطباع ان هذا الشاب اليهودي الحالم بثورة تقلب الواقع المزري الذي يعيشه أبناء جلدته واقتلاع جذور الظلم والاستغلال السائد, كان شخصا انفعاليا حاد المزاج (لم يضحك) أبدا, وبالإضافة إلى التناقض في بعض أقواله وتصرفاته,نجده يرتكب أخطاء حاول المؤسسون للديانة المسيحية لاحقا تبريرها وتأويلها بتكلف.
ويمكن تقسيم الأخطاء التي ارتكبها يسوع الناصري إلى ثلاث فئات, أخطاء سلوكية وتشريعية ومنهجية!
الأخطاء السلوكية :
نجد الإنجيل يصور لنا يسوع الناصري, كشاب يهودي عنصري يرى قومه اليهود أبناء الله بينما بقية البشر هم (كلاب) كما مر علينا في مقالات سابقة في قصة المرأة السورية التي رفض مساعدتها, الا بعد ان قامت تلك الانسانة المضطرة والمحتاجة للمساعدة بمسح كرامتها تحت قدمي يسوع والإقرار له بأنها من الكلاب! متى 15: 21-28
كذلك يصور النص يسوع الناصري كاذبا أحيانا, كما في قصة عيد المظال التي أوردتها في مقال سابق (راجع يوحنا 7)
واحيانا اخرى تصوره الأناجيل كشخص خائف يهرب من خصومه, وعند مواجهتهم يحاول التهرب من خلال الإجابات المراوغة ,والتي تحمل أكثر من معنى كما نلاحظ في يوحنا 18 ومراوغته في اجاباته مع رئيس الكهنة ومع بيلاطس!
ومن الأخطاء الغير مبررة التي ارتكبها يسوع الناصري, لجوئه لتصرف عنفي ,لا يليق بمصلح يحاول نشر المحبة والسلام, عندما قام بصنع (سوطا) من حبال ودخل الهيكل وقلب موائد الناس الذين كانوا يسترزقون هناك وهو يصرخ:
( لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة) يوحنا 2:12-17 وفي متى 21 ( انتم جعلتموه مغارة لصوص).
وعندما اعترض الفريسيون على تجاوز تلاميذ يسوع الناصري على ممتلكات الآخرين وقطف ثمار زرعهم, واشتكوا ليسوع من تصرف تلاميذه
(اجتاز بين الزروع وكان تلاميذه يقطفون السنابل ويأكلون وهم يفركونها بأيديهم. فقال لهم قوم من الفريسيين لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت) لوقا 6: 5-1
نجد يسوع بدلا من لوم تلاميذه, يبرر لهم سطوهم على زرع الناس محتجا بقصة تقول ان داوود عندما جاع مع جيشه, أكل من الخبز المقدس!
ومن السلبيات الأخرى التي تؤشر(حسب الأناجيل) لحدة مزاج يسوع الناصري,وافتقاده للياقة, ومقابلة الإحسان بجفوة وغلاظة, وعدم تحمله لأي استفسار يستشعر منه نقدا أو ملامة ,ما نلاحظه في قصة تصرفه العجيب مع الفريسي الذي طلب استضافته لياكل في منزله وبعدها ثار يسوع غاضبا وكال له وللفريسين سيلا من التوبيخ, وشتمهم ووصفهم ب(الأغبياء) لمجرد أن مضيفه الفريسي تعجب( فقط) من عدم غسل يسوع يديه قبل الأكل!!
وقد أثار تصرف يسوع الغريب وشتائمه الغير مبررة لمضيفه وللحاضرين استغراب الناموسيين,واراد احدهم لفت انتباهه, فما كان من يسوع الا ان قام بالتأكيد على توبيخاته, وكال للناموسيين مزيدا من الدعوات بالويل. راجع لوقا (54:11-37)
وهذا الموقف الذي لا يليق بمصلح عظيم, نجد الاناجيل تكرر حدوث مثيل له , عندما سأله الفريسيون في أورشليم عن سبب عدم غسل تلاميذه لايديهم المتسخة(المدنسة) قبل الاكل!
فكان جواب يسوع عبارة عن ثورة غضب وشتائم, مع كلام هو عبارة عن مغالطات منطقية لا مناسبة لها ,فقد وصف يسوع الذين سألوه بالرياء وعدم الإيمان و(الفهم!) كما ورد في إنجيل مرقس اصحاح 7(1-13)
ورغم ان يسوع اعتبر الغضب والشتيمة من الاخطاء الكبيرة والتي حذر منها حين قال لتلاميذه :
( إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ... وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ) متى 5:22
الا اننا نجده وفي مناسبات متكررة يرتكب نفس الأخطاء التي ينهى تلاميذه عنها ويحذرهم أنها تستوجب دخول جهنم!
كما رأينا في القصة السابقة كيف غضب وشتم الفريسيين بلا سبب!
وفي انجيل متى الاصحاح 23 نجد يسوع الناصري يصدح بكوكتيل شتائمي عجيب, حين خاطب الفريسيين باقذع الشتائم واصفا اياهم بالمرائين والعميان والجهال ,و وصفهم بأبناء الأفاعي وكال لهم الويلات والثبور!
ولم ينجو من شتائم يسوع الناصري حتى تلاميذه, فنجده يشتم تلميذه بطرس واصفا إياه بـ الشيطان
(فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان انت معثرة لي) متى 16:23
وشتم في مناسبة ثانية تلميذين آخرين واصفا إياهما بالغبيين ( فقال لهما أيها الغبيان والبطيئا القلوب) لوقا 25-24
الأخطاء التشريعية:
من الأخطاء التشريعية التي تنسبها الأناجيل ليسوع الناصري ,نجد بعض التعاليم التي تعتبر(كارثة) تشريعية بكل المقاييس, ومنها ما تسبب في معاناة ملايين المؤمنين المسيحيين, مثل تشريع (تحريم الطلاق) وحصره في حالة واحدة فقط, وهي حالة الزنى
( أما انا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلّة الزنى يجعلها تزني ومن يتزوج مطلقة فإنه يزنى) متى 5-21
و لا اريد الخوض في شرح هذا الخطأ التشريعي ,فيكفي ان جميع الدول المسيحية( عدا الفلبين) أوقفت العمل به!
كذلك تنسب الأناجيل تشريعا غريبا وغير معقول ليسوع الناصري حول الزنى, فقد اعتبر يسوع ان الزنى يشمل حتى مجرد النظرة بشهوة, وفي هذه الحالة يستحسن للناظر قلع عينه كي تدخل النار وحدها وينجو بقية جسمه!
(وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ.فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ) متى 5:28
وقد اضطر الاباء الاوائل ى اللجوء للتأويل ومحاولة إيجاد تفسير رمزي لهذا التعليم التشريعي اللا معقول!
الأخطاء المنهجية:
هذا النوع من الأخطاء كثير ومتعدد ولا يخفى على الدارس لسيرة يسوع الناصري الشخصية,لذا سأحاول الاختصار بذكر بعض النماذج فقط
من أبرز هذه الأخطاء هو حرص المصلح اليهودي الشاب يسوع ان تكون دعوته مقتصرة فقط على قومه اليهود لانه كان معتقدا انه (لم يبعث الا لخراف بيت اسرائيل الضالة!) ولم يكن معنيا بهداية (الكلاب) من بقية البشر
,لذا نجده عندما يرسل تلاميذه للدعوة من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية للناس يوصيهم قائلا
(إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريّين لا تدخلوا) متى 10
وقد تنبه لاحقا المؤمن الجديد (شاؤول-بولس) لفشل هذا المنهج الدعوي, فقرر الانفتاح بالتبشير للدين الجديد على غير اليهود, ونجح فعلا في إحداث تغيير دراماتيكي في مسار الدعوة ,
الأمر الذي اضطر المؤسسين الأوائل للديانة إلى تبرير وشرعنة هذه الانعطافة التبشيرية من خلال وضع نص على لسان يسوع( بعد موته) حيث جعلوه يوصي تلاميذه بعد قيامته من الموت
(اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ) متى 28-19
والغريب ان هذا النص لا وجود له في أي مخطوطة من مخطوطات القرون الخمسة الأولى !!
ومن الأخطاء المنهجية التي تسطرها الأناجيل حول دعوة يسوع, انها تصوره وكأنه حريص على عدم هداية كل الناس, فنجده يتعمد التحدث بطريقة غامضة ومليئة بالامثال والالغاز!
وعندما استفسر منه تلاميذه عن السبب, أجابهم بأنه يريد إفهام التلاميذ فقط !
اما بقية الناس فهو يتعمد أن يجعلهم يسمعون من دون أن يفهموا, لأنه لا يريدهم أن يهتدوا فيتوبوا ...فتغفر لهم خطاياهم!!
(فَقَالَ لَهُمْ:قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ،
لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ) مرقص 4
ومن الأخطاء التي لا يمكن اغفالها في النصوص الموثقة لسيرة يسوع الناصري, توقعاته التي أثبتت الأحداث اللاحقة عدم صحتها!
فقد أعلن يسوع لتلاميذه الاثني عشر الذين اتبعوه انهم سيجلسون جنبه على كرسي المجد ويملكون سلطة الدينونة مثله
(تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ) متى 19
ولكن الأحداث أثبتت خطأ هذا الوعد واستحالة تحققه, بعد خيانة التلميذ (يهوذا) وبيعه لربه بثمن بخس!
ومن التوقعات الغير صحيحة, وعد يسوع لتلاميذه بأن كل ما أخبرهم به عن أحداث نهاية الزمان ستكون قبل أن ينقضي جيلهم
(اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ) وقد انقضت اجيال كثيرة ولم يحدث شيء!!
وعندما سأل اليهود يسوع الناصري عن أية لإثبات مصداقيته, شتمهم ووصفهم بالجيل الفاسق الشرير, ثم أخبرهم ان آيته ستكون مثل آية النبي يونان( يونس)
(جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ) متى 12-39
ومرة أخرى تتدخل الأحداث وتخيب ظنون يسوع الناصري, وتثبت عدم صحة توقعاته,لأنه -حسب الأناجيل- لم يمكث في القبر نفس المدة التي قال إنها ستكون مطابقة لمدة مكوث النبي يونان في جوف الحوت ( ثلاث ايام وثلاث ليالي).
ختاما أود تكرار التأكيد على أن هذا الاستعراض السريع لبعض أخطاء يسوع الناصري, هو مجرد متابعة لما دونته نصوص الأناجيل, ولا يعني بالضرورة أن الشخصية الحقيقية للسيد المسيح قد ارتكبت فعلا هذه الأخطاء والمواقف.
د. جعفر الحكيم
#جعفر_الحكيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟