شهدت الساحة السياسية في البحرين تحولات اساسية منذ الاستفتاء علي ميثاق العمل الوطني في 12 - 13 فبراير 2001، بعد انفراج فجائي للكثير من القضايا المعلقة منذ سنوات طويلة بين الدولة وبين القوي السياسية في البحرين، وبعد فترة اربع سنوات من احداث عنف متواصلة، وبعد ما يقرب من ربع قرن من تشتيت وضرب جميع القوي السياسية اليسارية والقومية التي ناضلت لسنوات طويلة ضد الاستعمار والتخلف في البحرين، والتي كانت ممثلة تحت مسميات مختلفة في المجلس التأسيسي عام 1973، وفي اول برلمان بحريني عام 4.197 واليوم وبعد مرور اكثر من عامين علي هذا الانفراج السياسي والسماح للقوي السياسية بممارسة انشطتها علنا، يمكن للمتتبع للاحداث ان يضع قراءة نقدية اولية لتلك القوي الفاعلة علي خريطة العمل السياسي في البحرين، للفترة منذ طرح المبادرة الملكية لتحويل البحرين الي مملكة دستورية قائمة علي نظام الفصل بين السلطات. وخلق مجتمع مدني يعمل ضمن توجه التحول الديمقراطي، والسماح للقوي السياسية السرية بالعمل العلني ضمن مؤسسات لها اطر قانونية معينة الي حين الاتفاق من خلال البرلمان باصدار قانون للاحزاب، وبعد البدء بالعمل بالدستور الذي اجريت عليه الكثير من التعديلات، ومنها التعديل الجذري في تركيبة المجلس الوطني الذي كان اساس الخلاف بين الدولة والمعارضة السياسية في الانتخابات البرلمانية في 42 اكتوبر .2002 ان اكثر ما يمكن ان يؤخذ علي هذه التجربة هو عامل المفاجأة والسرعة القياسية الذي تمت به التغييرات المرسومة لها في الدولة والمجتمع نحو التحول المفاجئ من النقيض الي النقيض، من اللون الاسود الي اللون الابيض، دون ان تعطي كل تلك المؤسسات الفرصة الكافية للتعرف علي مضمون هذا التحول والهدف المطلوب من تحقيقه والاعداد التدريجي نحو الهدف، فجاء هذا العمل وكأنه قرار يراد به تصحيح وضع مؤقت في ظرف سياسي حرج بدون مشاركة فعلية للمجتمع في صياغته وبدون اية دراسة لتأثير ذلك التغيير علي المجتمع بشكل عام. ومما لا شك فيه بأن هذه السرعة المندفعة، في تنفيذ هذا التحول علي المستوي الرسمي، كان يمكن ان تسبب ارتطاما قويا عند تعثرها بأول حجرة في طريق اندفاعها الشديد مما كان يمكن ان تكون قوة الارتطام بمستوي قوة الاندفاع لولا حكمة الاطراف المؤمنة حقا بأهمية نجاح هذه التجربة لصالح جميع فئات المجتمع. بعد مرور اكثر من ربع قرن علي الركود السياسي في البحرين، والعمل بقانون امن الدولة الذي كان له الدور الاساسي في تغيير التركيبة الثقافية والاقتصادية والسياسية للمجتمع البحريني، وبعد ربع قرن من العمل المنظم علي تغيير الثقافة السياسية للمجتمع البحريني وتحويلها الي ثقافة الاستهلاك والتبعية والاصولية والتطرف، اصبح علي هذا المجتمع ان يعمل خلال فترة اقل من عامين علي تغيير واقعه جذريا ليتحول الي مملكة دستورية ديمقراطية، وان يعمل علي تكريس الآليات الديمقراطية بكل عناصرها الثقافية والانسانية والمؤسسية لتحقيق مملكة دستورية بالمفاهيم المتعارف عليها عالميا. فهل يمكن ان تتم هذه العملية في هذه الفترة القياسية علي اسسها السليمة، بدون ان يكون هناك خلط في المفاهيم، وتشويه في هيكلية المؤسسات، وقصور في الديمقراطية، في طرفي المعادلة السياسية، الدولة والمجتمع؟ قبل ان ندخل في عملية نقدية لعمل مؤسساتنا المدنية السياسية، يجب ان نعترف بأن الطرف الآخر من المعادلة (الدولة) لم يكن منصفا في نواحٍ كثيرة عند تحقيق هذا التغيير نحو التحول المنشود، من خلال مؤسساته وتشريعاته واشخاصه، مما كان يجب ان ينعكس علي عمل مؤسسات المجتمع المدني التي بدورها لم تقم باستكمال بناء جميع مؤسساتها نتيجة هرولتها في سباق مع الزمن في محاولاتها للتمسك ببعض القواعد الاساسية للديمقراطية التي يجب عدم تجاوزها في اي ظرف من الظروف، مما انعكس سلبا علي ادائها تجاه معظم القضايا المصيرية علي المستوي المحلي والاقليمي والقومي. من الجانب الآخر رغم ان هذا التغيير كان ولا زال مطلبا رئيسا لجميع القوي السياسية سواء القوي الفاعلة في الشارع، والتي شاركت في عملية المفاوضات المباشرة مع الدولة قبل اعلان المبادرة، او القوي السياسية القديمة والحديثة، الموجودة علي ارض الوطن او المنفية، التي اقصيت جميعها من عملية المفاوضات المباشرة، إلا ان هذه القوي لم تكن مستعدة ببرامج سياسية متكاملة ضمن الرؤي التي كانت تدعو إليها، ولم تكن تملك الدراسات الواقعية والموضوعية عن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلد، كما لم تكن تملك العناصر العلمية والسياسية المواكبة للتطورات السياسية القومية والعالمية التي تتطلب وضع اسس ومعايير جديدة للعمل السياسي علي المستوي التنظيمي والفكري لهذه القوي. هاتان الظاهرتان كانتا من العوامل الرئيسة في اخذ الدولة بيد السبق في طرح برامجها واسلوب عملها علي المجتمع، بينما لم يكن الطرف الآخر يملك البديل الذي يجب ان يكون من الثوابت التي يتمسك بها المجتمع المدني افرادا ومؤسسات، فجاء الخلل في اداء الطرفين في غير صالح المجتمع بشكل عام. تعد الثقافة السياسية، التي سادت خلال ربع القرن الأخير، من اعمق نقاط الضعف في مجتمعاتنا العربية. هذه الثقافة تميزت، من ناحية، بثقافة الانظمة الحاكمة غير الديمقراطية، التي اصبحت تسود بين رجالات الحكم ومؤسساتها وبين غالبية القطاعات في المجتمع وبالاخص في النظام التعليمي، فتميزت هذه المجتمعات بثقافة الموالاة والتبعية وثقافة الاستكانة لمتطلبات الحياة المعيشية الصعبة والاستهلاكية بشكل عام، ومن ناحية اخري تميزت هذه الثقافة بسياسة القوي الشمولية التي تفتقد الديمقراطية في الرؤية والعمل. هذه الثقافة السياسية، غير الديمقراطية في جميع مستوياتها، هي الركيزة الاساسية التي تقف عليها اعمدة الانظمة العربية بممارساتها وسياساتها دون خوف من غضب المجتمع او قدرته علي مساءلتها، وهذه الثقافة السياسية العربية هي القاعدة الاساسية في جميع مجتمعاتنا العربية مع شيء من الاختلاف من مجتمع لآخر، مثل تكريس الطائفية المذهبية في بعضها وتكريس الطائفية السياسية في البعض الآخر، ومثل الثقافة العشائرية القبلية في بعضها والثقافة العشائرية الريفية في البعض الآخر، ولكن في الاساس تشترك جميعها في افتقادها للثقافة السياسية الديمقراطية التي يمكن ان تعالج بها هذه المجتمعات الكثير من مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولكي تستطيع ان تحقق القوي السياسية العربية في مواقع المعارضة اهداف مجتمعاتها، يقع علي عاتقها دور اساسي في القضاء علي هذه الثقافة السياسية الموالية والمستكينة وغير الديمقراطية وتحويلها الي ثقافة سياسية ديمقراطية، سواء للمحافظة علي ما حققتها من مكتسبات (ان وجدت) أو لتحقيق مكتسبات جديدة. ولتحقيق ذلك علي هذه القوي بناء مؤسساتها بأفق ورؤي جديدة تماما، وبعقلية معاصرة تستطيع التعامل مع الاحداث المحلية والقومية والدولية بنفس القدر من الديناميكية والمعرفة، دون التقليل من شأن جانب من هذه الجوانب علي حساب الآخر. ولأن الواقع السياسي البحريني هو جزء من هذه المنظومة السياسية والثقافية العربية، لذلك لا نستطيع ان نفصل مشاكلنا وطموحاتنا السياسية عن باقي المجتمعات العربية. وبقراءة موضوعية لواقع مؤسساتنا السياسية في المعارضة، من خلال مختلف انشطتها ومنشوراتها ومؤتمراتها وندواتها ومواقفها وقراراتها في فترة العامين الماضيين، يمكننا ان نري مواقع الخلل في ثقافتها السياسية والتي تبدأ في بعضها من قمة الهرم، لذلك يجب ان يكون من اكبر مهام مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصا تلك القوي السياسية البحرينية في موقع المعارضة، القيام بالدور الأكبر في تحقيق هذا التغيير الثقافي المطلوب، والذي بدونه لن تتمكن هذه القوي من بناء قواعد جماهيرية واعية تشكل ادوات الضغط الحقيقية نحو تحقيق مطالبها واهدافها، تلك القواعد التي تتمكن من مساءلة قياداتها، كما تتمكن القيادات من تبني قرارات قواعدها المثقفة بعيدا عن الغوغائية والتطرف. فهل، يا تري، هناك ادراك حقيقي لدي هذه المؤسسات في تشخيص هذا الخلل في مؤسساتها ومن ثم في المجتمع بشكل عام، وهل هي قادرة علي وضع الاستراتيجيات العلمية السليمة لنشر الثقافة السياسية الديمقراطية السليمة التي تعتمد عليها المجتمعات المتقدمة في تشخيص مصالحها الوطنية والقومية علي المستوي الداخلي والخارجي؟
الأيام البحرينية