أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - فاطمة ناعوت - فن الحذر من الآخر














المزيد.....

فن الحذر من الآخر


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5344 - 2016 / 11 / 15 - 18:53
المحور: المجتمع المدني
    


“فن" الحذر من الآخر

حاولتْ أمي سنيّ عمري أن تعلّمني أسرارَ ذاك الفن الصعب. وكان الإخفاقُ حليفَنا. ومع الوقت وتكرار المحاولات والفشل، أدركت أمي بذكائها أن إخفاقي ليس لضعف قدراتي العقلية، بل بسبب عدم اقتناعي بضرورة هذا الفن في حياة كل إنسان. ربما علّمتها تجاربها أن "الآخر هو الجحيم"، كما يُجتزأ من مقولة سارتر، وعلينا الحذر منه، فأرعبها أن ترى طفلتها تضع في الناس كامل ثقتها دون حذر ولا استرابة، فعدلتِ الخطّة ونذرت عمرها في محاولة بث الخوف داخلي من خداع الناس وشرورهم عساي أصدق أن الناس ذئاب لا يجوز أن نكون على سجيتنا معهم كما كنت أفعل في طفولتي ثم صباي ثم شبابي ثم في مراحل نضوجي وحتى اليوم، ودون شك لآخر يوم في عمري.
انتبهت أمي لتلك “المشكلة” في شخصيتي منذ كنت في الصفوف الأولى من المدرسة. ما أن أصل إلى باب العمارة عائدة من المدرسة، حتى أُلقي بحقيبة كتبي لـ "عم عبده" البواب، وأركض لألحق بهذه العجوز أو تلك التي تمشي في الشارع تتوكأ على عصاها حاملةً كيسًا كبيرًا من الورق المقوى تبرز منه عيدان خبز الباجيت الفرنسي وألوان الخضروات والفاكهة. أحمل عنها الكيس وأسير معها حتى أوصلها إلى باب شقتها. كان عجائز اليونانيين والأرمن يسكنون بغزارة شارعنا ومنطقة السرايات بالعباسية. ولسبب ما كنت، ومازلت، أعشق الُمسنين وأضعف أمام ضعفهم. وكلما لمحتُ سيدة عجوزًا أُسارع بحمل حِملها عنها، ويعذبني عدم قدرتي على حمل السيدة نفسها فوق كتفي لأخفف عنها آلام المشي. عم عبده البواب يصعد ليسلّم الحقيبة لأمي قائلا جملته المتكررة كل يوم: “ست فافي رمت الشنطة وجريت تشيل مشتروات العجايز.” وكالعادة تُعنّفه أمي قائلةً: “وليه سبتها تروح يا عم عبده؟“ فيجيبها بالإجابة ذاتها وهو يدير ظهره متجهًا إلى المصعد: “هو فيه حد بيلحقها يا مدام سهير، مانتي عارفة.” أهبط من عمارة السيدة وأركض إلى عمارتنا، ثم أعلو ببصري نحو نوافذ شقتنا، فأجد أمي واقفةً تشير بالإشارة المصرية الشهيرة: (ثلاثة أصابع مفرودة، والإبهام والسبابة معقودان يشكلان دائرة)، يعني علقة سخنة بانتظاري.
وبالفعل. ما أن أدخل البيت حتى أجد وصلة من التوبيخ والنذير وكلمات من قبيل: “مرّة حد هايدبحك، بطّلي تشيلي حاجة لحدّ!” فأعدها تحت التهديد بألا أكرر فعلتي، وأنا أعلم أنني سأكررها. استمرّ حالي في محبّة الناس غير المشروطة، وتصديقي لكل ما يُقال، على فرضية أن "الناس لا يكذبون أبدًا.” وتطوّر خوف أمي عليّ مع تطور الأمر مع سنوات عمري، فأصبحت أُقِلّ في سيارتي الغرباءَ، من المُسنّين والحوامل والمُعوقين، لأوصلهم إلى بيوتهم، فكانت أمي تقصّ من الجرائد مقتطفات من حوادث محزنة للصوص خدّروا أشخاصًا أقلّوهم في سيارتهم بدافع الشفقة، وسرقوا متعلقاتهم أو قتلوهم. ولم أخف. ولم أتعلم "فن الحذر من الآخر". وكنتُ دائمًا أجيب من ينصحني: “هل نجعل الأشرارَ يعلّموننا كراهية الطيبين؟!”
ومن بعد أمي تسلّم زوجي المثقف مشعلَ "التحذير من الناس". سلّمته أمي مع يدي، مسؤولية علاجي من "العبط" كما كانت تسمّيه. “البشر ليسوا حملانًا طيبين. يجب أن تأخذي حذرك منهم.” وكنتُ أجيبهم بأن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته.” ولكن المشكلة أن "إدانته" هذه تثبت بعدما تكون الكارثة قد وقعت. وبالفعل وقعت كوارثُ لا حصر لها. خُدعت كثيرًا، ونُصِب عليّ كثيرًا، وصُدمت في الناس عشرات المرات، ودفعت أثمانًا باهظة مقابل ثقتي المفرطة في بشر لا يستحقون الثقة. وأعلم أن أثمانًا باهظة في انتظاري سأدفعها لأنني بعدُ لم أشأ أن أتعلم أسرار هذا الفن العسر: “فن الحذر من الآخرين". ويبقى السؤال: “هل نسمح للأشرار أن يرسموا لنا خطّة حياتنا، فنحرم الطيبين من حبّنا ومد يد الخير لهم؟!”



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خيانة الأفكار
- ماذا يعني مهرجان الموسيقى العربية؟
- متى المسافرُ يعود؟
- هل نحب؟
- لن تدخلوا الجنة حتى تحابّوا
- شريهان.... العصافير أنبأتنا عن مخبئك!
- حوار مع أبي .... وألحقني بعبادك الصالحين
- سوف يكبرون ويحبّون العالم
- بيان من فاطمة ناعوت بخصوص مؤتمر واشنطن | لماذا يهاجمني بعض أ ...
- الحرفُ يقتل!
- المعادلة المستحيلة ... لا تطفئوا مِشعلها!
- كيف تصير مشهورًا دون تعب؟
- حُرّاس لغتنا الجميلة، وقاتِلوها
- يا ماعت: اخلعي حذاءك في المطار
- صاحبة السعادة تهدينا مذاقاتِ طفولتنا
- سبعُ قبّعات فوق رأسك
- مشروع قومي: ضدّ الطائفية
- حرية التعبير يا حمادااااا
- اخرج م الطابور يا خروف!
- يا ريتها كانت بركت وفطّست العجينة


المزيد.....




- الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة ...
- الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد ...
- الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي ...
- الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - فاطمة ناعوت - فن الحذر من الآخر