|
المثقف و الاستبداد
هيثم بن محمد شطورو
الحوار المتمدن-العدد: 5367 - 2016 / 12 / 10 - 07:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لنا أن نستـشهد بقولة الفيلسوف الاسكتلندي "ديفيد هيوم" عن مقاومة الحكم القهري بكون "قهره لحد جعل سلطته لا تطاق" حين نفكر في المد الثوري العربي ضد الاستبداد. استبداد الحكام المعاصرين لم يعرفه العرب إطلاقا في تاريخهم بهذه الدرجات من محق الإنسان. ربما بفضل التـقـنيات الأمنية الجديدة و التراكمات السكنية الكثيفة المتلاصقة و التي تسمى جزافا بالمدن العربية. استبداد لاحَق حتى أفكارك و أحلامك الشخصية.. استبداد أبعد الأخ عن أخيه فصار كل يخاف حتى أخاه خوفا من البوليس السياسي أو المخابرات بل هو يخاف نفسه. استبداد أفـسد أخلاق التضامن و انفتاح الناس بعضهم على بعض. استبداد أغلق العقول بما أن التـفكير و التعلق بالحقيقة تـقودك إلى الزنازين الجحيمية.. اختـناق وجودي في الفضاء العام و تحول العربي الكريم الحر إلى ذليل ( بالتالي عملية تعويض جزئية لا تـشبع الكرامة على الأشخاص الآخرين الأضعف) و إن كان داخل أطر أنظمة تعلي مقولات التحرر العربي.. التـفكير باعتباره نشاطا حرا في ذاته، فالمثـقـف و المفكر لا يكون كذلك إلا بالإقـرار المبدئي بحرية الإنسان كقاعدة أولية أساسية. و الأحرى بالمفكر أن يربط نفسه دوما بالواقع الحي و في نفس الوقت بحرية التـفكير و بالتالي التموضع التـفكري في الواقع بما هو صيرورة تحررية دائمة.. بذاك فقط يكتسب مشروعية وجوده كفاتح آفاق.. أما المدافعون عن الاستبداد و القهر و استعباد الإنسان للإنسان فهم لا يمكن أبدا أن ـ يكون مثـقـفا و إنما مجرد ببغاء يردد كلمات الغير دون فقه معانيها.. و كلما امتلأ العـقـل المفكر بالمعرفة كلما تبصر الحكمة البشرية التي قـد يلتـقيها عند طفل أو درويش كما عند بعض الحكام. انه ما يسمى بتواضع الكبار و لكن بالنسبة للمفكر فانه لا يتواضع و إنما يعترف حقيقة بقدسية الإنسان و بشعلة الخلود لديه و إن كانت خافتة فهو يبحث عن إيجادها و إثارتها. الفكر الأصيل يتعارض بشكل نهائي مع الغرور و احتـقار الآخر فتلك صفات المبتدئين و المتحصلين على بعض مزايا التـفكير و لكنهم لا يزالون يتـفـسحون على سطح الأشياء، و ما يفقد التوازن الحالي هو الغلبة الضوضائية لأمثال هؤلاء.. فأنت و إن كنت أحد أبرز مفكري التحرر و التـنوير إلا انك لا يمكن لك أن تـنكر الحكمة في قول ملكة روسيا "كاترينا" الملكة المستبدة المستـنيرة في القرن 18 إلى صديقها الشاعر و الفيلسوف الفرنسي الكبير "دنيس ديدرو" و الذي يعتبر من ابرز فلاسفة الأنوار : " انك تـنسى يا سيد ديدرو، في كل مخططاتك الإصلاحية الفرق بين وضعية كل منا. فأنت لا تعمل إلا على الورق الذي يقبل بكل شيء.. أما أنا الإمبراطورة المسكينة، فأعمل على الجلد البشري السريع الانفعال و الحساس جدا، خلافا للورق". إنها تعتبر نفـسها إمبراطورة مسكينة مقارنة بالمفكر المرح. ذلك أن الحاكم ليس حرا مثل المفكر و بالتالي لا يعمل وفق مبدأ الحرية و هذا ما يجعله أقـل مرتبة من المفكر. ثانيا أن الفيلسوف برغم صداقـته للمستبد المتـنور إلا انه لم يمسك قلمه عن انتـقاد ممارسة الحكم في تعديها على الحرية و على إنسانية الإنسان، و المستبد المتـنور بدوره يعظم شأن الفيلسوف و يضعه في مرتبة أعلى من السياسي.. و ثالثا و ما يظهر من حكمة هي تمحورها حول مقولة "الوضع البشري" و الإشارة من خلالها إلى موقف فكري سياسي.. و إدراك كل من الفيلسوف و الحاكم المستبد المستـنير باختلاف وضعيهما جعلهما أصدقاء يتبادلان ما يتـقاطعان فيه في سماء الحقيقة، كما جعلهما متـناقضين في مبدأ كليهما و تـفرعاته و تعرجاته التي يفرضها اختلاف الوضع البشري هنا و هناك.. مقولة "الوضع البشري" تخرج من ذاك التوصيف الأوتوماتيكي العام بكونه البنية المادية إلى التوصيف الأكثر تعقدا و المتداخلة فيها مجمل العناصر المختلفة المحددة للوجود الإنساني و التي من أهمها هي كلية الجزء أي تاريخيته و ارتباطه بكلية معينة. و انك لا تستطيع أبدا إلا بحكم متعـسف أن تـنكر أصالة تعلق النهائي باللانهائي و بالتالي الروحي الماورائي المتحكم في الوضع البشري كأفراد و جماعات. و هنا يبدو مطلب "ديدرو" من الإمبراطورة عـدم المزج بين إرضاء الفلاسفة و الكهان (باعتباره مزجا بين الخير للأولين و الشر للثانين) في الحكم أقـل حكمة ـ في وضع الحاكم ـ من موقف الإمبراطورة المقيدة بضرورات الحكم و غير الحرة مثل عمل المفكر على الورق.. و نستـشهد كذلك بمفكر بارز بل هو محطة هامة في التـنوير الأوربي الذي أنجب الحداثة السياسية و الاجتماعية و الاقـتصادية و السياسية.. انه المفكر الفرنسي "مونتسكيو" العضو البارز في البرلمان الملكي، و لكن ذلك لم يمنعه كمفكر من الاشتغال بجرأة على الحقيقة فينحاز للإنسان و حريته.. كان ذلك من خلال كتابه الضخم جدا "روح القوانين" و الذي وضع فيه بوضوح أسس جديدة للفكر السياسي و بالتالي للواقع السياسي. فالأنظمة السياسية اليوم في أوربا و أمريكا هي بالأساس يعود الفضل في هندستها إلى "مونتسكيو" القائل مثلا فيما يخص موضوعنا: " عندما أراد متوحشو لويزيانا الحصول على الثمار، قطعوا الشجرة من أسفلها، و قطفوا الثمار. هكذا يكون الحكم الاستبدادي.. فإذا كنا نرى في الحكم الاستبدادي اتحادا، فانه اتحاد أجسام ميتة مكفنة الواحدة بعد الأخرى.. إن الاتحاد الحقيقي هو اتحاد انسجامي يجعل كل الأجزاء، التي تبدو لنا متعارضة، تساهم في الخير العام للمجتمع، كما يساهم تنافر الأصوات في الموسيقى، في الاتفاق الكلي..." فالدفاع عن كيان الدولة حين تـتعرض لخطر التـفكيك لا يعني الدفاع عن النظام الاستبدادي، و مهاجمة الاستبداد السياسي لا تعني كذلك مهاجمة الحاكم في شخصه خاصة إذا كان مثـقـفا و يجلب شخصه الاحترام بغض النظر عن وظيفته، فهو نتاج وضع بشري. لا يعني كذلك مهاجمة جميع أشخاص حكمه، و أركان نظامه فهم في نهاية الأمر وظائف في الدولة و بعضهم ذو مصداقية كبرى في ارتباطه بمصلحة الوطن. من جهة أخرى فان تحرر الوطن و وحدته الحقيقية، لا يكون بصفة فعلية إلا عبر تحرر مواطنيه من الخوف و الزيف و النفاق و الموت الروحي. أي انه لا يمكن أبدا طرح قضية حرية الوطن بشعب من العبيد. لا يمكن طلب الحياة الكلية بما هي حرية بالأموات اللذين تحدث عنهم "مونتسكيو"..
#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفوضى السياسية في تونس
-
مارد الاستثمار في تونس
-
وقف سلسلة الانتقام في تونس
-
بوح معذبي الدكتاتورية في تونس
-
مهزلة العراق الجحيمية
-
صدمة -ترامب-
-
مأزق الراهن
-
الجسدي التائه
-
بين العلم و الايمان
-
حصان الثورة
-
-جمنة- بين الثورجية و المعقولية
-
تعاونية -جمنة-
-
الكاتب و الزبالة
-
أمريكا الداعشية
-
-بورقيبة- و الثورة
-
-يلزمنا ناقفو لتونس- رئيس الحكومة الجديد يستحضر شعار -شكري ب
...
-
في الالحاد الاسلامي
-
الفردوس المفقود المأمول
-
رئيس الجمهورية التونسية يسحب البساط من الجميع
-
الصادقون و الكاذبون
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|