|
داعش، مرت من هنا
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 5343 - 2016 / 11 / 14 - 13:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل العام 2014، كنّا إذا رغبنا وصف شخص متطرف، أو تنظيم متشدد وصفا دقيقا شاملا كنا نحتاج استخدام عدد كبير من المفردات: متعصب، متزمت، عنيف، إرهابي، إجرامي، تكفيري، إقصائي، انتحاري، ظلامي، عدمي، لاإنساني، كاره للمرأة، عدو للحياة والفرح والجمال، عديم الرحمة، متحجر القلب، مغلق التفكير... اليوم، بوسعنا استخدام مفردة واحدة تغني عن كل هذه الأوصاف، مفردة تلخص وتجمع كل الصفات السلبية: "داعشي".. وهذه ربما إحدى إنجازات "داعش"..
أقامت "داعش" في الموصل سنتين ثقيلتين، ومثلما ظهرت فجأة ستخرج فجأة، وبسرعة غير متوقعة.. لكنها ستترك جرحا غائرا سيحتاج سنين طويلة حتى يلتئم.. وذكريات مريرة، من الصعب أن تمحوها الأيام..
منذ أن اجتاحت قطعان الدواعش أرض الموصل، حتى أخذت تعيث فيها خرابا.. جعلت أهلها يعيشون أسوأ مخاوفهم.. سلبتهم أمنهم وحريتهم وكرامتهم، قسمتهم حسب درجات إيمانهم، أخرجت المسيحيين من المدينة، بعد أن سلبتهم بيوتهم وأموالهم، ثم طردتهم إلى الصحراء.. ثم اعتدت على اليزيديين، فقتلت رجالهم، وسبت نساءهم وأطفالهم.. ومن تمكن من الفرار لم يجد أمامه سوى البراري ليبيت في العراء.. اقترفت واحدة من أسوأ عمليات التطهير العرقي والهندسة الديمغرافية..
أعادت "داعش" زمن الغنائم والجزية والسبي والرق.. وافتتحت أسواق النخاسة.. وجعلتنا نشاهد بثا مباشرا لمقاطع حية من زمن الجاهلية والغزوات، ولكن بأدوات حديثة.. ارتكبت عشرات المجازر التي راح ضحيتها عشرات الآلاف ومنهم نساء وأطفال.. اخترعت أساليب جديدة في الإعدامات حرقاً، وغرقا، وسحلاً، وتفتيتا، وغليا بالماء، وإذابة بالحوامض، ورميا عن شواهق العمارات.. والمثير للدهشة أنها وثقت وصورت كل إعداماتها ومذابحها..
هدمت كل الأضرحة والمقامات، وحطمت الآثار ونهبت المتاحف، ودمرت كل التحف الفنية والمعمارية التي مثلت تاريخ وحضارة العراق، حرقت مكتبة الموصل، بكل مخطوطاتها ولفائفها وكتبها الثمينة.. وأبقت على كتب بن تيمية.. خربت وهدمت مدنا وبلدات بناها أهلها عبر آلاف السنين.. نشرت الخوف والذعر أينما حلت، وأينما هددت بأن تحل، اقترن اسمها بالإرهاب، والقتل، والتعذيب.. وصارت كابوسا مرعبا.. ليس للأطفال وحسب، بل ولكل العالم.. حتى صار مصطلح "الدولة الإسلامية" في أذهان الناس (مسلمين وغير مسلمين) كابوسا بحد ذاته.. وشوهت كل الصور الجميلة التي كانت معروفة عن الإسلام.. بل وجعلت بغيّها العالم يرى في الإسلام والإرهاب وجهين لعملة واحدة..
اقتصر تطبيقها "للشريعة" على قطع الأيدي، وجلد الناس في الأماكن العامة، والرجم، والإعدامات الفظيعة، وفرض النقاب على النساء، واللحى على الرجال، ونشر التخلف والجهل، وتحريم كل أشكال الفرح والاحتفالات، وتجريم الفنون والآداب.. زعمت أنها تمثل "السنَّة"، وتدافع عنهم، وفي حقيقة الأمر ثلاثة أرباع ضحاياها من "السنَّة".. ليست "داعش" من أسَّس للطائفية في العراق وسورية، ولا هي أول من نشرتها؛ لكنها عززتها، وأذكت نيرانها..
استعملتها دول المنطقة بالتناوب: إيران، تركيا، إسرائيل، أمريكا، نظام الأسد، نظام المالكي، روسيا.. لتكريس الطائفية، وتشويه الثورة السورية وتأخير انتصارها، وإجهاض أي محاولة شعبية عراقية للنهوض ضد الحكومة، أو ضد الفساد.. لتهيئة مخططات التقسيم وتعزيز فرص نجاحها.. لإدامة مسلسل العنف والتقتيل، وتخريب العراق وسورية، وتدمير مستقبلهما..
صحيح أن جميع أطراف الصراع في المنطقة أجرمت، وارتكبت مذابح وأعمال تطهير عرقي.. لكن "داعش" تفوقت عليها بالعدد والنوعية.. وخلافا للآخرين كانت تتباهى بجرائمها (لنشر الرعب) وتوثقها بأحدث تقنيات التصوير والإخراج، والفرق الآخر أنها كانت تفتتح عمليات الإعدام والقتل الوحشي بآيات من القرآن الكريم، ثم تتلو بيانا محكم اللغة، يستند إلى فتاوى فقهية مستمدة من كتب التراث.. بمعنى أن "داعش" تدعي أنها تمثل الإسلام الحقيقي بصورته الأولية.. وهذا أخطر ما في الموضوع.. لذلك، فإن كل الذين آمنوا بها، واتبعوها، والتحقوا بتنظيمها من مختلف أنحاء العالم هم من الجهلة وشذاذ الآفاق، والمغامرين، الذين تتملكهم نزعات السادية والعنف والإجرام.. بينما أدانها كل العقلاء من مسلمين وغير مسلمين..
"داعش" مثّلت مرحلة بائسة ومخيفة من تاريخ العراق وسورية، أتت نتاج فساد النظام، والقمع السلطوي، وبرعاية الاحتلال الأمريكي، في زمن الوباء الطائفي.. حتى الحرب عليها جاءت في سياق الفساد والطائفية والتوحش.. فكل الأطراف التي شنت عليها الحرب، وأرادت إخراجها من الموصل لا تقل عنها إجراما وسوءاً.. في الأيام الأخيرة شهدنا مناظر مروعة من أشكال التعذيب والإعدامات من قبل متطرفين من الحشد الشعبي، وحتى من الجيش العراقي نفسه.. مشاهد تدل على مستوى الانحطاط الذي وصلنا إليه في زمن "داعش"؛ زمن الطائفية والغلو والتطرف..
وكما أتت في سياق منظومة الفساد والطائفية؛ فإن رحيلها سيؤسس لمرحلة جديدة من الاقتتال الداخلي والإرهاب.. ربما أكثر بؤسا.. "داعش" لعنة حلت على المنطقة.. لن نتخلص منها في المدى المنظور.. ستخرج "داعش" كليا من المنطقة، ولكن بعد أن تخلف وراءها أكواما من الخراب والجماجم والأشلاء..
ختاما؛ أغلب الخطاب الإعلامي يتحدث عن "داعش" بصيغة المذكر، هذه ليست مهمة، لأن "داعش" تتخذ عشرات الأسماء الأخرى: النصرة، القاعدة، جيش الإسلام، ...إلخ.. داعش فكر ونهج متطرف.. وليس مجرد تنظيم صنعته أمريكا، أو إيران.. أو أيٍ كان..
على أمل أن تتعلم هذه الأمة درسا من تجاربها البائسة والدموية..
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رحلة الحياة .. البدايات، والنهايات..
-
الموصل.. المعركة الأشرس والأخطر
-
المرأة والرجل.. ورد الاعتبار
-
المجاهدون الأجانب
-
هيلاري، الحرب والأنوثة
-
حقيقة داعش
-
تسع سنوات من حكم حماس
-
موجات متواصلة من العنف الطائفي
-
تاريخنا المؤدب
-
ماذا يريد راشد الغنوشي ؟!
-
عمدة لندن الجديد
-
في حنان الحرب على حلب
-
حفلات التوبة في مدارس غزة
-
دوافع العمليات الانتحارية
-
خطوط عريضة لإستراتيجية فلسطينية بديلة
-
لماذا يكرهون عيد الحب؟
-
ازدراء الأديان
-
إيران، عدو أم صديق ؟ وما لا نعرفه عن إيران
-
طيار إيراني
-
تقرير التنمية البشرية لعام 2015 والأرقام الصادمة
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|