أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - عبد الله لفناتسة - الحقوق الشغلية في مهب العولمة اللبرالية















المزيد.....



الحقوق الشغلية في مهب العولمة اللبرالية


عبد الله لفناتسة

الحوار المتمدن-العدد: 393 - 2003 / 2 / 10 - 05:48
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    



 
I/ الحقوق الشغلية ثمرة مسلسل كفاحي طويل:
استطاعت الطبقة العاملة وشعوب العالم عموما أن تحقق مكاسب ثمينة –في ظل النظام الرأسمالي نفسه- كنتيجة لتضافر شروط موضوعية وذاتية. وإذا كان كفاح الطبقة العاملة في البلدان الصناعية على مدى قرنين حاسما في فرض هذه الحقوق مدعومة في ذلك بحلفائها الطبقيين والتقدميين، فإن ظروفا عالمية ساهمت في إقرار هذه الحقوق ونعني بها انتصار الثورة البلشفية في روسيا وقيام الاتحاد السفياتي، ثم انتصار الثورة الصينية والمد التحرري العالمي الذي أعقبها من جهة، وظروف الأزمة الرأسمالية خصوصا فيما بين الحربين من جهة ثانية.
وقد تكرست هذه الحقوق المكتسبة للطبقة العاملة في دساتير وتشريعات البلدان الرأسمالية وفي المواثيق الدولية ثم في التشريعات المحلية لباقي بلدان العالم.
 
II/تغيرات عالمية جديدة:
في ظل العولمة اللبرالية، طرأت تغيرات جوهرية على الصعيد العالمي أدت إلى المحاولات الجارية للتراجع عن المكاسب الاجتماعية للشعوب ومكاسب الطبقة العاملة على الخصوص، تحت عناوين: "المرونة" و"التنافسية" و"إعادة هيكلة المقاولة" و"تأهيل الاقتصاد"...إلخ.
ويمكن تلخيص أهم هذه التغيرات في:
×   اختلال موازين القوى لصالح الرأسمالية العالمية، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإزاحة عرقلة كبيرة من طريق توسع اقتصاد السوق، بالإضافة إلى تراجع وتشتت المقاومة العمالية والشعبية.
×   هيمنة مطلقة غير مسبوقة للرأسمال المضارباتي غير المنتج وضغطه على الرأسمال الصناعي لتوسيع هامش الربح بأسرع ما يمكن وبكل الوسائل على حساب حقوق العمال وصحة المستهلك والبيئة…
×   تسريع تمركز الرأسمال في يد أقلية من الاحتكاريين وتحكم أكبر للشركات المتعددة الاستيطان في الاقتصاد العالمي وفرض قوانينها وإملاء سياستها على العالم عبر المؤسسات المالية والتجارية العالمية.
×      استعمال مديونية البلدان النامية لتعميق تبعيتها وإخضاعها للمؤسسات الإمبريالية وللولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص.
×   تراجع الدولة عن بعض الوظائف التي أنيطت بها سابقا كضابط ومنظم في النظام الرأسمالي وبالتالي انسحابها من المجالات الاجتماعية (الشغل، الصحة، التربية…) واكتفاءها بتهييء الظروف الملائمة للاستثمار: توفير الأمن، تشييد المناطق الصناعية، التشريع، العملة،… الخ.
هذه التحولات التي حصلت في بنية الرأسمالية العالمية جعلتها تحاول التخلص من الأعباء التي كانت مجبرة على تحملها في ظروف سابقة. وبديهي ان تكون الحقوق الشغلية مستهدفة ضمن المكاسب والحقوق الإنسانية التي تتعرض للهجوم الليبرالي المتوحش.
 
II/ ما هي الحقوق الشغلية المستهدفة:
لتحديد الحقوق الشغلية المعنية سننطلق من المواثيق الدولية باعتبارها صادرة عن منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، أي أنها (أي الحقوق) كانت موضوع اعتراف من طرف البلدان الرأسمالية التي تبنتها في قوانينها المحلية:
 
 
    1.     الحق في العمل وفي استقرار العمل والحماية من البطالة:
"لكل شخص الحق في العمل وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، كما أن له حق الحماية من البطالة". (1)
ويتضمن الحق في العمل "حق كل فرد في أن تكون أمامه فرصة كسب معيشته عن طريق العمل الذي يختاره أو يقبله بحرية". (2)
وتعتبر المواثيق الدولية بأن الدولة هي المسؤولة عن ضمان الحق في العمل وتلزمها ب"اتخاذ الخطوات المناسبة لتأمين هذا الحق" والتي تشمل "برامج وسياسات ووسائل للإرشاد والتدريب الفني والمهني من أجل تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي وثقافي مطرد وعمالة كاملة ومنتجة في ظل شروط تؤمن للفرد حرياته السياسية والاقتصادية".(3)
ويستنتج من المواثيق الدولية أن الحق في العمل لا يكتمل إلا بضمان "الحق في الحماية من البطالة" الذي يعني توفير العمل للعاطلين من جهة وضمان استقرار العمل للعمال من جهة أخرى.
    2.        الحق في الأجر:
"لكل فرد يقوم بعمل الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامته كإنسان تضاف إليه عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية". (1)
ويقصد بالعيشة اللائقة تلك التي توفر للعامل "الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة".(4)
وقد نص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الحق في "مكافآت توفر لكل العمال كحد أدنى: "أجور عادلة ومكافآت متساوية عن الأعمال متساوية القيمة دون تمييز…" و "معيشة شريفة لهم ولعائلاتهم".(5)
ومن الأهداف التي نص عليها الإعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي: "كفالة العدل في المكافآت على العمل دون أي تمييز وضمان أجر أدنى يكون كافيا لتوفير العيش الكريم".(6) بل إن منظمة الأمم المتحدة تقر أيضا بحق كل فرد في "تحسين أحواله المعيشية بصفة مستمرة".6( مكرر)
    3.        الظروف الملائمة للعمل:
وهي تشتمل بالإضافة إلى الأجر العادل على:
               •     ظروف عمل مأمونة وصحية.
        •   فرص متساوية لكل فرد بالنسبة لترقيته في عمله إلى مستوى أعلى مناسب دون خضوع في ذلك لأي اعتبار سوى اعتبارات الترقية والكفاءة.
               •     أوقات الراحة والفراغ وتحديد معقول لساعات العمل وإجازات دورية مدفوعة وكذلك مكافآت عن أيام العطل العامة".(7)
وتمتد إلى كل ما يمكن أن يشكل "شروط وظروف العمل العادلة والملائمة للجميع، بما في ذلك تحسين الظروف المتعلقة بالصحة والسلامة…".(8) "باتخاذ التدابير التقنية والتشريعية المناسبة وتوفير المقومات المادية اللازمة لتنفيذ تلك التدابير".(9)
    4.        الضمان الاجتماعي:
لكل فرد الحق في "الضمان الاجتماعي بما في ذلك التأمين الاجتماعي".(10). و"الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته".(11).
وتعمل الدولة على "توفير نظم ضمان اجتماعي شاملة وخدمات رعاية اجتماعية، وإنشاء وتحسين نظم الضمان والتأمين الاجتماعيين لصالح جميع الأشخاص الذين يكونون بسبب المرض أو العجز أو الشيخوخة، غير قادرين بصورة مؤقتة أو مستمرة على الارتزاق وذلك لتأمين مستوى معيشي سليم لهم ولأسرهم ولمعاليهم".(12).
  5.     حماية الطفل من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي: "يجب حماية الأطفال والأشخاص الصغار من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي ويجب فرض العقوبات القانونية على من يقوم باستخدامهم في أعمال تلحق الأضرار بأخلاقهم أو بصحتهم أو تشكل خطرا على حياتهم أو أن يكون من شأنها إعاقة نموهم الطبيعي، وعلى الدول كذلك أن تضع حدودا للسن بحيث يحرم استخدام العمال من الأطفال بأجر…".(13).
           كما أن للطفل حق الحماية "من أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرا أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارا بصحة الطفل أو بنموه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي".(14).
           ولأجل ذلك تقوم كل دولة بتحديد سن أدنى للالتحاق بالعمل (15 سنة) ووضع نظام مناسب لساعات العمل وظروفه وفرض عقوبات وجزاءات ضد المخالفين لهذه الشروط.
    6.        حقوق المرأة العاملة:
تتعهد الدول "بتأمين الحقوق المتساوية للرجال والنساء في التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المدونة في العهد…".(15). كما تقر الدول بحق الأفراد في التمتع بشروط عمل صالحة وعادلة تكفل على الخصوص "للنساء شروط عمل لا تقل عن تلك التي يتمتع بها الرجال مع مساواة في الأجر عن الأعمال المتساوية".(16). ويتوقف تعهد الدول هذا على "توفير التدابير اللازمة لحماية صحة ورفاه النساء ولاسيما الأمهات العاملات أثناء حملهن وباكورة سن أطفالهن، وكذلك صحة ورفاه الأمهات اللواتي يكون أجرهن المصدر الوحيد لرزق الأسرة، ومنح النساء إجازات وعلاوات حمل وأمومة مع ضمان عدم تعرضهن لفقد العمل أو الأجر".(17). كما يجب "منح الأمهات حماية خاصة خلال فترة معقولة قبل الولادة وبعدها، ففي هذه الفترة يجب منح الأمهات العاملات إجازة مدفوعة أو إجازة مقرونة بمنافع مناسبة من الضمان الاجتماعي".(18).
    7.        الحقوق النقابية:
"لكل شخص الحق في أن ينشئ وينضم إلى نقابات حماية لمصلحته".(19). وذلك من أجل تعزيز وحماية مصالحه الاقتصادية والاجتماعية. ولا يجوز وضع القيود على ممارسة هذا الحق سوى ما ينص عليه في القانون مما يكون ضروريا في مجتمع ديمقراطي…" .(20). ومن أجل بلوغ التقدم والتنمية الاجتماعية تلتزم الدول باستعمال عدة وسائل ومن ضمنها "منح النقابات حريات ديمقراطية كاملة ومنح جميع العمال حرية تكوين الجمعيات والانضمام إليها، بما في ذلك حق المفاوضة الجماعية والإضراب، والاعتراف بحق تكوين منظمات عمالية أخرى واتخاذ التدابير اللازمة لتأمين مشاركة النقابات بصورة متزايدة في الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وتأمين مشاركة جميع أعضاء النقابات فعلا في تقرير المسائل الاقتصادية والاجتماعية الماسة بمصالحهم".(21).
لقد تعمدت استحضار بعض النصوص الواردة في المواثيق الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة لإبراز دور الدولة في ضمان الحقوق الشغيلة وعلى رأسها الحق في العمل واستقرار العمل والحماية من البطالة، ومن جهة أخرى، للتأكيد على أننا لا نقوم "باكتشاف" الحقوق الشغلية، ذلك أن بعضها قد تم الإقرار بها في أوروبا  منذ أكثر من قرن، وتم تكريسها على المستوى العالمي منذ تأسيس منظمة العمل الدولية سنة 1919، ثم مع إصدار الميثاق العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، وأن الإمبريالية تحاول الآن الرجوع بالإنسانية إلى الوراء وتلغي حصيلة زهاء قرنيين من الكفاح العمالي والأممي.
 
IV/ قانون السوق يزحف على الحقوق الشغلية:
إن التحولات الراهنة في النظام الرأسمالي (هيمنة مطلقة للرأسمال المضارباتي، تراجع الدولة عن دورها في المجالات الاجتماعية…) تؤدي إلى المحاولات الجارية للتراجع عن مكتسبات الطبقة العاملة والشعوب عموما وعلى رأسها الحقوق الشغلية، من خلال اعتماد سياسات تقوم على "المرونة" في العمل وظروف العمل وفي الأجور ومن خلال ضرب الحقوق النقابية وحق الإضراب بهدف تجريد الطبقة العاملة من أحد أسلحتها في الصراع ضد الرأسمال.
وسأبرز فيما يلي أهم التراجعات على مستوى الحق في العمل وفي استقرار العمل والحماية من البطالة والحق في الأجر الذي يضمن العيش الكريم والحقوق النقابية:
    1.   التراجع عن مفهوم العمل كحق وتحويله إلى مجرد بضاعة خاضعة لقانون السوق، وذلك بسبب:
-            تخلي الدولة عن دورها في مجال التشغيل، تنفيذا لبرنامج التقويم الهيكلي المفروض من طرف المؤسسات المالية العالمية.
-      خوصصة المؤسسات العمومية والتي غالبا ما تكون مسبوقة بتسريح جماعي للعمال بدعوى تأهيلها قبل تفويتها أو أن عملية التسريح تتم على يد الخواص بعد التفويت.
-            اندماج رؤوس الأموال وابتلاع الشركات بعضها البعض، يؤدي دائما إلى الاستغناء عن جزء من اليد العاملة.
-      الإفلاس المتزايد للمقاولات الصغرى والمتوسطة على الخصوص، بسبب عجزها على المنافسة أمام الشركات الضخمة والتي تلجأ إلى كل الوسائل بما فيها غير المشروعة لسحق منافسيها واحتكار السوق.
-      كما أن قدرة المقاولات ونجاحها في الاستغناء عن جزء من اليد العاملة، يعتبر مؤشرا على "صحتها" وعاملا من عوامل ارتفاع قيمة أسهمها في البورصة.
-            اللجوء إلى المقـاولة من الباطن (La sous-traitance) وإلى العمل بعقد محددة المدة لتفادي ضغط الطبقة العاملة على الرأسمال. مما يجعل أن بعض الشركات تضاعف من إنتاجها ومن أرباحها دون أن تزيد في عدد العمال. (فقد حققت 50 شركة متعددة الاستيطان سنة 1995 أرباحا تقدر ب320 مليار دولار أي أكثر من المنتوج الخاص ب 43 دولة تضم مليارا من السكان، لكن هذه الشركات لم تساهم سوى ب 1% من مناصب الشغل الجديدة المتوفرة عالميا) (22).
-            خلق "مناطق حرة" خالية من أي تشريع للعمل وبالتالي غياب ضمانة لحماية العمال من التسريح التعسفي.
-      لجوء المقاولات إلى العمال المؤهلين بعلاقة مع التطورات التكنولوجية وبالتالي صعوبة متزايدة للعمال غير المؤهلين في العثور على مناصب للشغل.
-      تنافس الدول لجلب الاستثمارات وذلك بتقديم "إغراءات" على الصعيد الاجتماعي وعلى رأسها تسهيل تسريح العمال وتشغيل المؤقتين بشكل دائم.
هذه العوامل توضح بجلاء سبب الهجوم على الحق العمل سواء في الواقع عبر التسريحات الجماعية للعمال أو من خلال تفكيك التشريعات المحلية والدولية التي تضمن الحق في العمل وفي استقرار العمل والحماية من البطالة.
ويمكن اعتبار الحق في العمل أكبر المستهدفين من الهجوم اللبرالي على الحقوق الشغلية، وقد أصبحت أوربا تنتج سنويا حوالي 700000 عاطل، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية التي عرفت سابقا بالتشغيل الشامل (le plein emploi) أصبحت نموذجا لسوء التشغيل رغم أنها تخفي حجم البطالة عن طريق اعتماد أجور منخفضة نسبيا ومناصب شغل غير قارة. أما النسب المنخفضة للبطالة المعلن عنها فهي تفسر بتوقف الكثير من العاطلين عن البحث عن العمل لقلة أو انعدام المهارة وبالتالي توسيع دائرة الفقر خصوصا في صفوف السود أو ذوي الأصل الأجنبي.
       2.         ترجع الرأسمالية الآن عن مفهوم الأجر الذي "يكفل للعامل ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان" وتعود لتخضعه لقانون العرض والطلب مما يؤدي إلى انخفاض عام في مستوى الأجور في ظل توسع البطالة وتعمق الفوارق في الجور بين المستويات العليا الخاصة بالرؤساء والمدراء العامين للشركات الكبرى مثلا والأجور الدنيا الخاصة بالعمال والعمال الزراعيين...
كما أن بعض الدول تدعي الحفاظ على مستوى الأجور، لكنها، حفاظا على التنافسية، تلجأ إلى تخفيض العملة مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وبالتالي تراجع القيمة الحقيقية للأجور من جهة، وتحميل الجماهير الشعبية أعياء التنافسية من جهة ثانية.
إن تنامي البطالة وسرعة وسهولة تنقل رؤوس الأموال وسعي بعض الدول إلى استقطاب الاستثمارات بكل الوسائل سيؤدي إلى مزيد من التراجع في الأجور وفي شروط العمل عموما.
       3.         الهجوم على الحق النقابي: إن كل ما يمثل مقاومة لمنطق السوق يشكل هدفا للهجوم الإمبريالي سواء كان دولة أو تشريعا أو منظمة جماهيرية أو غيرها. وفي هذا الإطار يندرج الهجوم على الحق النقابي، حيث أصبحت درجة تنقيب العمال في أي منطقة من العالم، مؤشرا يؤخذ بالحسبان قبل إقدام الشركات الكبرى على الاستثمار هناك. كما أن بعض الدول تتباهى بسحق الحركة النقابية وتعرض ذلك "كإنجاز" وضمانة لجلب المستثمرين الأجانب. ولا تجد العديد من الدول والشركات الكبرى، حرجا في تحقيق التنافسية التجارية على حساب الحقوق النقابية:
•    ماليزيا تمنع الحق النقابي على عمال قطاع الإلكترونيك.
•    المكيسك وتركيا...تمنع الحق النقابي وحق الإضراب في المناطق الحرة.
•    دولة لوسوطو تمنع الحق النقابي في قطاع الصناعات التصديرية كالنسيج.
•    كما اشتهر المغرب باستعمال الفصل 288 من القانون الجنائي لتكسير الإضرابات في قطاع النسيج والفلاحة والصيد البحري...إلخ.
إلا أن الهجوم الذي يتعرض له الحق النقابي لا يقتصر على القمع المباشر، بل يأخذ طابعا إيديولوجيا أيضا. حيث بدأ الترويج في السنوات  الأخيرة لمفاهيم غريبة عن النضال النقابي العمالي، مفاهيم تساير أهداف العولمة اللبرالية مثل: "التشارك بين العمال وأرباب العمل" و"مواجهة التنافسية الخارجية" و"المقاولة المواطنة" و"السلم الاجتماعي" وتحويل النقابة إلى "قوة اقتراحية"... وهي مفاهيم يراد منها نزع الطابع الكفاحي للنقابة وتدجينها لتصبح مجرد تابع من توابع الرأسمال. وترصد أموال كثيرة "لتلقين" العمال والمناضلين النقابيين هذه المفاهيم "الحديثة" في إطار دورات تكوينية تشرف عليها هيئات مشبوهة محلية وعالمية.
 
V/ التراجع على مستوى التشريع:
تسعى الرأسمالية إلى التخلص من جميع التشريعات والمواثيق التي تكرس الحقوق الشغلية المعترف بها كونيا، ويتجلى ذلك في ما يلي:
1)      عالميا:
لوحظ في السنوات الأخيرة "جمود" في عدد الاتفاقيات والعهود التي تصدر عن منظمة الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية المتعلقة بحقوق العمال، بل إن محاولات تجري الآن للتراجع عن المواثيق الصادرة في وقت سابق.
وفي سنة 1998 صدر عن منظمة العمل الدولية ما يسمى "بالإعلان حول الحقوق الأساسية في العمل" والذي يحصر هذه "الحقوق" في 8 اتفاقيات (23) من أصل 183 اتفاقية دولية. وبعبارة أخرى فهذا "الإعلان" يحاول الاستعاضة عن مفهوم معايير الشغل الدولية بمفهوم "الحقوق الأساسية" التي تستبعد حق الإنسان في الشغل والحماية من البطالة والحق في الأجر الذي يضمن الحياة الكريمة والضمان الاجتماعي والراحة وتحديد مدة العمل... وهذا مدخل للتراجع عن الحقوق الإنسانية والشغلية خصوصا، المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين...
وقد سبق لدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية أن طرحت مسألة إدماج "البند الاجتماعي" في الاتفاقيات التجارية في إطار منظمة التجارة العالمية، ولازالت تتشبث بهذا "البند" في مواجهة الدول الأسيوية خصوصا.
لكن كيف تكـون الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تصادق سوى على 11 اتفاقية دولية للشغـل (24)، هي المتحمسة "للبند الاجتماعي" ؟
الجواب يكمن في أن ما يسمى "بالبند الاجتماعي" لا يتجاوز "الحقوق الأساسية" المذكورة أعلاه، وبالتالي لا يقر بمعايير الشغل الدولية، فضلا عن تقزيم هذه الحقوق وجعلها تنحدر من مرتبة القوانين الملزمة إلى المجال التعاقدي وحصر الاستفادة منها على قطاعات معينة بدل اعتبارها حقوقا كونية. ومن جهة ثانية تستعمل الولايات المتحدة الأمريكية "البند الاجتماعي" كورقة للضغط في المفاوضات التجارية ولابتزاز الدول المنافسة ليس إلا.
2)       محليا:
إن مشروع مدونة الشغل المعروض حاليا على البرلمان يعتبر نسخة لمشاريع مماثلة طبقت في مجموعة من البلدان، وهو يجسد الهجوم الرأسمالي على الحقوق المكتسبة للطبقة العاملة المغربية، وبعض هـذه الحقوق منصوص عليه في قوانين ترجـع إلى عدة عقود، كقـانون الالتزامات والعقود -1913- والقوانين المتعلقة بالحد لأدنى للأجور -1936- ومدة العمل -1936- والنظـام النموذجي -1948- والسلم المتحرك للأسعار والأجور -1959- والحق النقابي -1957- ومنع إغلاق المؤسسات أو تسريح العمال دون ترخيص من عامل الإقليم –1967-...
وبشكل ملخص، فإن مشروع مدونة الشغل يكرس هشاشة الشغل عبر توسيع مجال عقدة العمل المحددة المدة وتسهيل التسريح الجماعي للعمال وضرب مفهوم الأجر الذي يضمن الحياة الكريمة وجعله خاضعا لمنطق السوق عبر إلغاء السلم المتحرك للأثمان والأجور وعدم توحيد الحد الأدنى للأجور وكذا تقزيم التمثيلية النقابية داخل المقاولات وفسح المجال لتجريم الاحتجاج النقابي تحت شعار "حماية حرية العمل"...إلخ.
وسيتجلى المضمون التراجعي لمدونة الشغل بشكل أوضح عند تطبيقه على أرض الواقع وخصوصا بعد صدور المراسيم التطبيقية كقانون الإضراب مثلا.
لقد سبق للحكومة المغربية أن التزمت بالمصادقة على الاتفاقيتين الدوليتين رقم 87 و135، لكنها استمرت بالمقابل في التشبث بمضمون المشروع التراجعي لمدونة الشغل فيما يتعلق بالتمثيلية النقابية داخل المقاولة. وهذا يبرز موقف الدولة المغربية من المواثيق الدولية عموما. فهي إما ترفضها بشكل مطلق أو أنها تصادق عليها وتفرغها من محتواها عبر وضع تحفظات جوهرية عليها أو تضع قوانين محلية فضفاضة وغير عملية، كما حصل بالنسبة لظهير 15 فبراير 2000 حول حماية الحق النقابي الذي قيل أنه تطبيق للاتفاقية 87 رغم أن المغرب لم يصادق عليها بعد، لكن مندوبيات التشغيل ترفض إعمال هذا الظهير بدعوى أنه لم يوضح الجهة المخول لها متابعة تطبيقه ( ! ).
 
VI/ خاتمة:
* إن مناهضة الآثار السلبية للعولمة اللبرالية على الحقوق الشغلية لا تهم المأجورين وحدهم بل تشمل العاطلين عن العمل وضحايا التسريحات الفردية والجماعية وإغلاق مؤسسات الإنتاج وأسر الضحايا وحركات المجتمع المدني المعنية بحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الإنسان عموما سواء كانت هذه الحركات ذات طبيعة سياسية أو نقابية أو شبيبية أو نسائية أو حقوقية...
إلا أن حركة مناهضة العولمة اللبرالية لا والت تشكو من نقط ضعف عديدة مرتبطة بطبيعة وتنوع مكوناتها وظروف نشأتها والتناقضات الكبيرة التي تخترقها (25) وافتقادها لأية استراتيجية أو برنامج مشترك رغم كونها تتفق –ظاهريا على الأقل- على "معارضة اللبرالية المتوحشة وهيمنة رأس المال على العالم".
* كبديل لدعوات "الاندماج" والالتحاق" بقطار العولمة اللبرالية، لا بد من توضيح أن رفض الانعكاسات السلبية لهذه العولمة لا يعني رفض التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تتيحه ويشتمل على إمكانيات هائلة لتقدم الإنسانية وتلبية حاجياتها الأساسية، شريطة تحرير هذه الإمكانيات من سيطرة أقلية من الاحتكاريين وتدبيرها بشكل ديمقراطي في إطار تقرير مصير الشعوب على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهنا تبرز أهمية الدفاع عن المواثيق الدولية ومعايير الشغل الدولية باعتبارها مكاسب إنسانية تحققت كثمرة لمسلسل كفاحي طويل ومرير خاضته الشعوب والطبقة العاملة على الخصوص.
إلا أن هذه المكاسب تبقى هشة وقابلة للتراجع في ظل النظام الرأسمالي المبني على الاستغلال، مما يستدعي ربط النضال من أجل إقرار المواثيق الدولية بالنضال، من أجل تشييد مجتمع اشتراكي يضم حقوق الإنسان وحقوق العمال خصوصا.
 
 
الهوامش:
(1)- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (إ.ع.ح.إ) –المادة 23-
(2)- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية –المادة 6-
(3)- المرجع السابق.
(4)- إ.ع.ح.إ –المادة 25-
(5)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 7-
(6)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 10-
(6 مكرر)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 11-
(7)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 7-
(8)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 10-
(9)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 20-
(10)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 9-
(11)- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (إ.ع.ح.إ) –المادة 25-
(12)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 11-
(13)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 10-فقرة 3-
(14)- اتفاقية حقوق الطفل -المادة 32-
(15)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 3-
(16)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 7-
(17)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 11-
(18)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 10-
(19)- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (إ.ع.ح.إ) –المادة 23-فقرة 4-
(20)- العهد الدولي الخاص ح.إ.ج.ث -المادة 8-فقرة 1-
(21)- إعلان حول التقدم والإنماء في الميدان الاجتماعي -المادة 20-
(22)- كتاب "العولمة الموعودة" -يحيى اليحياوي- ص 196-
(23)- هي الاتفاقيات رقم: 29، 87، 98، 100، 105، 111، 138، 182.
(24)- للمقارنة فإن معدل عدد اتفاقيات الشغل الدولية المصادق عليها في كل دولة هو: 50 في أوروبا و25 في إفريقيا و17 في آسيا.
(25)- وتكفي في هذا الصدد ملاحظة أن الحكومة الفرنسية تكون ممثلة في نفس الوقت في ملتقى داقوس وملتقى بورتو ألد

 
 
[1]  شكلت هذه الورقة نص المداخلة التي تقدم بها الرفيق عبد الله لفناتسة بورشة المرونة وهشاشة الشغل بالمنتدى الاجتماعي المغربي ببوزنيقة بتاريخ 20 دجنبر 2002
 



#عبد_الله_لفناتسة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- حصيلة بقتلى العاملين في المجال الإنساني خلال 2024
- 4th World Working Youth Congress
- وزارة المالية العراقية تُعلن.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر ...
- بيسكوف: روسيا بحاجة للعمالة الأجنبية وترحب بالمهاجرين
- النسخة الألكترونية من العدد 1824 من جريدة الشعب ليوم الخميس ...
- تاريخ صرف رواتب المتقاعدين في العراق لشهر ديسمبر 2024 .. ما ...
- وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر ...
- يوم دراسي لفريق الاتحاد المغربي للشغل حول: تجارة القرب الإكر ...
- وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر ...
- الهيئة العليا للتعداد العام للسكان تقرر تمديد ساعات العمل لل ...


المزيد.....

- الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح ... / ماري سيغارا
- التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت ( ... / روسانا توفارو
- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - عبد الله لفناتسة - الحقوق الشغلية في مهب العولمة اللبرالية