|
في وداع جدي
إبراهيم مشارة
الحوار المتمدن-العدد: 5368 - 2016 / 12 / 11 - 00:44
المحور:
سيرة ذاتية
وإجلال مغناك اجتهاد مقصــر إذا السيف أودى فالعفاء على الجفن
مات جدي لأمي أمس أودعناه الثرى وأوصياناه الرفق به فهو حديث عهد بالثرى وليلته تلك كانت أول ليلة في المدينة الفاضلة (المقبرة)، وهي فاضلة حقا لأننا حين عجزنا عن تشييد مدينة فاضلة في عالم الأحياء تولى ضمير الوجود تشييدها في عالم الموت فالاعتبارات الطبقية والنسبية والحسبية التي يصر بعضنا على نقلها إلى المقبرة بتجصيص القبور ورفعها من فوق الأرض يتولى الزمن بجلاله إزالتها وتقرير مبدأ المساواة بين الموتى حتى إذا كرت السنون جعل عاليها سافلها فلا تدري أتمشي على الثرى أم على بقايا دفين من قديم الآباد، حين فرغنا من دفنه وانصرف الناس وقفت على قبره سالت من عيني عبرة أفلحت النظارة السوداء في إخفائها،هممت حينها بتقبيل الثرى وقد أخذني انتحاب داخلي وإحساس بالاختناق انسحبت في هدوء لا إلى بيت جدي ولكن إلى بيتي ولم أعد إلى بيته إلى اليوم ،حتى مراسم العزاء لا أقوى على احتمالها كما لا أحب الملتقيات والمحافل والمهرجانات ففي كل مظاهر تقوى أو تنقص، مثل التكلف من قبل بعض المشيعين أو المحتفلين في المهرجانات. وأنا أكتب عنه لأنه عزيز علي وأقول لمن يعرفني أن شيئا عزيزا علي قد رحل ،أفل قمر ،غاب نجم، جثمت بومة حزن على قلب محب . حتى صورته لا أملكها مررت بمسجد فأخذت صورته من إعلان الوفاة وحتى حين سجي الجسد في البيت لم أره حرصت على الاحتفاظ بصورته حيا فلا شيء يقتل الحب مثل الحديث عنه. مات جدي وقد تسلق من عمر الوجود قمة تناهز أربعا وتسعين عاما وحين أشرف على هذه القمة شفت كثيرا رؤيته للحياة وأحس بقربه من عالم نوراني وأكثر الناس حكمة هم الشيوخ لأنهم تسلقوا من عمر الوجود قمما رأوا من خلالها مطامعنا وأهواءنا ومغريات الحياة لا تستحق كل هذا العناء وأن نتعادى أو نتفانى تماما كمن يتسلق جبلا تشف رؤيته ويرى العالم صغيرا ضئيلا أمام سماء لازوردية غير منتهية وفضاء أثيري ويحس بالاختناق والرغبة في النزول كذلك قمة الشيخوخة اختناق لا يحس به إلا من يعاينه لذا كل الشيوخ يرغبون في النزول إلى أعماق الثرى ولكل شيء ثمن فحكمة الشيخوخة لا بد أن تدفع مقابلها أشجانا وآلاما وكلاما لا تقوله بلسان المقال ولكن بلسان الحال، وحين جاء الموت إلى القمة التي يربض فيها جدي- ومن السهل ملاحظتها- فهي شاهقة تتعدى التسعين عاما أخذه برفق كما تأخذ الأم وليدها لترضعه فقد مات في حضن زوجته دون أن تحس بموته ظنت أنه قد أغمي عليه وهرولت تدعو أولاده دحرجه الموت من تلك القمة برفق وقال لأولاده خذوا منه الجسد وأودعوه بطن الأرض يجاور قوما أجادوا العظات وما فيهم أحد نابس حيث لا تقاس الحياة في المقابر بالثواني والدقائق فالكل أتراب من مات لتوه كمن هو عريق في البلى وعلى باب المقبرة قرأت في الأثير الممتد فوقها:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " أما الروح فقد أفرس لها الموت فرسا نورانية وضعت قائمتها الأولى في الأفق والقوائم الأخرى في عالم الغيب تجري فيه الروح بأمر ربها بسرعة أكبر من الضوء لتحف بالعرش حيث الأجوبة لا الأسئلة والأعمال لا الأحساب ونسغ الحياة النور الذي ترضعه الروح من ثدي قمر ليس كقمر دنيانا فتزداد إشراقا وجلالا. حين كان جدي طريح الفراش كنت أزوره لماما لأني لا أحب إزعاجه فهو كثير النوم والشيوخ أكثر الناس نوما لأنهم يستعدون للسفر إلى عالم لا يرى بالبصر ولا يقاس بالزمن كان كل شيء قد تعب فيه فالأذنان كعلامة استفهام تنكران أنك قلت شيئا والجبهة متغضنة تحكي طبقاتها الثخينة آثار السنين والعينان تكادان تنطفئان أمامها الأشباح والجسد متهدم كأنه طلل ترى في كل زاوية أثر الزمن العريق أجلس على كرسي أمامه وهو ممدد على السرير لا يتحرك أكلمه بعيني ويرد علي بعينيه الكليلتين : يا بني تعبت أريد رحمة الله حتى الساعة المعلقة على الحائط هرم عقرباها فتوكآ على عصوين وثقلت مشيتاهما على ميناء الساعة وهما يتسلقان قمم الأرقام بصعوبة بالغة في التنفس ولذا فالثانية بطيئة عند جدي إنها ساعة والساعة يوم واليوم عام، يا الله رحمتك ! ويستدير جدي إلى الجهة الأخرى بصعوبة بالغة إشعارا لنا برغبته في انصرافنا حدست ماذا كان يقول :إنني منذ أمد قائل تحت سنديانة الحياة عن شمالي الآزال وعن يميني الآباد ألا إن هذه السنديانة أوراقها من وهم ونسغها من زيف ورفاقي قطعوا شوطا في رحلتهم إلى حافة الآباد وأنا مسمر تحت هذه السنديانة أريد اللحاق بهم. وها أنت قد لحقت بهم يا جدي فهنيئا لك البيت الجديد وهنيئا لك الجيران الجدد في رحاب مدينة فاضلة كلها حكمة وجلال وجوهر والحد الفاصل بينها وبين مدينتا يقظة تنقلنا من غفوة الحياة إلى صحوة الموت. إنا لله وإنا إليه راجعون.
#إبراهيم_مشارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بروميثيوس عربيا
-
كلمة عن العلم
-
حلم
-
أشراف و..........
-
عذابات مثقف غير عضوي
-
سيدة لبنان وجارة القمر في عيد ميلادها:
-
رباعيات الخيام روعة الانتشاء ولوعة الفناء
-
بيدي لا بيدك عمرو ظاهرة الانتحار عند أدبائنا
-
جمانة حداد وأنطولوجيا الشعراء الغائبين
-
من حديث الثورة والثائرين
-
طه حسين ورسالة التنوير العربي
-
الرفض في الشعر الحديث
-
خوان غويتيسولو وجائزة عالمية
-
في عشق السماء: رسالة إلى الدكتور صالح بن سعيد بن حمد الشّيذا
...
-
زمن السأم تأملات في قصيدة - الظل والصليب -لصلاح عبد الصبور
-
نزعة الحرية عند شعراء العراق المحدثين
-
عراف البراري أو الصورة السلبية للمثقف في الشعر الحديث
-
قناة ناشيونال جيوغرافيك : الشمس تشرق من الغرب /نحو صحوة إعلا
...
-
الرمل والموج مقاربة للتجليات الفكرية والنفسية عند الإنسان ال
...
-
زكي نجيب محمود وإخفاقات النهضة العربية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|