|
في رواية ( كل الأسماء ) لساراماغو: البحث عن الذات عبر البحث عن الآخر
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1418 - 2006 / 1 / 2 - 12:03
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يرسم ساراماغو في روايته ( كل الأسماء ) متاهة، لا على غرار ما خطَّ أندريه جيد في رواية ( تيزيه ) من تمويه هندسي، بل من منظور ما فعل كافكا في روايتيه ( المحاكمة ) و ( القصر ) ولا سيما في ( القصر ). يجد بطل كافكا ( ك ) في ( القصر ) نفسه واقعاً في إسار الشبكة العنكبوتية لبيروقراطية صارمة ومبهمة تحاكي سلطة أب جبار أو إله. وطوال الوقت يحاول ( ك ) أن يصل إلى فك لغز ذلك العالم من دون جدوى، فهو يستفسر ولا يقع على إجابات مقنعة، ويستسلم لمساره القدري كأنه مقود بقوة عاتيــة، لا قبــل له بها. وإذا كنا لا نعرف شيئاً عن ماضي ( ك ) كافكا؛ من أين جاء، وكيف عاش حياته قبل وصوله القرية التي عيّن فيها مسّاحاً، فإن ( دون جوزيه ) بطل ( كل الأسماء ) لساراماغو، هو الآخر لا نعرف عن ماضيه شيئاً، فهو يظهر منذ مفتتح الرواية داخل المبنى البيروقراطي المسمى بـ ( المحفوظات العامة للسجل المدني ) موظفاً صغيراً يؤدي عملاً روتينياً محدداً، كما لو أنه جزء من الآلة الرتيبة لتلك المؤسسة. وحتى عن اسمه لا نعرف سوى مقطعه الأول ( جوزيه ) فالراوي إذ يخبرنا في الصفحــة 16 عــــن كنيتيــن له في سجل الولادات الموجود في المحفوظات العامة إحداهما هي كنية أبيه، والثانية هي كنية أمه فإنه لا يعلمنا عنهما والسبب كما يقول؛ (( عندما يُسأل دون جوزيه عن اسمه، أو عندما تتطلب الظروف أن يقدم نفسه، أنا فلان الفلاني، فلن يفيده في شيء النطق بالاسم كاملاً لأن محادثيه لن يحتفظوا في ذاكرتهم إلاّ بالكلمة الأولى، جوزيه، والتي يضيفون بعد ذلك كلمة ـ دون )) ص16. إنه في الخمسين من عمره ولا يتحدث عن طفولة غابرة، ولا عن مراهقة كانت تشعل فيه الرغاب يوماً ما، ولا عن قصة حب، أو حتى عن عائلة كان فرداً فيها.. إنه هكذا، كأنه بلا ذاكرة، أو كأنه يتجنب التذكر، أو لأن الحكاية التي يحبك فصولها عبر سلوك غير مفهوم، بدوافع نكاد نجهلها، لا تبقي له فسحة من وقت أو تفكير كي يقول لنا شيئاً عن حياته قبل أن يصبح موظفاً خاضعاً للقوانين والتقاليد الصارمة التي تتطلبها أو تقتضيها وظيفته في السجل المدني، ولا تكون الحكاية إلاّ حين يسعى لانتهاك تلكم القوانين والتقاليد والتطاول عليها، على الرغم من إيمانه الشديد بجدواها واحترامه إياها كما لو أنها نواميس مقدسة.. إنه يسعى للخروج من إسار الشبكة الرهيبة للقبض على شيء ما، معنى ما، هو أيضاً لا يدري، ما هو، ولماذا عليه المجازفة، أو المغامرة، من أجل كشفها.. إنه يقرر في لحظة ما أن يوسع دائرة فضوله في اكتشاف حيوات الآخرين، هو المغرم بمعرفة بعض تفاصيل حيوات المشاهير من أهل مدينته، إذ يستغل مركزه الوظيفي في السجل المدني ويستنسخ بطاقات أولئك المشاهير، والمصادفة ستلعب دورها الحاسم في الأمر، حين يجلب خمساً من تلك البطاقات إلى منزله ليفاجأ بوجود بطاقة سادسة جاءت خطأ مع البطاقات الخمس، وهي لامرأة مجهولة يقرر البحث عن حياتها، متجاوزاً صرامة القوانين واللوائح البيروقراطية، واضعاً مستقبله المهني بذلك على كف عفريت. و ( دون جوزيه ) شخصية حذرة إلى حد بعيد، وتحسب للاحتمالات حتى تلك التي يمكن أن نطلق عليها صفة الغريبة، لكنها غير مترددة.. إنها تغامر، ربما من أجل إشباع فضول غامض وكاسح، وربما من أجل الخروج من رتابة العمل كما نوهنا آنفاً، أو ربما من أجل التعرف على الذات، أو ربما من أجل الحب. ( دون جوزيه ) في الخمسين وهو لا يتحدث عن الحب.. إنه بلا أصدقاء.. بلا امرأة، ولا يفصح عن حاجته إلى أصدقاء وإلى امرأة حتى يبدو وكأنه مكتف بذاته، وحتى هذا الاكتفاء لا يصمد طويلاً، فها هو يكسر الطوق ( القوانين والتقاليد والنواميس والأعراف ) ويخرج إلى فضاء مختلف غير ذاك الذي تعّود العيش فيه. وبدءاً من هذه اللحظة سنلحظ أن رواية ساراماغو هي رواية بحث.. رواية محاولة البحث عن حياة شخصية أخرى هي شخصية المرأة المجهولة. وهذه الرواية تختلف عن غيرها من روايات البحث لأن الشخصية الباحثة لا تعرف شيئاً عن الشخصية الأخرى التي تبحث عنها إلاّ تلك المعلومات القليلة المدونة في بطاقتها المحفوظة في السجل المدني، ولا نكاد نقع على مسوّغ مقنع وقاطع لمحاولة البحث هذه. وهناك إشارة ترد بشكل عابر في الرواية عن أن ( دون جوزيه ) قد وقع في حب المرأة المجهولة، غير أن هذا أيضاً يضعنا أمام إشكالية أخرى، ولا يمنحنا طمأنينة القناعة. وخلال عملية البحث المضنية التي تعد مغامرة بحق، إذا ما قيس بالحياة الرتيبة التي كان ( دون جوزيه ) يعيشها لا نكاد، أو لا تكاد الشخصية الباحثة تعرف عن حياة الشخصية التي تبحث عنها أشياء كثيرة وقاطعة، وبالمستطاع التأكيد أن عملية البحث قد دلتنا على شخصية ( دون جوزيه ) الباحثة وعمقت معرفتنا بها أكثر مما دلتنا على شخصية المرأة المجهولة التي ظل يبحث عنها هو نفسه ( دون جوزيه ).. أو لعل الوازع اللاواعي لـ ( دون جوزيه ) كان في جوهره السعي باتجاه سبر أغوار الذات عبر البحث عن ( الآخر ). (( لقد كنت أعيش بسلام قبل أن يتسلط هذا الهاجس العقيم على عقلي، البحث عن امرأة لا تعرف حتى أنني موجود )) ص152. يصرح دون جوزيه لنفسه بهذه العبارة التي تكاد تلخص قصة رحلته في البحث عن المرأة المجهولة.. الرحلة التي اختار القيام بها بمحض إرادته، لدافع لا يفهمه، مضحياً بسلامه الذي فقده مستسلما ًلهاجس يصفه بالعقيم، وقد تسلط على عقله، فهو يدرك أن الهاجس عقيم، ويدرك أن المرأة لا تعرف حتى بأنه موجود، لكنه مع ذلك، لا يكف عن المحاولة، فهل تراه يعتقد بأنه ـ في رحلة بحثه ـ إنما يقبض على معنى حياته، أو يمنح حياته معنى وقيمة هي بحاجة ماسة إليهما؟. يتنقل ( دون جوزيه ) من فضاء المجرد إذ تتكدس الأسماء في بطاقات لا تعد ولا تحصى إلى فضاء المشخص حيث العالم في حركته الموّارة وجدله، وحيث المرأة وقد أضحت مع دخول بطاقتها عن طريق الخطأ شقته محل اهتمامه، والعلّة التي ستغير مجرى حياته وإلى الأبد. فالاسم ليس هو الشيء الهام في المسألة وإلاّ لأفصح لنا عنه، ولكن ذات المرأة، بعد أن باتت حقيقة أنها مجهولة، عامل تحفيز وتحريض له، ليغادر اعتيادية حياته وفتورها إلى حرارة المغامرة وإثارتها. وأحياناً نقتنع بأن ( دون جوزيه ) غير معني بالأسباب والمسوغات؛ لماذا هو يبحث عن خفايا حياة المرأة المجهولة، فهو لا يفكر حتى بالالتقاء بها، ولماذا يخوض تجربة هذا الرهان الصعب مع نفسه، ومع القدر ـ أن يعرف أشياء عن المرأة. (( ربما لن أكلمها عندما أجدها أمامي، إذا كانت هذه هي الحال، فلماذا تبحث عنها، لماذا تتحرى عن تفاصيل حياتها، إنني أجمع أوراقاً عن المطران أيضاً ولست مهتماً بالتحدث إليه يوماً، يبدو لي الأمر ضرباً من العبثية، إنها عبثية )) ص80 وحين تموت المرأة لا يكترث كثيراً، ولا يتألم، بيد أنه لا يوقف مسعى البحث عن أحداث حياتها، ولا يضعف فيه الفضول.. إنه يظهر أحياناً وكأنه غير معني حتى بالمعلومات التي يحصل عليها، فهو حين يعثر على بطاقاتها المدرسية بعد اقتحامه في ليلة ممطرة مدرستها القديمة، يضعها هناك في شقته الملحقة بدائرته، ولا يخبرنا ماذا وجد فيها. وفي الأحوال كلها لن يعرف ( دون جوزيه ) نفسه أشياء كثيرة عن المرأة، وما سيعرفه سيضن به علينا ـ نحن معشر قرائه ـ وكذلك فهو لا يحاول أن يسرد علينا حياة متخيلة لها، فتلك المرأة ستبقى مجهولة لنا إلى حد بعيد، مثلما هي مجهولة له.. إن ما سنعرفه بدقة في نهاية المطاف، هو مغامرة ( دون جوزيه ) في البحث عن المرأة، وليس مغامرة المرأة ذاتها في الحياة.
• ( كل الاسماء ) رواية جوزيه ساراماغو.. ترجمة؛ صالح علماني ـ دار المدى للثقافة والنشر ـ سوريا/ دمشق ط1/ 2002.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين كاداريه وساراماغو: أضاليل التاريخ ومناورات الروائي
-
في الذكرى المئوية لولادة سارتر
-
المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف
-
الحوار المتمدن في أفقنا المعرفي
-
الإعلام والعولمة: كيف يحولنا الإعلام؟
-
حوارمع سعد جاسم أجراه بلاسم الضاحي
-
هيرمان الساحر
-
أدب الرحلات والشرق المفترض
-
السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة
-
المثقف وخانق السياسة
-
نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
-
أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
-
إخفاق المثقفين
-
خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
-
الفاشية واللغة المغتصبة
-
الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
-
اغتراب المثقفين
-
في الثرثرة السياسية
-
ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
-
أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|