لا يتكلم الضحايا غالبا عن مجال القهر الجنسي حتى في الغرف المغلقة، وان تكلموا فسيكون الكلام عن هذا القهر على انه قدر لا تشارك السلطة في مجاله ولا تخلق له، لا عن طريق خطابات المعرفة السلطوية، أو عن طريق الخوف، بنى ومؤسسات تعمل في الخفاء والعلن على تشويه العقل وتحويله من مجاله الطبيعي إلى فضاء عقل عاجز مشوه بليد.
هذا هو السبب الذي يجعل تناول نقد العقل الجنسي مركبا وصعبا ومحفوفا بمخاطر متعددة نظرا لتداخل مستويات السلطات المنشغلة بإدارة أزمة العقل الجنسي سواء كانت هذه سلطة الدولة من خلال برامجها ونظامها المعرفي مهما كان نوعه، أو من خلال سلطة المؤسسة الدينية المرتكزة على ترسانة ضخمة من العقل النقدي الجنسي وعلى سلطة فقيه وظيفته حراسة الجسد من الرغبة والتفتح حتى في ظل مناخ رؤية دينية تحترم الفطرة وتقدس حدود الطبيعة وتلتزم بقوانين الجنس وحدوده الثقافية وترفض الممارسات الجنسية المفتوحة أو ما يسميه الشاذون( الجنس المعاش). أي جنس ما قبل الثقافة والعائلة والقانون والعرف والأخلاق.
إن نقد العقل الجنسي يبدأ من نقد مبدأ أو عقلية الفصم والعزل بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبين الجنسي واعتبار الأخير نشاطا أو فعلا مستقلا لا يخضع لقانون غير قانونه الخاص.
كما أن نقد العقل الجنسي يعمل على تحرير الخطاب الذكوري من منطق الهيمنة وهو في الأصل خطاب سلطوي سواء كان قادما من سلطة سياسية حاكمة أو من خلال ذاكرة تراثية أو سلطة اجتماعية أو سلطة معرفية.
وخطاب السلطة هو خطاب حيازة واحتكار وسيطرة، وخطاب من هذا النوع يعمل على احتكار ليس جسد الفرد بل ومشاعره وأعمق عواطفه وتحويل هذه العواطف من مجال التبادل المشروع إلى مجال أهداف السلطة وهي أهداف معادية للدوافع والعواطف الإنسانية الصافية.
إن كل أشكال القهر المعروفة تجد انعكاساتها في المجال الجنسي الذي لا يجد الفرصة ولا المناخ والذهنية القادرة على تحمل هذا التوزيع المخالف لنظام الغرائز البشرية.
ويمكن للضحايا أن يخوضوا في الاستلاب السياسي والاقتصادي لكن الاستلاب الجنسي يقصى إلى ابعد نقطة في العقل الأمر الذي يشكل عصابا أو تابعا يشوه الوعي البشري من وراء ستار وحجاب وأقنعة.
لذا لا وجود لجنسية حقيقية وعادلة وطبيعية في دولة لا تنمية بشرية فيها ولا توزيع ثروة بصورة متساوية، ولا تعددية سياسية، أو شرعية دستورية، وبلا مؤسسات مجتمع مدني.
لكن كيف تتلاعب السلطة بقضية الجنس؟ وكيف توظف الكبت والحرمان والقمع السياسي والجنسي لصالح وظائفها، وكيف تحول الفرد ولا نقول المواطن من جسد ومشاعر وعواطف إلى مؤسسة وظيفتها حماية النظام العام من خطر محدد يهدد هوية الدولة؟
إن السلطة البوليسية تعرف إلى ابعد الحدود مخاطر تحرير النشاط الإنساني برمته على مستوى الإبداع الأدبي والسياسي والثقافي، من هيمنتها ورقابتها ليس حرصا منها على القيم المقدسة والأعراف، إنما خوف من نمو نشاط بشري خارج سيطرتها ونظامها المعرفي وتحديدا خارج آيديولوجيا السلطة.
لذا فهي تتدخل حتى في التفاصيل الصغيرة وتدير عواطف الناس ومشاعرهم وتكّون عقلهم الجنسي بصورة غير مباشرة ومستترة تارة من خلال قوانينها و أنشطتها الكثيرة ـ حروب، فعاليات، مهرجانات، حفلات..الخ ـ أو بصورة مباشرة ومرئية أحيانا أخرى من خلال بناء مؤسسات بديلة للمجتمع القائم سواء على شكل منظمات جماهيرية أو مدارس خاصة أو معاهد أو جامعات أو أندية، وتعمل هذه المؤسسات على جانبين:
الأول: التبشير بنظام سياسي واجتماعي جديد.
الثاني: تشكل تحديا ورفضا للبنى الاجتماعية التقليدية وخاصة العائلة.
والسلطة الفاشية في العراق عملت بكل مشقة على تهديم البنى التقليدية وبناء أخرى بديلة وتم التركيز بصورة خاصة على المدن العريقة في تقاليدها لأن هذه التقاليد وقفت عائقا في وجه النظام المعرفي السلطوي.
إن نقد العقل الجنسي يقوم على تحرير العقل من عبودية اللغة التي تضع الأنثوي في المجال الدوني الذي يعكس تراتبية طبقية وسياسية أولا وقبل كل شيء وبناء ذهنية القمع بناء على شروط ذكورية تستند على ذاكرة تراثية دينية مسلحة بقاموس يعزل الجسد الأنثوي من حقل الجمال والخير والعطاء والخصب ويضعه في حقل الأغراء والإغواء والغواية والخطيئة.
وكما يقول الكاتب الخمَار العلمي في دراسته القيمة( المعرفة والسلطة) إن تمسك الفقيه باللغة ليست صدفة بريئة بل لأن هذا التمسك بالنحو واللغة والقواعد يضمن له وبصورة دائمة ومستند في ذلك على شرعية النحو، المحافظة على نسق جاهز من المواقف والقيم والسلوكيات المحقرة للمرأة عبر لغة تضع المؤنث في مرتبة أدنى حتى في مجال النحو( بناء على دونية صورية تؤسسها اللغة من خلال هندسة نحوية صارمة).
إن أي خرق للقاعدة اللغوية يشكل بالنسبة للفقيه ومؤسسة السلطة خيانة وخروجا عن الخطاب السائد الذي لا يحمل فقط تراث الدولة لوحدها، بل يحمل تراث الفقيه.
وهذا هو السر الذي يجعل قاموس اللغة العربية مليء بألفاظ تدين الخروج على القاعدة النحوية والفكرية( خائن، متمرد، زنديق..) وربما يكون هو السبب الذي جعل المفكر المرحوم هادي العلوي يخرج لوحده عن هذا السياق ويكسر القاعدة النحوية.
لذلك يأتي الخطاب الروائي الحداثي مغايرا ورفضا وتحديا لخطاب السلطة وخطاب الفقيه وخطاب الجنرال وخطاب شيخ القبيلة.
إنه خطاب يعرّي ويفضح ويكشف، في حين أن الخطابات الأخرى تخبئ وتحجب وتخفي وتهرب.
أن السلطة تؤثر في مجال الجنس من خلال خطاب معرفي و تؤثر وتخلق وتنتج خطابا لغويا خاصا بها.
بهذا المعنى يمكن فهم المقولة المتكررة لميشيل فوكو حول العلاقة( بين السلطة واللغة، وبين السلطة والجنس، وبين السلطة والنص).
إن اللغة هي شكل من أشكال السلطة. ليست بالضرورة سلطة الدولة، بل سلطة النحو، وسلطة الأسرة، وسلطة الأعراف، وسلطة الجسد، وسلطة المعارضة، وسلطة الرغبة، والخطاب، والذاكرة، المصح، السجن، الحب...الخ..
والعزل اللغوي هو عزل اجتماعي وسياسي وطبقي. لنلجأ إلى الأمثلة من محيطنا العراقي دون الحاجة لتكرار أخطاء العقل السياسي العراقي السائد الذي كان مغرما ولا يزال بفهم وتفكيك المجتمعات الأخرى دون محاولة للاقتراب من مجتمعنا الأمر الذي خلق وعيا شقيا منفصلا عن مكانه الأصلي وخصوصية الواقع المحلي وتراثه وأساطيره وثقافته وأديانه.
إن ضواحي بغداد الشرقية تتكون من مدن حاشدة بشرائح اجتماعية تعيش وضعا طبقيا واجتماعيا خاصا:
1 . مدينة الثورة ـ حشد وعلبة هائلة لفلاحين وشغيلة نزحوا إلى بغداد في مراحل سابقة بعد هجر الأرض.
2 مدينة أو ضاحية الفضيلية ـ تجمع حاشد لرعاة الجاموس أو المعدان الذين نزحوا هم أيضا من الجنوب وشكلوا ضاحية عشوائية شرقي بغداد.
3 ضاحية الكمالية ـ وهي تجاور الثورة والفضيلية وتكوّن تماسا معهما وهذه الضاحية تضم غالبا شرائح من الغجر" الكاولية" الذين استقروا في هذه الضاحية وبقوا عائمين في الدخول إلى مجال التبادل الاجتماعي إلا بصفة غجر في الأفراح.
4 ضاحية الشماعية ـ وفي هذه الضاحية رمزها المعروف مستشفى الشماعية.
إن هذه الضواحي، كمثال ونموذج، فشلت في الدخول في علاقات تبادل واندماج وتكافؤ ومساواة مع بغداد الأصلية بضواحيها العريقة والمعروفة، ولم تتمكن حتى مفردات أو قاموس هذه الضواحي من أن يكون مقبولا في أي علائق اجتماعية مشروعة.
حافظت أحياء بغداد المسماة تعسفا" الأحياء الراقية!" على كل مسافات العزل اللغوي والجنسي والطبقي بينها وبين هذه الضواحي. فلا تواصل في اللغة، ولا تزاوج بين هذه الأحياء، والعلاقة الوحيدة قائمة على الخدمات التي يقدمها هؤلاء إلى مدن الأفندية.
والأساس في هذا العزل ليست الجغرافية التي تضع حدود المحرم بين الطبقات، بل هو عزل سياسي واجتماعي ولغوي وجنسي قائم على التصنيف والطبقية والاختزال والتراتبية.
لكن ما هو مثير للغرابة هو أعمق من ذلك، لأن النظام السياسي القمعي ينتج مجتمعا يعاني أفراده وطبقاته من مشاعر متضاربة إزاء بعضها البعض.
إن نزيل الفضيلية راعي الجاموس لا يستطيع هو الآخر أن يقيم علاقة اجتماعية متساوية لا على مستوى اللغة ولا على مستوى الجنس أو في طقوس الحياة مع غجري في الكمالية لأنه يشعر بدونية الأخير. وإذا كانت هناك علاقة فهي تتأسس في الخفاء والسر ولها طابع عابر ومؤقت.
كما أن نزيل الكمالية يشعر بدونية نزيل الشماعية الذي تنازل عن شخصيته ولغته وذاكرته وسلم أمره لله ودخل في العصاب أو في الشيزوفرينا ونجا من السلطة والمعرفة والحرب والجنس ولم يعد يهتم حتى بطبول الغجر في الليل.
إن كل مساوئ وتشوهات العقل السياسي تنعكس في العقل الجنسي، وكل التصنيف والعزل والاختزال والتمييز الطبقي والثقافي والعرقي موجود في العقل الجنسي، لذلك فإن خطاب نقد العقل الجنسي هو في الأصل نقد العقل السياسي من منطقة مختلفة تماما عن المعهود.