|
مصداقية التوثيق الشفاهي
سعادة أبو عراق
الحوار المتمدن-العدد: 5368 - 2016 / 12 / 11 - 00:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مصداقية التوثيق الشفاهي نتصور العرب في جزيرتهم يجوبون هذه الصحاري الجافة ، باحثين عن الواحات ليرووا ظمأهم ويحصلوا على كلئهم منها ، وأظنهم كانوا على مسافات بعيدة من بعضهم ، وبحتاجون لأن يتبادلوا الأخبار ، وكان أكثر ما يتداولونه شفاهيا هو الشعر ، ولعله كان السلك الناظم الذي يجمع القبائل على اختلاف تناحرها ، ذلك أن الشعر كان نظمه الغنائي عاملا على حفظه ، بحيث لا استزادة لأكثر مما يسمح به الوزن ، ومع ان القالب الشعري حفظ النص من أن يبدل فيه إلا أن النقاد وجدوا في روايات حماد عجرد قصائد منحولة لشعراء لم يؤلفوها ، كما أنهم أيضا حشو في قصائدٍ أبياتا ليست من صميم القصيدة ، وذهبوا أيضا إلى تبديل كلمات بكلمات تناسب الوزن ربما أن ذلك راجع إلى أن الراوي الذي نسي الكلمة الأصلية فجاء بأخرى توافق الوزن والمعنى, أو أراد أن يصلح في التعبير حسب ذوقه واستحسانه. هذا هو الشعر الذي تلاعب به الرواة، كما أفاض في تبيانه الدكتور طه حسين ( في الشعر الجاهلي ) أما في مجال الروايات التاريخية أو الوقائع أو السير أو الأحاديث الشريفة فمجال الاختلاف واختلاق وتحوير وتزوير, فهو اكثر من أن تحصي مجالاته, ذلك إن الضوابط الموضوعية كانت اقل تواجدا وأقل قوة ، بحيث كان مباحا لمن يريد الاستزادة أو التنقيص أن يفعل ما يريد, وبما يلبي رغبة الجمهور ويجذب الأسماع إلى ما يقول. نعرف ان العرب في ذلك الوقت لم يكن لديهم ما يقرؤونه أو يكتبونه ، فلا بديل عن السماع، لذلك قام الرواة يطوفون البوادي والحواضر وكل الأمكنة ، يقدمون لمستمعين أشعارا وأخبارا وسيرا وأساطير وحكايات ، وكان عليهم أن يقدموا ما يقدموه على طبق من المتعة والدهشة والظرف ، لذلك كانوا يعمدون إلى إعادة الصياغة مرات ومرات فيجنحون إلى المبالغة حد الإسراف والخروج عن المعقول ، والإكثار من التهويل الذي يثير فرائص المستمعين الداخلية. وفي جميع الأحوال فإن الإخباريين لم يكونوا توثيقيين، اي ينقلون نقلا صادقا وحرفيا، لأنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى مستوى الحضاري الذي يرون فيه هذه الموروثات الثقافية جزءا من الهوية القومية، ويجب أن تكون صادقة، لذلك لم يكونوا مهتمين يصدقها وتوائمها مع بعضها وبالتالي تشكيل نظرة واحدة للمجتمع. وبنظرة عامة نحو تراثنا العربي نجد انه ليس أكثر من ركام من المعارف والأخبار والتفاسير الذي يختلط فيه الدين بالتاريخ بالخرافة بالإسرائيليات ، لذلك فإن ما نحن فيه من تخلف وتخيط وحيرة وتناحر إنما هو راجع إلى اننا نستطيع ان ننتقي من هذا الركام الحضاري ما نشاء لنبرر اخطاءنا ونزواتنا ومشاريعنا الخاصة وسياساتنا وخياناتنا، لذلك وجب علينا اليوم إعادة النظر فيما جاء على السنة المؤرخين والرواة والإخبارين والفقهاء ، وما تواتر إلينا من معتقدات ومفاهيم وسلوك وفتاوى فقهية وغيرها وذلك اعتمادا على المنطلقات التالية. 1 - استعمال القاعدة التي تقول إن التاريخ يجب أن يعاد كتابته, أي إعادة النظر في ما ورد من معلومات وحقائق وما ورد من وقائع تاريخية ، بعين نقدية محايدة، لآن كاتب التاريخ لا يمكن أن يترك جانبا ميوله العاطفية، وهذه الميول لا بد ان تزيغ استنتاجاته ورؤيته بعيدا عن الحقيقة، وهذا يقودنا إلى إعادة فهمة وتعديله. 2- علينا أن نفهم العصر الذي دونت به هذه الأخبار والمعلومات, وان نفهم أساليب التفكير عند المؤرخين والكتاب والفقهاء ومناهجهم في البحث ومرجعياتهم العقائدية ، ونعرف كيف كانوا يفكرون ويستنتجون ، وسبب اهتمامهم بما يقولون وما يسمعون وان نعرف المزاج الشعبي والاجتماعي الذي يجعل من هذا المجال مقبولا و يجعل من آخر منبوذا، لكي نعرف ما إذا كان القياس جائزا في ظرفنا الحالي أم لا، ونذهب بالأفكار التي خدمت فترة مرحلية إلى أرفف المتاحف ونعتذر لهم عن أخطائهم، ونأخذ الأفكار الحية القابلة للنمو في مجتمعنا الحديث ونستنبتها ونستفيد منها. 3 - الأخذ بالعلوم الحديثة في البحث والاستقصاء التي كانت قديما محدودة أو غير موجودة، ونستخدمها في هذا المشروع، فمثلا كانوا يعتمدون على شهرة الراوى وسمعته، وهو أمر غير جائز في زماننا، مما جعلهم يقومون بالتسليم بصحة ما يقول ، أي يقومون بتقديس قوله ، والتفديس في مجال العلم غير مقبول ، لأن الإنسان مهما كان عظيما لا يخلو من زلل أو خطأ مقصود أو غير مقصود. لذلك يجب مراجعة قوله. 4 - فهم الأساليب البلاغية التي كان يعتمدها الرواة بأنها لجذب المستمع إليه، فيفهمها انها حقيقة وليس مجازا، مما يؤثر على مصداقية الرواية, ومن هذه التأثيرات صيغة المبالغة، والبالغة هي تضخيم الحدث أو الشخصية بما يفوق الواقع أو التصور، فنخرجها من الواقع إلى الخيال والأسطورة ، والمبالغة هي بديل للحوار المنطقي الذي يتعامل مع العقل، لأن المبالغة تخاطب العاطفة ، ومن المعروف أن العاطفة تؤثر على العقل وليس العكس. 5 - ان نميز بين منهجين في البحث وهما: أ ) البحث في المجال الديني أي البحت في قضايا أركان الإيمان وأركان الإسلام وما ورد في القرآن, فهي قضايا ليست في مجال العقل لكي يثبت صحتها أو عدم صحتها، وإنما نؤمن بها كما جاء بها القرآن والرسول الكريم ، أو لا نؤمن بها ، فمن الخطأ الفادح بحث الأمور الدينية بالمنطق العقلي، وبحث الأمور الدنيوية والموضوعات العلمية بالمعتقدات الدينية.. ب ) البحث فيما عدا ذلك في صحة المعلومات أو الأخبار أو الأفكار أو الفتاوى التي جاء بها أو نقلها أفراد أو جماعات، ذلك أن المعلومة التي نقلها لا بد أن يكون عقله وتفكيره قد صاغها ثانية ولا بد أن يكون قد أجرى عليها تغييرا ما، لذلك لا بد أن نقوم بفحصها، مهما كان هذا الشخص مرجعا متفقا علي علمه ونزاهته وصواب رأيه, وكل الذين بتهيبون من فعل ذلك إنما يرتكبون عملا آبقا ، فمثلا صحيح البخاري الذي يعتبره البعض في مقام القرآن قداسة وصوابا, انما عن يعبرون عن عدم قدرتهم على الفهم الواعي السليم. 6 - الإيمان بأن كل فكرة أو مبدأ أو سلوك هو نابع من تفاعل العقل البشري مع بيئته ومع زمانه ،لذلك علينا أن فهم ما جاءنا من موروث بما يتفق مع الزمن الذي نشأ به والبيئة الحاضنة المؤثرة إيجابا أو سلبا ، وعليه يحب أن لا نحكم على ذاك الزمان بمفهومنا اليوم ، وأن لا نستعمل الأفكار القديمة لمعالجة واقعنا، فالأفكار كما هو الدواء لا بد له من فترة صلاحية محددة, العاجزون عقليا هم الذين يستعيرون من غيرهم أفكارهم ولا ينظرون إلى صلاحيتها. ولنضرب بمعركة مؤتة مثلا عمليا لما قلناه، وما يجب أن نقوم به ونحن إزاء أي موضوع ورد في تراثنا ، واعتقد أن تفاصيل معركة مؤتة معروفة لكل عربي وكل مسلم انها معركة ليست مع الروم ، إنما هي معركة مع الغساسنة الذين كان موطنهم منطقة الجولان وحوران ، والغساسنة عرب تابعون في ذلك الوقت للدولة البيزنطية في القسطنطينية، وكان شاعر الرسول حسان بن ثابت يزورهم ويمدحهم بشعره ، لله در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول لا يمكن أن يكون الغساسنة قد حشدوا مائتي ألف جندي لمواجهة ثلاثة آلاف عربي ، لآن الكثافة السكانية في سوريا لا تحتمل هذا التحشيد الهائل، فهتلر لم يستطع ان يحشد اكثر من عشر السكان الألمان، وعليه كم يكون عدد الغساسنة، هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن للقائد السياسي والعسكري تقديره المبدئي لقوة عدوه، فلا يمكن أن يقذف بكل قواته في كل معركة صغيرة تستوجبها سرية أو كتيبة واحدة. لم يذهب احد إلى قرية مؤتة بالقرب من مدينة الكرك، ويرى المنطقة والمساحة المفترضة للمعركة ، فهل المكان يتسع لمئتي ألف مقاتل وثلاثة آلاف من المسلمين، بخيولهم وجمالهم وغذائهم وخيامهم وأسلحتهم ،كما يفعلون في الغرب من إعادة تصور معارك الرومان القديمة . يمكن تفسير تلك المبالغة الزائدة بأنها جاءت لتبرير الهزيمة في تلك المعركة ليقولوا إنهم واجهوا جيشا يفوق طاقتهم، أو هي المبالغة التي يذكرها الجنود بعد كل معركة شاركوا بها للفخر أو مجرد إيرادالقصص المثيرة ، أو أن رؤيتهم لكتيبة عسكرية مدربة وموزعة بشكل لم يسبق أن رأوا مثل تلك في غزواتهم التي يمارسونها. جعلهم يرونهم عصيون على العد. وجائز أيضا انهم لم يكونوا يتصورون قيمة الألف كما لا يستطيع الكثير منا اليوم تصور مقدار المليار. لا يمكن من الناحية المنطقية ان يواجه ثلاثة آلاف من غير المدربين مائتي ألف جندي مدرب ومعد للقتال، ولم يذكر لنا المؤرخون قتلى غير ثلاثة هم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وجعفر ابن أبي طالب، ورواية اخرى ثلاثة عشر ، فهل هذا يتفق مع العقل السليم؟ ان استشهاد جعفر ابن أبي طالب تم أسطرة مصرعه بشكل يتفق مع ما له من تعظيم عند رسول الله حينما علم انه قد قطعت يداه الاثنتان فقال رسول الله لقد أعطاه الله جناحين يطير بهما في الجنة. ان جعفر رضي الله عنه كان قائد المعركة ويرفع الراية عاليا، فهل كانت مهمة القائد أن يدير المعركة ويتحرك في كل اتجاه؟ أم كان واجبه رفع الراية فقط؟ فهذه مهمة يمكن لأي شخص أن يفعلها. ان قطع أي جزء من الجسم ولو كان إصبعا يجعل قوى الجسم تنهار جميعها، إن قطع الزند لا يمكن أن تبقي جعفر متماسكا بما يكفي لكي يتناول الراية مرة أخرى، ثم تقطع يده الأخرى ثم يحتضن الراية بكلتا عضديه. وكيف تناول الراية بيدين مقطوعتين وحضنها، ولماذا لم يجهز القاتل عليه. هذا مثال لرواية الوقائع بطريقة أسطورية ، أما أسلوب المبالغة فإننا نشير إلى إنفاق عثمان بن عفان اذ تبرع بحمولة قافلة من مائة بعير وفي رواية اخرى الف بعير، تدل على هذه الروايات التي يبالغ بها ، فلا يمكن ان يتاجر عثمان أو عبد الرحمن ابن عوف يهذه القافلة لبيعها في مكة حيث السكان الفقراء، ثم يتبرع بها في سبيل الله . إن هذا المنهج الذي أدعو إليه ليس بحاجة إلى أن يتسلح بالمناهح البحثية اللازمة بل ايضا بالشجاعة التي تؤهله تناول كثير من القضايا الأكثر رسوخا وقناعة بصحتها. في مجال الأسطرة بمكن ان نورد قدوم سيدنا عمر ابن الخطاب لتسلم مفاتيح القدس، فأذا ناقته واحدة هو وخادمه ، يتبادلان الركوب عليها ، حتى إذا ما أشرف على أسوار إلياء كان الخادم هو الذي يركب الناقة، فهل يا ترى دولة جهزت جيوشا جرارة لفتح العراق وسوريا واخضعت المرتدين في تهامة، هل تعجز عن تخصيص ناقتين واحدة للخليفة والثانية للخادم، بمعنى انهما جاءا مشيا على الأقدام، وهذا يستلزم أشهرا، وهو ليس في مصلحة الجيوش المرابطة في انتظار قدوم الخليفة، والمؤرخون لم يذكروا لنا من انابه خليفةً على المسلمين طوال مدة غيابه، علما ان رسول الله كان يستخلف احدا على المدينة حينما يخرج غازيا، ولماذا لم تكن معه حاشية خوفا من اغتياله وموته، وقد حدث اغتيال سعد بن معاذ في الأردن في زمن عمر، ثم الم يفكر عمر ابن الخطاب بهيبة الدولة التي يمثلها؟ بأن بظن الأعداء بأنها دولة ليس عندها ركوبة أخرى.
#سعادة_أبو_عراق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقه إدارة البؤس
-
ليس كابوساً / ادب غرائبي
-
تديين العادات
-
حد الرجم في الإسلام
-
مصدرا الخير والشر
-
صورة الله
-
هل فرض الله القراءة
-
ظاهرة العنف الطلابي في الجامعات الأردنية
-
الوباء - من الأدب الغرائبي
-
غواية الموت
-
لماذا رفض الصحابة تدوين الحديث
-
الاجتياز
-
جيوش عربية من ورق
-
لماذا ابتعدنا عن ثقافة المطالعة
-
فقه العقاب وفقه المعالجة
-
يا إلهي كم من الجرائم تقترف باسمك
-
أضواء على المثلية الجنسية
-
بين الدين والفكر الديني
-
المرأة في الفقه البدوي
-
العنوسة
المزيد.....
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|