أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - محنة البطريق ـ تفكيك صورة الجلاد 7















المزيد.....

محنة البطريق ـ تفكيك صورة الجلاد 7


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 394 - 2003 / 2 / 11 - 02:56
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



 

الصورة النمطية الشائعة للجلاد هي من أكثر الصور غموضا والتباسا في الوعي العام، لأن هذا النموذج المنتمي للبشر والمتعالي عليهم، لا يعيش ويعمل إلا في مناخ الكتمان والسر  والغموض وأجواء الرهبة والقوة والقسوة والوحشية.

لذلك رسمت المخيلة العامة صورة عنه تصفه بكونه الرجل المكلف بتنفيذ قرارات السلطة أو رغباتها أو إرادتها. أي صورة الرجل القوي الذي لا حدود لسلطته في المكان المغلق أو غرفة التعذيب.

 لكن هذه الصورة ليست هي الصورة التامة عن هذا الكائن الذي تستنجد به سلطة غاشمة شرسة ووحشية لكي يساعدها في الدخول إلى عقل المخالف والمعترض والمشبوه والمختلف وغير الشبيه.

إنه أمر ينطوي على مفارقة ساخرة وكبيرة في آن أن السلطة التي تملك كل شيء من عناصر القوة  وقادرة على الدخول إلى كل الأمكنة، وأحيانا تمتلك قدرة غزو الدول، تجد نفسها عاجزة في الدخول إلى عقل المخالف والمحتج والمشكوك فيه.

ومن هنا كانت وظيفة هذا الكائن الجلاد هي وظيفة تقوم على مساعدة سلطة قوية وعاجزة في آن للدخول في المعتم واللغز والسر والمخفي.

 لكن هل حقا أن الجلاد هو رمز السلطة المستبدة أم انه أحد ضحاياها المجهولين؟.

بكل يقين أن هذا المخلوق هو جلاد ويتقاضى أجرا على عمله ويحمل هوية قانونية تمنحه صفة "قانونية" لمزاولة مهنته، لكنه في نفس الوقت أحد ضحايا هذا الاستبداد الوحشي الذي يمارسه هو نفسه على أجساد ضحاياه سواء كان على دراية بذلك أم لا، لأن العلاقة عضوية بين تشويه جسد الآخر وبين تشويه جسد الجلاد.

كيف تجد سلطة قوية وعنيفة نفسها عاجزة عن الدخول في عوالم العقل المغلق للمعارض والمحتج والمختلف وتستنجد بالجلاد لمساعدتها في كسر الأبواب المقفلة؟. وهل هو قادر فعلا على إنجاز هذه المهمة بدقة؟

إن الجلاد الذي يمثل رمز قوة السلطة ووحشيتها هو في آن واحد رمز ضعف السلطة وانهيارها.

فلماذا، أصلا، تنشغل هذه السلطة بعالم الأبواب المغلقة وتحاول الدخول في المخفي والمحصن والشخصي والنائي والبعيد والسري؟.

 والجلاد، وهذه مفارقة أخرى، في الوقت الذي يعمل فيه على كسر أبواب مغلقة للمختلف والمعارض والمحتج والمتآمر، إلا أنه يكسر في داخله هو نفسه أبوابا لا يمكن أن تصلّح، ويهدم جدرانا لا يمكن أن ترمم في داخله.

مرة التقيت بالفنانة المصرية المعروفة محسنة توفيق بطلة فيلم( العصفور) ليوسف شاهين في فندق في بغداد سنة 79 وتحدثت محسنة عن مسرحية( دماء على نوافذ السهرة) للكاتب الأسباني أنطونيو بايخو، وكانت هذه المسرحية قد عرضت في القاهرة يوما ومنع  عرضها.

 كانت المسرحية، حسب الفنانة محسنة توفيق، تتعرض لحياة جلاد يقوم بتعذيب سجناء سياسيين وانتزاع الاعترافات منهم بالقوة. لكنه مع الوقت أصيب بعجز جنسي وعقم فراجع الطبيب وفوجئ أن الطبيب يركز في أسئلته عن المهنة، وحين أجابه الجلاد بكل وضوح ودقة، كان رد الطبيب هو الآتي:

ـ بما أنك تشوه أجساد وأرواح الآخرين، فأنت في نفس الوقت تتشوه. وهذا العقم الجنسي هو في الأساس عقم أخلاقي. 

بهذه الصورة يفسد عقل السلطة العقل الجنسي ويشوه الكائن.

 قرر هذا الجلاد أن يتخلى عن مهنته حين اكتشف أنه كان يدفع ثمنا مع ضحاياه، وحين يعود إلى المنزل تكون الزوجة قد عرفت قبل لحظات بمهنة زوجها التي تجهلها تماما عن طريق ضحية شاكية، فتقرر أن تضع حدا لحياته، وعندما يدخل إلى المنزل ليشرح لها كل شيء ويعلن تخليه عن هذه المهنة ، تكون الزوجة وما أن يدخل إلى المنزل قد أطلقت عليه النار وقبل أن تسمع اعترافه.

ولست متأكدا فيما إذا كانت الفنانة محسنة قد قالت أن الكاتب المسرحي أنطونيو بايخو قد قتل هو الآخر.

 إن الجلاد المكلف بكسر الأقفال المغلقة والحصينة والدخول في الأعماق المظلمة ومناطق السر والتجول في سراديب  اللاشعور وأدغاله ووحوله ورغباته وصوره البدائية والجديدة وغرائزه الحيوانية، هذا الكائن غير قادر على الدخول في أعماقه هو، وفي ضميره هو، وفي لاشعوره هو، إلا حين يأتي هذا الدخول من طرف آخر هو الطبيب.

 والطبيب هنا في تصوري يجسد الحل الديمقراطي للدخول إلى أعماق الإنسان بصورة سلمية هادئة واختيارية ومثمرة. لقد فشل الجلاد في دخول أعماق ضحاياها، كما فشل في الدخول إلى أعماقه، وجاءت النجدة من طرف آخر كان يمكن أن يكون ضحية أخرى.

يعمل الجلاد في المكان المغلق لأنه غير قادر ولا مسموح له أن يعمل في المكان العمومي، خاصة وأن السلطة التي دربته على هذه الحرفة تعلن في الخارج عن هوية أخلاقية وعن مشروع سياسي واقتصادي وثقافي مغاير لما يجري في هذه الأمكنة المغلقة.

 وبهذا المعنى فإن هذا الجلاد على الرغم من كل شيء هو أكثر الناس وعيا بنفاق وازدواجية وكذب السلطة وشعاراتها. فهو يعرف أن هذا المكان المغلق الذي يمارس فيه مهنته يتضمن عارا يجب أن يظل مخفيا عن الأنظار.

وليس غير المكان المغلق من يستر هذا العار. وعادة ما تغلق غرف التعذيب بعوازل خاصة تمنع خروج الصرخات إلى الشارع، أو المكان المفتوح، وتفضح شعارات الحيطان.

 ماذا يخشى الجلاد وهو يمارس مهنته؟
 يخشى عين الضحية.

إن تقابل النظر بين الضحية وجلادها في لحظة واحدة يعري المخبوء والمستور والمخفي داخل أعماق الجلاد. فهذا الكائن الأخير يعرف أنه أضعف بكثير من ضحيته، وأنها أقوى منه بحكم لا أخلاقية الوظيفة. وهذا الشعور بالدونية أمام صلابة وعذاب الضحية هو الذي يدفعه في الغالب إلى تجاهل نظراتها أو غلق مجال الرؤية.

 والحوار الذي يجري بين عين الضحية وعين الجلاد هو حوار من نوع آخر. إنه حوار البشري مع المنسلخ والهارب والمتنكر لبشريته. وهذا المتنكر لا يريد أن يرى صورته في عين ضحيته مهما كلف الأمر، لأنه لا يريد أن يرى صورته الأصلية أولا، ولا يريد أن يرى هزيمته ثانيا، وثالثا لا يريد أن يرى قدرة الآخر على العقاب حتى وهو ملقى على الأرض وأعزل.

ليس غير الأعزل من يفضح الجلاد.

لوحة مدهشة رأيتها في قصر" نيافران" في طهران سنة 89 في قصر شاه إيران الذي تحول إلى متحف، وفي غرفة مكتبه تحديدا واللوحة مهداة كما أتذكر من الرسام سلفادور دالي عن عصفور يأكل عصفورا وينظر خارج اللوحة بعين شرسة، كأن خروج هذا المخلوق الرقيق من عذوبته ورقته لا يكون إلا حين التحول من الحيواني والدخول في البشري حسب تصور هذا الفنان. وهي لوحة تشكل صرخة ضد  التعذيب.

 وكانت مفارقة غريبة لا تخلو من معنى أن أتجول أنا المشرد الذي لا يملك سوى عشرة" تومانات" أي ما يعادل ثلاثة أرغفة خبز في قصر امبراطوار هارب !
          
 مع تغول السلطة، ونمو قوتها، خلقت أنماطا غير معروفة للجلاد الأصلي، وغيرت من صورته النمطية الشائعة. فلم يعد الجلاد هو المكلف بالتعذيب في المكان المغلق فحسب، بل صار أكثر أناقة وشاعرية ورقة، وصار قادرا على الخروج إلى المكان العمومي المفتوح والتحدث مع الجمهور لكن هذه المرة بصفة أخرى، وبدور آخر  مع بقاء الوظيفة الجوهرية على وضعها وهي قمع المحتجين والمختلفين والساخطين لكن هذه المرة بشكل جديد.

إنه حامل فكر  ومثقف ومنتج أفكار ومروّج مفاهيم يعرضها على جمهور عام بكل أريحية كما يبدو الأمر. لكنه حين يفشل، يتكفل الآخر، صاحب المكان المغلق، والخبير بكسر اللاشعور، والجسد، والدخول إلى منطقة الظلام والذاكرة والدم.

والأخطر هو أن الفاشية سلطة ذات طبيعة وبائية، أي تنقل عقدها وأمراضها إلى أجساد ضحاياها بدون علم أو علم الضحية، ويكمن هذا الوباء في عقل الضحية حتى في مكان بعيد، ومختلف، لا يمتلك فيه الجلاد الأصلي سلطة التصرف.

 وهذا التماهي، كما يقول فرانز فانون، هو أقذر سلوك بشري على وجه الأرض وجده بين الضحايا. إن الضحية تتقمص دور جلادها دون وعي أو بوعي وتمارسه على نحو خسيس وبتفنن رغم بقاء المظاهر الخارجية، الواجهة، الشعارات، سليمة في الظاهر.

وهكذا تنقلب الأدوار.
إن الجلاد الجديد، المتماهي، المتقمص، المختفي، والمستتر، الباحث عن التنفيس، لا يحتاج إلا إلى مؤسسة لكي يمارس دوره كجلاد  وباسم الحقيقة أو الجماهير أو الوطن أو التاريخ أو الشرف أو الثورة أو  الذوق أو الأخلاق. وإذا لم يكن يمتلك المؤسسة الآن فهو يمتلك ثقافة الوصم كتعويض عن ذل معتق.

 إن تفكيك صورة الجلاد لا تعني الانتقام، بل تعني محاولة لفهم الصورة من الداخل، وهي صورة ليست سهلة كما تبدو في الظاهر.

  إنها صورة مركبة من تاريخ عريق  من صراع السلطة والحرية.
فكيف يمكن الانتقال من  حرية السلطة إلى سلطة الحرية؟
كيف يمكن تحرير الجلاد من عبودية الوظيفة؟
وتحرير الوظيفة من سيطرة المال؟
وتحرير المال من الحيازة؟

 



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محنة البطريق ـ نقد العقل الجنسي 6
- محنة البطريق ـ مقتل محارب نظيف5
- محنة البطريق ـ الحريق، الحريق 4
- محنة البطريق ـ الرؤية المشوهة
- محنة البطريق ـ فوضى الادوار2
- محنة البطريق وعلامات التحول 1
- الكتابة والاحتيال
- بغداد لن تتزوج الجنرال
- الروائي محسن الرملي ـ الحرب والفتيت المبعثر
- الروائي صدام حسين ـ مسخ الكائنات
- الروائي حيدر حيدر ـ وليمة لأعشاب الظلام!
- الشاعر دينيس دوهاميل ـ كيفية مساعدة الاطفال اثناء الحرب
- الروائي صنع الله ابراهيم ـ رواية وردة والمسكوت عنه
- الى المتماوت رعد عبد القادر ـ مات طائر بغداد المغرد
- الشاعر الشيلي بابلو نيرودا ـ تعالوا انظروا الدم في الشوارع
- الشاعر ولتر تونيتو ـ كفن لبلاد الرافدين
- الروائي الالماني هرمان هيسه ـ اذا ما إستمرت الحرب
- الشاعر عباس خضير ـ الحرب والاعتقال والمنفى والذهول
- الشاعرة اليزابث. ر . كري ـ عشية الحرب
- الشاعر ديفد ري،David Ray ـ الى طفل في بغداد


المزيد.....




- أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل ...
- في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري ...
- ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
- كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو ...
- هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
- خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته ...
- عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي ...
- الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
- حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن ...
- أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - محنة البطريق ـ تفكيك صورة الجلاد 7