الحركات الاسلامية: انسلاخ عن التراث واشتباك مع الحداثة
اصدرت لجنة خاصة من علماء الشريعة الاسلامية في "جبهة العلم الاسلامي" الاردنية، وهي الواجهة السياسية لجماعة "الاخوان المسلمين"، والممثلة في البرلمان الاردني فتوى شرعية كفرت بموجبها ثلاثة صحافيين تعتقلهم السلطات بتهمة نشر مقال يسيء الى الدين الاسلامي الحنيف.
واعتبرت اللجنة ان الصحافيين اصبحوا مرتدّين عن الاسلام مما يوجب اصدار حكم القضاء الشرعي، فيما القضية عالقة امام محكمة امن الدولة التي اوقفت الصحافيين الثلاثة واغلقت صحيفة "الهلال" التي نشرت المقال الى اجل غير محدد.
وكان احد اعضاء "التجمع والاصلاح اليمني"، هو طالب سابق في معهد ديني تابع له، قد اغتال اخيرا جار الله عمر، الامين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني، خلال مؤتمر التجمع بالذات، بعد ان تعاهد مع رفاق له في خلية واحدة، على تطهير اليمن من الكفار والعلمانيين (وكللت مهمتهم بمقتلة الاطباء في مستشفى جبلة بعد ان امضى هؤلاء في خدمته ما يزيد عن ربع قرن).
وبالامس القريب، كاد اغتيال ضابط امن كبير في غزة على يد مجموعة قريبة من "حماس"، ان يتسبب في اشعال نار فتنة في القطاع بين حركة المقاومة الاسلامية و"فتح"، بعد ان اعتبرت "حماس" الجريمة بمثابة حادث ثأري ورفضت ادانته او اعتقال الفاعلين على خلفية ذريعية لامست الاعتبارات الشرعية آخذة بصدق الدوافع.
وفي لبنان، تعلو احتجاجات اوساط "الجماعة الاسلامية" على سوء معاملة منفذي مجزرة الضنية المعتقلين منذ سنتين، مستعجلة الحكم ببراءتهم على قاعدة ان فعلتهم، التي طاولت ابرياء وعناصر عسكرية على السواء، مردها تألمهم من الاوضاع المعيشية السائدة والظلم اللاحق بالمتدينين وهم ضحية مكيدة غايتها النيل من الصحوة الاسلامية. ويترافق ذلك مع اقدام احد المجندين على محاولة تصفية رفاق له وهم نيام، فنال من احدهم واخفق في اتمام مجزرة كادت تودي بجنود خمسة منهم.
ابعد من المكان يشير تتبع الاحداث بلا جدال الى رابط وثيق يلفها جميعا، ويجعل منها تعبيرات لمنهج متكامل الابعاد والاهداف.
فالمشكلة اساسا هي في المرجعية وما تحمله هذه الاحداث من منطق دفين ابعد من التجليات المباشرة، الدموية منها والمأسوية في آن واحد.
والخيط الجامع بين تلاوينها واختلافها هو قيام المنطق الديني في منزلة الغلبة على ما دونه من قوانين وضعية ومؤسسات مدنية وما ارتضي على تسميته بشرعية الدولة المعاصرة وآلياتها.
فبعيدا عن السببية التي قام عليها القانون المعاصر، منذ زمن اليونان والرومان، نجد ان التبريرات المساقة انما هدفت لطمس حقيقة الحدث بأبعادها الحالية واعادتها الى عالم هيولي سلفي يستوي في نطاق ما قبل الدولة المعاصرة، ويعيد البحث الى دائرة معيارية لا شاغل لها سوى التمثل بعناوين مجتمعية عالقة في مخيلة الحالمين بعصر ذهبي مفقود، لا قدرة على تقويمه والحكم عليه الا لمن ارتضى الجلوس في قمرة العصور الغابرة قابعا في زوايا التاريخ.
فمحكمة امن الدولة في الاردن، في نظر "الاخوان المسلمين"، لا تفي بالغرض اي انها غير مؤهلة بذاتها للرد على الاثم المرتكب. وما الدعوة لامساك القضاء الشرعي بالمسألة الا رفضا لمنطق الدولة، بمسوغ العامل الديني وما يجيزه من تخط للصلاحية والاهلية القانونية على السواء.
وتصفية جار الله عمر والطاقم الطبي الاميركي في اليمن لا تعدو كونها رد فعل على تعاظم الدعوات العلمانية والتكفيرية (بدليل الطابع التبشيري لنشاطهم)، وليست بحال مسؤولية المرتكب الجرمي واصحابه من حملة الفكر السلفي.
في المقابل، ومن قطر حيث عقد مؤتمر فقهي تجسيدا للانفتاح، صدرت دعوة الشيخ يوسف القرضاوي وهو من رموز الحركة المرموقين الى اعتماد لغة جديدة، ومجانية استخدام تعبير "اهل الذمة" رغم ايجابيته، واستبداله بكلمة "مواطنين"، هذا بعد مضي ثلاثين سنة ونيف على غياب جمال عبد الناصر. كما نصح باستبعاد الخلط العشوائي بين "الكفار" والتشديد على داعمي اسرائيل واصحاب الاهداف العدوانية ضد المسلمين.
ان ثمة مشكلة حقيقية لهذا الطيف الاسلامي تسمية، والسياسي واقعا; وهي تتمثل في اشتباك مع التراث والمعاصرة في آن واحد.
فاشراقات الحضارة الاسلامية ودأبها على التلاقح مع الثقافات الاخرى، اهّلتها طوال قرون احتضان منارات للفنون والثقافة والعلوم، من مختلف الاصقاع والديانات، وزرعت في ارجاء امصارها بواكر صروح مهدت الطريق لقيام المؤسسات الحديثة من مشافٍ وجامعات ومكتبات فضلا عن ارسائها لبنات اساسية في قواعد الجبر والالسنية والموسيقى والحرف الفنية والابداع، والمامها المبكر بأصول الحياة المجتمعية وعلومها بدءا من الكلام الذي رفعته علما الى آداب السلوك، مع عناية موصوفة بالجماليات الى التأريخ والاطلاع على احوال العالم المعروف عبر الرحالة واخبارهم المدونة.
ويكاد هذا التراث، بما عناه وشكّله من نقلة نوعية في مسار البشرية في دار الاسلام وخارجه، ان يغيب كليا عن شواغل الحركات الاسلامية الراهنة ومسلكها الذهني الذي يؤطر مريدها في قمقم التقوقع على الذات، وتجعل مسافة بينه وبين الآخر، سواء أكان شريكا في المواطنة ام اخا في الانتماء الديني، فما بالك من الاغيار البعيدين.
ان تركيز ادبيات هذه الحركات على الامة اطارا وبعدا لكل طرح او موقف، انما يطيح ما آل اليه التاريخ من نشوء دول محددة المعالم تحظى بالمقومات السيادية، وتقر بمنظومة حقوقية كاملة تستلهم تعاليم الشرع مصدرا للعديد من التشريعات وتسترشد بها). فالاعتداد بالامة في كل شأن والاحتكام اليها، والجمع والمساواة بين تحدياتها ومكشلاتها تحمل اعتبارا ضمنيا (ومعلنا احيانا) بأن المعطيات المتمثلة بالدول (مهما بلغ مقدار حداثتها)، هي في الواقع كيانات مصطنعة لا شرعية لها، ولا يعود مصدرها وحاضرها الى تجسد ارادة مواطنيها. وخلاصة هذا الموقف رفض صريح للتاريخ واسقاط العامل الارادي للشعوب عبر العصور، وازدراء بمكوناتها وخصائصها ونضالاتها. وفي كل ذلك تعظيم غير محدود لدور الاستعمار كأنه صانع معجزات، وتنكر مطلق لمسالك التاريخ المعقدة وانكار لحركيته.
ان زوال الامبرطوريات وانهيارها - بما فيها دولة الخلافة الجامعة المتألقة في عصرها - يفهم من خلال العملية التاريخية وصيرورتها لا من منظار كارثي محض; ولا يعوض استحضار ماض مُضيء عن مواجهة حاضر بقدرات وادوات معاصرة.
فالاخفاقات ليست نكبات عارضة حلت بشعوب ومجتمعات بل هي وليدة تآكلها وتراجعها بمقاييس الميحط القاري يوما والكوني منذ زمن غير بعيد. وخلاف ذلك بكاء على الاطلال وعزوف عن مواجهة الحقائق وبيان مكامن الخلل، وعلى وجه اخص محاصرة التاريخانية وتقييد الوعي.
يرفض معظم الحركات الاسلامية (والصحيح مع بعض التفاوت) الحداثة برمتها وكأنها ضرب من "الاستغراب" والاستلاب. ويؤخذ بجريرة هذا النمط ما اصطلح على تسميته النهضة العربية وافكار روادها منذ عصر محمد علي اي بدايات القرن التاسع عشر، من الطهطاوي الى نجيب محفوظ.
ويتناول تقويمها السلبي ما افضت اليه هذه النهضة على كل الصعد، المجتمعي والفكري والسياسي على السواء. وهو يعيد بذور النهضة الى مشارب غربية صرفة ويسبغ عليها نعوت الكفر والغربة عن العادات والتقاليد واعتماد معايير ومفاهيم مادية معادية للقيم الدينية. (مثال: السجال حول حملة بونابرت ودور سامبليون وسائر علماء الآثار الفرعونية)
وكانت السلطنة العثمانية قد شهدت تنازعا مماثلا منذ بدء مرحلة تراجعها في القرن السابع عشر استمر لقرون ثلاثة، على قاعدة رفض التماثل بالغرب او التشبه به، آنذاك كليات تهم وسيقت حملات ضد التيارات الاصلاحية التحديثية، وعرقلت كل محاولة جادة للخروج من نفق العزلة (تناقض المحدثين من عائلة صوكولو في موقع الوزارة والصدارة العظمى مع التيار الديني المحافظ المدعوم من موقع شيخ الاسلام). والتخلف عن اوروبا التي خرجت من عصر التنوير لتشهد ثورة صناعية لا مثيل لها (وتنتج الاستعمار)، فلم تفلح اصلاحات مدحت باشا المتأخرة; وجاء الحكم الحميدي بانغلاقه وبطشه نذير انهيار السلطنة واندثارها، جارفا بدوره خلافة بني عثمان ومحاولات احياء الجامعة الاسلامية على يد الافغاني وسواه.
تصب نقمة الفكر الحركي الاسلامي على "تركيا الفتاة" اللادينية وكأنها اصل الخراب. وينسى القائمون عليه ان طلعت وجمال واجاويد شكلوا الحبات الاخيرة في عنقود السلطنة العثمانية المتهاوية، وهم لم يرتقوا يوما الى مصاف رموز الحداثة، بل كانوا اصدق تعبير عن تزمت طوراني شوفيني بدا لهم (بقبليته ووثنيته وارتداده الى ماضٍ سحيق) وكأنه خشبة خلاص لنزاع امبراطورية اخذت تنقطع اوصالها بعدما استنفذت قدراتها في حروب مضنية غير متكافئة (حتى مع روسيا المتخلفة نسبيا) واسـلمت طاقاتـها الاقتصـاديـة المـتواضعة للغزو الاوروبي الجامح.
ولا تغفر هذه الحركات لاتاتورك علمانيته: تنكرت لتركيا الكمالية المسايرة للشيطان الملحد المتمثل بالثورة البلشفية، لتعيش على احلام الخلافة المدمرة، واستمرت على هذا النحو لتمطر التجربة الناصرية بسهام عدائها المستحكم، وتلفظ جميع التنظيمات السياسية والمقولات الفكرية التي نادت بالقومية والعلمنة قاذفة اياها بتهمة الالحاد والخروج عن الدين. وتبنت موقفا راسخا من كل دعوة خارج اطارها الذاتي، وشمل غضبها المحاولة الفيصلية والتجارب الوحدوية والانظمة التي رفعت الشعارات التحررية، من سوريا الى اليمن، الى ان بلغت التنازع مع آخر حركات التحرر الوطني العاملة في فلسطين.
بيد ان اشتباك هذه الحركات مع الحداثة يبلغ ذروته في مقاربة العالم الفسيح والنظرة اليه والتعامل معه. ففي الوقت الذي يضج العالم بادانة مقولة صراع الحضارات، تعيد هذه الحركات توكيد حتميته بسلبيتها المطلقة ازاء كل ما يجري خارج دائرة الصحوة الاسلامية وتشددها الكلياني في النظرة الى سائر العالم رزمة واحدة من التفسخ والانحلال والعدوانية. فهي، اذ تدعو ظاهرا الى التعايش مع البنى السياسية واعتماد الواقعية في الاعتراف بالتعددية (كما هي الحال في مصر اخيرا والاردن منذ زمن، وتونس والمغرب)، الا ان ذلك لا يتعدى القبول الظرفي ولا ينال من اقتناعاتها الاساسية بشمولية حلها واحاديته، اضف لذلك ان التشكيلات السلفية، وغالبيتها تعتمد العنف مدخلا ووسيلة، انما خرجت من رحمها وما زالت تشاطرها الكثير من نظرتها الى آلاخر ونظامها القيمي ومرجعيتها التاريخية وبحثها عن الحلول في الماضي عوضا عن الحاضر، وهي جميعها تشترك في احتجاجها البنيوي والمظهري والفقهي على كل مرافق الحداثة وادواتها وتجلياتها في ميادين الحياة.
تأنف هذه الحركات جميعها وتأبى الاشارة الى المجتمع المدني والاعتراف بوجوده الكياني رافضة الاقرار بالاختلاف والتنوع داخل الامة، ولاغية في النتيجة الخاصة التاريخية والاقتصادية القائمة في الكيانات السياسية، والفوارق والتفاوت بينها بفعل عامل التاريخ والنشاط البشري. فمركزية القضية الفلسطينية التي غابت طويلا عن ادبياتها بحيث تساوت مع كشمير او البوسنة، تم تظهيرها بتحفظ بالغ (بدليل موقف قادة "حماس" خلال الانتفاضة الاولى) ورافق ذلك اصرار على ربطها "بالمأساة" الشـاملة التـي تـلـف دار الاسـلام واغـراقـها في التـلويـن الدينـي.
ان شراسة الصراع في عصر العولمة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية بات عنوانها احادية القطب الاميركي ونزعته للسيطرة الكونية الشاملة. ولقد سبق ذلك عصر كامل عملت خلاله اجيال على التصدي للاستعمار بصيغته القديمة والحديثة على السواء، وقامت حركات تحررية لفّت العالم الثالث في موازاة نضال الطبقة العاملة والكسبة والمبدعين والرافضة في عقر المتروبولات. وخلال هذه المراحل، لم يسجل حضور فاعل ومميز للحركات الاسلامية من الجزائر الى اندونيسيا رغم ضراوة الصراع. وتزهو هذه الحركات بتصديها للهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة وكأنه اكتشاف حديث من صنعها دون سواها موقوف على امة بعينها فيما القهر والمعاناة يتجاوزان الحدود ويصيبان شعوبا ودولا متنوعة الاديان والاثنيات. والحال ان تضييق رقعة المواجهة واعادتها الى الحقل الديني الصرف انما يربك التواصل النضالي مع الآخرين، ويخرج شعوبا بأكملها من المعادلة، ويلقي الحرم على قطاعات وكم هائل من مناهضي الحرب والعدوانية واستثمار خيرات الارض والشعوب; فسَوق احكام قاطعة على بلدان بأكملها، واسدال الستار على الانجازات الفعلية المحققة في ميادين شتى، انسانية وعلمية وتقنية هي بالنتيجة عائد البشرية جمعاء، مرده ذلك النمط الفكري والاقتناع بحصرية الحقيقة، وحشر جميع الآخرين في عالم الشر خلافا لكل حقيقة وكل معقول، وتصنيف عرقي غير معلن يدمج الشعوب بحكامها ويلغي الفرد والجماعات.
عرفت المسيحية محاكم التفتيش في نطاق الدفاع عن الكثلكة وصحة الدين، وعانى من اضطهادها المسيحيون والمسلمون (واليهود) على السواء، الى ان اسقطت حركة الاصلاح البروتستانتي العديد من احكامها; ثم مزق عصر التنوير وما عرف بالنهضة، نسيج المحرمات الكنسية وادخل البشرية عهد المعارف والعلوم والجمالية والحقوق. ورغم هذا النهوض الهائل والآفاق التي نادى بها، اجتاحت قدرات الثورة الصناعية القارة القديمة لتنهش ارجاء العالم بالتوسع الاستعماري. وقبل ان تدمل جراح الحرب العالمية الاولى قامت الفاشية تهدد شعوبا بأكملها حتى اجهز عليها تحالف سائر الغرب الرأسمالي والاتحاد السوفياتي رغم خلاف الرؤيا والنظم الاجتماعية، الذي حالما ظهر ساطعا طوال فكرة الحرب الباردة.
ولّت محاكم التفتيش دون رجعة; اضحت لغة الحوار وقبول الآخر ومشاركة الحقيقة مدخلا لفهم عالم الحداثة والتلاقح الثقافي والحضاري. سقطت محرمات وانهارت اقتناعات راسخة دون ان تهوي السماء على الارض. ولاشعار آخر، يبدو ان الحركات الاسلامية ما زالت بعيدة عن امتشاق سيف العقلانية واقتفاء اثر الحقيقة النسبية، رأفة بذاتها وبمجتمعاتها، وهي غير الغريبة عن الشهادة والتضحية، لكن تعوزها النظرة الشاملة الى ما حولها والاعتراف بالآخر ندا وشريكا. وهي ان راجعت فلسفتها وفعلت مقتدية بسميح الدين قولا وعملا (وهو ممكن دون المساس باقتناعاتها العقيدية الايمانية)، لوجدت لها مكانا بين من تعايشهم، الاصدقاء منهم والخصوم على السواء. عندئذ تتصالح مع عصرها وزمانها، وتعيد انتاج ابهى ما حمله التراث من قيم ومفاخر
النهار اللبنانية