محمد المشماش
الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 16:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول الباحث في العلوم السياسية و الجماعات الدينية الفرنسي ألفير روي في مؤلفه "الجهل المقدس" إن الامتثال و ليس الإيمان هو الذي يقيم مجتمعا و في هذا يكمن كل الفارق بين طائفة و مجتمع" و هذا الفرق بين الامتثال و الإيمان يعكس العلاقة الجدلية بين الديني و الثقافي, لأن الدين معيش هو أيضا كثقافة و الإسقاط الثقافي للديني أمر لا مفر منه, إذ من الصعب على جماعة دينية أن تستمر بالإيمان ما لم تتحول إلى مجتمع سياسي, لأن تلك الجماعة تفرض واحدا من أمرين إما أن يكون فردا دينيا صميميا على الدوام و هذا ما لا يمكن أن يحدث, و إما أن يكون الديني مفرغا من بعده الديني, و هذه العلاقة الجدلية بين الديني و الثقافي لا تخفي الصراع الذي يمكن أن يحصل بينهما حينما يختلط الديني مع الثقافة الهامشية, و المثال الذي أعطاه المؤلف هو الفضيحة التي تم تداولها على نطاق واسع في شبكة الأنترنت في المغرب سنة 2007 في مدينة القصر الكبير الفيديو الذي يصور رجل يلبس ثياب امرأة يرقص وسط المدعوين و قالت عنه الصحافة أنه حفل لزواج المثليين, و الحال أن ما جرى تصويره كان في واقع الأمر ممارسة لطقوس تقليدية في مناسبة عيد ولي يدعى "سيدي مظلوم" و هو طقس يزعم أنه طقسا دينيا مرتبطا بموسيقى الغناوي (كناوة) ارتبطت بالعبيد السود, و هي ثقافة هامشية (مسكوت عنها).
و هذا يوضح على أن المجتمع لا يمكن أن يقوم على الواضح فقط و إنما يقوم كذلك على منظومة رمزية مضمرة و مسكوت عنها, و إن كان تمة معايير و قيم مجمع عليها, فعلى المجتمع التقليدي أن يقبل الهوامش و الانحرافات و غالبا ما كان هذا هو الدور الذي تؤديه الثقافة الشعبية التي تعمل كنظام ضبط لأنها توفر متنفسا و سخرية, لهذا فالثقافة الشعبية منبوذة في أوساط الأصولية الدينية بكل أشكالها, و حتى النظام السياسي قد يلجأ إلى مقاومتها عندما يستشعر أنها قد تشكل خطرا على استمراريته أو ضربا لإحدى مقدساته, حينما يريد أن يظهر بزي العاقل..
بتاريخ 20 ديسمبر 2006 قرر رئيس وزراء الحكومة المغربية آنذاك إدريس جطو حظر نشر و توزيع أسبوعية نيشان لرئيس تحريرها رضى بنشمسي الذي سيصبح في ما بعد معارضا للنظام من خارج المغرب, لأنها نشرت مقالة من مقالاتها الأسبوعية خصصتها لكشف النقاب عن المسكوت عنه في المجتمع المغربي "الملف الأسبوعي, النكت في المجتمع المغربي" عنونتها ب "كيف يضحك المغاربة على الدين و الجنس و السياسة" هذا الموضوع استنكر و اعتبر تهجما على الإسلام و الدولة, و حكم على الصحفيين سناء عاجي و إدريس كسيكس بغرامة مالية و ثلاث سنوات سجنا موقوفة التنفيذ, رغم أنهما نقلا واقعا موجودا و ثقافة متوارثة متداولة من طرف كل الشرائح الاجتماعية و الفئات العمرية, بل و لا تقتصر على بلد محدد و إنما لكل بلد ثقافته الشعبية و طريقته في التنكيت, و هذه الثقافة ليست ملك لأحد يشترك فيها الجميع, والنكتة قد وجدت في كل الحضارات وعبر التاريخ، فقد كان دورها الأول ولا يزال هو الضحك والترويح عن النفس، من خلال إنتاج تصورات كاريكاتورية للواقع. إنها أيضا تحدٍّ واضح للمسكوت عنه وتجاوز مهم للطابوهات، التي لا يمكن الحديث عنها أو يصعب التطرق لها خارج إطار النكتة, لهذا فالثقافة الشعبية تحاول دائما التجلي بعيدا عن الرقابة سواء الدينية أو القانونية أو المعايير السائدة المتعارف عليها باعتبارها تفريغا للمكبوت و ثورة على المعايير الصارمة و القيود المتفق عليها, فالنكتة السياسية انتفاضة على الوضع السياسي بحاكمه و برلمانه و إداراته, و النكتة الدينية ثورة على المعتقدات الدينية و المقدسات, وليس هناك ما هو مهيمن في الثقافة المغربية أكثر من الدين، طابو النكتة بامتياز, في ثقافة تعتبر الدين أكبر المحظورات وأشد الممنوعات قدسية، تأتي النكتة لتكسر هذه الرمزية ولتجعل من الدين موضوعا للهزل. كل شيء يصير مقبولا وواردا في النكتة الدينية. فهي تتحدث عن الفقيه أو رجل الدين ذو الميولات الجنسية الغير طبيعية، و يمكن لهذه النكتة الدينية أن تصل حتى إلى الرموز الدينية الأكثر تقديس: الله والرسول. كما أن للملائكة وإبليس حضورهما الذي لا يستهان به داخل إطار النكتة الدينية, أما النكتة الجنسية تكسير لبعض الطابوهات و قراءة للثقافة الجنسية السائدة في المجتمع الذكوري التقليدي الذي يربط الجنس بالإنجاب, و هي بمثابة عرض لإنجازات الذكور و دونية المرأة, و طريقة ممارسة الرجل التقليدي للجنس, و تفوق الفقراء على الأغنياء في الفحولة, و الكبت الجنسي ... لهذا فغالبا ما نجد هناك ارتباطا وثيقا بين النكتة الدينية و النكتة الجنسية, فكلما اشتد هذا الارتباط إلا و منحها تشويقا رمزيا و انتشارا واسعا و تكسيرا للمقدس بين الأشخاص الذين تربط بينهم حياة مشتركة تحطم حواجز "الحشومة" أو الخجل.
لكن بين المثالين (المثال الذي أعطاه ألفير روي و مثال مقالة نيشان) بون شاسع, فالمثال الأول تعبير عن ثقافة رجعية لا تشكل مشكلا بالنسبة للسلطة بل تكريسها هو بمثابة قياس لوعي الأفراد و مدى انصهارهم في الوعي الجمعي المتخلف الذي يساهم حتما في استمرارية السلطة المتحكمة, أما المثال الثاني فالسخرية هي بمثابة ثورة صامتة على المعتقد, على السياسي و الفقيه (ولي الأمر) ثورة على المكبوت عن طريق تعبير استهامي صامت, رغبة مؤقتة في التخلص من قيود الواقع اليومي المعيش, رغبة مكبوتة في اللاشعور تنأى عن التجلي في الواقع نظرا للقهر الممارس في حق الإنسان المستلب الذي يعاني من الإفراط في استخدام الديني كأداة للقمع اللاشعوري الذي يصرف الناس من الاهتمام بشؤونهم الدنيوية, إلى الخلاص الروحي, أو كما يقول بو علي ياسين في مؤلفه "الثالوث المحرم" "الدين و الجنس و الصراع الطبقي": " فمن جهة يوجه الدين كما هو معلوم أنظار الناس عن الخلاص المادي إلى الخلاص الروحي, عن الحياة الدنيا إلى حياة الآخرة, من جهة أخرى يبرر لهم وجودهم كمستغلين مظلومين اختبار لإيمانهم, قصاص لذنوبهم, غضب من الله, الأرض للأغنياء و الجنة للفقراء, و الله يعطي للأغنياء و يزيد لكي لا تكون لهم حجة على الله..."(1).
و هذا على حد فهمي سبب من الأسباب التي أدت إلى منع أسبوعية نيشان من طرف السلطة, لأن المسألة هي أكثر من أن تكون عرض للطريقة التي يسخر بها المغاربة من المقدس, و إنما لكونها أماطت اللثام عن وضعية العبودية و المعاناة اليومية مع المكبوت الذي يتراكم يوميا انطلاقا من القهر الاجتماعي الممارس و استلاب الإنسان من خلال مجموعة من الآليات التي تسعى إلى حشره في هوية معطاة سلفا, قوالب جاهزة نمطية, و ما السخرية من المقدس إلا حالة من حالات إرجاع المكبوت إلى الوعي, هذا في اعتقادي هو سبب بارز في ظهور ثورة شبابية رافضة لما هو مقدس لأنها تعتبر الديني هو جزء لا يتجزأ من السياسي و رفض المقدس الديني هو رفض للمقدس الدنيوي, فالوضعية التي تفرضها البنية الدينية هي وضعية الامتثال القسري, و زواج السياسي بالديني لا يمكن فقط تفسيره من وجهة نظر تاريخية قديمة أو أحد رواسب الماضي و إنما اندماج مقصود مدعوم بقوانين محدثة يمكن أن تنال حتى من المرجعية الدينية إذا تعارضت مع مصالح الطبقة المستفيدة, و هذا ما يفسر وجود قوانين عقابية ليس لها نص ديني كمعاقبة المفطر في رمضان عقوبة حبسيه أو غرامة مالية مع أن عقوبة المفطر عمدا محددة في النص القرآني تحديدا صريحا و لا تحتاج لتأويل. و هذا في حد ذاته إفراغ للديني من محتواه الروحي, و تحويله إلى ممارسة روتينية خاضعة لآلية الثواب و العقاب ليس بمفهومها الديني الصرف و إنما الواقعي المتغير و النسبي, و ربما هذا كذلك سبب من أسباب ظهور الجماعات الأصولية التكفيرية, و ما جعل الدول التي لم تستطع خلق نظام مؤسساتي مقبول و ديمقراطي و أيديولوجية واضحة, تقع بين مطرقة الراديكالي التكفيري الرافض لكل ما هو حداثي و سندان الحداثي العلماني الرافض لكل أشكال التقليد.
و إذا ما عدنا إلى المثال الأول الذي أعطاه أليفر روي, فقد يعتبره البعض طقوس كناوة و الحظرة عبارة عن ثقافة هامشية وثنية, أما عند ممارسيها فهي عبادة طابعها قد يفوق الطقوس و الشعائر الدينية قدسية و روحانية..
خلاصة القول هو أن أعضاء مجتمع واجد يتقاسمون منظومة معتقدات واحدة علانية هو اعتقاد عبثي و لا يمكن أن يفضي إلا إلى قهر مستدام. أما فصل الدين عن السياسة فهو حتمية لا مفر منها, رغم الإرث الثقيل الذي خلفته الدولة الدينية السلطانية, دولة القهر و السطو و الاستغلال على حد تعبير عبد الله العروى.
(1) بو علي ياسين, الثالوث المحرم, دراسات في الجنس و الدين و الصراع الطبقي, دار الطليعة للتوزيع و النشر, بيروت لبنان, ص 21
#محمد_المشماش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟