أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - فصل من رواية -المهاجر الروسيّ، تشيك- مترجمة عن الألمانية















المزيد.....


فصل من رواية -المهاجر الروسيّ، تشيك- مترجمة عن الألمانية


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 5359 - 2016 / 12 / 2 - 16:01
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
العصابيّ "مايك كلينغنبيرغ"
فصل من رواية "المهاجر الروسيّ، تشيك" للكاتب الألماني فولفغانغ هيرندورف التي ستصدر قريباً عن "منشورات الجمل" في بغداد وبيروت


ومع ذلك فإنني لم أذكر حتّى الآن لماذا كانوا يطلقون عليّ اسم العصابيّ. إذ، ومثلما قلت، كان اسمي العصابي لفترة قصيرة. ولا علم لي بمغزى هذا اللقب. ومن الواضح إذاً بأنّني مختل العقل. لكنّني أرى أنّ هناك بعضاً من الأشخاص الجديرين بهذا اللقب وفي وقت مبكّر. ويمكن أن يطلق هذا اللقب على فرانك أو شتوبكه بولّاعته، فهما أشدّ تشوشاً منّي في جميع الأحوال، أو النازي. لكنّ النازي يدعى نازي فلا يحتاج إلى اسم آخر. وبالطبع أنّ هناك سبباً خاصاً جعل اسمي أنا بالذات يكون على هذه الشاكلة. وكان السبب يعود إلى امتحان باللغة الألمانية لدى شورمان في الصفّ السادس، وكان الموضوع يتعلّق بقصّة التعابير المثيرة. وإذا لم يعرف أحد معنى قصّة التعابير المثيرة فإنها تتم على النحو التالي: إذ يتلقّى الطالب أربع كلمات مثل "حديقة حيوانات" و "قرد" و"حارس" و"قبّعة" وعليه أن يكتب قصّة ترد فيها مفردات حديقة الحيوانات والقرد والحارس والقبعة. وهذه فكرة أصيلة حدّ الجنون، بل إنّها البلادة بعينها. فكانت الكلمات التي فكّر بها شورمان هي "رحلة" و "وماء" و"إنقاذ" و"الله". وهي أكثر صعوبةً بوضوح من حديقة الحيوانات والقرد، وكانت الصعوبة الرئيسية تكمن في الله بالطبع. فكان لدينا درس علم الأخلاق فحسب، وجلس في الصف ستة عشر ملحداً ومن ضمنهم أنا، وحتّى أولئك الذين كانوا بروتستانتيين لم يكنوا من المؤمنين بالله حقّاً، حسبما أظنّ. وعلى أية حال، فإنّ إيمانهم لم يكن مثل إيمان الناس الذين يؤمنون بالله فعلاً ولا يؤذون نملةً أو يفرحون إذا ما فارق شخص ما الحياة، لأنّه سيصل إلى السماء حينئذ، أو أولئك الذين اصطدموا ببرجيّ التجارة العالمية والذين كانوا يؤمنون بالله حقّاً. ولذلك فإن الموضوع كان صعباً تقريباً. ومعظمهم تشبّث بكلمة عطلة، حيث تجدّف العائلة الصغيرة في منطقة الريفيرا الفرنسية، ثمّ تجتاحها فجأةً عاصفة فتهتف العائلة "يا إلهي" فيتم إنقاذها وما إلى ذلك. وكان باستطاعتي أن أكتب أيضاً على هذا النحو بالطبع. وعندما جلست أفكّر بهذا الواجب خطر في ذهني بأنّنا لم نقم برحلة استجمام منذ ثلاث سنوات، لأنّ والدي كان طوال الوقت يحضّر عملية إفلاسه، الأمر الذي لم يثير استيائي قطّ، فأنا لا أحبّ مرافقة والدي لقضاء العطلة في الخارج.
وبدلاً من ذلك قبعت طيلة الصيف الماضي في القبو وصرت أقطع خشب "الكيد.“ وكان أحد معلميّ مدرستي الابتدائية قد علمّني طريقة نجارته. وكان المعلم خبيراً في مجال "البومرنغ.“ كان اسمه برتفيلد، فيلهلم برتفيلد والذي وضع كتاباً عن ذلك، بل نشر كتابين، وقد عرفت ذلك بعدما غادرت المدرسة الابتدائية. والتقيت ببرتفيلد العجوز في المرج مرّة أخرى. وكان يقف في مرعى الأبقار خلف منزلنا ويقذف الكيد، البومرنغ الذي كان يصنعه بنفسه، فكانت تلك قضيةً لم أكن أعلم كيفية التعامل معها. واعتقدت بأنّها تعود فعلاً إلى راميها من جديد كما في الأفلام، بيد أنّ برتفيلد كان محترفاً تماماً، فاطلعني عليها. ووجدت أنّها مثيرة للغاية، بما في ذلك حقيقة أنّه كان يصنع قطع الكيد بنفسه ثمّ يلوّنها. برتفيلد قال "كلّ ما هو دائري من الأمام ومدبب من الخلف يطير"، ثمّ رمقني بنظرة من وراء نظّارته وسألني: ما هو اسمك مرّة أخرى؟ فلم أعد أتذكّرك. ومما أثار إعجابي هو أنّ الكيد كان يحلّق فترة طويلة. وكان هذا الكيد قد طوّره بنفسه ويستطيع التحليق دقائق طويلة، وهكذا اخترعه بنفسه. وكلّما يقذف المرء كيداً يطير فترةً طويلةً ويبقى محلّقاً خمس دقائق في الهواء ثم تتلقط له صورة، فيكتب تحتها: بالاستناد إلى تصميم فيلهلم برتفيلد. فهو مشهور عالمياً في الواقع، برتفيلد هذا. وهكذا وقف في مرعى الأبقار خلال الصيف الماضي خلف دارنا وأطلعني على الكيد، وكان معلّماً جيّداً فعلاً. لكنني لم ألحظ ذلك عندما كنت في المدرسة الابتدائية.
على أيّة حال، أمضيت طيلة الصيف كلّها في القبو أحفر على الخشب. فكانت عطلة صيف رائعة، أفضل بكثير من الرحلة الخارجية. ولم يبق والداي في المنزل إلا نادراً، وكان أبيّ ينتقل من دائن إلى آخر، بينما كانت أمّي تمضي الوقت في مزرعة التجميل. ولذلك كتبت الواجب المدرسي حول هذا الموضوع أيضاً: الأمّ ومزرعة التجميل. قصّة مفردات متفرقة، ألّفها مايك كلينغنبيرغ.
وفي حصّة الدرس المقبلة أتيح لي قراءة القصّة، أو أجبرت على ذلك. ولم أكن راغباً في القراءة. فقرأت سفنيا في البدء، فتناولت الثرثرة المألوفة عن الريفيرا الفرنسية والتي أبهرت شورمان بروعتها، ثمّ قرأ كيفن الشيء ذاته، لكنّ الريفيرا الفرنسية كانت تقع هذه المرّة على بحر البلطيق، ثمّ جاء دوري. أمّي في مزرعة التجميل، وهي لم تكن مزرعة تجميل في الواقع. حتّى ولو كان شكل أميّ يبدو أفضل دائماً كلّما عادت من هناك. كان المكان عبارة عن مستوصف في الحقيقة، وكانت والدتي مدمنةً على الكحول، فتحتسي الخمر منذ أن بدأت أنا بالتفكير، والفرق الوحيد هو أنّ الأمر كان ممتعاً سابقاً. فعادةً ما يصبح كلّ شخص ظريفاً بعد احتساء الكحول، لكنّ عندما يتجاوز المرء الحدّ المعيّن فيصبح متعباً أو عدوانياً، وبعدما كانت أمّي تطوف في المنزل، حاملةً سكين المطبخ، وكنت أقف لحظتها مع والدي في أعلى الدرج فتساءل أبي:“ ألم يحن الوقت مجدداً للذهاب إلى مزرعة التجميل؟" فبدأ الصيف على هذا المنوال عندما كنت في الصفّ السادس الابتدائي.
أنا أحبّ أمّي، ويجب أن أقول ذلك، لأنّ ما سيأتي سوف لا يلقي عليها ضوءاً جيّداً تماماً. بيد أنّني كنت أحبّها دائماً ومازلت أحبّها. فهي ليست مثل الأمهات الأخريات. وهذا ما كنت أفضّله دائماً لديها. فهي يمكن أن تكون ساخرةً جدّاً على سبيل المثال، ولا يجوز أن نسبغ هذه الصفة بالذات على الكثير من الأمّهات. وحتّى تسمية مزرعة التجميل هي نكتة أيضاً أطلقتها والدتي نفسها. وسابقاً كانت والدتي تلعب كثيراً كرة المضرب، وكذلك والدي، لكنّه لم يكن جيّداً مثلها. والشيء المثير في العائلة عملياً كان والدتي. وحين كانت نشطةً فإنها كانت تفوز ببطولة الجمعية كلّ عام. بل كانت تفوز بالبطولة حتّى بعد أن تتناول زجاجة فودكا كاملةً، لكنّ هذه قصّة أخرى. على أية حال، فقد كنت أرافقها دائماً إلى ملعب التنس، حيث تجلس على شرفة النادي وتحتسي الكوكتيل وتتحدث مع السيّدة فيبر والسيّدة أوسترتون والسيّد شوباك والبقية كلّهم. فكنت أجلس تحت الطاولة وألعب بالسيّارات الصغيرة، والشمس تكون مشرقةً، بل إنّ الشمس كانت تشرق باستمرار على نادي التنس مثلما احتفظ بها في ذاكرتي. فكنت أتطلّع إلى التراب الأحمر وإلى الأحذية الخمسة البيضاء، وأرى السراويل الداخلية تحت التنورات القصيرة، وكنت أجمع سدادات الفلّين التي كانت تسقط من الأعلى إلى الأسفل والتي يمكن الرسم عليها بقلم الجاف. وكان يسمح لي بتناول خمس كرات من المرطبات المثلجة كل يوم وعشر علب صغيرة من الكوكا كولا وأقيدها في سجل عند صاحب الحانة. ثمّ تهتف السيّدة فيبر من الأعلى:
"سنلتقي الأسبوع مجدداً في الساعة الثالثة، يا سيّدة كلينغنبيرغ؟"
فتقول أمّي ":بالتأكيد".
فتعود السيّدة فيبر إلى القول":وسأجلب معي الكرات هذه المرّة".
فتجيب والدتي "بالتأكيد".
وما إلى ذلك وهلّم جرّا، والحديث المكرر ذاته دائماًَ وأبداً. لكنّ النكتة هنا هي أنّ السيّدة فيبر لم تجلب قطّ أيّ كرات معها، إذ أنّها كنت بخيلةً.
أحياناً ينشأ حوار مختلف أيضاً، فيسير بهذه الصورة:
"يوم السبت القادم مجدداً يا سيدة كلينغبيرغ؟"
„لا أستطيع، لأنّني سأسافر.“
„لكن ألا يشارك زوجك في دورة ميدين للتنس؟"
„نعم، لكنّه لا يسافر. إنما أسافر أنا وحدي.“
„أها! وإلى أين تسافرين؟"
„إلى مزرعة التجميل".
وتأتي ودائماً من أحد الجالسين إلى الطاولة والذي لم أتعرّف عليه بعد ملاحظة ذكيّة حدّ الجنون":لكنّك لست بحاجة إلى ذلك أبداً يا سيّدة كلينغنبيرغ"!
فتعبّ والدتي جرعةً من براندي الكسندر الثقيل وتقول":كانت مزحةً يا سيّدة شوباك. إنّه مصحّ طبّي لمعالجة الإدمان".
بعد ذلك نذهب يداً بيد من ملعب التنس إلى المنزل، لأنّ والدتي لم تعد قادرةً حينئذ على قيادة السيّارة. فكنت أحمل حقيبتها الرياضية الثقيلة وكانت تقول لي":لا يمكنك أن تتعلم الكثير من أمّك. لكنّ ما يمكن أن تتعلمه منها هو أولاً: أنّ المرء يستطيع التحدّث عن كلّ شيء. وثانياً أنّها لا تعر اهتماماً لكل ما يفكر به الناس". فاقتنعت بذلك فوراً، أيّ الحديث عن كلّ شيء وتجاهل الناس.
ولم يأت الشكّ إلا فيما بعد، فلم يكن هناك شكّ في هذا المبدأ. لكنّ هناك شكّاً فيما إذا كان الأمر سيّانِ بالنسبة لوالدتي حقّاً.
المهم هو: مزرعة التجميل تلك. ولا أعلم كيف كانت الأمور تسير هناك بالضبط، لأنّني لم يسمح لي بزيارتها قطّ، فهي لم تكن راغبةً في ذلك. غير أنّها حالما تعود من هناك تروي دائماً أشياءً جنونيّةً. ويبدو أن العلاج كان يقوم، وبشكل أساسيّ، على عدم تناول الكحول و المحادثات والخوض في المياه والتمارين الرياضية في بعض الأحيان. لكنّ الكثيرين لا يستطيعون تأدية التمارين الرياضية، فلذلك كانوا يتحدثون طوال الوقت ويقذفون بكرة من الصوف في دائرة، وكلّ من تقع كرة الغزل في يديه يحقّ له وحده الكلام. وسألت خمس مرّات فيما إذا كان ما سمعته صحيحاً أم أنّ كرة الصوف مجرد نكتة. بيد أنّها لم تكن نكتةً، وكذلك والدتي لم تر الأمر ممتعاً أو مثيراً، لكنّي رأيته، وبصراحة، مثيراً للغاية. فعلينا أن نتصور: عشرة أشخاص بالغين ويجلسون على شكل حلقة ويتقاذفون كرة الصوف فيما بينهم. وبعد ذلك أصبح المكان كلّه مليئاً بالصوف، غير أنّ هذا لم يكن الهدف من العملية، حتّى لو فكّر المرء به في البدء. فكان الهدف إقامة شبكة من الحديث المتواصل. وبهذا يدرك المرء بأنّ أمّي لم تكن الأكثر جنوناً في هذه المصحّة الطبية، ولابد أن يكون هناك من هو أكثر جنوناً منها وبشكل واضح.
ومن يظنّ الآن بأنّ ليس هناك ما يتجاوز كرة الصوف، فإنّه لم يسمع من قبل بعلب الورق المقوّى. فكلّ نزيل في المصحة كان يمتلك علبة كارتون في غرفته، حيث تعلّق في السقف، وتكون فتحتها إلى الأعلى، وعلى النزلاء أن يرموا بقصاصات أوراق في هذا الكارتون تماماً مثل يفعل لاعبو كرة السلّة. قصاصات يكتب عليها النزيل أمنياته وتطلعاته وصلواته أو ما يدوّنه من أمور أخرى. وكلّما كانت هناك تطلعات لدى والدتي أو تأنيب ضمير فإنّها تدوّن ذلك وتقذف بالقصاصة كما يفعل لاعب كرة السلّة الشهير ديرك نوفيتسكي. والشيء المدهش هنا هو أنّ ليس هناك من كان يقرأ هذه القصاصات. فهذا لم يكن الهدف، بل إنّ الهدف هو أنّ النزيل يكتب القصاصة ذات مرّة فتكون موجودةً فيراها فوقه ويقول هذه هي آمالي وطموحاتي معلقة ً في الأعالي، ويستقر كلّ هذا الهراء في علبة المقوّى المعلقة بالسقف. وبما أنّ هذه العلب مهمة، فعلى النزيل أن يختار لها اسماً أيضاً. فيخط عليها الاسم بقلم اللبّاد فيكون لكلّ مدمن علبة كارتون خاصة به ومعلقه في غرفته وتسمى "الله" وتكون فيها أمنياته، إذ أن الجميع أطلقوا اسم "الله" على علبهم. وقد اقترح الممرض المختص بالعلاج أن يطلق على العلبة لقب الله. ويمكن أن يطلق عليها النزيل ما يشاء من أسماء. وثمّة امرأة عجوز أطلقت عليها اسم "أوزيرس" وأحد آخر أطلق عليها لقب "الروح الأعظم".
أمّا كارتون أمّي فكان اسمه "كارل-هاينتس" فجاء لها الممرض ومزقها بالأسئلة. فأراد في البدء أن يعرف فيما إذا كان هذا اسم أبيها. فسألته أمّي "من؟" فأشار المعالج إلى علبة الكارتون. فهزّت والدتي رأسها نفياً. فسألها الممرض من هو إذاً كارل-هاينتس هذا. فقالت "علبة المقّوى المعلقة هناك". ثم أراد الممرض أن يعرف اسم والد أمّي فأجابت "غوتليب". فندت عن الممرض كلمة "أها!“ فبدت هذه "الأها" كما لو أنّ المعالج فهم المقصود بالكلام. غوتليب – أها! ولم تكن والدتي تعلم شيئاً من هذا الذي فهمه الممرض، وهو من ناحيته لم يبلغها بما فهم. واستمر الأمر على هذا المنوال طوال الوقت. وكانوا كلّهم يبدون على هذه الصورة وكأنهم يفهمون كلّ شيء، دون أن يسرّوا للآخرين بما عرفوا. وعندما سمع أبي بقصّة علبة الكارتون كاد يسقط من الكرسي، وصار يردد "يا إلهي! إنّه لأمر محزن فعلاً!“ ثمّ أخذ يضحك، فصرت أضحك أنا بدوري أيضاً طوال الوقت. وكانت والدتي تنظر إلى القضية برمتها باعتبارها حكاية غريبة، أو أنّها أدركتها على هذا النحو فيما بعد.
هذا كلّه كتبته في واجبي المدرسي. ولكي أوظّف كلمة "إنقاذ"، فقد تناولت حكاية سكّين المطبخ، ولأنّني كنت منهمكاً في الكتابة، فوصفت كيف أنّها هبطت السلّم ذات صباح وحسبتني أبي. وكان هذا أطول واجب مدرسي أكتبه، ويقع في ثماني صفحات. وكنت قادراً على كتابة الجزء الثاني والثالث والرابع، إن كنت راغباً في ذلك، لكن، ومثلما اتضح فيما بعد، فإنّ الجزء الأوّل أصبح كافياً.
ومن فرط الإعجاب بات الصفّ لا يعرف رأسه من رجليه. فطلب منهم شورمان الهدوء ثمّ قال "حسناً. جيّد. كم بقي لديك من صفحات؟ إنّها طويلة إلى هذا الحدّ. وأودّ القول إنّ هذا يكفي". فلم أكن بحاجة إلى تكملة القراءة. وأثناء الاستراحة أبقاني شورمان معه لرؤية الدفتر على انفراد، فوقفت إلى جانبه شاعراً بفخر بفعل النجاح الكبير الذي حققته، ولأنّ شورمان شخصياً سيقرأ الآن النصّ إلى النهاية: مايك كلينغنبيرغ، الكاتب. بعد ذلك أغلق شورمان الدفتر ورمقني بنظرة ثمّ هزّ رأسه، فتصورت بأنّ هذه هزّة اعتراف تحت شعار: من ذا الذي يجاري تلميذاً في الصف السادس بكتابة واجب مدرسيّ مدهش بهذا الشكل؟ بيد أنّه قال فيما بعد:
"لماذا تبتسم هكذا ببلاهة؟ فهل ترى أنّ الأمر يدعو إلى البهجة أيضاً؟"
فاتضح لي شيئاً فشيئاً بأنّه لم يكن نجاحاً كبيراً، أو على الأقل لم يكن نجاحاً بالنسبة لشورمان الذي نهض من مقعد الدرس وذهب إلى النافذة وأخذ يتطلع إلى ساحة الاستراحة والتفت إليّ مجدداً وقال: „إنّها والدتك. فهل فكرت بذلك؟"
لعليّ ارتكبت خطأً فظيعاً، لكنّني لا أعلم أي خطأ كان. وبدا واضحاً على ملامح شورمان بأنّني ارتكبت خطأً جسيماً بهذه القصّة وكان واضحاً أيضاً بأنّه اعتبرها أشدّ واجب مدرسيّ إحراجاً في تاريخ العالم. لكنّني لا أعلم لماذا، وهو لم يبلغني بذلك، ثمّ إنّني وبصراحة لا أعلم سبب ذلك إلى اليوم. إنما كان يردد فقط بأنّها والدتي، وكنت أقول إنّ هذا واضح بالنسبة لي، لكنّه فجأةً رفع صوته عالياً وقال إنّ هذا الواجب المدرسيّ هو الأسوأ والأشد إثارة للغثيان والأقلّ حياءً الذي رآه خلال خمسة عشر عاماً من الخدمة في التعليم، وما إلى ذلك، وعليّ أنّ أمزّق الصفحات العشر هذه من دفتري المدرسي على الفور. فأصبحت محطماً تماماً ومنهاراً، فتناولت بالطبع دفتري وهممت بتمزيق الصفحات مثل أيّ أحمق، لكنّ شورمان أوقفني وهو يصرخ:
„يجب أنّ تمزقها فعلاً. ألا تفهم ما أعنيه؟ ففكر قليلاً!“
ففكرت دقيقةً، دون أن أفهم، ولم أفهم ذلك حتّى يومنا هذا. وأعني أنني لم افتعل أو اخترع شيئاً أو أي شيء من هذا القبيل.
بعد ذلك أطلقوا عليّ لقب العصابي، وصاروا كلّهم ينادونني بهذا الاسم طيلة عام كامل. وحتّى داخل الصفّ وفي حضور المعلّمين، "هيّا يا عصابي، مرر الكرة. إنّك تستطيع ذلك يا عصابي، فاجعل الكرة أرضيةً". وتوقّف ذلك بعدما جاء أندريه إلى صفّنا. أندريه لانجيه. أندريه الجميل.
أندريه رسب في الامتحان. وكانت لديه صديقة منذ أوّل يوم لالتحاقه بمدرستنا، ثمّ صار يصادق كلّ أسبوع واحدةً جديدةً، وحالياً فهو مع تلميذة تركية في الصفّ الموازي لصفنا ويبدو مظهرها مثل سلمى حايك. وحاول أيضاً أن يتحرّش بتاتيانا ذات مرّة أيضاً فتغيّر الوضع بالنسبة لي. وكانا يتحدثان فيما بينهما بلا انقطاع أيّاماً طويلةً في الممرات وأمام المدرسة وعند الباحة الدائرية. لكنّهما لم يتصاحبا في النهاية، على ما أعتقد. وكان من شأن ذلك أن يقتلني، إذ أنّهما انقطعا عن الحديث فيما بينهما ذات يوم وسمعت بعد فترة قصيرة بأنّ أندريه شرح لباتريك لماذا لا ينسجم الرجال والنساء مع بعضهم البعض، فيا لها من نظرية علمية جنونية عن العصر الحجري والسنّور السيفيّ وإنجاب الأطفال وغير ذلك. ولهذا كرهته أيضاً. بل إنّني كرهته بعمق منذ اللحظة الأولى، لكنّ الأمر لم يكن سهلاً عليّ. لأنّ أندريه لم يكن الشمعة الأشدّ سطوعاً في الشمعدان، غير أنّه لم يكن مجوّفاً تماماً. ويمكن أن يبدو لطيفاً، ولا مبالياً، ومظهره، ومثلما قلت، جميل تقريباً. ومع ذلك فهو مأفون ومما جعل الأمر أكثر تعقيداً هو أنّه كان يسكن مسافة شارع عن منزلنا، في فالدشتراسه رقم ١٥. حيث لا يسكن إلا المأفونون. وآل لانجيه يمتلكون منزلاً ضخماً. وأبوه كان عضواً في مجلس البلدية أو شيء من هذا القبيل. واضح. وقال أبي: إنّه رجل عملاق، لانجيه هذا! لأنّه أصبح الآن عضواً أيضاً في الحزب الليبرالي، فتوجب عليّ أن أتقيّاً مثل رشّاش الماء. آسف.
بيد أنّني أردت أن أروي شيئاً آخر، فعندما كان اندريه لم يزل جديداً في مدرستنا، ذهبنا نتجوّل ذات مرّة في جنوب برلين، وكانت جولةً في الغابة كالعادة. وكنت أسير على مسافة بعيدة خلف الآخرين وأنظر إلى الطبيعة. لأنّ ذلك حدث حينما أقمنا معشبةً وكنت أهتم فترةً بالطبيعة والأشجار. وكنت أودّ أن أصبح عالماً أو شيئاً من هذا النوع. بيد أنّ ذلك لم يدم طويلاً، وكان ذلك مرتبطاً على الأرجح بتلك الجولة أيضاً، عندما كنت أتجوّل على مسافة أميال خلف الآخرين، لكي أتأمل بهدوء حالة الأوراق ومظهرها. فخطر في ذهني بأنّني غير مهتم بأوراق الأشجار ولا بطبيعتها. وسمعتهم يضحكون في المقدمة، واستطعت تمييز ضحكة تاتيانا كوسيك، وكان مايك كلينغنبيرغ يخوض في الغابة خلفها مسافة مئتي متر ويتطلع إلى الوضع المزري للأوراق في الطبيعة والتي لم تكن طبيعةً حقيقيةً حتّى، بل غابة متواضعة عُلّقت فيها لوحات إرشاد كلّ عشرة أمتار، فكانت الجحيم عينه.
وبعد حين وقفنا أمام شجرة زان بيضاء عمرها ثلاثمئة عام غرسها فريدريش الكبير في الأرض وسأل المعلّم من منكم يعلم نوع هذه الشجرة؟ فلم يعرف أحد نوعه، باستثنائي أنا بالطبع. لكنّني لم أكن معتوهاً لأجهر بذلك أمام الجميع وأقول إنّني أعرف نوعها وهي شجرة زان بيضاء. وكان من الأفضل لي في هذه الحالة أنّ أقول: اسمي العصابي، فأخلق لنفسي مشكلةً. وبدا من المحبط كذلك أنّ نتحلّق كلّنا حول هذه الشجرة التي لا يعرف أحد اسمها. وكان فريريش الكبير قد وضع تحت شجرة الزان هذه بضعة مقاعد للجلوس وتناول الطعام، وهذا ما فعلناه بالضبط. فجلست بالصدفة إلى طاولة تاتيانا كوسيك. وجلس أندريه قبالتي على نحو مائل، أندريه الجميل، وقد وضع ذراعيه اليمنى واليسرى على كتفيّ لاورا وماري، كما لو أنّه كان يرتبط معهما بعلاقة وطيدة، رغم أنّه انضمّ إلى صفّنا قبل أسبوع على الأكثر. لكنّهما لم تعترضا، بل كانتا متحجرتين من فرط السعادة، فلم تتحركا قيد مليمتر واحد كما لو أنهما كانتا خائفتين من إبعاد ذراعيّ أندريه عن كتفيهما كما تجفل الطيور. أندريه لم يقل شيئاً طوال الوقت، إنما كان يتطلع بنظرته، نظرة غرفة النوم، إلى المكان وبنظرة غرفة النوم أيضاً، ثمّ تطلّع إليّ وقال بعد فترة تأمل طويلة في اتجاه ما، لكنها لم تكن بالتأكيد في اتجاهي":لماذا يطلقون عليه اسم عصابي؟ فهو شخص يثير السأم تماماً". فانهارت لاورا وماري بسبب هذه النكتة الهائلة، ولأنّ ذلك كان نجاحاً كبيراً له فقد كرر أندريه عبارته مرّة أخرى":نعم، وأقول ذلك بجّد، لماذا يسمون قرص النوم هذا بالعصابي؟" ومنذ ذلك اليوم واسمي بات مايك من جديد، وأصبح الأمر أسوأ مما كان عليه في الماضي.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسات في علم النفس - سيغموند فرويد
- ليلةُ المنفيّ الأخيرة
- وسط البلد
- فلفلة النيل
- صور الأب
- المعركة
- النكران
- جولة الوداع
- الفجر
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - فصل من رواية -المهاجر الروسيّ، تشيك- مترجمة عن الألمانية