|
الفصل بين الدولة و المجتمع كمعيار للحداثة السياسية.قراءة في كتاب ًًالحداثةالسياسيةً لموريس باربيي.
محمد احمد الهاشمي
الحوار المتمدن-العدد: 1422 - 2006 / 1 / 6 - 11:10
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لعل أبرز سمة يتميز بها هذا الكتاب هو كونه من طينة الكتب التي يمكن الوقوف على أطروحتها المركزية بمجرد قراءة الصفحات الأولى وهو ما تفرضه طبيعة الهدف المتوخى منه وهو محاولة تأصيل مفهوم الحداثة السياسية وتدقيق دلالته وتحديد معالمه ليصبح أقرب ما يمكن إلى تعريف إجرائي للحداثة السياسية، عمل من خلاله المؤلف على تخليص المفهوم من حمولته النظرية المجردة وجعله أداة ليس فقط لقراءة الواقع السياسي للمجتمعات المعاصرة بل أيضا لإعادة قراءة التاريخ السياسي للعالم بمختلف ظواهره وتجلياته انطلاقا من المدينة اليونانية وصولا إلى ما يسمى بظاهرة الإسلام السياسي في العصر الحاضر. ولأجل تحقيق هذا الهدف اتبع المؤلف منهجية تقوم على أساس بناء مفهوم الحداثة السياسية الذي يشكل الأطروحة المركزية للكتاب ثم عمل بعد ذلك على قراءة تاريخ الفكر السياسي الإنساني انطلاقا من هذا المفهوم ( الأطروحة ) وذلك عبر استدعاء مجموعة من العناصر، أفكارا وأحداثا ، بهدف تدعيمه وتأكيد صلاحيته، وهو ما يجعل الكتاب يثير مجموعة من التساؤلات الإشكالية سواء على المستوى المنهجي أو على المستوى المعرفي الفكري، ولذلك ستتوزع قراءتنا لهذا الكتاب على لحظات ثلاث حيث سنعمل أولا على تحديد مفهوم الحداثة السياسية عند المؤلف والاعتبارات المتحكمة في بنائه ثم سنحاول رسم الخريطة الحجاجية التي حاول من خلالها الدفاع على مفهومه قبل أن نحاول في الأخير مناقشة بعض القضايا الإشكالية التي يثيرها الكتاب. I- مفهوم الحداثة السياسية: يؤكد المؤلف أن مصطلح الحداثة ظهر لأول مرة سنة 1832 ويحيل حسب معجم روبير على خاصية ما هو حديث، وهو مصطلح ذو دلالة واسعة يشمل كذلك معاني الجديد والراهن ويستعمل كنقيض لمفهوم القديم والعتيق وينطبق على فترة تاريخية معينة هي فترة الأزمنة الحديثة التي تمتد من عصر النهضة إلى نهاية القرن الثامن عشر. يقترح المؤلف تجاوز هذه المعاني لأنها ذات دلالة كرونولوجية وتبقى قاصرة عن تعريف الحداثة بشكل عام و الحداثة السياسية بشكل خاص كما أنها قد تدفع للاعتقاد أن الدولة الحديثة هي الدولة الموجودة في العصر الحاضر أو في العصر الحديث ( ما بين القرنين 17 و18). وبناءا عليه حاول المؤلف إرساء تعريف الحداثة السياسية على تمييز أساسي بين الدولة القديمة والدولة الحديثة مؤكدا أن كلمتي قديم وحديث ليست لهما دلالة كرونولوجية بل تشيران إلى البنية الأساسية للدولة، بنية تتعالى على الزمن التاريخي. يتضح إذن أن تعريف الحداثة السياسية يمر بالضرورة عبر تعريف الدولة الحديثة وهو ما يمكن القيام به إلا بعد تعريف نقيضها، أي الدولة العتيقة التي يقصد بها باربيي" مجموعة بشرية منظمة أو جماعة سياسية تتوفر على الحاجيات الأساسية للعيش وتتمتع بالاكتفاء الذاتي وذلك بغض النظر عن حجم إقليمها وساكنتها. وتستلزم الدولة العتيقة من جهة أخرى وجود سلطة تقود وتحكم هذه الجماعة التي يبقى أفرادها مجرد أجزاء من الكل ( الجماعة) إذ ليس لهم استقلال ذاتي. ويترتب على ذلك أولوية الجماعة على الأفراد الذين لا وجود لهم خارج إطار الجماعة حيث تنتفي قدرتهم على المبادرة و الفعل. وعلى النقيض من ذلك تتأسس الدولة الحديثة على كيان منقسم إلى عنصرين متمايزين: الدولة بالمعنى الدقيق و التي تحيل على الفضاء السياسي من جهــــــــــــة والمجتمع بالمعنى الضيق و الذي يشكل ما يسمى بالمجتمع المدني من جهة أخرى. ويؤدي هذا الانفصال بين الدولة والمجتمع إلى ظهور مجالين متمايزين: مجال عام أي مجال الدولة ومجال خاص أي مجال المجتمع، وبالموازاة مع ذلك يصبح للإنسان بدوره كيانين متكاملين، فهو مواطن من حيث كونه عضو في الدولة وهو ما يسمح له بالمشاركة في الحياة السياسية ومن جهة أخرى فهو فرد و يتمتع بموجب هذه الصفة بالحرية الفردية التي تتيح له أن يعيش حياته الشخصية التي يمارس فيها أنشطته الخاصة. وبالتالي فإن الفصل بين الدولة و المجتمع يتيح للإنسان الانفلات من قبضة الجماعة و التمتع بحقه في الوجود كفرد مستقل. يتبين إذن أن مفهوم الحداثة السياسية يتأسس على الفصل بين الدولة والمجتمع وهو فصل تكون له انعكاسات على مستويين : مستوى علاقة الإنسان بالدولة وهو ما يتجلى في ظهور المواطن ومستوى علاقة الإنسان بالمجتمع وهو ما يتجلى في ظهور الفرد. و بذلك يتضح أن تعريف الحداثة السياسية باعتبارها انفصالا بين الدولة والمجتمع مجرد عنوان لمنظومة فكرية متكاملة تتقاطع فيها مجموعة من الثنائيات: الدولة والمجتمع، المجال العام والمجال الخاص، المواطن والفرد، الحياة العامة والحياة الخاصة. II- مسيرة الحداثة السياسية وتجلياتها: بدأت الحداثة السياسية تظهر بهدوء خلال القرن 17 عبر مجموعة من المحطات وخاصة في انجلترا التي عرفت مجموعة من الوثائق التي تصب في اتجاه الاعتراف بحقوق الأفراد,ويتعلق الأمر ب: -العهد الأعظم سنة1215. -عريضة الحقوق لسنة1628. -إعلان الحقوق لسنة1689. هذه الحقوق اعتبرها الِِمِِؤلف مؤشرات على بداية ظهور الفرد كذات مستقلة في وجودها عن الدولة وهو ما يمهد للفصل بين الدولة و المجتمع و بالتالي فتح الباب أمام الحداثة السياسية. وقد وجد هذا التطور المحتشم والمحدود جغرافيا، امتدادا وصدى في الفكر السياسي لدى كل من سبينورا الذي دافع على حرية التعبير و التفكير لدى الفرد كضمانة لاستقلاليته اتجاه المجتمع و الدولة. إضافة إلى جون لوك الذي أسس علاقة المجتمع و السلطة على مفهوم العقد الاجتماعي الذي يتأسس على إدارة الأفراد. ثم لدى مونتسكيو الذي أسس مفهومه للحرية السياسية على ضرورة وجود مسافة بين المواطن والإنسان من جهة وبين الدولة والسلطة من جهة أخرى. وهو ما أمكن معه ظهور مجال خاص (بالفرد) ينفلت من مراقبة السلطة ويتمتع بنوع من الاستقلالية فاتحا بذلك الباب أمام الفصل بين الدولة والمجتمع.
ظهور الحداثة السياسية في الولايات المتحدة. الحداثة السياسية ناتجة عن مخاض طويل ابتداء من القرن 17بانتزاع المستعمرات البريطانية للاعتراف بحق أساسي هو حرية التفكير والمعتقد وتأكيد دساتير عدة ولايات مجموعة من الحقوق و الحريات الأساسية إضافة إلى إعلان استقلال الولايات المتحدة المتضمن لمجموعة من الحقوق التي تحمل في رحمها الحداثة السياسية وهي حقوق أساسية سبق وأن دعا إليها كل من جون لوك ومونتسكيو. وتتمثل وظيفة الحكومة في ضمان هذه الحقوق تحت طائلة إسقاطها من طرف الشعب الذي يتمتع بحقوق مستقلة ومتعالية على الدولة والسلطة وهذا ما سيؤدي إلى الفصل بين المجتمع السياسي و المجال الخاص بالفرد. - تتميز الجمهورية في أمريكا عن دولة المدينة ( الدولة القديمة) باعتمادها على التمثيل النيابي لأن الديمقراطية لا تتماهى بالضرورة مع الجمهورية، غير أن التمثيل لا يكفي لوحده لتأسيس الحداثة السياسية التي يجب أن تتدعم بفصل بين المجالين العام و الخاص وهو ما يستوجب الاعتراف بمجموعة من الحقوق الفردية التي نصت عليها دساتير أغلب الولايات وإعلان استقلال الولايات المتحدة. وتمظهرت الحداثة كذلك في الانفصال بين الدولة و الدين فهي مستقلة عن كل الأديان ولا يمكنها التدخل في المجال الديني. الحداثة السياسية في فرنسا يستعيد المؤلف فكرة الكس دي توكفيل الذي يلخص الفرق بين التجربتين الفرنسية والأمريكية بقوله أن " الامتياز الكبير للأمريكيين يتجلى في كونهم حققوا الديمقراطية دون أن يعانوا من الثورات الديمقراطية وأنهم ولدوا متساوين عوض أن يصبحوا كذلك". تأسست الحداثة السياسية في فرنسا على أنقاض التنظيمات الاجتماعية القديمة, النبلاء، الكنيسة مما سمح بظهور المواطنين وظهور الفرد الذي يشارك مباشرة في الحياة السياسية وهو ما توج بظهور كيانين مختلفين: • الدولة، أي المجتمع السياسي المشكل من المواطنين • المجتمع المدني، المشكل من الأفراد وفي هذا السياق يعتبر المؤلف أن سييس هو أول منظر للحداثة السياسية حينما دافع عن الفصل بين الدولة و المجتمع عبر تمييز الحقوق السياسية التي تتأطر ضمن المجال العام و الحقوق المدينة والتي تنتمي إلى دائرة المصالح الخاصة وهي أفكار يرى المؤلف أنها تحقق في إعلان الثورة ل 1789 الذي يعتبره بمثابة الميثاق الأساسي للدولة الحديثة. من التنظير للحداثة السياسية إلى نقدها: يميز المؤلف بين مواقف لمفكرين مؤيدين أو معارضين للحداثة السياسية : وفي هذا الاطار يعتبر المؤلف بنجمان كونسطان منظر الدولة الحديثة، حينما ميز بين حرية القدماء المشروطة بالمجتمع إذ لا وجود للفرد إلا باعتباره جزءا من المجتمع وحرية المحدثين التي هي حرية فردية بالأساس ثم يعرج على تحفظات أليكس دي توكفيل على الدولة الحديثة قبل أن يتعرض للنقد الماركسي الذي دعى إلى تجاوز الدولة الحديثة بفضل الديمقراطية والاقتراع العام في أفق بناء جماعة إنسانية حقيقية. الظواهر المهددة للحداثة السياسية: يلخص هذه الظواهر في: 1- الظاهرة القومية: هل تختلف القومية عن الدولة الحديثة أو تتطابق معها؟ هل الأمة شرط للدولة الحديثة أم عائق أمام ظهورها؟ هل انبثقت الأمة عن الدولة الحديثة أم أن هذه الأخيرة تقوض مفهوم الأمة ؟ هذه مجموعة من الأسئلة التي استهل بها المؤلف مناقشته لهذه النقطة قبل أن يخلص إلى استحالة الحديث عن حداثة سياسية في ظل المفهوم الاثنوثقافي للقومية كما نجده لدى كل من هيردر و فخته و رينرو بويرو بريص وصولا إلى الجبهة الوطنية الفرنسية، ليؤكد أن الحداثة السياسية تفترض بدلا عن المفهوم الاثنوثقافي للقومية الذي يعتبر القاسم المشترك في فكر هؤلاء، مفهوما سياسيا للأمة... 2- مشكلة الحكم التوتاليتاري( الشمولي) يستنتج من تحليله لبعض نماذج الحكم التوتاليتاري أن هذا الأخير ينطوي على رفض واضح للحداثة السياسية على اعتبار أن التوتاليتارية لا تقبل بوجود مجتمع مدني و لا بوجود مجال خاص للأفراد كما أنها نقيض الدولة الحديثة ولا تمثل سوى شكلا جديدا من أشكال الدولة القديمة، إذ لا تتميز عن هذه الأخيرة إلا بحجم الإمكانيات و الوسائل المتاحة لها لمراقبة المجتمع و الأفراد مما يجعل التوتاليتارية في نهاية الأمر مجرد دولة قديمة تستعمل أدوات ووسائل حديثة. لا يكتفي المؤلف بالحديث عن الأخطار المحدقة بالحداثة السياسية بل عمل على تطبيق مفهومه للحداثة السياسية على مختلف الأنظمة السياسية في العالم، محاولا الوقوف عند بعض مظاهر عدم اكتمال الحداثة السياسية حتى في بعض الدول التي تقدم نفسها كنموذج كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا قبل أن يخصص فقرات طويلة لبعض الحالات التي يعتبرها خاصة كإسرائيل، تركيا ، و الهند و اليابان. الحداثة السياسية تتجاوز نفسها حركية الدولة و المجتمع وتطورهما المستمر تدفعهما إلى الاستجابة للحاجيات المستجدة، وذلك بتعديل الحدود الفاصلة بينهما وإعادة تحديد علاقاتهما. هذه التحولات انطلقت في أمريكا الشمالية وفي أوربا الغربية.ويعتبر المؤلف ضرورة تحقق الحداثة السياسية شرطا أساسيا لتجاوزها مما لا يعني الانتكاس إلى الوراء، أو رفض الحداثة السياسية، بل الحفاظ على مكتسباتها وتجاوز الانفصال بين المجتمع و الدولة ونسج روابط جديدة مع الحفاظ على تمايزهما الجذري. فالمجالان العام و الخاص يبقيان متمايزان لكنهما يدخلان في عملية تواصل وحوار متبادل، وهو ما يفرز حركة ذات اتجاهين: 1- الدولة لا تبقى منقطعة عن المجتمع وغير مكثرتة بحاجياته، فهي تهتم بمشاكله وتدعم مبادراته وجهوده عن طريق تزويده بخيرات وخدمات تكون رهن إشارة الجميع كما أنها تخفف من حدة اللامساواة و الفوارق الاجتماعية بفضل مجموعة من ميكانيزمات إعادة التوازن وإعادة التوزيع و تخصيص حدا أدنى من الموارد للفئات غير المحظوظة وتمارس التمييز الإيجابي. وبذلك تعيد الدولة ربط علاقات متينة وحيوية مع المجتمع عبر وسائل متعددة : الممتلكات الجماعية، المرافق العمومية، الحماية الاجتماعية، إجراءات التضامن والمساعدة. فهي تتدخل في عدة مجالات ليس عن طريق تشريع القواعد الضرورية فقط بل أيضا عن طريق تقديم دعم ملموس عملي في الاقتصاد، التعليم، الصحة، التجهيز، النقل، البيئة، الثقافة، الترفيه، الرياضة، التي هي موضوع السياسات العمومية كأدوات تسمح للدولة بالتدخل في حياة المجتمع. 2- من جهة أخرى فالمجتمع لا يبقى منقطعا عن الدولة سواء تعلق الأمر بتنظيمها أو بآليات اشتغالها، فهي تؤثر فيها، توجهها وتراقبها بوسائل متعددة : - تحدد شكل الدولة ونظامها السياسي بفضل الدستور الذي يتبناه الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر. - تختار بشكل دوري ومنتظم ممثليها وحكامها بشكل حر عن طريق الانتخابات التعددية. - تبث أحيانا عن طريق الاستفتاء في بعض القضايا الهامة المتعلقة بحياة الدولة وقيادة سياستها. - تمارس رقابة دائمة على الدولة والحكام بوسائل متنوعة أهمها وجود رأي عام متنور بفضل خبراء ومتخصصين مستقلين، ووسائل إعلام تعددية، يقظة ونقدية، وتحقيقات ممنهجة تنشر نتائجها واستطلاعات رأي دورية حول المسؤولين السياسيين وقراراتهم،إضافة إلى تنظيم مظاهرات مدوية تعبر عن المطالب المختلفة وبذلك فإن المجتمع ينجح باستمرار في تجاوز الحدود الفاصلة بينه وبين الدولة. III- قضايا إشكالية يثيرها الكتاب: 1)- إمكانية عزل البعد السياسي للحداثة: إن خوض مغامرة تعريف مفهوم الحداثة السياسية، يعتبر في حد ذاته، نقطة قوة وجدة الكتاب، إلا أن محاولة التعريف بقدر ما تجيب على مجموعة من الأسئلة. فهي تدفع إلى طرح تساؤلات ذات طابع منهجي بالأساس تتعلق بمدى إمكانية عزل البعد السياسي للحداثة عن باقي أبعادها الأخرى من جهة وبطبيعة الحمولة الدلالية لمفهوم " السياسي" من جهة أخرى. من المعلوم أن التحولات الكبرى التي عرفها الغرب الأوربي و التي مهدت لظهور الحداثة الغربية كانت تحولات ذات أبعاد متعددة، يتداخل فيها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والديني بل والتقني كذلك إلى حد يصعب معه عزل هذه الأبعاد عن بعضها البعض، وبمعنى آخر يمكن القول أن فكر وسلوك الإنسان الحداثي يحتكمان إلى إطار مرجعي يشكل كلا موحدا يصعب التمييز فيه بين الفكر والسلوك في المجال السياسي وباقي المجالات الأخرى، الاقتصادي، الاجتماعي، الديني، الثقافي وغيرها. أي أن الحداثة تعبر عن انتقال من حالة للفكر إلى حالة أخرى تتداخل فيها مختلف أبعاد حياة الإنسان، تداخلا يكون فيه كل بعد مشروط بالأبعاد الأخرى بشكل تنطوي معه كل محاولة لعزل بعد عن الآخر على تعسف كبير لا يمكن أن يستساغ إلا لأغراض منهجية بحثة. 2)- علاقة الحداثة السياسية بالديمقراطية. يتأسس الطابع الإشكالي لعلاقة الحداثة السياسية بالديمقراطية على التساؤل التالي: هل الحداثة السياسية نتيجة للنظام الديمقراطي أم سبب له؟ لا يتردد باربيي منذ الصفحات الأولى لكتابه في التأكيد على اختلاف معايير الحكم الديمقراطي عن معايير وأسس الحداثة السياسية ، فقواعد الديمقراطية مثل الفصل بين السلطات و الاقتراع العام و الحرية السياسية غير كافية لظهور الحداثة السياسية التي تستوجب تحقق الانفصال الثلاثي الأبعاد السالف الذكر بين الدولة والمجتمع المدني، بين المجال العام والمجال الخاص،وأخيرا بين المواطن والفرد. وفي سياق آخر يؤكد باربيي أن ظهور الدولة الحداثية هي الشرط الأساسي والضروري للديمقراطية مستشهدا ببعض الحالات التي تواجه فيها بعض المجتمعات صعوبات في التحول السياسي حيث يؤكد أن سبب هذه الصعوبات هو غياب الحداثة السياسية أو بمعنى آخر، فإنشاء الدولة الحدثية هو شرط للتحول نحو الديمقراطية. إن رؤية المؤلف لإشكالية العلاقة بين الديمقراطية و الحداثة السياسية يثير ملاحظتين أساسيتين : 1- أن الديمقراطية نتيجة للحداثة السياسية وليست سببا لها مما يعني أن قواعد النظام الديمقراطي لا تأخذ معناها الحقيقي إلا في أطار الدولة الحداثية وهو ما يعني أيضا أن إرساء قواعد الديمقراطية ( الاقتراع العام، فصل السلط و الحريات العامة) في إطار دولة غير حداثية بالمعنى الذي حدده باربيي لا يؤدي بالضرورة إلى الحداثة السياسية. 2- تأسيسا على الملاحظة الأولى وإذا قبلنا أن قواعد الديمقراطية لا معنى لها بمعزل عن الدولة الحداثية فلا بد من القول أن علم الانتقالوجيا يواجه أزمة مفاهيم مادام يستعمل مفهوم التحول أو الانتقال الديمقراطي للدلالة على العملية السياسية التي تقوم من خلالها دول غير ديمقراطية ( وضمنيا غير حداثية) باعتماد و تبني آليات وقواعد الحكم الديمقراطي السالفة الذكر.إذ كيف يمكن للاقتراع العام وفصل السلط و الحرية السياسية التي لا معنى لها خارج الدولة الحداثية أن تؤدي إلى الديمقراطية في دول تفتقر إلى مقومات الدولة الحديثة؟ 3)- علاقة الإسلام بالحداثة السياسية يتعامل المؤلف مع هذه الإشكالية بكثير من الدهاء الذي دفعه أحيانا كثيرة إلى نوع من التسويغ و التبرير بواسطة مفاهيم مناقضة لجوهر الحداثة السياسية مثل تبريره لممارسة العنف ضد الإسلاميين لإبعاد هم باعتبارهم أصحاب مشروع سياســــي(الدولة الإسلامية) نقيض للحداثة السياسية. ينطلق المؤلف من التسليم بغياب الحداثة السياسية في العالم الإسلامي ثم يحاول استقراء بعض العناصر لتفسير هذا الغياب الذي يعزوه إلى : - اختلاف المسارين التاريخيين لكل من الغرب والإسلام. - تأسيس الإسلام على مفهوم الأمة مما يحول دون ظهور الفرد كعنصر ضروري لظهور الحداثة السياسية. - غياب التمييز بين الديني و السياسي في الإسلام خلافا للمسيحية. - مراقبة الدولة في العالم الإسلامي للإسلام وجعله دين الدولة الرسمي. - تطابق الجماعة السياسية مع الجماعة الدينية يؤدي إلى خضوع الفرد للدولة والدين معا وهو ما يعوق فصل الدولة عن المجتمع المدني. ويرى المؤلف أن الحل الوحيد هو فصل الدولة عن الدين إلا أن هذا الفصل إما غائب أو أنه يتم بشكل سلطوي كما يتجسد ذلك من خلال النموذج التركي الذي لم تؤدي فيه العلمنة السلطوية إلى الحداثة السياسية، ويعزو المؤلف ذلك إلى أن الدولة في العالم الإسلامي تبقى مرتبطة بالإسلام إما لمراقبته أو لاستعماله، وهو ما ينبثق عنه تقسيم الدول الإسلامية بحسب علاقتها بالإسلام إلى قسمين : إسلام الدولة ودولة الإسلام وفي كلتا الحالتين فإن هذا الترابط بين الإسلام و الدولة يعني أن المشكل ليس في الإسلام في حد ذاته بل في الدولة التي لم تنضج بعد إلى الحد الذي يجعلها قادرة على الاستغناء عن الدين. هذا الضعف الذي تعانيه الدولة هو ما يؤدي إلى انتشار ظاهرة الإسلام السياسي الذي يعتبره المؤلف ناتجا عن غياب الحداثة السياسية ويقدم نفسه كرفض قاطع لها، ولتجاوز هذا المشكل يعتبر المؤلف بناء الدولة الحديثة هو الحل الحقيقي حيث تنصرف الدولة إلى الاهتمام بالمشاكل الاقتصادية و الاجتماعية وألا تستعمل الدين لمحاربة الإسلاميين مع ضرورة إخضاع الدين للمراقبة في فترة انتقالية قد تدوم طويلا حيث لا يرى المؤلف مانعا من استعمال العنف من طرف الدولة للحيلولة دون انتشار الإسلام السياسي مبررا ذلك بأولوية الحداثة السياسية على الديمقراطية ولأن الإسلام السياسي يرفض الحداثة السياسية إما بنقده الجذري للدولة الحديثة أو بمطالبته بتأسيس الدولة الإسلامية.
#محمد_احمد_الهاشمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوعي التاريخي, هل هو الحلقة المفقودة في تفكير الإنسان العرب
...
-
نحو تدقيق مفهوم المواطنة وتشخيص عوائق تكريسه في المغرب
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|