|
من ارشيف حزب العمال الشيوعى المصرى - الكارثة الوطنية فى لحظتها الراهنة - صالح محمد صالح - 1975
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 5355 - 2016 / 11 / 28 - 22:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكارثة الوطنية في لحظتها الراهنة
لقد أصدرنا بيانا بموقفنا من ( اتفاق سيناء) ونود الآن ان نقف عند الظروف التى تحيط بهذا الاتفاق وعند الاتفاق ذاته من جديد ، وما هى نتائجه ، لننتهى الى موقف القوى الثورية فى بلادنا وفي منطقتنا العربية. وما يهمنا في المحل الأول هو فهم الاطار الذي تجرى داخل حدوده خطوات التسوية الاستسلامية الحالية ، أى ان نفهم اللحظة التى تعيشها بلادنا ومنطقتنا منذ حرب اكتوبر حتى الآن . فالخطوة او الخطوات تكتسب مغزاها وأهميتها فقط من السياق الذى يجرى فيه تحقيقها او الاخفاق المؤقت فى تحقيقها في هذه المرة او تلك كما حدث في مارس الماضى . ولعلنا نشير هنا الى ان الاختلاف فى فهم هذا السياق التاريخى المحدد هو جذر أى اختلافات او خلافات بين قوى الثورة العربية الحقيقية بمختلف فصائلها ، واتجاهاتها الفكرية ، حول ما يجرى فى هذه المرة أو تلك ، فى الخطوة او تلك . ولسنا ليبراليين لنتجاهل الدور الحاسم للمصالح الطبقية فى تحديد المواقف ، ولكن من ناحية أخرى ، لا يجب ان نكون ميكانيكيين لنبتذل التحليل الطبقى الماركسي ، ونلجأ الى افتعال فهم طبقى مزعوم لدمغ فصيل ثوري معين عند أول اختلاف معه . وبما اننا نستعبد الطبقات البرجوازية الحاكمة منذ البداية فمن نقصد بقوى الثورة العربية الحقيقة ؟ ففى الوقت الذي نؤكد فيه على ان هذه الطبقات وسلطاتها تسلك وفقا لمصالحها وأهدافها المحددة الانانية ، وعلى انه لا يمكن رد سلوكها بأي حال من الاحوال الى الجهل او سوء الفهم او ما الى ذلك.... فاننا نلاحظ ان الخلافات بين مواقف مختلف فصائل الثورة العربية لا تجرى في معزل عن الطبقات الحاكمة وسلطاتها . فهذه الطبقات وسلطاتها تمارس تأثيراتها الفكرية والسياسية ، وكذلك المؤامرات ومختلف صور التخريب والاضعاف ازاء القوى الثورية . أى اننا نلاحظ ان هذه الخلافات بين القوى الثورية تكشف فيما تكشف ان بعض اقسامها تتصف بمرونة لا تعرف الحدود في التأثر بمواقف البرجوازية الحاكمة والسير وراءها بيسر ، والسلوك على اساس مواقفها والرقص على نقرها على الدفوف ! والواقع انه كلما لاحت فى الافق أى عقبات او احتمالات لحل المشاكل بين البرجوازيات الحاكمة الاستسلامية من ناحية ، واسرائيل والاستعمار الامريكى من ناحية اخرى ، فان القاموس الذى يناقش به الجميع تقريبا كل ذلك اصبح يتكون في اللحظة الراهنة من ثلاث عبارات او ثلاثة مصطلحات : الحرب (أو الحرب الخامسة ) – جنيف – خطوة خطوة . ومن الواضح ان هذه الصيغة الثلاثية (!) توشك ان ترتفع او تنحط الى مستوى الالغاز ، في معادلات ونظريات زائفة كثيرة تحاول التظاهر بامتلاك ناصية فك الالغاز والاحاجى : مؤتمر جنيف ((والا فالحرب الخامسة على الابواب . ما يجرى في جنوب لبنان يؤدى الى الحرب بل هو بداية فعلية للحرب الخامسة ، جنيف ((أفضل)) من خطوة خطوة ، الواقعية هى قبول الخطوة خطوة ، (( السلطة الوطنية)) في مصر لن تقبل خطوة أخرى بعد هذه ، بل سوف تتوجه مباشرة الى جنيف من اجل التسوية الشاملة الخ الخ... المعادلات اللامتناهية التى يمكن استخراجها من عناصر هذه الصيغة الثلاثية فى علاقاتها بأطرافها ((الصراع العربى الاستراتيجى )). وتبدو هذه ((الصيغة الثلاثية )) محبوكة تماما ، فهى تنطوى على جميع الاحتمالات الممكنة ! فأما الحرب التى (( تستخلص حقوقنا ))بالقوة ، واما (( السلام العادل)) الذي يمكن تحقيقه دفعة واحدة في تسوية شاملة يصل اليها مؤتمر (( السلام)) في جنيف ، كما يمكن تحقيقه ايضا خطوة خطوة من خلال جهود كيسنجر . ولكن الحبكة الجيدة لا قيمة لها عندما تكون المناقشة مجردة ، عندما توضع جميع الاحتمالات الممكنة على قدم المساوة ، عندما يجرى تناول الحاضر واستشفاف المستقبل دون ربط كل ما يجرى بالاطار المحدد الذى يتم فيه ، فهذا نسيان للماضي وللماضي القريب . والامر المؤسف ان هذه ((الصيغة الثلاثية)) التى وضعتها السلطات البرجوازية الاستسلامية ، تجد طريقها بكل سهولة الى بعض القوى الثورية في المنطقة العربية ، فتظل تردد كالببغاوات نفس الاغنية البرجوازية دون التفات الى (( الدور الموضوعى الذى تلعبه الاغنية )). اذا اقتبسنا تعبيرا مشهورا للينين ، ، استخدمه ذلك المعلم العظيم وهو يتحدث عن كاوتسكى ومارتوف وتشيرنوف وشركاهم في مقال له بعنوان (( كيف تستخدم البرجوازية المرتدين)) !! بل لقد استطاع الرئيس السادات ان ينشط هذه (( الصيغة الثلاثية )) قبيل الاتفاقية الاخيرة ، من خلال الحركة المسرحية الهزلية التى قام بها عندما ابلغ وزير خارجيته مجلس الأمن بعدم الموافقة على مد فترة قوات الطوارئ الدولية ، فلا بد لمثل هذه الحركة المضحكة ان تنعش مع ذلك آمال بعضهم فى حرب خامسة ، طالما ان طريق التسوية (( السلمية )) ليس سهلا ؟ ولم لا يأمل بعضهم في أن يصرف النظام المصرى نظره نهائيا عن خطوة خطوة ليعد لجنيف ولحرب جديدة قد تكون ضرورية في نفس الوقت ؟! كل هذه التخريفات يمكن ان تظهر عند أقل حركة يأتى بها نظام السادات ، فتقرر بعض القوى الثورية وجميع ادعياء الثورية واليسار المعادلات والنظريات كما تفرز الكبد الصفراء . ان هذه ((التخاريف )) لا يمكن تفاديها بدون ربط ما يجرى في بلادنا ومنطقتنا العربية بالسياق التاريخى المحدد كما سبق وقلنا ، فلا يمكن ان يكون لاي حديث عن أي خطوة او خطوات أى قيمة ما لم نتحدث اولا عن الطريق الذي قطعت عليه الخطوة او الخطوات ، أى اننا لن نفهم مغزى الخطوة ان لم نعرف الطريق ، ولن نستخلص دروس اتفاق سيناء الاخير دون فهم الطريق الذي تسير فيه السلطة الطبقية فى بلادنا . خصائص اللحظة الراهنة : ونحن لا نقصد باللحظة الراهنة لحظة تحقيق هذه الخطوة او تلك ، بل نقصد هذه اللحظة التاريخية التى نعيشها بعد ان انتقلنا اليها منذ حرب اكتوبر ((وفض الاشتباك)) الاول الذي وقع في 18 يناير 1974 ، ومن الواضح ان هذه اللحظة سوف تستمر بعض الوقت الذي قد يطول لعدد من السنوات . والواقع ان حرب اكتوبر لا تؤرخ لطريق جديد تماما بدأت السلطة الطبقية المصرية السير فيه بعدها ، بقدر ما كانت بوقائعها وبنتائجها بداية لمرحلة جديدة على نفس الطريق : طريق الاستسلام امام الاستعمار الامريكى واسرائيل. وقد قلنا انه لكى نفهم الخطوة لا بد ان نعرف الطريق الذي قطعت عليه ، والا فلن نفهم الى اين تقودنا خطوة معينة او اخرى . ولكن من الواضح ان الطريق الذى تسير فيه برجوازيتنا ، الآن ، يتعرض لأنواع شتى من سوء الفهم لدى العديد من الفصائل الثورية حقا ، ولدى مختلف انواع ادعياء اليسار والثورية . ونريد ان نشير هنا ، على وجه الخصوص ، الى واقع ان كل الخلافات حول الوضع الراهن ومهام الثوريين فيه ، يمكن ردها بكل سهولة الى الخلافات حول حرب اكتوبر ، من حيث طابعها السياسي الطبقى المحدد ومن حيث النتائج التى افضت اليها والتى هى على وجه التحديد ، النتائج ( الاوضاع) التى نعيشها الآن . وعلى سبيل المثال ، فان مجلة (( كتابات مصرية )) التي تنطلق من تصورات طبقية تبدو شديدة (العنف ) على الأوضاع القائمة فى مصر – ذلك أنها تعتبر أن الطبقات الحاكمة في مصر هى الرأسمالية الطفيلية (؟!) والرأسمالية الكومبرادورية ، والرأسمالية الزراعية الكبيرة ، بعد ((القضاء))على البرجوازية البيروقراطية فى حركة 15 مايو 1971 ((التصحيحية)) (؟!) – تذهب هذه المجلة برغم تصورها (( بادي العنف )) عن النظام المصرى الى حد تفويضه ضمن (( النظم العربية والاطراف التي تشارك في مؤتمر جنيف )) حق التفاوض باسم الشعب المصري والشعوب العربية ، بشرط وضع (( جداول زمنية ملزمة للقوى العربية )) (؟!!) وما الى ذلك ( العدد الأول من كتابات مصرية سبتمبر (ايلول ) 1974 دار الفكر الجديد، صـ 164- 165 ). فكيف يصل هذا الخط (( العنيف)) الى مثل هذه المواقف المتخاذلة الفظيعة الغريبة التي تتحدى موقفا شعبيا جماهيريا حاسما ضد القرار 242 وكل ما يترتب عليه من قرارات او مبادرات او مؤتمرات ؟! انه يصل الى ذلك على وجه التحديد ، لانه بمجرد اندلاع حرب اكتوبر نسي كل ((عنفه)) السابق الذي وضع الطبقات الاستغلالية الكبرى فى مصر في وضع التحالف مع الاستعمار الامريكى على رأس الامبريالية العالمية (كتاب الرفيق طه .ث. شاكر : قضايا التحرر الوطنى والثورة الاشتراكية في مصر – دار الفارابى بيروت صـ 19 ) – ( وتعتبر مجلة ((كتابات مصرية)) امتداد لنفس الخط الفكرى والسياسي) ... بمجرد اندلاع حرب اكتوبر راحت (( كتابات مصرية)) تتحدث حديثا ديماغوجيا سخيفا عن هذه الحرب باعتبارها جزءا (( لا يتجزأ من ملحمة كفاح الشعب المصرى منذ الانتفاضة العرابية ومرورا بالانتفاضات والاعتصامات الشعبية في ربوع الوادي عام 1919 .... الى كفاح العمال والطلبة في 1949 )) الخ. وبنفس الطريقة الديماغوجية ترى المجلة : أن هذه ((الملحمة الكفاحية )) التى تمثلها حرب اكتوبر (( جاءت نتيجة ضغوط شعبية وانتفاضات متتابعة ضد السلطة التى انتهجت اسلوب المساومة والتخاذل لفترة طويلة )) ( من العدد الأول – كتابات مصرية – صـ 49- 50 ) ، وبالتالي فان ما تظنه المجلة (( فهما طبقيا موضوعيا )) لحرب اكتوبر (( في سياقها التاريخى السليم ، هو النظر اليها (( كجزء من صراع شعبنا وقواه الوطنية الديمقراطية المتواصل ضد الاستعمار والامبريالية )) . (صـ 50 نفس المرجع) . والمنطق الديماغوجى هنا يتمثل ، فى المحل الأول . فى ان المجلة بدلا من ان تقول لنا شيئا عن طابع هذه الحرب ، لا تعرف الا انها (( ملحمة كفاحية شعبية )) ، بل ان كل ما يفتح عليها الله به فيما يتعلق بطابع هذه الحرب هو ان لمنجزات اكتوبر طابعها الوطنى الديمقراطي .(صـ 50 أيضا من نفس المرجع ). لقد قصدنا بالمثال السابق ان نقدم نموذجا للخلافات حول المواقف التى تتخذ باسم الماركسية والثورية اليسارية ، ازاء الاحداث والاوضاع الجارية ، وكيف ان هذه المواقف تختلف باختلاف فهمنا للطريق الذى تسير فيه النظم الاستسلامية ، وباختلاف فهمنا لطابع حرب اكتوبر وما تؤدى اليه نتائجها المحددة . فهذا الخط يسير وراء البرجوازية الى حد تأييد حلها الاستسلامى للقضية الوطنية ، التصفوي للقضية الفلسطينية ، من خلال مؤتمر جنيف لان ذيليته لا تسمح له بفهم طابع حرب اكتوبر (( في سياقها التاريخي السليم )) برغم ادعاءات (( الفهم الطبقى الموضوعى )) . طالما ان حرب اكتوبر (( ملحمة كفاحية شعبية)) فلم لا يكون مؤتمر جنيف نشيدا في هذه الملحمة ؟! ان هذا الفهم ((الملحمى )) لحرب اكتوبر يستبعد بالضرورة أي تفكير فى طابعها وفى قيادتها الطبقية ؟ ومن اجل أي أهداف قادتها ؟ وما هى وقائعها الاساسية المحددة ،؟ وعما تكشف هذه الوقائع وما هى النتائج التى تمخضت عن الحرب ؟ وما دلالة هذه النتائج بالنسبة لطابع الحرب ،؟ وما هى العلاقات التى تربط السلطة الطبقية التى قادت الحرب بالقوى الدولية والعربية والمحلية ؟ وما دلالة اتجاهات هذه العلاقات السياسية والاقتصادية الخ الخ ؟؟... ولقد قدمنا افكارنا حول حرب اكتوبر ونتائجها من قبل في مناسبات متعددة ويمكن الرجوع بصفة خاصة الى كتابنا المعنون (( حدود اكتوبر )) المنشور بقلم اسماعيل محمود - دار الطليعة بيروت – وكذلك الى مقالنا (( ليس كل ما يلمع ذهبا – ملاحظات حول حرب اكتوبر )) بقلم شيوعي مصري . وكذلك كتابنا (( موقف من مهمات النضال الفلسطينى )) بقلم شيوعي مصرى . وغيرها من الكتابات والوثائق . فلسنا هنا ، اذن بصدد تقديم افكارنا وتصوراتنا الاساسية حول حرب اكتوبر . ولكننا لكي نبرز ان الموقف من طابعها ، لابد ان يكون بالضرورة الاساس المحدد للموقف من أى خطوة في التسوية الاستسلامية الحالية . ويمكن ان نضرب مثلا آخر بوقوف بعض فصائل المقاومة الفلسطينية خلف النظم البرجوازية في مصر وغيرها فى تأييدها لمؤتمر جنيف برغم عدم قبولها لقرار مجلس الامن رقم 242 ولكل ما يقوم على اساسه . وتتوهم هذه الفصائل أن بامكانها ان ((تستخلص )) شيئا من جنيف ، والمؤسف ان الشيء الذي يمكن استخلاصه تصل الاوهام فيه الى حد تصور انه دولة فلسطينية مستقلة حقا فى الضفة الغربية وغزة ، وتقودها قوى المقاومة الفلسطينية ذاتها . ولكن من اين تأتى هذه الأوهام الرائعة ؟! في الواقع ، لا مصدر لها سوى الفهم الخاطئ لطابع حرب اكتوبر ولنتائجها . فانطلاقا من انها (( حرب وطنية محدودة )) تنتظر هذه الفصائل من النظم التى خاضتها تكرار هذه الحروب الوطنية وحتى دفعها الى الوصول بها الى حرب التحرير الشعبية طويلة الامد (!؟!) وبالتالي فان هذه النظم قد انتقلت بعد حرب اكتوبر الى وضع أفضل من زاوية استعدادها لمواجهة الاستعمار الامريكى واسرائيل في نظر هذه الفصائل . ان الاوهام المتعلقة بأن حرب اكتوبر خلقت مناخاً ملائما أو أكثر ملاءمة ، وأنه من الممكن في هذا ((المناخ )) تحقيق بعض الأهداف الثورية ، اعتمادا على الوضع الذي حققته دول (( المواجهة)) ... لا يمكن لهذه الاوهام الا ان تضلل الحركة الثورية العربية والمقاومة الفلسطينية ، بالضبط لان هذه الاوهام تطمس واقع ان (( المناخ )) اكثر (( رداءة)) ، ولانه لا يمكن تحقيق شيء فيه بالاعتماد على دول (( المواجهة )) هذه التي سوف تحقق ما يمكنها تحقيقة بفضل اعتمادها على الاستعمار الامريكى ، وليس بفضل قواها الذاتية وعسكريتها برغم كل الادعاءات . أى ان خصائص اللحظة الراهنة لا يمكن ان تتضح إلا بتوضيح عنصر حاسم من عناصرها : طابع حرب أكتوبر . فما هي حكاية (( الحرب الوطنية المحدودة )) ؟؟ ان الاسماء قد تكون ورطة خبيثة عندما نقف عند ألفاظها ونستحلب مراميها من هذه الالفاظ ، والتفكير بأن الحروب غير الاستعمارية هى حروب وطنية بصورة مطلقة ، ليس سوى تفكير ميكانيكى لا يهتم بخصوصية هذه الحرب او تلك . مكتفيا بالصاق صلة شديدة العمومية الى حد يتناقض مع ضرورة ابراز جانب حاسم قد يخرج بها الى دائرة تفقد فيها الصفات العامة شديدة العمومية معناها . فما الذى يميز بين (( وطنية )) الحروب الثلاث 56، 67، 1973 من زاوية السلطة الطبقية التى خاضتها ؟ وما الذى يميز بين وطنية مختلف الحروب التى خاضتها طبقات قومية متعددة في هذا البلد او ذاك ، فى هذه الفترة او تلك من فترات نشأتها وتطورها وتدهورها ؟ ان الاكتفاء بوصفها بأنها "وطنية " ليس سوى اهمال لخصوصية هذه الحروب او تلك ، وفي كل الاحوال لا يمكن لهذه الصفة ان تعنى شيئا واضحا ، ان اهملنا المعايير الدقيقة الحاسمة التى تتعلق بالطبقات ، وما هى التناقضات التى تعالجها بهذه الحرب او تلك ، وما هى اهدافها المحددة منها ، وما هى النتائج التى تترتب على خوضها لهذه الحروب في حالات الانتصار أو الهزائم . ان الحرب امتداد للسياسة ، فلا يمكن اذن تحديد طابع الحرب بدون الاستناد الى تحديد طابع السياسة ، والحرب الوطنية لا يمكن بطبيعة الحال أن تكون الا الامتداد الطبيعي لسياسة وطنية . ان الذين قالوا بكل ثقة ان حرب اكتوبر حرب وطنية ، لم يجرؤ بعضهم قبل اندلاعها على وصف سياسة السلطة الطبقية في مصر بأنها على الأقل سياسة وطنية متماسكة . فما هذا التناقض الغريب ؟ التناقض الكامن في واقع ان سلطة طبقية يكاد ينعقد اجماع القوى الثورية العريضة على استسلاميتها من واقع سلوكها ازاء القضية الوطنية ، وقبولها للقرار 242 ، ولمبادرة روجرز وكل ما يترتب على ذلك من تصفية للقضية الوطنية وللقضية الفلسطينية ولحركة التحرر الوطني العربية ... التناقض الكامن في واقع أن سلطة كهذه تتحول سياستها الاستسلامية بسحر ساحر الى حرب " وطنية " مهما توصف بأنها "محدودة" ، فهذه الصفة الاخيرة لا تتعلق فى هذه الحالة بمحدودية صفة الوطنية ، بل بمحدودية الاهداف العسكرية والسياسية للحرب ، ومحدودية مداها الزمنى ، سواء أكان مستهدفا من جانب الذين يشنونها ام كان ذلك مفروضا من جانب القوى الدولية . لم تكن حرب اكتوبر بطبيعة الحال حربا عدوانيا او استعمارية من جانب مصر وسوريا اللتين بدأتاها ، وقد قدم الشعبان العظيمان ( والشعب الفلسطينى ) تضحيات جسيمة وقدما أبناءهما وقودا للحرب ، ولا شك فى أن مئات الآلاف من جنودنا ومن ضباطنا الصغار قد استبسلوا وقاموا ببطولات هائلة . ولقد جاءت الحرب بعد التوغل الطويل فى طريق الاستسلام في أعقاب ما يزيد على ثلاث سنوات من تطبيق مبادرة روجز والانفتاح على الامبريالية اقتصاديا وسياسيا ، وتوثيق الصلات مع الرجعية العربية ،واتخاذ ، "وقفة موضوعية" ، مع السوفييت ، وقمع الحركة الوطنية التي تقاوم الاستسلام الخ الخ.... فلا يمكن القفز على هذه الأوضاع ، من الاستسلام مترابط الحلقات ، الى وضع خوض الحروب الوطنية . ان عملا حربيا في سياق الاستسلام ، في سياق تصفية القضية الوطنية ، لا يمكن ان يخرج عن هذا السياق ، ولا يمكن بالاخص ان يكون عملا من اعمال الوطنية . ولا بد ان يكون المرء على قدر كاف من انعدام التخشب في التفكير حتى يفهم أن درجة من درجات الصدام المحدود الجزئى المؤقت مع الاستعمار او مع اسرائيل لا يمكن ان تكون انعطافة حاسمة تنقل السلطة من مواقع الاستسلام الى مواقع النضال الوطنى المتماسك ، ولابد ان تكون ، بالتالي ، برغم أي تناقض ظاهرى الا شيئا في نفس السياق الاستسلامي ، أي عملا من اعمال الضغط العسكرى ، من اجل تحقيق نفس الاهداف التى لا تتجاوز الخروج من ورطة الاحتلال الاسرائيلي للأرضى المصرية مقابل تقديم التنازلات المطلوبة . ان نظرية حرب وطنية اخرى ، خامسة او سادسة الخ .... ليست سوى امتداد للنظرية القائلة بأن حرب أكتوبر حربا وطنية محدودة ، فكلمة وطنية لم تفقد معناها بقدر ما تفقده في هذه العبارة . أنها على العكس عمل من اعمال الضغط العسكرى الذى لا يمكن استبعاده ، والذى لم يستبعده احد نهائيا قبل حرب اكتوبر ، والذى اسمته السلطة واجهزتها الاعلامية بالمخاطرة المحسوبة . وقد جرى هذا العمل في سياق الاستسلام الوطنى والردة الوطنية ، وليس في سياق وطنية متماسكة . ونتائج حرب اكتوبر تكشف عن طابعها ربما اكثر من أى شئ آخر. فما الحرب التى تحمل شرف الوطنية ولا تؤدى الى اكثر من تنفيذ مبادرة روجرز والافكار التى ترددت فى مباحثات السادات مع روجرز وسيسكو فى ربيع عام 1971 ؟! لقد مر ، حتى الآن ، ما يقرب من عامين منذ حرب اكتوبر وما أشد دلالة كل ما تم منذ ذلك الوقت من توثيق للصلات والعلاقات مع البلدان الاستعمارية . وبالاخص مع الاستعمار الامريكى ، وتوثيق العلاقات مع الرجعية العربية وبالاخص العلاقات الخاصة كما يسمونها مع الرجعية العربية السعودية ، واضعاف العلاقات مع الاتحاد السوفييتى وبقية البلدان الاشتراكية ، ومن انفتاح اقتصادى شامل على الامبريالية والرجعية العربية والرأسمالية المحلية التقليدية ، ومن تكريس كامل للحل الامريكى ، ومن تقييد السلطة في مصر لنفسها بكل الاجراءات التي تحول دون قيامها حتى بأى ضغوط عسكرية جزئية اخرى ، مثل فك الاشتباك وقبول قوات الطوارئ الدولية ، وفتح قناة السويس ، وتعمير مدن القناة الخ الخ ... لعل كل هذه المواقف والاجراءات التى هى النتائج المحددة لحرب اكتوبر حتى الان ، تكشف عن الطابع الحقيقي لتلك الحرب بصورة واضحة . فاذا كانت الحرب بمثابة سبب لهذه النتائج ، بمثابة سبب لهذه الانعطافة الحاسمة الى الوراء ، التى تمر بها بلادنا ومنطقتنا العربية ، فلا يجوز ابدا ان نضفى على هذه الحرب صفة وطنية نابعة من مجرد ان بلدا تحتله قوات اجنبية هو الذى يشن هذه الحرب . منذ حرب اكتوبر ، ومنذ فك الاشتباك الاول ، تعيش بلادنا لحظة تاريخية محددة . ففى اعقاب حرب ارادتها السلطة البرجوازية حربا أخيرة ، لانها خاضتها في درجة معينة من تدهورها وتفريطها فى القضية الوطنية وتوغلها في طريق الاستسلام والردة الوطنية فى اعقاب هذه الحرب قطعت السلطة أشواطا على نفس الطريق ، ولكنها ارتدت شكل الانعطافة الحاسمة واسعة النطاق ، فقد بلغ الاندفاع اقصاه في مجال تسوية جميع المشاكل مع الغرب الاستعمارى ، ومع الرجعية العربية ، وفي مجال السير الحثيث في طريق تصفية العلاقات مع البلدان الاشتراكية والهبوط بها الى أضعف حجم ووزن ممكنين . وفي هذه اللحظة التاريخية المحددة ، حدث بالتأكيد شئ جديد بالنسبة لما قبل حرب اكتوبر ، وهو ما تسميه السلطة بقوة الدفع نحو السلام ، فقد تحركت عمليات السلام التى كانت موضوعة في ثلاجة زمن اللاسلم واللاحرب . ولكن من الواضح ان هذه العمليات انتقلت فيها المبادرة بصورة كاملة الى الايدى الامريكية الاسرائيلية ، فهذه الايدى ( وبالطبع فان يد الاستعمار الامريكى هي العليا مع هامش محدد للتناقض بينه وبين اسرائيل في المصالح والأساليب ومعدلات التسوية ) .. وهذه الايدى الامريكية الاسرائيلية هي التى تستطيع الآن تقرير هذه الخطوة أو تلك وبأي أهداف تاكتيكية محددة على نفس الطريق الواحد . فى هذه اللحظة التاريخية نستطيع ان نقول ان الازمة (( تحركت )) كما يقولون، وأن تسويتها اصبحت فى جدول اعمال هذه الاطراف . ولكننا لابد ان نقف عند مضامين ما يتحقق في هذه اللحظة من ناحية ، وعند بعض خصائصها واشكالها واساليبها من ناحية اخرى . والسؤال المنطقي الآن : هل ان ما يتحقق في هذه اللحظة . هو الثمارالطيبة لحرب اكتوبر ؟ ام الثمار المرة لهزيمة 1967 ؟ لقد قال بياننا عن هذه الاتفاقية الاخيرة ، ان اي ((ذوق)) سليم لن يخطئ فيها وفي كل ما يتحقق بمعدلات متسارعة منذ حرب اكتوبر ، الطعم المر لهزيمة 1967 . ليس ما يجرى في هذه اللحظة يعبر بحال من الاحوال عن فرض شروط النظم العربية باعتبارها نظما ((منتصرة)) ، فمن المعروف ان حرب اكتوبر لم تكن نصرا او انتصارا ، بل سميت فى كثير من الاحيان حرب اللانصر واللاهزيمة ، وقيل ان القوى الدولية منعتنا من الانتصار ، امريكا بامداداتها العسكرية الهائلة لاسرائيل ، والاتحاد السوفياتى بامداداته غيرالكافية والمتأخرة ، وضغوطهما لوقف اطلاق النار . لم تمثل هذه الحرب انتصارا وبالاخص لم تمثل واقعا جديدا يمحوا آثار الواقع الاساسى السابق ، ومن آيات ذلك ان كل القرارات والمبادرات التى قبلها النظام المصرى فى واقع الهزيمة ، 1967 ، هي التى تنفذ الآن وبالمعدلات والاقساط المريحة للاستعمار الامريكي واسرائيل ، فكيف يزعم ان ما يجرى هو تحقيق مكاسب حرب اكتوبر ، او جنى ثمارها الطيبة ، طالما انه بالفعل تحقيق لكل المشاريع السابقة وجنى لثمارها المرة. وحقا ما أصعب اقناع أغبى الاغبياء بأن الكوارث المتوالية فى مختلف المجالات والحلقات المترابطة في سلسلة متماسكة الى الوراء ، والتي تتحقق الآن يمكن ان تكون اي نوع من الثمار الطيبة لاى نوع من الاشجار !! ووراء كل الضجة عن حرب اكتوبر ومكاسبها وثمارها ، يستطيع كل من يريد ان يرى تلك الهزيمة الكبرى التي سجلت بداية خطيرة للواقع الذي نعيشه الان ، حيث تتحقق أهداف الاستعمار الامريكي في مصر وفي المنطقة العربية على طول الخط . ان ما حدث نتيجة لاكتوبر هو : تحويل (( الازمة )) لتعالج ولتسوي على نفس الاسس التي اقرتها الاطراف كلها في اعقاب هزيمة 1967 . أى ان ما يجرى الآن هو ان الانظمة البرجوازية الاستسلامية التي تتنكر باسم دول المواجهة ، تدفع ثمن الهزيمة وضريبتها بعد صمود يتضح الآن أنه كان صمود الاستعمار الامريكى في مدى صبره وانتظاره على جني الثمار النهائية لتلك الهزيمة ، بعد اجبار هذه الانظمة على تغيير وتعديل نفسها بما يكفى ويطمئن للدخول معها في مفاوضات . لقد وضع الاستعمار الامريكى هذه القضية في الثلاجة طويلا لاعتماده الكامل على الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية لادخال التعديلات تلو التعديلات على الانظمة العربية ، ومواقفها وعلاقاتها في المجالات الدولية والعربية والمحلية . وعند اندلاع حرب اكتوبر كان قد تحقق الكثير في هذا الاتجاه كما أسلفنا الاشارة ، كما وضحنا بصورة تفصيلية في مناسبات اخرى ، فكان من المنطقى أن يأتى تحريك الازمة بإندفاع جديد اكثر قوة وأسرع معدلات نحو الوصول الى غايات هذا الاتجاه ، لتصفية كل ما هو ايجابى في هذه الانظمة في كل المجالات وعلى كافة المستويات . وللانفتاح الشامل على الرجعية السعودية من النواحى السياسية والاقتصادية الخ الخ.. وكان من المنطقى فى أعقاب حرب اكتوبر ان نعمد الى رفع كل القيود التاكتيكية الموضوعة على شعار الاطاحة بالطبقة البرجوازية البيروقراطية وسلطتها في بلادنا ، حيث تنهار مجموعة المواقف والعلاقات المحلية والعربية والدولية ، التى تدفع الى وضع تلك القيود التاكتيكية ، باعتبار القول بالاطاحة نوعا من المغامرة اليسارية . ولقد كان اتخاذ هذا الموقف في هذه اللحظة ادراكا منا لمضامين هذه اللحظة التاريخية المحددة ، التى تمر بها الطبقة الحاكمة وسلطتها في مصر ، فهى لحظة فتح جميع الابواب امام الاستعمار الامريكى على رأس الامبريالية العالمية ، وأمام الرجعية العربية ، لحظة تسوية المشاكل مع اسرائيل ، والاعتراف بها وبحدودها الآمنة ، وبمرورها في قناة السويس الخ ... لحظة تصفية القضية الوطنية ، وتصفية القضية الفلسطينية ، لحظة تصفية حركة التحرر الوطنى العربية . انها هذه اللحظة من حيث أهدافهم ومن حيث ما يعملون على تحقيقه بالفعل من هذه الاهداف ، برغم ان القوى الثورية لا يمكن ان تستسلم لهذه اللحظة باعتبارها لحظة وقوع الكوارث والمصائب التى لا مناص ولا دافع لها ، بل سوف تواجهها وتقاومها بكل ما أوتيت من قوة ، باعتبارها معارك مصير لاخطر قضايانا الوطنية والقومية .. ومن خصائص التسوية الحالية : ان الاستعمار الامريكى لا ينتهج اسلوب الانسحاب الاسرائيلي الشامل الفورى طالما ان اتجاه السلطة نحو الغرب الاستعماري عبر الانفتاح الشامل قد أصبح مؤكدا ومطمئنا ، بل يفضل لاعوام قد تطول أو تقصر أن يكون فى يده شئ من الاحتلال الاسرائيلي لسيناء ، كعنصر ضاغط فعال يمثل ضمانة حقيقية على ان تجرى رياح التغييرات الخطيرة ، داخل بلادنا بما يشتهى الاستعمار الامريكي، وفي اتجاه يتفق مع تحقيق أهدافه ومخططاته ، وتضاف الى ذلك المصالح الاسرائيلية الخاصة العسكرية والاقتصادية ، وتلك المتعلقة بأطماعها التوسعية على حساب الاراضى العربية المحتلة . وكل هذه الاشياء تدفع دفعا لا مرد له الى اسلوب (خطوة خطوة) الذي يطبقه كيسنجر ، دون أدنى مقاومة من جانب سلطتنا الاستسلامية ، بل أن هذه السلطة تلهث وراء هذه الخطوة أو تلك وتعمل بكل قواها وبكل استعداداتها للتفريط وتقديم التنازلات من اجل تحقيقها . وهنا يبدو سخف الصيغة الثلاثية التى أسلفنا الاشارة اليها ، فمن الواضح ان الحرب ، وجنيف ، وخطوة خطوة ، ليست أساليب مطروحة للاختيار على قدم المساواة ، فمصالح الاطراف جميعاً بما فيها مصالح النظام المصري ، وليس بالطبع مصالح الشعب المصرى ، تلتقى عند تفادى الحرب وطرد أشباحها من المنطقة كلها . وبالاخص فان نتائج حرب اكتوبر بما في ذلك اتفاقية فض اتفاقية فض الاشتباك في 18 يناير 1974 ، تبتعد بهذا النظام المصري عن اي اعتماد على قواه الذاتية وبالاخص العسكرية في تحرير بقية الاراضى . فهو يعتمد الان على مدى رضاء الاستعمار الامريكى واستعداده بالتالي لبذل (( الجهود)) لتحقيق خطوة معينة . كما ان سلوك هذا النظام واندفاعه الشديد في طريق الانفتاح الشامل على الامبريالية ، يدفعان الاستعمار الامريكى الى تجنب أي صدام عسكري لا ضرورة له بين اسرائيل ومصر ، ومن الواضح ان اي خطوة تتحقق في سيناء بمثابة ترمومتر يقاس به رضى الاستعمار الامريكى عن سلوك مصر وعن مواقفها الدولية والعربية والمحلية . اما مؤتمر جنيف الذي يبحث عن الاستسلام في شمول ، فلا يمكن الا أن يكون متناقضا مع اسلوب (خطوة خطوة) الذي ينتهجه الاستعمار الامريكى ليس باعتباره أسلوبا عارضاً ، بل أسلوبا اساسيا نابعا من طريقته في تحقيق أهدافه العدوانية . فبالنسبة للاستعمار الامريكي ليس هناك ما يمنع أن يكون مؤتمر جنيف ملتقى للجان العسكرية التي توقع على تفاصيل اتفاقيات ((فك الاشتباك )) وما شابة ذلك . وليس هناك ما يمنع أيضا من اي انعقاد سوف يمنى بالفشل لهذا المؤتمر الذي تواجهه ظروف تاكتيكية بالغة الاهمية من جانب الاستعمار الامريكى واسرائيل ، تجعله غير قابل لتقديم حلول سريعة ، بينما تفضل السلطة المصرية أي عصفور فى اليد . لقد حسمت الاحداث انتهاج النظام المصري لاسلوب خطوة خطوة ، أو استجابته الكاملة له بل لهاثه وراءه ، الامر الذي يعنى ارتباطه بصورة كاملة ليس فقط بالسلام الامريكي ومبادرته بصورة عامة ، بل حتى بالاساليب التاكتيكية الامريكية ، فإن الاستسلام جملة هو نفسه الاستسلام بالقطاعى ( بالمفرق) على دفعات وخطوات متعاقبة . ان تقارب المسافات الزمنية بين هذه الخطوات او اعطاء الاشارة الخضراء لمؤتمر جنيف الذي ينعقد ليبحث الاتفاقيات النهائية للتسوية الاستسلامية الشاملة ، المشتركة او المنفردة ، يتوقفان لا على اعتبارات عسكرية فنية بل بشكل محدد على ما يجرى داخل هذه البلدان . ان التسوية الشاملة النهائية او لنقل ان الخطوة الاخيرة ، سوف تكون وثيقة الصلة بأمور اساسية ، منها الاطمئنان الكامل على علاقات الصداقة والتقارب والاتجاه الى التحالف مع مصر وسوريا الرسميتين ، ومنها على وجه الخصوص تصفية المقاومة الفلسطينية نهائيا. واذا كان اندفاع الطبقة الحاكمة في مصر نحو الامبريالية بكتلها المختلفة ، ونحو الاستعمار الامريكى على وجه الخصوص من خلال التصفية التدريجية للعلاقات مع المعسكر الاشتراكى ، ومن خلال الانفتاح على الامبريالية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وحتى عسكريا ، اذا كان هذا الاندفاع هو الذى يجب تشجيعه والاعتماد على نتائجه الاكيدة . فان المقاومة الفلسطينية ليس لها عند هؤلاء سوى الذبح ، وقد تستخدم معها تكتيكات متنوعة وتنصب لها شراك خادعة ، غير ان الموقف الاساسى هو تصفيتها وليس منحها ارضا وسلطة وطنية فعلية لتشكل خطرا اكبر من كل ما تمثلة الان . ومع تحقيق أي خطوة على الجبهة المصرية ، ومع احتمال مشابه على الجبهة السورية ، يقفز الى رأس جدول الاعمال : ذبح المقاومة الفلسطينية بالوسائل الاسرائيلية المباشرة ، وباستخدام الرجعيتين اللبنانية والاردنية في ظروف مواتية توفرها السلطة الاستسلامية في مصر ، بالابتعاد الكامل حتى عن أى مناوشات مسلحة بل بالخروج المخزي من ساحة القتال وترك اعداء المقاومة يتفرغون لها ، بالاضافة الى أشكال التواطؤ المباشر من أجل ازالة هذه ((العقبة )) أمام التسوية الاستسلامية التي تصفي القضية الفلسطينية . مايسمى بفك الاشتباك الثاني يمكننا الآن ان ننتقل الى الاتفاقية الاخيرة التي وقعت على جبهة سيناء ، ومن المؤكد ان تسميات من قبيل فك الاشتباك ، او فض الارتباط ، أو فصل القوات ، ليست سوى تسميات خادعة الغرض منها تمويه ملامح ما يجري الآن ، حتى لا تكشف عن حقيقته وجوهرة ومحتواه واهدافه – اننا لسنا ازاء قوات مشتبكة ، او مرتبطة ، أو متداخلة يجري الفصل بينها او فك اشتباكها او فض ارتباطها الخ ... هذه الاعيب . فمنذ اتفاقية سيناء الاولى التى وقعت فى 18 يناير 1974 ، لم تعد مثل هذه الحالة التي كانت قد نشأت عن حرب أكتوبر قائمة ، مع الملاحظة ان تلك الاتفاقية الاولى لم تقف عند حد انهاء مثل هذه الحالة ، بل ذهبت الى أبعد من ذلك بكثير وكثير . والآن ، عندما تتحقق هذه الخطوة الامريكية الاسرائيلية المصرية المشتركة في أغسطس وسبتمبر 1975 ، فمن البديهى أن يكون السؤال لماذا فشلت محاولات تحقيق هذه الخطوة في مارس الماضى بعد النشاط الكيسنجرى ((المكوكي)) المحموم ؟ ومن المعروف ان مصر تلهث وراء خطوة كهذه ، اما الاستعمار فمن الواضح انه يعمل على تحقيق مثل هذه الخطوة التي تعدها اسرائيل امرا لا مفر منه . فكيف خاب سعي العشاق في مارس ، ولماذا نجحت المحاولات الجديدة ؟ يجب أن نلاحظ ان هناك اختلافات اعترضت خطوة مارس ولم تذلل العقبات التى تمثلها الا فى الشهور الاخيرة من خلال الوساطة الامريكية و(( جهودها )) التي لم تتوقف . ولا يجب بصفة عامة الالتفات الى المبالغات المدوية التي يمكن ان ترى في اخفاق خطوة معينة (بصفة مؤقتة بطبيعة الحال طالما ان السياق التاريخي يحتم تحقيقها في وقت لاحق) اخفاقا نهائياً لاسلوب خطوة خطوة أو للاستراتيجية الامريكية في المنطقة الخ .... المبالغات التي شهدنا أشكالا والوانا منها في اعقاب اخفاق محاولات مارس ، بل يجب أن نفهم بصورة عميقة جدل التنازلات والضغوط المتبادلة . ان أي خطوة محددة تحتمل النجاح او الفشل بصورة مؤقتة ، وفي مارس 1975 يجب أن نلاحظ ان اسرائيل قد تشددت وأصرت على النص صراحة على انهاء حالة الحرب مقابل المزيد من الانسحاب باكثر مما تحقق في الاتفاقية الثانية ، ويمثل هذا النص الصريح موضع الاصرار الاسرائيلي السابق ، يمثل وضعا حرجا في حكم المستحيل بالنسبة للنظام المصري في الظروف الحالية ، فهذا النظام يقبل بمحتوى مثل هذا النص بشرط ان تحل محله الصياغات المموهة التي منها الا تؤدي الى نفس الاستفزاز الصارخ لشعبنا . ومن ناحية أخرى ، فان استعداد الاستعمار الامريكي (( للضغط)) على طريقته بالمساعدات العسكرية والاقتصادية الهائلة لاسرائيل ، يتوقف على مدى استحقاق النظام المصري ((للهدايا الامريكية )) من خلال التوازنات المعقدة التى يلعب الدور الرئيسي فيها سلوك النظام المصرى ومواقفه والمزيد من سيره الحثيث على نفس الطريق . فلابد من ان نأخذ اذن بعين الاعتبار ما تم من تحضير واسع النطاق بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة طوال ما يقرب من نصف عام ، من أجل نجاح المحاولات التي فشلت في مارس لتحقيق مثل هذه الخطوة . يجب أيضاً أن نلاحظ أن من الاهمية بمكان مدى استيعاب كافة الاطراف وبالاخص اسرائيل لنتائج حرب اكتوبر وللأوضاع المتغيرة ، فمثل هذه الاستيعاب في حاجة الى المزيد من التأمل والانتظار والتأنى عند هذه الخطوة او تلك. ونستطيع ان نقول ببساطة ان عدم التحضير الكافى لمحاولة مارس هو سبب اخفاقها، لان هذا الاخفاق لا يمكن ان يكشف عن أبعاد ذات أهمية استراتيجية ، ولانه يعود الى تفاصيل تاكتيكية ، اما نجاح نفس المحاولة في اغسطس وسبتمبر فيعود بصورة مؤكدة الى التحضير الواسع النطاق الذي اشرنا اليه ، والذي يرتدى أشكالا متنوعة مباشرة وغير مباشرة . ونشير هنا الى أن الفترة التي تفصل بين محاولة مارس ومحاولة أغسطس - سبتمبر لم تشهد فقط ما يسمي بتقييم السياسية الامريكية في الشرق الاوسط ، بل شهدت الكثير من الامور على مختلف المستويات وفي مجالات متعددة . لقد شهدت تلك الفترة اتصالات مكثفة بين الاطراف الثلاثة (امريكا – اسرائيل – مصر) بقيادة الاستعمار الامريكي ، وبرزت (( جهود)) هرمان ايلتس السفير الأمريكى فى القاهرة ، وكافة الاتصالات الاخرى المعروفة جيدا ، وعلى رأسها لقاء سالزبورج بين الرئيس الامريكي والرئيس المصرى حيث تم الاتفاق على الكثير من الامور بما في ذلك قاعدة التجسس في سيناء كما كشف الرئيس السادات فيما بعد . ولا يمكن ان يكون لهذه الاتصالات المكثفة ، قيمة في حد ذاتها ، فالنتائج التي تؤدي اليها هذه الاتصالات المكثفة ، وثيقة الارتباط بما يجرى في مصر على وجه التحديد ، فالاستعمار الامريكي يمكنه ان يمارس ضغطه ذا الطراز الخاص على اسرائيل بقدر ما يطمئنه ويشجعه على ذلك ما يجرى في مصر فى مختلف الميادين والحقول ، ومهما تكن الاختلافات التاكتيكية والتناقضات الجزئية بين الاستعمار الامريكى واسرائيل ، فإن هذه الاخيرة يمكن ان تكون ألين وأطوع بقدر ما تتشدد امريكا في تحقيق خطوة معينة ، مقدمة من أجلها لاسرائيل كل او معظم ما تطلبه من مساعدات عسكرية واقتصادية ، والوجه الآخر للضغوط الامريكية يتعلق بمصر فبرغم ان مصر اكثر الاطراف الحاحا على تحقيق هذه الخطوات فهي تلهث وراءها بالفعل ، الاان قبولها او رفضها لبعض التفاصيل الجزئية التي قد تكون على هذه الدرجة او تلك من الاهمية بالنسبة لاسرائيل او امريكا قد يرتبطان باحتياجاتها النابعة من أوضاعها الاقتصادية المتردية . في الفترة الفاصلة بين فشل المحاولات ثم نجاحها ، اثبتت مصر سيرها المؤكد على نفس الطريق وبمعدلات مدهشة ، فالانفتاح الشامل اقتصاديا وسياسيا على الامبريالية والرجعية العربية يزدهر بمعدلات شديدة التسارع لم تتوافق مع (( الضوابط)) الهزيلة التي كان يتحدث عنها رئيس الوزراء المصرى السابق الدكتور حجازى الذي اشتهر بلقب بطل الانفتاح الاقتصادى ، وجاءت وزارة ممدوح سالم ( التى اثبتت اصرار السادات على الاعتماد الشديد على أعوان ورجالات البوليس السياسي للعهد الملكي الاستعمارى البائد وعلى عملاء وجواسيس المخابرات المركزية والاستعمارية بصفة عامة ) جاءت هذه الوزارة لتبشر بالمزيد من الانفتاح ، بازالة جميع العوائق القانونية والادارية مهما تكن من طريق هذا الانفتاح ، بتعميق وتوسيع الانفتاح على الخارج من ناحية ، وعلى كل القوى الاجتماعية القديمة التى تشهد هذه الفترة احياءها من ناحية اخرى ، أما العلاقات مع الاتحاد السوفييتى ، فإنها تشهد المزيد من التدهور تحت شعارات تنويع مصادر السلاح ( لم يفوت السادات حتى فرصة الاحتفالات بالسادس من اكتوبر لتأكيد معنى تنوع مصادر السلاح فى الاستعراضات العسكرية ذاتها ) و(( تحرير الارادة المصرية )) والهجوم المستمر على الاتحاد السوفييتى ، وحملات الافتراء والتشوية التي لا تنقطع ضد الاتحاد السوفييتى وضد الشيوعية والماركسية على أوسع نطاق ، ويتم (( تصعيد )) موضوع اعادة جدولة الديون باعتباره معركة وطنية جديدة الخ .... وفى نفس الفترة تم فتح قناة السويس امام الملاحة العالمية فى يونيو 1975 باعتبار ذلك مبادرة لاثبات حسن النوايا تجاه اعدائنا التاريخيين ، لاثبات استبعاد الاعمال العسكرية وطرد أشباح الحروب ، مع الاستمرار في اعادة المهجرين وتعمير مدن القناة وإعادة الحياة (( الطبيعية )) اليها . وكان من الطبيعي ان يلقى فتح قناة السويس الارتياح البالغ في اسرائيل وفي امريكا ، وكان من الطبيعي ان تشارك الصحف الاسرائيلية وكل الصحافة الاستعمارية في الاشادة بالرئيس السادات وواقعيته وسياسته المعتدلة وبراعته الفائقة . وبما ان فتح قناة السويس ( بالاضافة الى كل ما يترتب عليه ) كان يضع قيودا ثقيلة جديدة على استخدام ما يسمى (( بالقوة الذاتية )) المصرية ، فقد كان يؤكد ايضا واقع مراهنة النظام المصرى وسلطته الطبقية على الاستعمار الامريكى ، ومدى رضاه عن سلوكهما ومواقفهما ، ولنتذكر هنا الاجراءات العسكرية التي اتخذتها اسرائيل عند فتح قناة السويس للتعبير عن ارتياحها وتشجيعها الشديدين لهذه الخطوة. ومن أجل مزيد من اثبات حسن النوايا وتقديم الخدمات للصهيونية الاسرائيلية ، وبعكس مقررات مؤتمر القمة العربى الاخير ، بل ضد مقررات ذلك المؤتمر شديد الاعتدال ، بصورة مباشرة ، وقف النظام المصري والسادات شخصيا ضد العمل على طرد اسرائيل من الأمم المتحدة فى كمبالا، بأن (( مسلك مصر في المناقشة الخاصة بدور اسرائيل في الأمم المتحدة سينظر اليه باعتباره دليلا على نوايا القاهرة بالنسبة للتوصل الى ايه اتفاقية مؤقتة لاقرار السلام )) . واصبح مجمل سلوك النظام المصري لا يصطدم بأي صورة ، بل يتفق بالتمام ، مع الاهداف الامريكية الاستعمارية في مصر والمنطقة العربية ،وبدا السلام الامريكى راسخا لا بديل عنه ، امام اي ((دور)) سوفييتى في التسوية كما يقولون ، فلم يعد يمثل شيئا بالنسبة للنظام المصري اللهم الا في (( الحدود )) التي قد يراها الاستعمار الامريكي ذاته . وبهذا وبغيره لا يقف الامر عند حدود جمود النظام المصري او سلبيته او تخاذله عن اتخاذ مواقف وطنية او ((الخروج)) من الساحة ، بل ان هذا النظام يلعب دورا رجعيا على طول الخط في مصر وفي المنطقة العربية بأسرها ، بممارسة كل الضغوط على اي نظام وعلى اي قوة سياسية ، قد يتخلفان عنه حتى خطوة واحدة على هذا الطريق المؤدى الى جهنم الخيانة الغادرة لأهداف تاريخ طويل من الكفاح الوطنى والقومي لشعوبنا . ومن المنطقى بالنسبة لهذه السلطة الطبقية التي انتهجت سياسة تصفية القوى الثورية : الوطنية والديمقراطية والشيوعية ، بصورة منهجية ، ابان صعودها ، ان تلجأ في عهد هبوط الطبقة التي تمثلها ، وفي عهد خيانتها لاي مواقف وطنية ، الى العمل بصورة مكثفة على تصفية القوى الجديدة الديمقراطية والوطنية والشيوعية باعتبارها قوى الثورة الحقيقية ، ولانها تقف كشوكة في حلق هذا النظام ، لتهب مدافعة عن استقلالنا الوطني ، ولتواجه الاستسلام والردة ، ولتحضر لمعارك جديدة ضد خط السلطة . ولم تكن الحملة التي بدأت ابان ضربة يناير ، لتتوقف في اعقاب فشل محاولة مارس ، بل لقد استمرت باشكال اخرى . فالقوى التي تتجه الى الصداقة والتحالف مع الامبريالية ، لا بد ان تنظر كمبدأ ملزم وكقاعدة ملزمة الى مزيد ومزيد من الضربات والحملات توجه الى القوى المعادية للامبريالية مهما اختلفت اتجاهاتها الفكرية ، والى الشيوعيين وبالاخص الشيوعيين الحقيقيين ، وفي نفس الفترة وكجزء من مخطط تضييق الخناق على القوى الثورية الحقيقية تمهيدا لتصفيتها والقضاء عليها ، ثم (( تطوير)) الاتحاد الاشتراكي الذي كانت الدعوة اليه قد جاءت في ورقة أغسطس 1974 ، وبعد قرابة عام من طرحها للمناقشة تحت الحراسة المشددة ، تم بعونة تعالى وحمده (( تطوير)) اتحادهم الاشتراكي الذي يمثل اقصي ما يصلون اليه من عبور ديمقراطي قائم على تجريم الحريات والحقوق الديمقراطية ، ومن بينهما حق تكوين الاحزاب السياسية . ومن المعروف أن الاستعمار الامريكي في قيادته للعالم (( الحر)) يشجع بالنسبة لمصر ، والبلاد الشبيهة بها ، ومنذ البداية ، منذ أعقاب حركة 23 يوليو 1952 ، هذا النوع من البوليسية التى تتزين بديكورات الديمقراطية . ولن نقف عند عشرات المواقف التي تؤكد السير على هذا الطريق بما لايدع مجالا لاي شك ، سواء فيما يتعلق بالاستعمار الامريكي او بأى طرف من الاطراف الاستعمارية او الرجعية العالمية والعربية ، او فيما يتعلق في مقابل ذلك بالمواقف السلبية والهجومية تجاه البلدان الاشتراكية ، او القوى الثورية الحقيقية في المنطقة العربية ، او اي قوي تمثل أدنى معارضة لمواقف الاستعمار الامريكي . لقد قدم السادات وحكم السادات ونظام السادات للاستعمار الامريكي كل ما يطمئنه ويرضية الى ما لا حد له في كل المجالات ، فلماذا لا يشجعه الاستعمار الامريكي بكل قواه على نفس السلوك بتحقيق انسحابات اسرائيلية جديدة ، وبمساعداته الاقتصادية و ياستعداده للاستجابة لاحتياجات مصر من الاسلحة ؟ لقد فهم الاستعمار الامريكي كل ((اشارات))(( ورسائل ))الرئيس السادات واستجاب لها جميعا بما تستحق من تشجيع ، ضمن تاكتيكاته التي تحقق نفس السياسة الاستراتيجية الواحدة ، وبالطبع مع استبقاء الشيء الكافى من الاحتلال الاسرائيلي باعتباره الضمانة الاكيدة الفعالة لاستمرار النظام المصري بصورة ثابتة على نفس الطريق ، حقا ان النظام المصري لم يعد بحاجة الى مثل هذا الاحتلال لانتهاج مثل هذه السياسة ، ولكن للاستعمار الامريكي طريقته العدوانية في ممارسة سياسته مع نظام ذو تاريخ محدد غير سار معه ، برغم اختفاء الرجل الذى ظل على رأس هذا النظام في فترات الصدام ، وبرغم ان ذلك الرجل نفسه كان قد اتجه الى المزيد والمزيد من الاعتدال والمرونة الاستسلاميين ، وبالاخص بقبول مجلس الامن 242 وبقبول المبادرة الامريكية في صيف 1970 قبيل رحيله ! هذه الفترة ذاتها شهدت تلك المسرحية الهزلية الضاحكة المضحكة الخاصة برفض ثم قبول مد فترة قوات الطوارئ الدولية ، ومن المؤكد ان هذه (( المسخرة )) لم تكن لتمثل أي ضغط جدي ، بل لم تكن لتمثل أي نوع من الضغط على اسرائيل او على امريكا . بل لقد اصرت تلك الملهاة الباهتة ((المدبولية )) على التمسك قدر الامكان بقواعد التراجيديا الاغريقية فيما يتعلق بألا تزيد مدتها عن دورة واحدة للارض ، فلم تزد عن ذلك الا قليلا بمقدار دورتين ( يومين) او اكثر قليلا . لم يكن ذلك تهديدا جديا بأى شكل من الاشكال ، فكان من المنطقى ان يعود السادات الى سابق اذعانه للمعدلات الامريكية الاسرائيلية التى لا تخلو من صرامة وقسوة ، فلا يمكن تفسير سرعة قدوم كيسنجر الى المنطقة بعد تلك المهزلة بأنها من آثارها بحال من الاحوال ، ويمكن قول الشئ نفسه عن التهديدات الهزلية بالتوجه الى جنيف بدلا من خطوة خطوة . ان التنازلات والضغوط المتبادلة التى تمت من خلال (( الجهود)) المكثفة التى بذلت فى حوالى نصف عام عبر الدبلوماسية السرية ، فى ارتباطها بما يجرى في مصر والذى يلقى الارتياح والرضي والتشجيع من جانب الاستعمار الامريكي ، ومن جانب الرجعية العربية ، ومن جانب اسرائيل ايضا ، هي التى ادت ، اذن ، الى ان ينجح في أغسطس وسبتمبر ما سبق ان فشل في مارس ، وبالطبع فانه لم يكن نفس الشيء لان التعديلات الكثيرة قد أدخلت ومن ضمنها التخلى الاسرائيلي عن النص صراحة على انهاء حالة الحرب مقابل انسحاب اقل مع نصوص مموهة تؤدى الى حالة انهاء حالة الحرب من الناحية الفعلية مهما تكن الناحية القانونية غير صريحة . فلننتقل الى الاتفاقية ، لنقف عند أهم جوانبها وعناصرها . الطابع السياسي ومحتواه : لقد استطاعت السلطة الطبقية المصرية وأبواقها وأدواتها الاعلامية الرسمية وشبه الرسمية أن يبتعدوا عن مناقشة الاتفاق الأخير ، كما حدث لسابقه ، من زاوية النتائج السياسية المحددة التى تترتب عليه ، فبدلا من ذلك وصلت وقاحة هؤلاء جميعا الى حد انكار أي طابع سياسي للاتفاق ، باعتباره مجرد اتفاق عسكرى لفض الارتباط ، او لفك الاشتباك ، او لفصل القوات ، وقد أشرنا من قبل الى زيف هذه التسميات ، فهى تحاول فقط تمويه الطابع السياسي الذي لا يجب ان نقف عند حد تأكيد وجوده في الاتفاق ، بل ينبغى الذهاب أبعد للحديث عن محتواه وعناصره ومدى خطورته . ان السادات شخصيا لم ينخدع بأكاذيبه وأكاذيب أدوات حكمه الخائن الديكتاتوري ، ففى غمرة فرحته ((بانجاز )) الاتفاق ، بادر الى التصريح (( اننى اعتبر هذا الاتفاق نقطة تحول في تاريخ النزاع العربى الاسرائيلي )). والواقع ان جميع الامبرياليين والصهاينة والرجعيين العرب وغير العرب قد أدلو بتصريحات مماثلة ، تؤكد الاهمية البالغة للاتفاق الذي تحقق ومن بينهم كيسنجر نفسه الذي صرح بأن (( الاتفاق يعد نقطة تحول في صراع الشرق الاوسط)) فكيف يمثل اتفاق يخلو من اي طابع سياسي كل هذه الاهمية السياسية بالغة الخطورة ، من وجهة نظرالمصريين والامريكيين والاسرائيليين وفي الواقع من وجهة نظر الجميع ؟؟ ان مجرد فك اشتباك او مجرد اجراء عسكري لا يمكنهما ان يمثلا نقطة تحول في نزاع الشرق الاوسط بأي معنى من المعانى . ان الاتفاق الاخير هو بكلمات الاتفاق نفسه (( خطوة هامة نحو سلام دائم )) بين حكومتين تعترفان ببعضهما من الناحية الفعلية ومن الناحية الشكلية ، كما تنص المادة الثانية ، وهو يؤكد في المادة الاولى على ان (( النزاع بينهما وفي الشرق الاوسط ( أي ليس بينهما فقط) لا يتم حله بالقوة المسلحة وانما بالوسائل السلمية )). فالاتفاقية اذن خطوة سلام ، وهى تنبذ القوة واستخدامها وتؤكد الوسائل السلمية باعتبارها الطريق الوحيد لحل النزاع . والمادة الثانية تنص على (( عدم استخدام القوة أو التهديد بها أو الحصار العسكرى في مواجهة الطرف الآخر )). اما المادة الثالثة فانها تنص على أن (( يستمر الطرفان في ان يراعيا بدقة وقف اطلاق النار في البر والبحر والجو والامتناع عن أى أعمال عسكرية أو شبه عسكرية ضد الطرف الآخر )). ومن الواضح ان هذه النصوص عندما تتفادى التصريح بانهاء حالة الحرب فانها لا يمكنها تفادى ان تكون شكلا قانونيا لحالة تنتهى فيها الحرب ، وقد عبر يجال الون وزير خارجية اسرائيل عن ذلك بدقة عندما صرح بأنه )) سوف يكون واضحا في الاتفاق انه برغم أننا لا نحصل على حالة انهاء الحرب مع مصر ، كوضع رسمي ، الا اننا سوف نكون في الواقع في حالة لا حرب . وهذا أمر جيد )) (تايم الامريكية 25 أغسطس 1975 ) . ومن المؤكد ان ذلك واضح في صلب الاتفاق نفسه وليس مجرد نتائج فعلية لهذا الاتفاق . هل يمكن ان تكون هذه النصوص التي تنهي بعبارات الاتفاق استخدام القوة او حتى مجرد التهديد بها أو الحصار العسكرى ، والتي توقف اطلاق النار وأي اعمال عسكرية أو شبه عسكرية ، هل يمكن لهذه النصوص التي تنهي أي اعمال حربية او عسكرية في مواجهة اسرائيل ، امرا خاليا من اي طابع سياسي؟ وما هو الطابع السياسي اذن ؟ تحاول السلطة ان تثبت للمرة الالف براعتها في السفسطة ، بالاصرار على ان الطابع السياسي يساوي الانهاء الصريح لحالة الحرب ، وهى لابد ان تغطى عوراتها بهذه الصورة المضحكة ، غير ان النصوص لا تنجح في ان تغطى شيئاً ، فهى عبارات بديلة لعبارة انهاء حالة الحرب . والواقع ان ما يجب مناقشته ليس مجرد وجود الطابع السياسي بل محتواه واشكاله وعناصره وجوانبه . جوهر القضية اذن : حول أي موقف سياسي اتفق الطرفان ؟؟ والاجابة هي انهما اتفقا معا على خطوة في التسوية ، وعلى استكمال التسوية بالوسائل السلمية ، مع انهاء فعلي وقانوني للحرب مهما تكن الصيغ والعبارات والكلمات ملتوية ، ولا يخلو من دلالة ان وزير خارجية مصر اسماعيل فهمى عندما سئل عن هذه النصوص قال انها مستمدة من ميثاق الامم المتحدة في العلاقات المتبادلة بين (( دولها )) وان مثل هذه النصوص مذكور فى اتفاقيات الهدنة في 1949 . فيا له من تباه غريب بأن النظام الحالي لا يقل أبدا عن نظام الملك فاروق في أي شيء حتى في نصوص اتفاقيات الهدنة ! اننا ازاء تسوية جزئية منفردة . ويجب ان نلاحظ سخف الحجج السلطوية لاثبات العكس ، فالتسوية الجزئية لا تعنى اعتبار الحصول على جزء من الاراضى المحتلة نهاية المطاف ، أو ان السلطة لم تعد تهتم باستراداد بقية الاراضى المصرية أو معظمها (( بطريقتها)) أو أنها تعتبر هذه الخطوة التى تحققت خطوة نهائية . لا .. ان أسلوب خطوة خطوة لا يعطي في أي لحظة سوي خطوة ، خطوة جزئية ، مؤقتة بطبيعة الحال ، وليست نهائية ، وهي لا تدل على اكتفاء النظام المصري بل ينص الاتفاق على ان هذه الخطوة ما هي الا خطوة نحو تسوية شاملة ، ولكن لماذا لا تتم التسوية الشاملة الان وعلى الفور ؟ ذلك لان الاستعمار الامريكى واسرائيل تتفق مصالحهما عند تحقيق هذه التسوية ليس بصورة فورية ، بل وعلى أقسام وعلى أجزاء وعلى خطوات تطول أو تقصر المسافات وفقا لمدى رضى الاستعمار الامريكى على سلوك النظام المصري كما أسلفنا . انها أيضا خطوة منفردة لا تتم بالتنسيق مع الدول العربية الاخرى التي تحتل اسرائيل أراضيها ، بل انها ضد مصالح تلك الدول وبالتحديد فإنها ضد مصالح النظام السوري ، حيث سوف يضطر في المستقبل القريب أو البعيد الى تنازلات أكبر بكثير ، وسوف تدفع النظام اللبنانى الى تعجيل محاولاته لتصفية المقاومة الفلسطينية . وهذه الخطوة هي قبل كل شئ ضد الثورة الفلسطينية ، وضد المقاومة الفلسطينية ، بل ضد القضية الفلسطينية برمتها ولن تجد المقاومة الفلسطينية نفسها في أوضاع شبيهة فقط بفترة الثلاثة اعوام التى أعقبت قبول مبادرة روجرز ، حيث تفرغت اسرائيل وتفرغ النظام الاردنى لتصفية المقاومة ، وقد استطاعا بالفعل اضعافها من خلال الضربات والمذابح والمجازر في تلك الفترة بل ان الاوضاع الجديدة اسوأ بما لا يقاس ، ذلك ان سلسلة الاستسلام قد استحكمت حلقاتها بصورة تستبعد حتى انفجارات محدودة بين النظام المصرى بالذات واسرائيل . ويتحدث النظام المصرى عن التعهدات المبذولة لتحقيق خطوة مماثلة على جبهة الجولان ، ولكن التعهدات مهما تكن جديتها لن تغير شيئا من واقع ان النظام السورى سوف يكون مطالبا بتنازلات أكبر في كل خطوة ، طالما ان النظام المصري يستند الى وزنه في انتزاع أي ((مكاسب)) بأسرع ما يمكنه ( وقبل النظام السورى ) حتى لا يكون هو نفسه معرضا للوضع الذي يتعرض له الآن النظام السورى في حالة تحقيق أي خطوة على الجبهة السورية أولا . وليس معنى كل هذا أننا نرحب بهذه التسوية سواء كانت شاملة لكل الاراضى ولكل البلدان ، او كانت جزئية ومنفردة ، فما نرفضه هو الاسس ، ما نرفضه هو السلام الامريكي والقرارات الدولية التى يستخدمها فسواء تحققت التسوية يصورة شاملة فورية ام تحققت على خطوات واجزاء فإنها نفس التسوية الاستسلامية التي تؤدى ( بالجملة أم بالقطاعى ، دفعة واحدة أم على دفعات ) الى تصفية قضيتنا الوطنية ، والى تصفية القضية الفسطينية ، والى تصفية حركة التحرر الوطنى العربية . ولا يكفى ان نقول ان هذه الخطوة تمثل تسوية جزئية منفردة ، بل لابد من مناقشة ما اذا كانت هذه الخطوة قد جاءت فقط لتؤكد طابع الحل الجزئى المنفرد الذي كانت الخطوة السابقة ايضا تمثله ، ام انها ليست مجرد اضافة كمية على الخطوة السابقة ، بل تتجاوزذلك جميعا الى وضع جديد . أي أن النتائج الابعد مدى لهذه الاتفاقية ينبغى ان تكون موضع مناقشة معمقة من أجل موقف ثوري منها على أسس راسخة . أي ثمار تجنيها مصر ؟ لقد تحدثنا من قبل اننا لسنا ازاء أي ثمار طيبة لاي ((انتصار)) مزعوم في حرب أكتوبر ، بل ازاء الثمار المرة لهزيمة 1967 . ولهذه فاننا نود الوقوف عند بعض هذه الثمار لنرى أي ثمار هي . فهذه الاتفاقية الاخيرة ذاتها باعتبارها احدى الثمار، ثمار الهزيمة والتي نجنيها حتى الآن بفضل تحريك حرب اكتوبر لمحاولات التسوية وتقديم الحلول ، هذه الاتفاقية ماذا تريد مصر منها ؟ ما هدف مصر من تحقيق هذه الخطوة ومن تحقيق أي خطوة ثالثة أو رابعة الخ الخ .... حتى الخطوة الاخيرة ؟ لقد قدمنا هذا التساؤل برغم ان الاجابة بديهية ، وذلك لان البديهيات تنسي الان أو تتجاهل على الاقل بحيث يحيط بها غموض شديد . فمن البديهي حقا ان الاسلوب الامريكي المعتمد على سياسة الخطوة خطوة يقدم الانسحاب الاسرائيلي على خطوات ، وبما ان النظام المصري يريد تحقيق هذا الانسحاب من أجل تقديم كل التنازلات الممكنة ، فهو لا يملك غير ذلك لتحقيق الانسحاب عن (( الاراضى التي احتلت )) او من ((اراض احتلت)) الا من خلال هذه الخطوات . ان أي خطوة تتحقق تؤدي بهذا النظام الى التفكير في خطوة جديدة والعمل من أجل تحقيقها ، وهكذا حتي الخطوة الاخيرة . أما مؤتمر جنيف فانه يقدم حتى الآن مكانا لتوقيع بعض البروتوكولات والاتفاقيات التفصيلية لتنفيذ أي اتفاق يوقع في مصر واسرائيل ، اما امكانيات ان يكون هذا المؤتمر في المستقبل مكانا لاتفاقية تشمل جميع البلدان العربية التي احتلت أراضيها ، فمن الواضح ان مثل هذا المؤتمر لا يستبعد أن يمثل مجرد خطوة أخيرة ، لان أسلوب خطوة خطوة يعكس ، كما أسلفنا القول ، أحدى الخصائص الأكثر عمقا للتسوية الامريكية ، حيث يركز الاستعمار الامريكي على تقديم حلول جزئية منفردة متعاقبة ( وليست شديدة التقارب بطبيعة الحال ) مع الاحتفاظ في كل الفترة السابقة على الخطوة الاخيرة بشيء ذي بال من الاحتلال الاسرائيلي كورقة ضاغطة شديدة الفعالية وكضمانة أكيدة ، مثل هذا الاسلوب يتناقض بطبيعة الحال مع أي مؤتمر ينعقد في جنيف أو في أي مكان ليقدم تسوية شاملة للجميع ولكل الاراضي . عندما تحققت الخطوة الاولى كان على السلطة الطبقية في مصر ان تبحث عن خطوة اخرى ، وبطبيعة الحال فإن عليها الآن ان تلهث وربما طويلا من أجل خطوة ثالثة ، اما الحصول على حقول البترول في ابورديس أو على الانسحاب الاسرائيلي من الممرات فهذه أمور وثيقة الارتباط بالامر الاكثر ضرورية وهو ان تحقيق الانسحاب الاسرائيلي لا يتم الا على خطوات ، ولكن يجب ايضا الوقوف عند هذه الامور فهي العناصر التي تتكون منها لحظات وخطوات هذه التسوية . لا يمكن اختبار مدى اهمية ما جنته مصر الا بربطه بسياقه التاريخي، فنحن لا يمكن ان ننظر الى ما يتحقق نفس النظرة السلطوية البرجوازية ، التي تدعى ان هذه الاتفاقيات قد نقلتنا الى اوضاع عسكرية واقتصادية وسياسية ( برغم الطابع العسكري البحت كما يزعمون ) افضل ! اننا نحاكم هذا الادعاء بمقابلته بما تحقق بالفعل ، ولكننا لا يمكن ان نرحب على سبيل المثال بأن تكون هذه ((المكاسب ) أكبر ، طالما ان كل ما تحققه السلطة الطبقية في هذا السياق التاريخى يعد خطوات جسيمة الى الوراء ، فالمكاسب الحقيقية لبلادنا لا يمكن أن تقاس بالاميال ، وبآبار البترول عندما تكون التنازلات الفادحة هى الثمن المدفوع ، وطالما ان هذه التنازلات تجرى في سياق التفريط في استقلالنا القومى ( السياسي والاقتصادي والعسكري) ، وطالما ان هذه (( المكاسب )) المزعومة تتناقض مع مصالح شعوب عربية شقيقة أخرى. لقد ذهب السادات الى حد القول لسليم اللوزي ان (( اي تردد حول الموافقة على استعادة بوصة واحدة من الاراضى المحتلة ، في نظرى ، خطأ جسيم وحتى خيانة)) . بالطبع لان الخائن يرى الخيانة فى الا يخون الاخرون وفي الا يشتركوا في نفس الجريمة ، فقد نسي قائد سلطة الخيانة ان البوصة الواحدة ، بل عشرات الاميال عندما يتم استردادها مقابل التفريط في استقلالنا الوطنى ذاته فما ذلك سوى الخيانة العظمي التى يتباهي الرئيس السادات ، الان ، بانجازها وتحققها بفضل وساطة صديقه الامريكى كيسينجر. ولا يمكن اختبار وزن ما حققته السلطة ، ايضا ، الا من خلال مقارنته بالاوضاع الجديدة التى تنتقل اليها اسرائيل ، لان هذه السلطة تعرف الثمن المدفوع لاسرائيل ، وهى تدرك العديد من الامور من هذه الناحية ، ولقد قيل ان امريكا لم تتمكن من التفاوض على الاتفاق فاضطرت الى ان تشتريه ، وقيل ان المهر الغالى الذي دفعته امريكا لتزف هذه الخطوة الى اسرائيل هو السبب في موافقة هذه الاخيرة على الاتفاق ، وهذا ما ادى الى تخلى اسرائيل عن اصرارها السابق على انهاء حالة الحرب بصورة صريحة مقابل انسحاب اقل مما كانت تعد به في تلك المرحلة – ومما لا شك فيه ان الوساطة الامريكية قد نجحت من خلال المناورات والضغوط التى عرفت لحظات عنيفة ، ومما يقال ، ايضا أن تقييم السياسة الامريكية في الشرق الاوسط لما يقارب نصف عام لم يكن تقييما بقدر ما كان نوعا من الانذار لاسرائيل حتى تتخلى عن تشددها الذي لم يعد شديد التوافق مع اهداف لحظة تاكتيكية مباشرة بالنسبة للاستعمار الامريكي . وطالما أن (( امن)) اسرائيل لا يقاس بالاميال بل (( بالتوافق)) مع (( جيرانها)) وبمساعدة اصدقائها كما اقنع كيسينجر المسؤولين الاسرائيليين ، فلا يجب النظر الى الاميال التي (( تتنازل )) عنها من الاراضي المصرية باعتبارها خسارة ، واذا كانت مصر تستطيع من الناحية الشكلية ان تلغى الاتفاقيات فانها من ناحية (( مصالحها)) لن تقدم على ذلك ، وستظل اسرائيل في كل الاحوال غرب حدود 1967 بمسافة 94 ميلا ، كما ذهبت الصحافة الامريكية . وفيما يتعلق الأمر بذلك المهر الغالى فقد قدم الاستعمار الامريكى الى اسرائيل ، بحجة تليين الموقف الاسرائيلي ، مساعدات لم يسبق لها مثيل اقتصاديا وعسكريا : ومن المعروف ان اسرائيل سوف تحصل على طائرات فـ15 ،فـ16 التى لم تستخدم بعد فى امريكا ذاتها ، وصواريخ لانس وصواريخ بيرشنج التي يبلغ مداها 700 (سبعمائة) كيلومتر ، والتى يمكنها ضرب دمشق والقاهرة والسد العالى في اسوان ، ومن المعروف ان صوارخ بيرشنج مزودة بامكانيات حمل رؤوس نووية . ان التسليح الامريكى الجديد سوف يقوى صلافة وتشدد اسرائيل ويعزز قوتها و((امنها)) ومقدرتها على الهجوم والتوسع ، كما أنه يفقد الانسحاب الكثير من تأثيره على بعض الاوضاع مثل الحديث عن ان هذا الانسحاب سوف يؤمن قناة السويس ومدنها . وقد شبهت التعهدات الامريكية لاسرائيل بمعاهده دفاع غير رسمية بين البلدين ، الامر الذي يجعل اي سلطة تفكر الف مرة قبل القيام بأي هجوم على اسرائيل . ويضع اسرائيل فى موقف تفاوضي اقوى بصفة ثابتة ... الخ الخ . ولقد تحقق للسلطة المصرية الانسحاب الجزئى ، او الجزء من الانسحاب الذي تريده او تستطيع الان تحقيقه ، وهو انسحاب اسرائيل من 25 الى 30 ميلا تقريبا من خطها الحالى ، ويلاحظ ان هذا الانسحاب سوف يتم فيما يقارب نصف العام . ومما يلاحظ ايضا ان التقدم المصري سوف يكون اقل بكثير من مدى الانسحاب ، وسوف لن يزيد هذا التقدم على الحد الغربي السابق لاسرائيل على وجة التقريب ، ولن يرتبط هذا التقدم بزيادة جدية ، بل بزيادة رمزية طفيفة في الوحدات رجالا واسلحة فى الشريط الذي يتواجد فيه الجيش المصري بصورة رمزية منذ اتفاقية 18 يناير 1974 . اما المنطقة العازلة التى تحتلها قوات الامم المتحدة الان بمتوسط 6 أميال ، فان هذا المتوسط سيزيد بشدة لكي يصل الى ثلاثين ميلا . وبالطبع فسوف تعود ابار البترول . ويمكن ابداء بعض الملاحظات على هذه الاوضاع من الناحية العسكرية من زاوية العناصر الجديدة التى تضيفها على القيود العسكرية والفنية ، وكافة القيود القائمة منذ الاتفاقية الاولى ، والتى تجعل من اعتماد النظام المصرى على القوة الذاتية كما يقولون مجرد خرافة ، تؤدى بالتالي الى مزيد من الاعتماد على رضا الاستعمار الامريكي . تتباهي السلطة الطبقية في مصر باستراداد الممرات وحقول البترول فى ابو رديس ، وتقول الكثير والكثير عن المكاسب العسكرية التي يحققها استراداد الممرات ، بالاضافة الى مئات الملايين التي تجلبها آبار البترول . ويجب ان نلاحظ انه بالنسبة للممرات الحاكمة في سيناء ، فقد تحقق بالفعل الانسحاب الاسرائيلي ولكنه ليس انسحابا شاملا . فاسرائيل تتحكم فى طرفها من الشرق كما تستبقى جبل الجدي الحاكم ، كما ان هذا الانسحاب لا يعيد هذه الممرات الى مصر ، بل يضعها في ايدي قوات الطوارئ الدولية ، التي لن تغادر الاراضي التي تحتلها الا بموافقة الطرفين . فالممرات لم تعد الى مصر برغم الانسحاب الاسرائيلي من معظمها مع الاحتفاظ بأجزاء حاكمة ذات خطورة وهذا يعنى ان اسرائيل التى فى يدها ((شيء )) من الممرات هى التى تتحكم فيها وليست مصر التي لا تملك من الممرات شيئا لان تقدمها لا يصل الى هذا المدى . اما المناطق العازلة التى زاد متوسطها من ستة أميال الى ثلاثين ميلا فانها سوف تقلل من احتمالات أي صدام بين الطرفين ، ويبرز دور قوات الطوارئ الدولية فى استبعاد انفجارات مسلحة فضلا عن حرب خامسة ، وقد بلغ حرص السلطة المصرية على تجنب احتمالات الصدام الى حد اقتراح المرور بالتناوب كل 24 ساعة لاسرائيل ومصر في طريق احتفظت به اسرائيل الى ابو رديس . هل تنقل هذه الامور مصر الى وضع عسكري افضل كما يدعى الفريق الجمسي وغيرة من المسؤولين المصريين ؟ في الواقع هذه الامور لا تحقق سوى بعض الانسحاب الذي تريده السلطة برغم ان هذا الانسحاب لا ينقلها الى اوضاع عسكرية افضل . ومما يلاحظ أن الاتفاقية قد نصت على ان لا يدخل الجانبان الى المنطقة المحددة القوات المسلحة أي أسلحة يصل مداها الى مسافة تصيب القوات الاخرى ، وهذا العامل يؤثر على الجانب المصرى اكثر لندرة الاسلحة ذات المدى البعيد التى تستطيع اصابة القوات الاسرائيلية ، كما ان عبور مثل هذه الاسلحة لقناة السويس عند انفجار اي قتال هو امر من الصعوبة بمكان ، بينما عبورها الى المنطقة المحددة القوات على الجانب الاسرائيلي لا تواجهه موانع . ومما يلاحظ ايضا ان البند الذي يحدد عدد الاسلحة والقوات الموجودة في المناطق المحددة القوات ، يمثل شرطا شديد الاجحاف بالنسبة للجانب المصرى ، اذ ان الجانب الاسرائيلي لا يتغير شيء بالنسبة لدفاعه فى أي ظروف ( قوات انذار على الحد الامامى ثم قوات تعطيل ثم احتياجات تاكتيكية وتعبوية- واستراتيجية في العمق) . فهو يعتمد فى الاساس على فترة من القتال التعطيلي لحين اتمام التعبئة للاحتياطيات ، اما القوات المصرية المحصورة في شريط ضيق بين الحد الامامى وقناة السويس فإنها مضطرة الى اتباع طريقة الدفاع بالخطوط المجهزة . لان هذه المساحة لا تحتمل أي تراجع أو قتال تعطيلي ، ولذا فان القوات الموجودة فى الضفة الشرقية ، تعد قليلة جدا بالنسبة لهذا النوع من الدفاع . كذلك فإن تقدم أي قوات احتياطيات تاكتيكية او تعبوبة او استراتيجية الى المنطقة المحددة القوات في الجانب الاسرائيلي عملية غير محفوفة بالاخطار ، بينما عبور القوات المصرية لاتمام القوات اللازمة للدفاع عن المنطقة المحددة القوات في حالة أي هجوم اسرائيلي فهى عملية قتالية شديدة الخطورة والمخاطر ، اذ انه يجب ان يتخللها بالضرورة عبور للمانع المائي ( قناة السويس) عبر المعابر الثلاثية المحددة في الاتفاقية السابقة والتي لا يمكن تركيبها الا بعد ايقاف المرور في القناة حيث تكون معرضة أيضا، للقصف الجوى المركز . خصوصا وأن أحد شروط الاتفاقية عدم تركيب أي بطاريات صواريخ مضادة للطائرات غرب القناة بـ10 كلم وشرق المنطقة المحددة القوات على الجانب الاسرائيلي بـ10 كلم ايضا. وهذه بطبيعة الحال ملاحظات عسكرية بحتة تفترض اشتباكات يحول دونها ألف عامل آخر ، ويمكن ان نشير هنا الى ان مصر واسرائيل تلتقيان ، الان ، عند اتفاقية ، تدافعان عنها وتشتركان في المحافظة على تنفيذها ومراعاتها بدقة . وقد التزمت مصر كما رأينا بصورة صريحة بالوسائل الدبلوماسية وبالاخص التفاوض ، ونبذت بكل العبارات القوية الممكنة ((استخدام القوة بحال من الاحوال)) كما ان الاوضاع العسكرية الفنية لا تجعل من السهل القيام بأعمال عسكرية ، ومن ذلك على سبيل المثال المناطق محددة القوات والمناطق العازلة زاد عرضها بما يقارب الخمسة اضعاف في المتوسط . كذلك فان قوات الطوارئ الدولية تمثل عائقا حقيقيا . كما ان قناة السويس ومدنها ومناطقها الحرة تستبعد احتمالات اللجوء الى القوة العسكرية . كما سبق وأوضحنا في مناسبات سابقة فان السياسة التي تنتهجها السلطة لا تعتمد على هذه القوة العسكرية ، لانها تريد السلام الامريكى في المحل الاول ، ولانها تلقت دروسا قاسية كالثغرة الشهيرة بوقائعها الخطيرة التي كادت تتحول الى كارثة كبرى ، ولان السلطة لا يمكن ان تغامر بكل انفتاحها الشامل السياسي والاقتصادي ( العسكري ايضا) على الغرب الاستعماري والرجعية العربية باللجوء الى السلاح ، ان هذه الامور جميعا بالاضافة الى كل ما جاءت به الاتفاقية الجديدة تجعل كل احتمالات الحروب تتراجع الى الخلف، وهذا ما يجعل مضحكا بأن تعد السلطة المصرية سوريا بأنها لن تسمح بأى اعتداء عسكري اسرائيلي عليها . وبأنها سوف تحارب الى جانبها في خندق واحد الخ .... هذه المضحكات المبكيات ! الممرات ، اذن ، لم تعد لمصر وان انسحبت اسرائيل من معظم اجزائها الغربية والوسطى ، أما البترول فانه يقع ، ايضا في المنطقة العازلة ، منطقة القوات الدولية ، وليس في المناطق المصرية محددة القوات . ولنلاحظ هنا ان اسرائيل لم تعد حتى الان بوصة واحدة بصورة كاملة ، فحتى المناطق المصرية محددة القوات بصورة صارمة بما فى ذلك ما يربط بين الشرق والغرب ، بل ان تحديد الاسلحة لم يقف عند الشرق فقد شمل الغرب لاول مرة منذ هزيمة 1967 . ولا تقع غرب منطقة البترول اي مناطق مصرية محددة القوات ، بل قناة السويس نفسها ، وقد لوحظ كثيرا ان هذه المنطقة التى تقع تحت التهديد المباشر للقوات الاسرائيلية بمثابة رهينة فى ايديها تستطيع ان تنقض عليها عندما تجد ذلك ضروريا . ومن المعروف ان هناك ممرا ( 34 كلم) يربط ابورديس بالمواقع المصرية وهو مفتوح فقط امام المدنيين المصريين . تلك هي (( المكاسب )) الكبرى و ((الثمار اليانعة)) التى تحققها السلطة الطبقية في مصر مقابل تلك التنازلات الخطيرة التى جاءت في الاتفاقية ، والتى تشكل بنصها القانونى وبنتائجها الفعلية انتقال مصر الرسمية الى وضع جديد بالتمام . وينقلنا ذلك الى ثمرة أخرى طيبة من ثمار حرب اكتوبر ، بل من ثمار هزيمة يونيو 1967 ، التى لم تفلح حرب اكتوبر فى هز نتائجها الاساسية . قاعدة تجسس امريكية : لقد جاءت الاتفاقية بمحطات الانذار المبكر ، ومحطات المراقبة بأفراد ومواقع الاستشعار الالكترونية ذاتية التشغيل ، والتى يصل عددها جميعا الى ثمانى محطات ، ويعمل عليها ما يصل الى مائتى امريكي بالملابس المدنية . ولقد أكدت الصحافة الامريكية ان هؤلاء الفنيين الامريكيين الذين سيتم ارسالهم الى سيناء ، لابد انهم سيكونون من الشخصيات العسكرية ومن العاملين في المخابرات ، وذلك لان مثل هؤلاء الاشخاص وحدهم هم المتمرسون على نظم التكنيك الاكثر تعقيدا . ومما يلفت الانظار ان اسرائيل قد تشددت فى اصرارها على هذا الوجود الامريكى ، حتى قال بعض المسؤولين الاسرائيليين (( لا وجود امريكى ، لا اتفاق )) ، وهذا يدل على مدى اهتمام الاسرائيليين بهذا الوجود الامريكى الذي يحقق العديد من المآرب الاسرائيلية ، فالى جانب دوره في التجسس والانذار المبكر ومنع أي مفاجأت فهو يدخل العنصر الامريكي بصورة مباشرة فى ((النزاع)) العربي الاسرائيلي ، وهو يمثل وجودا امريكيا محددا داخل التراب الوطنى المصري ، وقد بدأ التورط الامريكي في فيتنام كما يعلم الجميع بحفنة من المراقبين ، وتهتم اسرائيل ايضا بوجود هذا الحاجز الامريكي الذي يجعل من الصعب على المصريين ان يفكروا فى الهجوم بصورة لا تقاس بالحاجز الذي تمثله قوات الامم المتحدة . بالاضافة الى كل مخاطر هذا الوجود الامريكي المستقل عن الامم المتحدة ، فما يبدو أن توزيع محطات التجسس يتم بصورة تجعلها تتحكم في طريق سيناء ، وقد أعلن أحد المسؤولين الامريكيين بأن (( الطريق الرئيسية في سيناء سوف تكون في ايد امريكية ،واننا نثق في هذه الأيدى)) ( تايم 25 أغسطس 1975) . وهكذا تستضيف الاتفاقية بكرم حاتمي قاعدة التجسس الضخمة هذه ، وتضفي الشرعية على التجسس الجوي الامريكي ، وبكل وقاحة تدعى السلطة وأبواق دعايتها وأعلامها أن الشيء الجديد الوحيد الذي تتضمنه الاتفاقية من هذه الناحية ليس سوى حصولنا على الانذار المبكر مقابل احتفاظ اسرائيل بانذارها المبكر الموجود من 1967 ، فهل استمرار اسرائيل كما هي بمحطات انذارها المبكر مع حصولنا على نفس الميزة بالشئ الرديء؟ ما اقدرهم على التزييف حقا ، فاسرائيل لم تكن تملك كل هذه المحطات ، ولكن ما هو أهم من ذلك وما ينبغى ان نذكره في المقدمة ان هناك فارقا مبدئيا بين قاعدة تجسس امريكية موجودة بالرغم منا وتكون موضع مقاومتنا من ناحية ، ومثل هذه القاعدة عندما تتمتع بموافقتنا التي تضفى عليها الشرعية من ناحية اخرى ، فأي انذار مبكر قبل هذه الاتفاقية يختلف عن الانذار المبكر الجديد الذي يشكل نظاما كاملا مشتركا بين امريكا واسرائيل ومصر ، وبموافقة وترحيب مصر ، بل يتباهى رئيس جمهوريتنا بأنه صاحب هذا الاقتراح العبقري عندما طلب من الرئيس أن يأتى ليكون شاهدا في لقاء سالزبورغ . ومن المعروف ان الاتفاقية التي تظل سارية حتى تحل محلها اتفاقية جديدة ، لم يحدد ملحقها اى زمن بالنسبة لقاعدة التجسس الامريكية فهى قائمة بكل اضرارها واخطارها الفادحة ، وبكل احتمالات ان تكون ((نواة )) لمزيد من التورط الامريكي . هذه اذن ثمرة طيبة كما يبدو واضحا من الثمار الطيبة لانتصار اكتوبر ! فيا له من انتصار فتح امامنا ابواب كل هذه الثمار بما في ذلك هذه الفرصة الذهبية لاستضافة قاعدة تجسس أمريكية ولاستضافة وجود أمريكى قابل للتوسع والتطور ! ان السلام الامريكي لم يقف ، اذن ، عند حد تحقيق الاهداف الاستعمارية الامريكية باجبار البرجوازية المصرية الحاكمة على نوع محدد من السلوك في مختلف المجالات والمستويات ، بل انه بفضل الاتفاقية الاخيرة يدخل مرحلة خطيرة بالتورط الامريكي المباشر. اسرائيل تمر في قناة السويس ان القناة ، قناة السويس ، تمثل رمزا من رموز العزة الوطنية المصرية ، والعزة القومية العربية ، وقد استفزت السلطة الطبقية بقبولها مرور الشحنات الاسرائيلية في قناة السويس ، مشاعر المصري والشعوب العربية كلها ، فالمرور في قناة السويس يوضح مدى استعداد النظام المصرى للتنازل والاستسلام المخزي أمام مطالب اسرائيل . فمقابل انسحاب اسرائيلي محدود نجد هذا النظام مستعدا لتقديم تنازلات خطيرة . وتكشف هذه الموافقة على مرور اسرائيل في قناة اسرائيل في قناة السويس عما تتجه اليه هذه السلطة من تعايش سلمي مع اسرائيل ، ومن نوع مختلف من العلاقات ، ولعل التراجع التدريجى عن المقاطعة العربية لاسرائيل والشركات التي تقيم العلاقات معها ان يكشف عن نفس هذا الاتجاه ، ومن الواضح ان اسرائيل تعطى أهمية للتفاعل الذي سوف يحدث بين الطرفين من خلال القطاعات المشتركة ، والطرق المشتركة كما عبر أحد كبار المسؤولين الاسرائيليين ! ومن المؤكد ان مرور اسرائيل في قناة السويس لا يمكن ادراجه في الاجراءات العسكرية التي يزعمون ان الاتفاقية تقتصر عليها ، فهو يدخل بنا فى صميم السياسية ، بل يدخل بنا في صميم نوع العلاقات التى تود السلطة في مصر ان تقيمها مع اسرائيل . ومن المؤكد ان الاتفاقية تأتي بعدد من الفوائد الاقتصادية ،أولها المناخ الذي تقدمه للانفتاح الاقتصادي ، ومنها دخل ابار البترول فى أبورديس ، وكذلك ((تأمين)) دخل قناة السويس ، وكذلك أيضا المساعدة الامريكية والجهود الامريكية لدفع اطراف استعمارية ورجعية اخرى الى تقديم المساعدات الى مصر . كما يلاحظ ان النفقات العسكرية الباهظة والتي تمثل حوالي ربع الناتج القومي الاجمالى (والذى يقدر بملياري دولار ) سوف تنخفض بشدة . كذلك فان الاتفاقية تقدم دفعة قوية لتنويع مصادر السلاح بالاضافة الى كافة (( مزاياها)) غير المحدودة ! البنود والتعهدات السرية اعلن الرئيس السادات وابواق دعايته وكل ادعياء اليسار المتشبثين بأذياله في بعض المؤسسات الصحفية والاعلامية في بلادنا ، فى استجابة فورية رائعة لقائد الاوركسترا ، ان الاتفاقية خالية تماما ، مائة في المائة ، من أي تعهدات او بنود أو ملاحق او اتفاقيات سرية . ولكن قائد الاوركسترا أنور السادات جاء في خطاب 28 سبتمبر 1975 ليعلن فجأة نقيض ذلك ، اذ اعترف لاول مرة بوجود مثل هذه التعهدات السرية . والسادات يهزأ بشعبنا وامتنا العربية ( التي يوجه اليها الخطاب !) عندما يقدم عذرا اقبح من الذنب بقوله انه في جو المزايدات والحملات لم يرد الاعلان عن هذه الاشياء السرية ، ولكن من المؤكد ان امل السادات كان كبيرا في الاتفشي الصحافة الاستعمارية والمسؤولون الاستعماريون تلك الاسرار ، وعندما خاب امله حين اعلنت الانباء على نطاق واسع ، عن التعهدات والاتفاقيات والبنود السرية ، اضطر الى الاعتراف ؟ ان الرئيس المؤمن يكذب مرتين : الاولى بالاعلان بصورة مباشرة عن عدم وجود بنود سرية ، والثانية عندما اخفى تفاصيل هذه التعهدات مدعيا انها تقتصر على عدم الهجوم على سوريا ، وتحقيق خطوة مماثلة على الجبهة السورية ، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية . ولقد كشفت الصحافة الامريكية الكثير من أسرار هذه التعهدات المتبادلة ، وابرزت على وجه الخصوص تعهدات امريكا لاسرائيل ، ومنها تعهدات مناقضة للتعهدات التي يقول السادات انه قد حصل عليها ، ومما نقلته النهار البيروتيه (2-9-1975) عن تايم الامريكية ان هناك تعهدا من الولايات المتحدة بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية مادامت ترفض الاعتراف باسرائيل ، كما تعهدت امريكا بعدم المبادرة الى تقديم اي خطة جديدة للسلام في الشرق الاوسط دون استشارة اسرائيل ، الى جانب النفط الذي سيقدم الى اسرائيل ، والى جانب الاسلحة الامريكية التي سوف توقف سباق التسلح في الشرق الاوسط على عتبة الاسلحة الذرية كما تذهب مجلة نيوزويك الامريكية في عددها الصادر في 29 سبتمبر 1975 . وقد ابرزت النهار ايضا نقلا عن نفس المجلة الامريكية ، تعهدات مصر بتحديد قوة الطوارئ الدولية لمدة ثلاث أعوام ، وبتخفيف الدعاية المناوئة لاسرائيل داخل وخارج الامم المتحدة ، وبوقف مقاطعتها للشركات الامريكية التي تتعامل مع اسرائيل ، واخطر من ذلك تعهداتها بعدم الاشتراك فى حرب اذا هوجمت اسرائيل من أي دولة ثالثة الا اذا كانت اسرائيل هي البادئة بالعدوان . ان البنود والتعهدات السرية امر لا يمكن ان تتفاداه سلطة تعرف ان الشعب ينظر الى اعمالها باعتبارها خيانة ، فلابد ان تخفى جرائمها وان تغطى عوراتها . الثمرة الكبرى المرة للاتفاقية قبل هذه الاتفاقية لم يكن أحد ، أو على الأقل لم يكن عاقل ، يصدق ادعاءات السلطة وأجهزتها الاعلامية ، وكل من يفضلون السير وراء هذه السلطة مهما يتسموا بأسماء ثورية مبرقشة ، فالادعاءات لم تنقطع عن ان جيشنا فى وضع أفضل (من أي وقت مضي) وانه مستعد لتنفيذ أي مهام قتالية يؤمر بها ، وان فشل او نجاح أي خطوة أمريكية ليسا بالامر بالغ الاهمية ، وان ما لا نستطيعه بالوسائل السلمية سوف نحققه بالحرب ، بل ان الحرب (الخامسة) آتية لا ريب فيها ، بل لقد قيل انها بدأت في جنوب لبنان وانها سرعان ما سوف تندلع على كل الجبهات . لم يكن لعاقل ان يصدق هذه الادعاءات انطلاقا من فهم واضح لسياسة السلطة وخطها الاستسلامي منذ هزيمة 1967 على وجه الخصوص ، وأيضا انطلاقا من الاوضاع العسكرية وغير العسكرية التي اصبحت تستبعد اللجوء الى استخدام القوة . وكانت الاتفاقية الاولى التي وقعت في 18 يناير 1975 قد جاءت بالكثير الكثير من القيود التي تؤكد هذا الاتجاه . ولم يكن لعاقل ان يصدق ما تدعيه السلطة من انها سوف تهرع الى نجدة سوريا ، فقد كان ما يحدث للبنان محكا يوميا لتكذيبها ، أو ما تدعيه من انها لن تتخلى عن القضية الفلسطينية ، فكيف يكون ذلك بعد ان وضعت القيود الثقيلة على ايديها بحيث لا تستطيع الاقدام على حرب مثل حرب اكتوبر التي ارادتها نهاية لكل الحروب مع اسرائيل . ولكن الثمرة الكبرى التي نضجت فوق عناقيد هذه الاتفاقية أي واقع خروج مصر من الساحة ، من المعركة الوطنية ، يتأكد الآن بصورة نهائية ، ليس فقط بسبب أوضاع سياسية واقتصادية وعمرانية وعسكرية وفنية قائمة كما كان الامر من قبل بل ايضا لأن هذه الاوضاع قد ارتدت الآن أشكالا قانونية محددة نهائية ، فمن خلال مختلف الصيغ والعبارات المموهة تصل الاتفاقية الى انهاء حالة الحرب مع الاستغناء (المؤقت بطبيعة الحال) عن هذه الالفاظ الصريحة . ولكن الصيغ والعبارات الواردة في الاتفاقية اكثر من كافية لخروج مصر رسميا من المعركة ، من الساحة . لقد انتهى عهد التشدق بالقوة الذاتية التي يعتمد عليها النظام المصري فهي لن تعتمد الا على الاستعمار الامريكى صديق الحاضر وحليف المستقبل . ولخروج مصر نهائيا من المعركة ابعاد بعيدة المدى واخرى قريبة المدى ، فهذا الخروج النهائى يرتبط بصورة وثيقة بتغييرات اشمل في مصر والمنطقة ، حيث يحقق الاستعمار الامريكي اهدافه العداونية الاستعمارية ، وفي طرد الاتحاد السوفييتي من المنطقة بالاعتماد على مواقف انظمة المنطقة ذاتها ، وفي تعزيز قوي الرجعية العربية ، وفي احياء القوي الاجتماعية الاستغلالية القديمة ذات الروابط التقليدية مع الامبريالية . ان هذا الخروج النهائى من المعركة يكتسب أبعاده الخطيرة بالاخص في علاقاته بهذه الانعطافة واسعة النطاق بل الشاملة التي تجرى في مصر والمنطقة العربية بأسرها منذ أعوام طويلة والتي تلقت دفعات قوية بعد حر أكتوبر . وإذا كان من الواضح ان النظام المصري لا يملك استعادة بقية الاراضى في سيناء الا من خلال الخطوات الامريكية ، فان تخليه السافر عن النظام السوري ( رفيق السلاح في حرب اكتوبر المجيدة ) يؤدي بهذا النظام الى مركز اضعف في مفاوضاته ، ويضعه ايضا أمام احتمالات العدوان العسكري الاسرائيلي ، حيث لن تملك مصر الرسمية سبيلا الى التدخل الذي تتشدق به . ان مصائر الاراضى المحتلة في الضفة الغربية وغزة وفي الجولان تبدو اشد تعاسة بما لا يقاس بعد هذه الاتفاقية . كما ان لبنان معرض للاخطار العدوانية والتوسعية من جانب العدو الاسرائيلي . اما المقاومة الفلسطينية ، فانها تواجه وضعا أخطر بما لا يقاس بالنسبة لما واجهته من قبل عندما تخلى عنها النظام المصري بقبولة لمبادرة روجرز في عام 1970 ، وايقافه على اساسها لحرب الاستنزاف ، بحيث تفرغت اسرائيل وتفرغ الاردن لتوجيه الضربات القاصمة الى المقاومة ، فاذا كانت المبادرة الامريكية قد انهت منذ خمسة اعوام وجود المقاومة الفلسطينية في الاردن من الناحية الاساسية ، فان السلام الامريكى الذي يحل الآن في المنطقة يهدد بانهاء وجودها في لبنان . ولكن المقاومة الفلسطينية لن تكون لقمة سائغة للسلام الامريكي بقدر ما تتحد قواها في مواجهة هذا المصير الذي يراد بها ، وبقدر ما تحتضنها وتلتف حولها وتقف معها في خندق واحد كل القوي الثورية الحقيقية في العالم العربي وهي تواجه الان مع السلام الامريكي نفس المصير ، ان ذبح المقاومة الفلسطينية لابد ان يدرج الان على رأس قائمة الاستعمار الامريكي واسرائيل والرجعية العربية ، وكذلك النظام المصري وما شابهة من انظمة . فمن الواجب ان تواجه ، بكل حزم ، قوي المقاومة وكل القوي الثورية هذا المصير المشترك. ان الاستعمار الامريكي يستعيد الآن بصورة شاملة سيطرته على المنطقة العربية ، وتقدم الانظمة العربية والنظام المصرى هذا الاستعمار الامريكي الى الشعوب العربية باعتبار انه بعد حرب اكتوبر وبعد ان رأي العين الحمراء لملوك البترول ، قد قيم سياسته في الشرق الاوسط ، وأنه انتهى الى ضرورة الحرص على مصالحة الموجودة في البلدان العربية وليس في اسرائيل ، وانه لذلك يقف الان كما كرر الرئيس السادات كثيرا ليس الى جانب اسرائيل وليس الى جانب البلدان العربية بل بينهما في الوسط تماما !!؟! وتستطيع الانظمة العربية المستسلمة وتلك التقليدية المغرقة في رجعيتها ، ان تسعد اخيرا بانتصار الاستعمار الامريكي واستعادته لنفوذه وسيطرته ، بعد طرد الشبح الاحمر وحتى شبح أي معارك وطنية ، وتستطيع أن تسعد بأن تتوهم أن الاستعمار الامريكي يعطيها اهمية لا تقل عن اهمية اسرائيل . وبالطبع فان الاستعمار الامريكي لا يمكن ان يخيب آمال اصدقاء اليوم وحلفاء الغد حتى ان كان بينهم اعداء الامس ، وهو يوطد وسوف يوطد علاقاته مع هذه الانظمة ، ولكنه لا يمكن ان يتخلي عن اسرائيل التي سوف تظل أداة أطوع في يده ضد حركة تحرر وطنى عربية ، وضد حركة ثورية عربية تولدان مع مغيب شمس ((وطنية)) البرجوازية التي كانت دائما مليئة بأخطر الثغرات مهما عرفت لحظات متماسكة في فترات معينة . لقد جاءت التعهدات الامريكية الاخيرة لتؤكد هذه النظرة الامريكية الى اسرائيل ، باعتبارها قاعدة متقدمة للاستعمار الامريكي ، لقد قلبت الاسلحة الامريكية الجديدة التي سوف تزود بها اسرائيل في السنوات القادمة ميزان القوي في المنطقة العربية كلها لصالح اسرائيل ، واذا كان من المؤكد الان ان مصر يمكن ان تحصل على أسلحة امريكية ضمن شعار تنويع مصادر الاسلحة ، فان امام مصر الرسمية وقتا طويلا قبل ان تطمع في منافسة اسرائيل ، ان كان ذلك محتملا اصلا . ولكن الاهم ان هذه الاسلحة الامريكية التي سوف تؤدي الى احكام حزام العفة الامريكى حول النظام المصرى لا يمكن ان يحارب بها هذا النظام ضد اسرائيل . ولايمكن أن يحارب بها الا ضد الشعب في معارك ثورته القادمة . لقد أصبح الباب الآن مفتوحاً امام زيارة الرئيس السادات للولايات المتحدة الامريكية ، وهذه هي المرة الاولى منذ حركة 1952 التي يزور فيها رئيس الدولة في مصر الولايات المتحدة . وهذه الزيارة تتويج لانتصارات امبريالية الولايات المتحدة في مصر وفي المنطقة العربية ، فقد تم ترويض وتطويع النظام الذي نتج عن حركة 1952 بصورة نهائية ، بل لقد كسبت صداقته وتنسج معه الآن خيوط التحالف . ان هذه الزيارة مع الزيارات الاوروبية السابقة والوشيكة تعكس مدي عمق العلاقات الدولية الجديدة التي تحل محل علاقات دولية سابقة ، مع اوروبا الغربية ومع الولايات المتحدة الامريكية الاستعماريتين . وفي مقابل ذلك تتدهور العلاقات مع السوفييت من خلال اسلوب الخطوة خطوة ، بالوقفة الموضوعية ، بتنويع الاسلحة (( بمعركة )) جدولة الديون بحملات التشويه والافتراء واسعة النطاق والتي بدأت لتستمر ، وهذه اللحظة من العلاقات السوفييتية المصرية تعكس مصائرها الاستراتيجية بصدق فهذا التدهور سوف يستمر حتى الانهيار . أي ان أعمق الاتجاهات الدولية والعربية الأصلية لدي البرجوازية البيروقراطية المصرية الحاكمة تتحقق الآن مرتدية شكل الانعطافة العاصفة حتى يشهد كل يوم جديدا يؤكد هذه الاتجاهات الاستراتيجية . ضرورة التحرر من الاوهام لقد أصبح من الضروري ان يتحرر من الاوهام البرجوازية ، وأن يشفي منها بصورة نهائية جميع الذين يرجى لهم شفاء برغم اصابتهم الاكيدة بهذه الاوهام الى حد المرض ، وأهم ما ينتج عن ادراك جوهر هذه الاتفاقية ، وعن ادراك واقع خروج مصر من المعركة ، هو مثل هذا التحررمن الاوهام. ففي الوقت الذي يجري هذا الانقلاب الخطير ، يتحدث بعضهم عن المناخ الثوري الملائم الذي نتج عن حرب اكتوبر الخ .... هذا الهراء .... ، وبسبب عدم فهمهم لحقيقة ما يجري ، رسم هذا البعض قصورا في الهواء وظن ان الاوان قد آن لتحقيق كل الاحلام والاماني .. أما المراجعون الذين لا يصلون فى حدودهم القصوى الى اكثر من (( ابداء)) بعض الملاحظات والانتقادات الجزئية على مثل الاتفاقية الاخيرة التي تمت ، رافضين بكل قوة وحزم واصرار وغباء (( وصم)) السلطة بالخيانة او القول بخروجها من المعركة ، بحجة ان ارضا مصرية لا يستهان بها ما تزال محتلة . دون التفكير في الاسلوب الذي تعتمده السلطة في استرداد تلك الارض المصرية المحتلة ... هؤلاء المراجعون اليمينيون شبه الرسميين ، لا شفاء لهم فهم لم يتحرروا الا من الماركسية الثورية ليستعينوا بماركسية مقلمة الاظافر ! ويؤدى فهم الانقلاب الاستعماري الرجعى الخطير في مصر وفي المنطقة العربية ، وفهم الدور ((القيادي)) الذي تقوم به السلطة الطبقية في مصر في هذا الاتجاه ، الى امكانية حقيقية لاتخاذ مواقف ثورية سليمة ، لا يمكن اتخاذها بداهة الا على اساس فهم صحيح لما يجري . فمن الضروري اذن ان يجري الحوار العميق بين قوي الثورة العربية الحقيقية حتى تلتقى عند تصور سليم واضح ، وحتى تتخذ علي اساسه المواقف الثورية التي تستجيب بدقة لمتطلبات هذه الاوضاع الخطيرة . لقد خرجت مصر الرسمية من المعركة لا لتظل واقفة ، بل لكي تبحث عن اسلوب للتعايش السلمى مع العدو الاسرائيلي ، وقد حققت خطوات (( جادة)) على هذا الطريق ، ويعد الرئيس السادات بالمزيد من الخطوات كما يعبر بصراحة عن أنه سوف يعجز عن تحقيق بعضها الآخر ، تاركا الامل مفتوحا امام اجيال قادمة تقيم العلاقات (( الطبيعية)) الاقتصادية والدبلوماسية الخ .. مع العدو الاسرائيلي . ان هذه الاتفاقية هي بمثابة عتبة السلام ، ومدخل التعايش السلمي مع العدو الصهيوني ، لقد دخلت مصر الرسمية دهليز السلام الذي لابد ان يعرف مراحل وفترات واشكالا متنوعة متفاوتة من العلاقات مع العدو الاسرائيلي . ولقد وصف بعضهم هذه الاتفاقية بأنها هدنة سلمية لمدة ثلاث سنوات والواقع انها ( بغض النظر عن التعهد الخاص بالسنوات الثلاث ) لا تتقيد بأي زمن في صلب الاتفاقية التي ستظل سارية المفعول حتى تحل الخطوة القادمة ( التي ينبغي ان تكون بقوة الديالكتيك أسوأ بما لا يقاس ) ان تتراجع عن هذه النصوص الخطيرة التي يجب ان نتوقع ان تزداد في اتجاه النص الصريح على أنهاء حالة الحرب وربما ما يزيد على ذلك فيما يتعلق بمستقبل العلاقات بين (( الحكومتين )) المصرية والاسرائيلية !! ان التحرر من الاوهام يعني : ضرورة ادراك ان تكف القوى الثورية عن التعويل على (( وطنية )) النظام المصري الذي ألقى رأيات هذه الوطنية في الاوحال ، بل يجب ان تعتمد هذه القوى الثورية على حركتها المستقلة ، وما يمكنها تحقيقه من أهداف ثورية في هذه اللحظة او تلك . ويعنى ذلك ايضا ضرورة وضع حد لاوهام بعض فصائل الثورة الفلسطينية ، التي تنظر الى مؤتمر السلام في جنيف ، نظرة الامل في استرداد بعض الاراضي الفلسطينية بل في الحصول على دولة فلسطينية تحظي بموافقة اسرائيل والاستعمار الامريكى . فمثل هذه الاوهام تنجم عن التعويل على المركز التفاوضي لمصر وسوريا ، الذي يقال انه صار ((شديد القوة)) بفضل حرب اكتوبر ، ولكن مصر الرسمية التي تضطر الى التفريط في سيناء وفي استقلال مصر ( وهى تضطر الى ذلك بالطبع نتيجة لضعفها وازماتها اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وبسبب موقفها الاستسلامي) ، مصر الرسمية هذه لا يمكن ان تعتمد عليها الثورة الفلسطينية في تحقيق أي شئ ، بل يجب أن تستعد المقاومة الفلسطينية لمواجهة الضربات بتواطؤ وبمشاركة النظام المصري . لا يجب ان تعتمد المقاومة الفلسطينية على النظام المصري ولا ان تربط نفسها بعجلة المحاور العربية مهما تكن الدول التي تشملها ( سوريا أم ليبيا أم العراق أم الجزائر الخ ...) . ان ديالكتيك الواقع يلقي علينا كل لحظة درسا ، فالنظام الاردنى العميل ذاته يدخل في محور مع سوريا ، ويهدد بتلقى الاسلحة من الاتحاد السوفييتى عندما يجد الضفة الغربية مهددة بالضياع ، وبدلا من ان يكون في صحبته الطبيعية مع (( المحور)) الامريكي السعودى المصري ، نجده بصورة مؤقتة بالطبع في المحور الاخر مهددا بالبقاء فيه مالم يقدم الاستعمار الامريكي الثمن المجزي لولاء الاردن بتحقيق المطالب العسكرية والاقتصادية . وسوف ينقلنا تنفيذ هذه الاتفاقية الى فترة تاكتيكية تتوجه فيها الانظار الى الشمال والشرق ، وشمال اسرائيل ، حيث تبرز احتمالات كثيرة اهمها توجيه الضربات القاصمة الى المقاومة الفلسطينية ، ومنها الوصول الى وضع ما ((نهائى)) مع الاردن (نهائى بصورة مؤقتة بطبيعة الحال أي مستمر حتى نهاية النظام الاردنى الملكي العميل نفسه )، ومنها احتمالات الجبهة السورية التي سوف تتعرض لضغوط ، لاجبار النظام السوري على تقديم تنازلات هائلة كثمن لاي خطوة ولاي تسوية جزئية منفردة معه . ولكن من حقنا ان نحلم ، بقدر ما نعمل في هذا الاتجاه ، بأن يكون الجنوب أيضا محط الانظار ،(وبأن يكون رفض الشعب المصري حاسما لاتفاقية الخيانة التي غدرت حتي بالحكومات المماثلة .) وفي خطاب 28 سبتمبر 1975 هدد الرئيس السادات الحركة الوطنية المصرية بأنه لا يسمح بالتسيب مرة أخرى ، ولكن الحركة الوطنية المصرية اثبتت فى الاعوام القادمة في بسالة نادرة انها لا تحسب حسابا لما يسمح به او لا يسمح به قائد سلطة الخيانة الوطنية والديكتاتورية البوليسية ! حملة مسعورة ! وتدرك السلطة الطبقية المصرية مدي خطورة تحرر القوي الثورية في مصر ، وفي العالم العربي من سيطرة الاوهام التي اطلقتها هي ، وهي تواجه الان بكل هذا السعار القوى الثورية العربية وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية ، لانها اتخذت موقف الرفض الثوري الحاسم لهذه الاتفاقية الخطيرة . وتشن السلطة حملة واسعة النطاق ضد الاتحاد السوفييتي ، ضد النظام السوري الخ ... ضمن قائمة من يرفضون هذه الاتفاقية مهما تختلف الدوافع والمنطلقات . وتصل هذه الحملة الى درجة لم يسبق لها مثيل من الشراسة وهدم الجسور ، حتى النظام السوري رفيق السلاح الذي يعبر عن قلقه واحتجاجه على الوضع البائس الذي فرضه عليه النظام المصري في مفاوضاته المقبلة ، هذا النظام السوري حظي بنصيب لا يستهان به من حملة النظام المصري . أما المقاومة الفلسطينية فقد التقت هذه اللحظة التاكتيكية للنظام المصري بموقفه الاستراتيجي منها ، فراح يصب عليها جام غضبه ، وفتح الباب واسعا امام كل الاتجاهات اليمينية للهجوم على الاتحاد السوفييتى والمقاومة والنظام السوري . اما الاتحاد السوفييتي فقد التقي ايضا الموقف الاستراتيجي منه بهذه اللحظة التاكتيكية فركز النظام المصري نيرانه عليه أشد التركيز . ولم يقف الهجوم عند السلطة واجهزتها المغرقة في يمينيتها ورجعيتها ، أو اليمينية والرجعية على وجه العموم ، بل شاركت بحماس في هذا الهجوم الاتجاهات المراجعة التي تتحدث باسم الماركسية او باسم الصداقة مع السوفييت والقوي الاشتراكية ، حيث برزت في هذا المجال مجلة روز اليوسف التي نشطت كبوق محموم عالي الصوت ، فلهجت بالثناء المتصل على خطوة الخيانة . ثم تورطت الى درجة مخيفة في القاء اللوم بل الهجوم على الاتحاد السوفييتي والمقاومة الفلسطينية وكذلك النظام السوري ، واثبتت بذلك أنها المجلة الوفية للرئيس السادات مهما يتخذ من مواقف ، فعندما وقع السادات الاتفاقية نسيت هذه المجلة كل حديثها السابق في الفترة الفاصلة بين الاتفاقيتين وكل حملتها السابقة ضد المؤامرة التي يعد لها كيسنجر الذي رسموه بقرون الشيطان .. ولسنا في حاجة الى التفتيش عن قرون الشيطان على رؤوس كتاب روز اليوسف لنفهم كيف يغيرون مواقفهم ويقلبونها بهذه الصورة المخزية ، طالما ان هذه المجلة لم تتخذ اصلا مواقف جذرية ، بل كانت تكتفي بالخوض في المياة الضحلة . أما مجلة الطليعة التي اتخذت موقفا افضل قليلا ، ولا خيار في الشر على اى حال ، فقد أثبتت ايضا انها ليست الا طليعة المراجعة ، وطليعة ادعياء اليسار الثورية ، وطليعة (( الماركسية)) العلنية الرسمية ، أي أنها في الواقع ليست سوى ذنب بالنسبة للسلطة ((الوطنية)) التي تتململ من بعض مواقفها ولكنها لا تسمي هذه المواقف باسمها ، وبالاخص ترفض دمغها بالخيانة او وصمها بالاستسلام وترفض حتى الواقع الذي يفقأ العيون ، واقع خروج هذه ا لسلطة من المعركة بحجة ان لا أحد يملك أخراجها . ومن أبرز ما ظهر في هذه الحملة المسعورة أنها لا تناقش أشياء محددة ولا تواجه حجة بحجة ، ولا تتصف بأي اتجاهات عقلية ، بل أن كل فرسانها يقتدون بقائد الاوركسترا في أسلوبه الحقير في التهجم على الاتحاد السوفييتى وعلى المقاومة (( التي اتضح انها لا تحارب الا بالكلام برغم تضحياتها الجسيمة ، وعلى سورية رفيقة السلاح مع النظام المصري )) . أن هذه الحملة المصابة بالسعار تصب سموم التعصب المصري الضيق والشوفينية وتزرع الكراهية ضد الشعوب العربية الشقيقة ، وهى تعتمد على حجة سخيفة باعتبار ان اي هجوم على سلطة السادات انما هو هجوم على مصر ، برغم ان الهجوم على الاتفاقية والسلطة التى عقدتها لا يمكن الا ان تكون دفاعا حقيقيا عن مصر وعن شعب مصر . لقد وصفت المقاومة الفلسطينية بأحقر واشنع الصفات ، ووصف قادتها بأنهم قادة الارهاب الجبناء الخ الخ .... وحقرت الثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية بأعلى صوت ، بل ان مجلة روز اليوسف التى وجهت دعوة سخيفة لعقد ندوة (( للجهات العربية الرسمية )) والتي بلغ أحد كتابها الى حد القول باستخفاف غريب بأن اتفاق العرب أهم من اتفاق سيناء بينما يناقش (( العرب )) اتفاق سيناء من أجل (( الاتفاق)) على رفضة ، وكأن اتفاق العرب مطلوب فى حد ذاته حتى وان كان اتفاقا على الاعتراف باسرائيل واستضافة قاعدة امريكية للتجسس فى قلب سيناء المصرية العربية على سبيل المثال لا الحصر ! مجلة روز اليوسف هذه لم تحترم حتى دعوتها السخيفة لندوتها الرسمية التي طرحتها بديلا عن المؤتمرات الشعبية التي تعلم انها سوف ترفض بصورة حاسمة هذا الاتفاق ، فراحت تتنافس مع ابراهيم الوردانى ، وموسى صبري ، والتوأمين وما شابه ذلك فى الهجوم على أي موقف ثوري أو وطني ، وعلى أي قوة ثورية تتخذ مثل هذا الموقف . كما شاركت بحماس في الحملة المسعورة ضد المقاومة الفلسطينية وضد الاتحاد السوفييتى برغم ادعائها الحرصعلى صداقته ، لقد اعطينا كل هذا الاهتمام لروز اليوسف لانها تقدم نفس السموم بادعاءاتها الثورية الصاخبة مما يضلل القراء باعتبار ان ما تقوله هذه المجلة ( شهادة من أهلها )!! اما الشعب المصري فان السلطة تصور انه يقيم الاحتفالات والمهرجانات ليس فقط للسادس من أكتوبر باعتباره عيداً( للعبور)) بل لهذه الاتفاقية الخائنة في المجال الاول . ولكن المهزلة كاريكاتيرية بما يكفى لكي لا تثير سوي الابتسام فى اشفاق ، فالسادات يذهب الى مسقط رأسه حيث يساق اليه الفلاحون ، والعمال ، والشباب من أبناء محافظته ليصور ذلك باعتباره تأييدا شعبيا حاسما ، ويسير عشرات الاشخاص المأجورين ، أو شديدى الحماس لاستسلام السلطة فتدعي الاجهزة الاعلامية من صحافة واذاعة وتلفزيون ان الآلاف سارت في مظاهرات لتؤيد بشكل حاسم مواقف السلطة ولترفض بشكل حاسم (( الوصاية )) التي تحاول بلدان وقوي معينة فرضها على (( الشعب)) المصري ؟!؟ أما أن يسير مائة ألف من الرأسماليين ((الوطنيين )) في مسيرة فذلك منطقي مهما تكن المبالغة المعهودة فى الارقام والتي تصل الى الاضعاف المضاعفة ، بشرط مناقشة صفة (( الوطنية)) هذه . لقد كتب سعد هجرسى رئيس مجلس ادارة الاصلاح الزراعي ،(( اعلانا)) في صفحة كاملة في الاهرام يؤيد الاتفاقية والقائد الذي ((أنجزها)) باسم الفلاح المصري وبإسم عشرات الملايين من الفلاحين المصريين . وأرسل النقابيون الصفر العماليون لتهنئة الرئيس السادات على اتفاقية الخيانة ! ويقدم كل هذا بأن الشعب المصري هو الذي يؤيد ، ( ولكن الشعوب العربية كلها التي تقدر ظروف الشعب المصري سوف تسمع ، في مستقبل نتمناه قريبا ، الصوت العالى لشعبنا المصري العظيم وهو يرفض هذه الاتفاقية واليد التي وقعتها !) رفض حاسم حتي النهاية : لقد حاولنا في هذا المقال توضيح الملامح الاساسية للحظة التاريخية الحاضرة التي تمت فى اطارها الاتفاقية الاخيرة ، والتي سوف تجري فيها الاتفاقيات الجزئية المنفردة التالية في خطوات لاحقة على مختلف الجبهات ، والتي لا تشكل التسوية الشاملة سوي (( خطوة )) اخرى دون ان تكون بالضرورة شاملة لكل الجبهات ، والاهم من ذلك ، دون ان تكون عاجلة ، وعندما يقف الوزير الامريكي كيسنجر ليتحدث عن أمله في انهاء اسلوب خطوة خطوة قريبا ، وفي التوجه الى مؤتمر السلام في جنيف ، فلا يمكن لمثل هذا التصريح الا ان يكون قد اطلق ضمن التاكتيكات الاستعمارية الامريكية التي يقصد بها جميعا تحقيق السياسة الاستعمارية الواحدة ذات الاهداف العدوانية الاساسية المعروفة ، فقد رأينا كيف ان اسلوب الحل الجزئى المنفرد على خطوات منفصلة تتباعد وتتقارب وفقا للأوضاع المتغيرة والضغوط والمناورات والتشجيعات المتبادلة الخ الخ ... رأينا أن هذا الاسلوب شديد الاصالة وليس اختراعا عارضا ، وانه يتولد عن استحالة الوقوف عند الاوضاع الملموسة المحددة التي ظهرت عندما وضعت حرب اكتوبر اوزارها ، فهذا ما يمثل ما يسمي ( بقوة الدفع نحو السلام انطلاقا من ضرورة (( فك الاشتباك )) اولا ، ثم نزع امكانيات واحتمالات اي صدمات والتشجيع بصورة متدرجة للردة والانعطافة الشاملتين اللتين تجريان في مصر بحيث تكون أي خطوة جديدة ترمومترا دقيقا يعكس حرارة بل حمى الانعطافة الشاملة الجارية فى البلاد ، هذا من ناحية ، ومن الناحية الاخرى رأينا استحالة الحل الفورى الشامل لكل الاراضي وكل لبلدان (( المواجهة )) المزعومة ، بسبب اصرار الاستعمار الامريكى واسرائيل على استبقاء ضمانة عظمى تمثلها الاراضي المحتلة ، فاستمرار الاحتلال يمثل بالفعل اعظم الضمانات الاكيدة على ان تجرى الرياح بما يشتهي الاستعماريون الامريكيون ، وعلى ان تعصف هذه الرياح بكل الاوضاع التي يستهدف الاستعمار الامريكي القضاء عليها في مصر والمنطقة العربية كلها بصورة شاملة . أي ان هزيمة 1967 التى وصفت بأنها (( نكسة عارضة )) وأنها لم تحقق اهدافها السياسية ، هانحن اخيرا نواجه الاشكال النهائية لنتائجها وابعادها الخطيرة ، فها هى الاهداف السياسية الاستعمارية الامريكية الصهيونية التى جرى الاستناد الى الاحتلال الاسرائيلي الناتج عن تلك الهزيمة في تحقيقها . هاهى الاهداف الاساسية تتحقق ، هاهى الانعطافة الشاملة تجرى الآن امام عيوننا . لم تكن اذن نكسة عارضة ، ولا يمكن ايضا ان يمثل الخط الاستسلامي الذي انتهجته الانظمة العربية أي نوع من الصمود المزعوم لم يكن في الواقع سوي خط الاستسلام الذي قاد الى الكارثة الوطنية ، التى نعيش الان حلقاتها ولحظاتها الحاسمة .. اننا الان بصورة واضحة ازاء علقم وحنظل هزيمة 1967 ولسنا ازاء كفاح حرب اكتوبر 1973 . ومن المنطقي ان تقف المراجعة التي تتتلمذ على السلطة واجهزتها الاعلامية ، بل تكون اقساما منها في الكثير من الحالات ، وان تقف قوي ثورية عربية وفلسطينية معينة تفضل أيضا التتلمذ على المراجعة المصرية والعربية ، وعلى الاجهزة الاعلامية للأنظمة العربية المستسلمة ، وعلى مختلف اشكال واصناف والوان ادعياء الثورية واليسار .... من المنطقي ان تقف هذه القوى جميعا موقف الاستسلام الكامل للأمر الواقع فهم لا يملكون سوى ان يتتلمذوا على السلطة الطبقية في مصر في موقفها الاستسلامي النهائى كما استسلموا لكامل منطقها . ان قوى الثورة الحقيقية لا يمكن ان يؤدي منطقها الثوري المتماسك الى الاستسلام للامر الواقع ، الى النظر لما يجري باعتباره مصيبة وقعت والسلام ، الى النظر لما حدث ويحدث باعتباره نهاية المطاف بحيث لا يكون هناك اي معنى لمواجهتها او مقاومتها . وقد تنشأ مثل هذه النظرة المتشائمة من ان هذه اللحظات يتحقق فيها بالفعل كل ما وققت ضده القوى الثورية الحقيقية طوال السنوات الماضية ، لكن لا يجب ان تقع هذه القوى في خطأ شديد الفداحة هو خطأ المبالغة في اعتبار تحقيق ما وقفت هي ضده فشلا نهائيا لها في هذه القضية . فالاوضاع التاريخية المحددة جعلت قوي ثورية جديدة ناشئة تواجه انعطافة خطيرة كبرى ، فهذه القوى الثورية الجديدة (ومنها المقاومة الفلسطينية وقوى ثورية اخرى ذات اوضاع تاريخية خاصة مثل الحركة الثورية في مصر) كانت طوال الاعوام السابقة أقل حجما وقوة وعددا ووزنا (بحكم واقع أنها جديدة وناشئة) بالقياس الى الاوضاع التى تواجهها، بالقياس الى الاستعمار الامريكي واسرائيل بأهدافهما العدوانية من ناحية ، وبالقياس الى الانظمة العربية بخطها الاستسلامي الذي قاد الى هذه الكارثة من ناحية أخرى . فالفشل فى قطع الطريق على هذه التسوية لا يمكن النظر اليه باعتباره فشلا نهائيا للقوى الثورية الحقيقية ، لان خيانة البرجوازية والاتفاقيات التي وقعتها وتحقيق أهداف الاستعمار الامريكي واسرائيل في المنطقة العربية ، لا يمكن أن تعني جميعا أن القضية قد انتهت ، ولا يمكنها جميعا ان تشطب القضية أو تحرر شهادة وفاتها . فبالعكس ان ما يجب تحريره شهادة وفاة أي دور وطنى تقوم به هذه البرجوازيات القومية التي القت رايات القضية فى الاوحال والتي خانت هذه القضية . أما القضية ذاتها فباقية مستمرة ، تتغير الظروف المحيطة بها ، ولكن أهم ما يتغير بالنسبة لها أنها انتقلت منذ زمان من الناحية الاساسية ، ومنذ الان بصورة نهائية من محور البرجوازية الى محور البروليتاريا المصرية ، والبروليتاريا العربية ، وحلفائها من الطبقات الشعبية ، لقد انتهى دور وطنية البرجوازية الكبيرة ليقوم مكانه ( وبأهداف جذرية لا تعرفها البرجوازية ) دور وطنية البروليتاريا وحلفائها . فأممية البروليتاريا لا يمكن ان تتناقض مع دورها الوطنى والقومي ، بل ان مثل هذا الدور ( وهو الدور الوطنى المتماسك الجذري الذي يربط الاستقلال الوطنى بالاشتراكية ) هو التطبيق المحدد للأممية في بلد بعينه أو بلدان بعينها . ولقد نجحت القوي الثورية الجديدة في تحقيق خطوة أولى عظيمة ، ففى غمار مقاومتها للخط الاستسلامي الذي انتهجته الانظمة المستسلمة ، طرحت هذه القوى الاسس الثورية الراسخة لحركة تحرر وطنى عربية متماسكة لا تصفها بانها مقبلة بل بأنها بدأت بالفعل في الأعوام الأخيرة ، ولقد تصدت هذه الحركة الوطنية الشعبية للاستسلام الجاري وسوف تستمر بأسسها وشعاراتها وأهدافها الثورية . وان تطور هذه القوى الثورية الجديدة على هذه الاسس المتماسكة التي طرحتها ، لهو السبيل الذي يمثل مستقبل الحركة الثورية والوطنية في منطقتنا بأسرها . ولم تكن القيادات المتماسكة لهذه القوى الثورية ( سرية كانت ام علنية ) لتتوهم انها تستطيع ، فى المدى الذي كانت تقدره لتوقيع اتفاقيات الخيانة ، ان تنجح في افشال هذه التسوية ، ولكنها بفضل انتقال شعاراتها التى ترفض هذه التسوية رفضا ثوريا حاسما الى شعارات تتبناها وتقاتل بها جماهير واسعة ، الى شعارات الاضرابات والمظاهرات والاعتصامات ، الى شعارات توقظ الطبقة العاملة على واقع خيانة البرجوازية للقضية الوطنية ، برغم ان حركة الطبقة العاملة ما تزال من الناحية الاساسية تدور في اطار النضال الاقتصادي ... بفضل واقع ان هذه الشعارات اصبحت تقود الحركة الوطنية الجديدة متزايدة الاتساع ، والتى اثبتت بسالة واصالة نادرتين في معاركها المجيدة طوال الاعوام السابقة بفضل ذلك جميعا لا يمكن ان تقع القوى الثورية الجديدة في التشاؤم السوداوي القائل بالفشل النهائى ، فالقضية ستظل حية لا تنطفئ جذوتها بقدر ما تستمر هذه القوى فى رفع راياتها عاليا ، وما تفشل في لحظة معينة فى تحقيقه تستطيع تحقيقه في لحظة تالية قد تكون قريبة أو شيكة . وفي مثل هذه اللحظات ، أيضا يمكن ان تظهر مهما تكن محدودة ، نظرات انعزالية متراجعة ، تبدو يسارية برغم أنها تمثل اقصر السبل لتحقيق كل ما يمكن ان تؤدى اليه الاتجاهات اليمينية التي تدعي الماركسية والثورية ، وتستند هذه النظرات الى واقع ان الاستعمار الامريكى يحقق أهدافه فى المنطقة في الوقت الحالى ، الى واقع ان الخط الاستسلامي للانظمة قد (نجح) في الوصول باستسلامه الى الاشكال الرسمية النهائية المتضمنة في وثائق قانونية دولية ، الى واقع ان الخريطة السياسية الجديدة تنجح الان الاطراف الاستعمارية الامريكية والصهيونية الاسرائيلية والرجعية العربية والانظمة الاستسلامية التي تتزين باسم دول المواجهة ، في رسمها الان ... تستند هذه النظرات الانعزالية المتشائمة الى كل ذلك لتزعم ان هذا اوان التراجع والجزر والكمون بالنسبة للحركة الثورية في مختلف بلدان المنطقة !! ان هذه النظرات الميكانيكية المتشائمة لا يمكن ان تمثل اساسا لمواجهة اية هجمة استعمارية بدعوى انتصارها المؤقت ، فاستنادا الى مصالح الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والوطنية ، واستنادا الى التناقضات التي لا تستغرق في النوم ، بل تستيقظ الان لترتدي اشكال النضالات الطبقية والحركة الجماهيرية العمالية والطلابية ، واستنادا الى مزاج الجماهير الشعبية في مقاومة الاستغلال الرأسمالي ، والخيانة الوطنية ، والديكتاتورية البوليسية التى تمثلها الانظمة العربية المستسلمة ، واستنادا الى جهودنا نحن الدؤوبة فى القيام بواجبنا الثورى ازاء هذه الجماهير بتطوير حركتها وتنظيمها على أسس وشعارات ثورية متماسكة ، بالاستناد الى ذلك جميعا نرى ان هذه النظرات سوف تبددها الحركة الجماهيرية التي تشق دروبها منذ اعوام بخطي راسخة دون ان تصغي لاراجيف دعاة الجزر والتراجع والكمون . ان هذه النظرات المتشائمة قد تنشأ في كثير من الأحوال من جذور يمينية تعقد الامال على البرجوازية القومية فتصاب بالصدمات العنيفة عندما تخون هذه البرجوازية القضية الوطنية والقومية وتلقي راياتها في اوحال الاستسلام والردة . ان ترابط وصداقة وتحالف القوي البرجوازية مع الامبريالية بقيادة الاستعمار الامريكي ، كانت نبؤءة عملية وضحناها منذ وقت طويل فى وثائقنا الاساسية ، ومنها "طبيعة الثورة المقبلة " في أوائل عام 1971 . فلا يمكن أن يصدمنا تحقق نبوءتنا العلمية هذه بأية صورة من الصور ، بل يجب ان نناضل ضد النظرات المتشائمة التي قد تنتج عن مثل هذه الصدمة لدى كل من ملأت رؤوسهم الاوهام البرجوازية بكل أشكالها وألوانها . ان ما يجب ان نؤكده هو النجاح وليس الفشل ، ليس الفشل في افشال تسوية معينة فى لحظة من لحظاتها مع ان قضية افشالها ما تزال قائمة بل النجاح فى مقاومة السلطات الطبقية المستسلمة ، فى مقاومة الطبقات الحاكمة وخطها في تصفية القضية الوطنية ، فى طرح الاسس الثورية على أوسع نطاق والنضال الصلب العنيد على هذه الاسس المتماسكة ، فى اجبار السلطة الطبقية فى مصر وغيرها على ان تضع هذه القوى الثورية في حساباتها في هذه اللحظة او تلك ... ان الحديث عن الفشل ليس الا شيئا مضحكا ، مثلما هو مضحك التركيز على فشل مجموعة صغيرة من الأفراد في هزيمة جيش كامل كمثال صارخ لهذا المنطق ، لان قوي ثورية جديدة ناشئة محدودة العدد والحجم الخ .... بحكم انها ما تزال وليدة في اعوامها الاولي ، لا يجب ولا يجوز التركيز على فشلها في تحقيق اهداف ثورية ما كانت تستطيع تحقيقها الا بالمزيد من تطورها واتساعها واستمرار نضالها ، وبالاخص عندما يكون الشئ البارز ذي المغزى الحقيقي هو نجاح هذه القوي في طرح هذه الاهداف بقوة ، ونجاحها في وضعها بشكل جماهيري كأساس راسخ للنضال الوطني الديمقراطي ، كأهداف ينعقد عليها اجماع الثوريين الذين يناضلون من أجل تحقيقها . ولا يمكن ايضا الحديث عن الفشل ، الفشل في قطع الطريق على هذه التسوية ، عندما نكون امام تسوية تتم بصورة تدريجية تستغرق اعواما ، بحيث ان واجبنا الان هو الاستمرار على نفس الاسس الثورية في النضال ضد هذه التسوية المحددة التي امامنا ، فلا نعتبر انها مصيبة وقعت والسلام ، ونهاية المطاف التي نقف امامها مذهولين لا نستطيع لها دفعا ولا نمك سوى الاقرار بأنها جاءت بالفعل على نفس الاسس الثورية ضد الكارثة الوطنية بكل أسسها ووثائقها ومواقفها ولحظاتها وخطها وضد الذين قادوا اليها ويقودون الآن بقية فصولها . تشرين الاول – اكتوبر 1975
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من ارشيف حزب العمال الشيوعى المصرى - ليس كل مايلمع ذهبا ! -
...
-
الاخوان المسلمون ومسألة التصنيف الطبقى ( من ارشيف اعوام الثو
...
-
رسائل بلاعنوان - الرسالة الاولى - تشيرنيشيفسكى ( كاملة ) ترج
...
-
هيدجر والثورة الاجتماعية والفلسفية بقلم: إبراهيم فتحى
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة - 9 - يوسي شوار
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -8- يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -7- يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -6 يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -5- يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -4- يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -3- يوسي شوارتز
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -2 - يوسي شوارت
...
-
حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة - 1 - يوسي شوا
...
-
استفزاز بريطانى جديد فى فلسطين - تونى كليف ( 1946 )
-
موقف التروتسكيون الفلسطينيون من تقسيم فلسطين والحرب العربية
...
-
تصريحات حول المشكلة اليهودية - ليون تروتسكى
-
المشكلة اليهودية - ليون تروتسكى
-
من ارشيف حزب العمال الشيوعى المصرى : النضال البطولى للشعبين
...
-
ثلاث رسائل حول الحب والجنس والتقاليد - كارل ماركس
-
الممارسة وحل التوترات فى فكر ماركس - جورج لارين - مقتطف
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|