أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مايك دايفيس - رأسمالية الكوارث















المزيد.....



رأسمالية الكوارث


مايك دايفيس

الحوار المتمدن-العدد: 1421 - 2006 / 1 / 5 - 09:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بعد انتقاده لإدارته المأساوية للكارثة التي أحدثها إعصار كاثرينا، يكرّر السيد جورج بوش اعتذاراته ووعوده. "من المستحيل تخيّل أميركا من دون نيو أورلينز"، أعلن في 15 أيلول/سبتمبر." لن نقوم فقط بعملية إعادة إعمار، بل سنعيد الإعمار بشكل أكبر وأفضل". إنّ أول المستفيدين من برنامج الأعمال هذا، المُقدَّر بـ200 مليار دولار، ستكون الشركات العزيزة على قلب الرئيس التي، بعد أن شبعت من أرباح العراق، أصبحت متخصّصة في رأسمالية الكوارث. وهي ستستفيد من ذلك لـ"تطهير" المدينة من شعبها الأسود والفقير، وإعادة إعمار ما يشبه مدينة ديزني لاند لموسيقى الجاز.

إنّ الإعصار الذي دمّر نيو أورلينز هو نتيجة لاضطراب جويّ قويّ نشأ في 23 آب/أغسطس، على بعد 22 كيلومتراً من منطقة الباهاماس. لكن "عاصفة كاثرينا المدارية" تحوّلت إلى وحش خلال تحليقها فوق خليج المكسيك لمدة أربعة أيام. إثر امتصاصها الكمّية الهائلة من الطاقة المُجمَّعة في مياه الخليج الساخنة بدرجة غير طبيعية - ثلاث درجات سانتيغراد فوق المستوى الطبيعي لشهر آب-، تحوّلت إلى إعصار ضخم من الفئة الخامسة، اصطحبه هبوب رياح بسرعة 290 كيلومتراً في الساعة، خلفت وراءها موجة عاصفة ضخمة بلغ علوّها عشرة أمتار.

لقد كانت كمية الحرارة التي بعثها إعصار كاثرينا عالية لدرجة أنه "بعد مرورها، شهدت حرارة المياه في بعض مناطق الخليج، انحداراً مفاجئاً، إذ انخفضت من 30 إلى 26 درجة [1]".تحت أثر الصدمة، اعترف علماء الأرصاد الجوية أنهم نادراً ما لاحظوا ارتفاعاً بهذه الدرجة لقوة إعصار كاريبي، وقد أثار التساؤل، حول معرفة ما إذا كان التضخّم المتفجّر لإعصار كاثرينا مؤشّراً لتأثير زيادة الحرارة المناخية في الكرة الأرضية على قوة الأعاصير، نقاشاً واسعاً بين الباحثين.

لحظة ضربه الشاطىء صبيحة الاثنين الواقع في 29 آب/أغسطس، في بلاكمين، في لويزيانا، في منطقة دلتا نهر الميسيسيبي، كان إعصار كاثرينا قد انخفض إلى الفئة الرابعة (رياح بسرعة 210 إلى 249 كم/الساعة). لم يشكّل ذلك سوى مواساة ضئيلة بالنسبة لسكان المرافىء النفطية والضيع وقرى الصيادين الذين وجدوا أنفسهم لسوء الحظ في طريق الإعصار. في بلاكمين، وعلى طول شاطىء الميسيسيبي وألاباما، انقضّ جنون إعصار كاثرينا على المساكن الفقيرة، تاركاً وراءه مشهداً من الخراب شبيهاً بهيروشيما.

في بادىء الأمر، كان من المفترض أن تبقى نيو أورلينز وسكانها البالغ عددهم 1,3 مليون بمنأى عن الخطر، لكنّ مسار الإعصار انحرف نحو اليمين وانتقل مركزه مسافة 55 كيلومتراً شرق المدينة. بالرغم من تجنّبها العواصف الهوائية الأقصى حدّة، إن عاصمة لويزيانا - الموجودة تحت مستوى البحر والتي تحدّها بحيرتان شاطئيّتان كبيرتان من المياه المالحة، بحيرة بونتشارتراين شمالاً وبحيرة بورن شرقاً- رزحت تحت صخب المياه. فمن هاتيْن البحيرتيْن، كسرت الموجة العاصفة التي ولّدها الإعصار السدود المعروف بأنها لا تكفي - وأقلّ ارتفاعاً من سدود الأحياء الغنية- والتي من المُفترض أن تحمي الأحياء التي يسكنها غالبية من السود شرق المدينة، بالإضافة إلى الضاحية التي يسكنها العمال البيض المحاذية لسان برنارد. في غياب أيّ إنذار رسمي، تحوّل صعود المياه إلى فخ مُميت للمئات من السكان الذين باغتتهم المياه في أسرّتهم. نحو الظهيرة، انكسر أيضاً سدّ أكثر متانة بكثير في منطقة قناة الشارع السابع عشر.

لم يَطَل الطوفان المناطق السياحية كالمربّع القديم ومقاطعة الحدائق، كما بعض الأحياء الرفيعة المستوى، كأودوبن بارك، التي تمّ بناؤها في منطقة أعلى. لكن في كلّ مكان آخر، غمر الطوفان سقوف المنازل، وأدّى إلى تخريب أو تدمير حوالي 000 150 وحدة سكنية. عندها لُقِّبت المدينة بـ"بحيرة جورج"، ازدراءً بالرئيس الذي لم يتمكّن من مساعدة السكان ولا حتى تأمين بناء سدود جديدة.

بعد ادّعائه بأنّ "العاصفة لم تلجأ إلى التمييز العنصري"، اعترف الرئيس جورج بوش نفسه في الأخير أنه ما من ناحية واحدة للكارثة لم يظهر عليها آثار عدم المساواة الطبقية والعرقية. إنّ الإعصار لم يكشف فقط عن الوعود الكاذبة لوزارة الأمن الداخلي، الذي من المفترض أن تحمي كافة الأميركيين، بل عرض على الملء النتائج المدمّرة لإهمال الحكومة الفيديرالية للعواصم الكبيرة التي يقطنها السود والاسبان والبنى التحتية الحيوية العائدة لها.

أما بالنسبة لانعدام الكفاءة المُذهل للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء، فانه دليل على عبثية منح مراكز مسؤولية عامة حيوية لهذه الدرجة إلى مُمالقين سياسيين غير مؤهّلين ومعميّين بسبب عداوتهم العقائدية في ما يتعلق بتدخّل الحكومة. عندما نفكر بمعجزات البطء البيروقراطي التي قامت بها الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء، ليس بإمكاننا سوى الإعجاب بالسرعة التي تصرّفت فيها واشنطن لتعليق معايير الأجور المرعيّة الإجراء، بحكم مرسوم دايفيس بايكون [2]، وفتح أبواب نيو أورلينز، لإعادة الإعمار و"الأمن"، أمام النهّابين بالطوق الأبيض التابعين لشركات مثل هاليبورتن، مجموعة شاو وبلاكواتر سيكيوريتي، الذين قد أكلوا شبعتهم من الأرباح السهلة المنال المكدّسة على ضفاف نهر الفرات في العراق.

إن كان عذاب نيو أورلينز عائد، بشكل كبير، إلى إهمال السلطات الفيدرالية، فحاكم الولاية وبلدية المدينة تتحملان أيضاً جزءاً من المسؤولية. إنّ رئيس البلدية (الديمقراطي) السيد راي ناغين - مستثمر غنيّ أفريقي أميركي، يدير شركة تلفزيونات عبر الكابل، تمّ انتخابه في العام 2002 بنسبة 87 بالمئة من أصوات الناخبين البيض [3]- هو الذي كان مسؤولاً في نهاية المطاف عن أمن رعاياه، الذين كان ربعهم يعيش في فقر شديد أو يعاني من إعاقة كبيرة، الأمر الذي لا يسمح لهم باقتناء سيارة. إنّ عجزه المذهل عن تحريك المصادر الضرورية لإخلاء السكان غير المجهّزين بسيارات ومرضى المستشفيات - بالرغم من الإنذار الذي شكّله عدم جهوزيّة البلدية في مواجهة خطر إعصار إيفان في أيلول/سبتمبر 2004- يعكس أكثر من مجرد انعدام شخصي للكفاءة: انه يجسّد أنانية طبقة النخبة في المدينة، سواء كانت من العرق الأبيض أو الأسود، التي لا تكترث مطلقاً لمصير المواطنين الفقراء في المدن المُخرَّبة والمناطق الهامشية.

أهي قصة كارثة مُعلَنة؟ في الواقع، على مدار تاريخ الولايات المتحدة، لم يتمّ التنبّؤ بأيّ كارثة بهذه الدرجة من الدقّة، خلافاً للتصاريح الغشّاشة لوزير الأمن الداخلي، السيد مايكل شيرتوف. إن كان صحيحاً أنّ الأخصائيين بُوغِتوا بتصاعد قوة إعصار كاثرينا بسرعة هائلة، لم يكن لديهم أدنى شكّ حول نتائج إعصار كبير.

منذ تجربة إعصار بيتسي المشؤومة - عاصفة من الفئة الثانية كانت قد غمرت في أيلول/سبتمبر 1965 جزءاً كبيراً من الأحياء في شرق المدينة التي خرّبها إعصار كاثرينا-، تمّت دراسة الوضع الحسّاس لنيو أورلينز رأساً على عقب ونُشرت نتائج هذه الدراسات بصورة واسعة. في العام 1998، بعد المرور السليم لإعصار جورج، تضاعفت جهود البحث، وقد ذكرت دراسة معلوماتية صوريّة متقدّمة، قامت بها جامعة لويزيانا "الدمار الافتراضي" للمدينة من قبل إعصار من الفئة الرابعة آتٍ من الجنوب الغربي [4].

إنّ السدود وحيطان التثبيت في نيو أورلينز مُصمَّمة لمقاومة إعصار من الفئة الثالثة كحدّ أقصى. لكن، بحسب التصاوير الجديدة التي قام بها جسم الهندسة التابع للجيش في العام 2004، حتى مستوى الحماية هذا وهميّ. فإنّ التفتّت الدائم للجزر الشاطئية والمناطق المنقعية للشاطىء اللويزياني (التي تخفي 60 إلى 100 كيلومتر مربّع من الشاطىء سنوياً)، يُترجَم من خلال ارتفاع قوة الموجات العاصفة لدى ارتطامها بنيو أورلينز، في الوقت الذي تغرق فيه المدينة نفسها هي وسدودها. إنّ إعصار من الفئة الثالثة قادر على إغراقها بشكل شبه كامل، إذا كان مساره بطيئاً بما فيه الكفاية [5].

لكي يتمّ إفهام المسؤولين السياسيين، بشكل أفضل، التورّط الناتج عن هذه التنبؤات، قدّمت دراسات أخرى تقديراً دقيقاً للخراب المتوقَّع في حال التصادم المباشر مع إعصار. أظهرت كافة التصاوير المعلوماتية الأرقام المرعبة نفسها: إغراق كامل لما لا يقلّ عن 160 كيلومتراً مربّعاً من المساحة المدنيّة، أي ما بين 000 80 و000 100 ميّت. في العام 2001، على ضوء هذه الدراسات، أعلنت الوكالة الفيديرالية لإدارة الطوارىء بأنّ تعرّض نيو أورلينز لطوفان، على أثر تعرّضها لإعصار، هو أحد الكوارث الضخمة الثلاث التي يُتوقَّع حدوثها في المستقبل القريب على أرض الولايات المتحدة (الكارثتان الأخريتان هما زلزال في كاليفورنيا واعتداء إرهابي في مانهاتن). في العام 2004، بعد أن أعلن علماء الأرصاد الجوية استعادة قوية لتحرّك الأعاصير، نظّمت السلطات الفيدرالية اختباراً صورياً في غاية الحداثة، وهو عملية "أوراغان بام" التي أكّدت مرة أخرى بأنّ الضحايا قد تُحصى بعشرات الألوف. ردّاً على ذلك، رفضت إدارة بوش المطالبات المُلحّة لولاية لويزيانا في ما يتعلّق بالوقاية من الفيضانات. ووضعت في الدرج خطّة مهمّة لإعادة إحياء المناطق المنقعية الشاطئية، وهو مشروع "الشاطىء 2050" - ثمرة عشرة أعوام من البحث والمفاوضات- وقطعت مراراً ميزانية الصيانة وبناء السدود، تاركةً البنى التحتية للتثبيت حول بحيرة بونتشارتراين غير مكتملة. كان المهندس العسكري للجيش هو أيضاً ضحيّة تقليص النفقات الذي يعكس بشكل كبير أولويات واشنطن الجديدة: انخفاض كبير في الضرائب للأغنياء، تمويل الحرب في العراق و-يا للسخرية!- زيادة النفقات المخصّصة لـ"الأمن الداخلي". من دون أن نأخذ بعين الاعتبار الحوافز السياسية الغامضة: إنّ نيو أورلينز مدينة غالبية سكّانها من العرق الأسود، وناخبوها يميلون الدفّة في غالبية الأحيان لمصلحة الديمقراطيين خلال انتخابات لويزيانا. فلماذا قد تقدّم إدارة مؤازرة بهذه الوقاحة هدية لخصومها، من خلال تخصيص 2,5 مليار دولار ضرورية لبناء نظام حماية من الفئة الخامسة حول نيو أورلينز [6]؟

في الواقع، عندما احتج رئيس المهندسين، وهو عضو جمهوري سابق في الكونغرس، في العام 2002، ضدّ اختناق ميزانية برامج الوقاية من الفيضانات، أرغمه السيد بوش على الاستقالة. مع ذلك، فلْنكنْ عادلين: لقد أنفقت واشنطن كمّيات كبيرة من المال في لويزيانا...لكنها مخصّصة لأعمال بنى تحتية تصبّ في مصلحة الشركات المرفئيّة والبحرية والمقاطعات الانتخابية التي تخضع لسيطرة الجمهوريين [7].

لم يكن البيت الأبيض راضياً عن هذه النجاحات المالية، لذا عمل ايضاً بصورة غير مسؤولة على إضعاف إمكانات الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء. في الفترة التي كان مديرها (الذي كان يشغل أيضاً منصب وزير) السيد جايمس لي ويت، كانت هذه المنظمة إحدى جواهر إدارة كلينتون. خلال فيضان الميسيسيبي في العام 1993 والزلزال الذي ضرب لوس أنجيلوس في العام 1994، حيّى الجميع فعّاليتها في تنظيم الإغاثة. لكن عندما استلم الجمهوريّون إدارة الوكالة في العام 2001، تصرّفوا داخلها كما لو كانوا داخل بلد محتلّ. فقد حرص رئيسها الجديد، السيد جو ألبوغ، المدير السابق لحملات السيد جورج بوش، على قطع عدد من البرامج الأساسية للوقاية من الفيضانات والعواصف. وبعد أن ترك منصبه في العام 2003، تحوّل إلى مستشار يتقاضى أجراً ضخماً في خدمة شركات تبحث عن عقود في العراق (كونه يتمتّع بترابط في الأفكار، عاد إلى الظهور في لويزيانا، حيث راح يبرهن عن مهاراته كمطّلع في خدمة الشركات الراغبة بالحصول على حصّتها من الأرباح المُغرية في عملية إعادة الإعمار).

منذ أن ضُمّت الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء إلى قسم الأمن الداخلي في العام 2003 (وخسرت موقعها الوزاري)، تشتّتت أقسام كاملة منها وشُلّت. في العام 2004، وجّه بعض موظفي هذه المنظمة كتاباً إلى الكونغرس للتنديد بـ"استبدال إداريّين كفوئين في مجال الوقاية من الكوارث، باتّجاريين يتمتعون بامتيازات سياسية ومُبتدئين لا يتمتعون بالخبرة والمعرفة الجدّية [8]".

إنّ خلف السيد ألبوغ، السيد مايكل براون، هو تجسيد كامل لذلك. فبعد أسبوع من تلقّيه مديحاً من قبل الرئيس، فُصل هذا المحامي الجمهوري المُلحد في مجال الوقاية من الكوارث، الذي سخر من سيرته الذاتية. تحت إدارته، استمرّ تعرّض الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء للتفريغ من مؤهّلاتها المتعدّدة، ومن ميزانياتها، للانغلاق على الأهداف المهووسة الأحادية للصراع ضدّ الإرهاب وبناء "خط ماجينو" بوجه تهديد القاعدة.

نهار الأحد الواقع في 28 آب/أغسطس، وعبر محاضرة مُسجّلة، حذّر مدير المرقب الوطني للأعاصير في ميامي، السيد ماكس مايفيلد، الرئيس بوش (الذي كان في عطلة في تكساس) وموظفي قسم الأمن الداخلي بأنّ إعصار كاثرينا على وشك تدمير نيو أورلينز. كان السيد براون مستعدّاً: "نحن مستعدّون بالكامل لمواجهة هذا التحدّي. إننا نترقّب منذ سنوات هذا النوع من الكوارث الطبيعية." منذ عدة أشهر، كان مدير الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء ووزير الأمن الداخلي يمدحان مزايا الخطّة الوطنية الجديدة للطوارىء، التي من المُفترض أن تضمن تنسيقاً لا سابق له بين كافة المنظمات الحكومية في حال وقوع كارثة كبيرة.

إلاّ أنه، عندما بدأت المياه تغمر نيو أورلينز وضواحيها، اتّضح أنه من المستحيل عملياً التحدّث عبر الهاتف مع أيّ مسؤول. وجدت فرق النجدة وموظفو البلدة أنفسهم مجرّدين من أية وسيلة اتصال فعّالة، دون الأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى المؤن الحيوية -حصص الطعام، مياه الشرب، أكياس رمل، فيول، حمامات نقالة، باصات، بواخر ومروحيات- التي كان يجب على الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارىء تأمينها في المكان للوقاية. انتظر السيد شيرتوف ما لا يقلّ عن 24 ساعة بعد الفيضان، لتصنيف الكارثة بأنها "كارثة ذات أهمية وطنية"- وهو تصنيف قضائي ضروري لإصدار مرسوم بالتعبئة العامة للموارد الفيدرالية.

إن البطء اللاّمحدود الذي سجّل فيه دماغ ديناصور قسم الأمن الداخلي سعة الكارثة، كان مشؤوماً بالنسبة لمئات سكان نيو أورلينز الذين كانوا ينازعون على السقوف أو على سرير في المستشفى. في 2 أيلول/سبتمبر، كان السيد شيرتوف لا يزال يشرح لأحد الصحافيين المصدومين من الإذاعة الوطنية العامة، بأنّ مشاهد الفوضى واليأس داخل السوبردوم، والتي بثّتها شاشات التلفزة في العالم أجمع، ليست سوى "إشاعات على سبيل التندّر"... أما بالنسبة للسيد براون، فقد لام الضحايا بشكل أساسي لأنهم، بحسب قوله، مُذنبون كونهم "لم يلتزموا بتعليمات الإخلاء"، كما لو أنّ كلّ ذلك لم يكن له أية علاقة بغياب وسائل النقل أو صعوبة الوصول إلى باتون روج على الكرسيّ النقّال. أظهرت بعض التصاوير أنّ خمس السكان، على الأقلّ، كانوا غير قادرين على مغادرة المدينة بوسائلهم الخاصّة [9].

بحسب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، لا علاقة لكارثة كاثرينا بالعراق. ذلك لا يمنع أنه، منذ بداية الكارثة، أدّى غياب أكثر من ثلث أعضاء الحرس الوطني في لويزيانا وجزء كبير من تجهيزاتها الثقيلة، إلى شلّ عمليات الإنقاذ بشكل كبير. كان من الممكن إرسال النجدة من جهة فندق المدينة: وجد مركز قيادة الطوارىء نفسه معطّلاً عن العمل منذ البداية، بسبب غياب ديزل كهربائي لتغذية مولّد النجدة. وكما أنّ كافة الهواتف كانت معطّلة، وجد رئيس البلدية ومساعدوه أنفسهم مقطوعين عن العالم الخارجي لمدة يوميْن. ما يزيد من غرابة انهيار الجهاز الإداري التابع للبلدية هو أنه، منذ العام 2002، أنفقت البلدية 18 مليون دولار من المساعدات الفيدرالية لتمكين موظّفيها من مواجهة وضع كهذا.

في أيلول سبتمبر 2004، تعرّض السيد ناغين لانتقاد حادّ بسبب غياب أية مبادرة من قبله في وجه إعصار إيفان من الفئة الثالثة (الذي تفادى مساره المدينة في اللحظة الأخيرة): حينها، لم يتمّ تأمين أيّ شيء لإخلاء الفقراء. ردّاً على هذه الانتقادات، سجّلت البلدية 000 300 شريط مصوّر (لم يتمّ توزيعهم)، تتوجّه فيها للأحياء الفقيرة وتحمل الرسالة التالية: "لا تنتظروا تدخّل البلدية، لا تنتظروا تدخّل الحكومة، لا تنتظروا تدخّل الصليب الأحمر، (...) إذهبوا." لم يتمّ تخصيص باصات أو قطارات لهذا الغرض من قبل السلطات، لذا كان من المُفترض على الفقراء إخلاء المدينة سيراً على الأقدام؛ عندما أصبحت الظروف الصحّية والأمنية داخل سوبردروم لا تُطاق، حاول المئات مغادرة المدينة سيراً على الأقدام، بعبورهم الجسر الذي يربطها بضاحية غريتنا التي يسكنها البيض، لكنهم وُوجهوا برجال شرطة البلدية المُصابين بالرّعب الذين أفرغوا أسلحتهم فوق رؤوسهم.

قسم من السكان الذين تركوا تحت رحمة المياه، سيعرفون كيفية تفسير إهمال بلديتهم على ضوء الانشقاق الاجتماعي والعرقي العميق الذي يميّز نيو أورلينز. لا أحد يجهل بأنّ النخبة الاقتصادية المحلية وحلفاءها في فندق المدينة يحلمون فقط بطرد السكان الأكثر فقراً، الذين ينسبون إليهم نسبة الجنوحية المرتفعة. هنا، تمّت إبادة مساكن شعبية موجودة منذ زمن بعيد، لإفساح المجال أمام الأبنية الفخمة ومتجر كبير. في مكان آخر، قد يتمّ طرد سكان المدن في حال خرق أولادهم منع التجوّل. يبدو أنّ الهدف من ذلك هو تحويل نيو أورلينز إلى منتزه كبير وحجب الفقراء عن نظر السوّاح عبر إبعادهم نحو الضواحي، في مجمعات القوافل السكنية المتنقلة والسجون.

منذ ذلك الحين، أصبح يشكّل إعصار كاثرينا، بالنسبة لبعض مناصري نيو أورلينز، مفاجأة إلهيّة. هذا ما باح به أحد القادة الجمهوريين في لويزيانا لبعض الاتّجاريين من واشنطن: "أخيراً، تمّ تنظيف مدن نيو أورلينز. ما لم نتمكّن من القيام به، تكفّل الله به [10]."

كما اعتبر رئيس بلدية ناغين أنّ الشوارع المُقفرة والأحياء المدمرة هي بَرَكة:"للمرة الأولى، تخلّصت مدينتنا من المخدّرات والعنف، ونحن نريد أن نحافظ عليها بهذا الوضع."

في الواقع، دون أيّ جهد كثيف من قبل السلطات المحلية والفيدرالية لتأمين مساكن رخيصة الثمن، لعشرات الألوف من المستأجرين الفقراء الذين لجأوا اليوم إلى مآوٍ مؤقّتة في أقاصي الدنيا الأربعة، قد تتعرّض نيو أورلينز إلى نوع من التطهير العرقي. بدأ الكلام عن تحويل بعض الأحياء، الأكثر بؤساً الموجودة تحت مستوى المياه، كـ"لوير ناينث وارد"، إلى أحواض لحبْس المياه مخصّصة لحماية الأحياء الأكثر ثراءً. "الأمر الذي قد يمنع بعض السكان، الأكثر فقراً في المدينة، من العودة للسكن في أحيائهم مجدّداً"، صرّحت في الوقت الملائم صحيفة وال ستريت [11].

منذ الآن، بدأ رئيس بلدية ناغين يُعنى بالسهر على مصالح مؤيّدي التساوي بين الأجناس، عبر الإعلان عن تسمية لجنة خاصة لإعادة الإعمار تضمّ ستة عشر عضواً: ثمانية من العرق الأبيض وثمانية من العرق الأسود، مع العلم أنّ 75 بالمئة من السكان هم من أصل أفريقي أميركي. أما بالنسبة للضواحي التي يسكنها البيض - قاعدة للنجاح الانتخابي المُقلق للمرشّح المنتمي للنازية الجديدة، دايفيد دوك، في بداية التسعينات- فهي تنوي فعلاً الدفاع عن قضيتها، وإنّ المؤسّسة الجمهورية في الميسيسيبي المُجاور لا تريد أبداً منح دور البطولة للديمقراطيين في عاصمة لويزيانا. وسط كافة صراعات المصالح هذه، ليس مؤكّداً أن تتمكن أحياء السود التقليدية في نيو أورلينز - المهد الحقيقي لحساسية المدينة الاحتفالية وإرثها العريق في موسيقى الجاز- الخروج من الصراع بلباقة.

أما بالنسبة لإدارة بوش، فهي تتأمّل الخروج بخليط من الرمزية الكنسيّة المالية ومن الحذاقة الاجتماعية المحافظة جداً. نعلم بأنّ التأثير المباشر لإعصار كاثرينا كان التراجع المفاجىء لشعبية الرئيس -وللوجود الأميركي في العراق. وبدا أنّ سيطرة الجمهوريّين تعرّضت لوهلة إلى الخطر. فللمرة الأولى منذ التمرّد الشعبي في لوس أنجلوس في العام 1992، بدأت المواضيع الديمقراطية القديمة كالفقر والتمييز العنصري وتدخّل الحكومة تسيطر على النقاش العام، لدرجة أنّ صحيفة وال ستريت حضّت الجمهوريين على "استعادة المعركة على الصعيد الثقافي والسياسي" قبل أن يُعيد التقدّميون، أمثال السيناتور إيدوارد كينيدي، إحياء نزوات الـ"نيو ديل" (الصفقة الجديدة)- منها مشروع وكالة فيدرالية كبرى للوقاية من الفيضانات ولإعادة إحياء بيئية لشاطىء خليج المكسيك [12].

في البحث عن استراتيجية لإخراج السيد بوش من الورطة اللويزيانية، أقامت مؤسّسة "هيريتاتج فاوندايشن" العديد من المؤتمرات التي استضافت خلالها إيديولوجيّين رجعيّين وأعضاء جمهوريّين من الكونغرس وبعض العائدين أمثال إيدوين ميز، وزير العدل السابق في عهد رونالد ريغن.

في 15 أيلول/سبتمبر، اختار الرئيس المسرح المُقفر لكن المُضاء لساحة جاكسون سكوار، إحدى الساحات التقليدية في نيو أورلينز، لإلقاء خطابه حول إعادة الاعمار. متألّقاً، وعد ضحايا كاثرينا المليونيْن بأنّ البيت الأبيض، وبالرغم من العجز المالي، سيدفع القسم الأكبر من فاتورة الكارثة، أي 200 مليار دولار (الأمر الذي لم يمنعه مطلقاً من اقتراح انخفاض جديد في الضرائب الكثيفة لأصحاب الثروات الكبيرة)!

بعد ذلك، أعلن عن سلسلة من الإصلاحات التي لطالما طمعت بها قاعدته المحافظة جداً: نظام تذاكر للتعليم والإيواء، تدعيم دور الكنائس، تنزيلات متكارمة على الضرائب في القطاع الخاص، إنشاء "منطقة إقليمية تؤمّن فرصاً اقتصادية"، وتعليق سلسلة من القوانين الفيدرالية المتعلقة خصوصاً بالرقابة البيئية للتنقيب عن النفط. بالنسبة إلى المُعتادين على اللّغة الرئاسية، يتمتّع خطاب جاكسون سكوار بنكهة التكرار: ألمْ نسمع سابقاً وعوداً مماثلة على ضفاف نهر الفرات؟ بحسب التعليق اللئيم لكاتب الافتتاحيات بول كروغمان، بعد فشله في تحويل العراق "إلى مختبر للّيبيرالية الجديدة"، سيستخدم البيت الأبيض من الآن فصاعداً سكّان بيلوكسي وناينث وارد المصدومين كمواضيع تجارب [13].بحسب أحد أعضاء الكونغرس مايك بانس، أحد محرّكي مجموعة الدراسات الجمهورية المسيطرة، التي ساهمت في تطوير برنامج الرئيس بوش لإعادة الاعمار، سينتشل الجمهوريّون من وسط أنقاض الكارثة حلماً رأسمالياً فعلياً: "سنحوّل شاطىء الخليج إلى مركز لجذب الشركات الحرّة مغنطيسياً. ليس وارداً إعادة بناء نيو أورلينز جديدة خاضعة لسيطرة القطاع العام [14]."

إنّ تحوّل جسم الهندسة في نيو أورلينز، تحت قيادة الضابط نفسه الذي كان مسؤولاً عن مراقبة الأعمال العامة في العراق [15]، أمر له دلالاته. لا يهمّ اختفاء حيّ لاور ناينث وارد تحت الأمواج، فأصحاب الملاهي الليلية في المربّع القديم بدأوا يبتهجون: ليس بعيداً اليوم الذي سيأتي فيه عمّال هاليبورتن ومرتزقة بلاكواتر ومهندسو بيشتيل لإنفاق دولاراتهم الفيدرالية في شارع بوربون، كما يُقال باللهجة الكاجونية وفي البيت الأبيض دون شكّ: "فلْتبدأ الأيام الجميلة!".






--------------------------------------------------------------------------------

* من مؤلفاته The Monster at Our Door. The Global Threat of Avian Flu, The New Press, New York, 2005. Dernier livre paru en français : Génocides tropicaux. Catastrophes naturelles et famines coloniales (1870-1900), La Découverte, Paris, 2003


--------------------------------------------------------------------------------

[1] Quirin Schiermeier, « The power of Katrina », Nature, no 437, Londres, 8 septembre 2005.

[2] تشريع عائد إلى فترة النيو الديل يرغم الورش العامة على احترام الحد الأدنى المحلي للأجور. وهو منذ زمن طويل مستهدف من قبل الجمهوريين المحافظين.

[3] بالرغم من تصويت الغالبية في لويزيانا للسيد بوش في العام 2004 (56,7 بالمئة)، إن نيو أورلينز ديمقراطية تقليدياً.

[4] Etude réalisée par Joseph Suhayda et décrite dans Richard Campanella, Time and Place in New Orleans : Past Geographies in the Present Day, Gretna, Los Angeles, 2002, p. 58.

[5] Travis, op cit., p. 1657.

[6] Alfred C. Naomi, du corps des ingénieurs de l’armée, cité par Andrew Revkin et Christopher Drew, « Intricate Flood Protection Long a Focus of Dispute », The New York Times, 1er septembre 2005.

[7] Editorial, « Katrina’s Message on the Corps », The New York Times, 13 septembre 2005.

[8] Ken Silverstein, « Top FEMA Jobs : No Experience Required », Los Angeles Times, 9 septembre 2005.

[9] Tony Reichhardt, Erika Check et Emma Morris, « After the flood », Nature, no 437, 8 septembre 2005.

[10] Propos du congressiste Richard Baker (Baton Rouge), cité par le Wall Street Journal, New York, 9 septembre 2005.

[11] Jackie Calmes, Ann Carrns et Jeff Opdyke, « As Gulf Prepares to Rebuild, Tensions Mount Over Control », Wall Street Journal, 15 septembre 2005.

[12] Editorial, « Hurricane Bush », Wall Street Journal, 15 septembre 2005.

[13] « Not the New Deal », The New York Times, 16 septembre 2005

[14] John Wilke et Brody Mullins, « After Katrina, Republicans Back a Sea of Conservative Ideas », Wall Street Journal, 15 septembre 2005.

[15] Editorial, « M. Bush in New Orleans », The New York Times, 16 septembre 2005.



#مايك_دايفيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR ...
- تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
- جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
- أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ ...
- -نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
- -غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
- لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل ...
- ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به ...
- غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو ...
- مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مايك دايفيس - رأسمالية الكوارث