حين عاد القتلة من حفلة الدم الوحشية بعد دفن جثة الزعيم عبد الكريم قاسم في ضواحي ديالى، فوجئوا باختفاء الجثة، وأعلنت يومها حالة الطوارئ من قبل دولة كبرى بمقاييس البلدان النامية بحثا عن جثة هاربة للزعيم الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يرفض حوار السلاح، هو المحارب النظيف، الذي لم ينجب أطفالا بعد منتصف الليل، ولم يبح بسر صديق، ولم يخن أحدا، كما فعل الشباطيون، و العقداء الغجر، وفرسان الفصاحة والوصم والوشاية.
وحين ألقوه في النهر كي لا يصير رمزا، لم يكونوا يدركون لسذاجتهم أنهم صنعوا رمزيا أبديا، وأن المخيلة العراقية منذ أقدم العصور تربط بين الزعيم الغائب وبين الأنهار المقدسة، وأن أكثر حالات الانتظار قداسة عند العراقيين تلك التي تتم عند حافات الأنهار في مواكب احتفالية من الشموع والفرح والقداسة والأمل،وأن غياب جثة القائد في الأساطير والحكايات العراقية يجعلها حاضرة أبدا، ويخلق فكرة الانتظار المثمرة القادمة من الموروث الديني المحتفل بفكرة المنقذ والتغيير من انتظار المسيح وحتى انتظار المهدي، وهذا الأمل الايجابي بالعودة هو الذي حول الزعيم الغائب إلى رمز، كما تحول قتلته إلى روث في ذاكرة الناس، ولعنة عبر الأجيال كلما جاع طفل أو ناحت عراقية على ضفاف الفرات من الذل كناقة تائهة.
من قتل عبد الكريم قاسم؟
إن أية محاكمة منصفة تبحث من جديد عن قتلة عبد الكريم قاسم، لا تستهدف قطعا البحث في تفاصيل قضية جنائية، بل تستهدف إعادة الاعتبار لإنسان انتهكت حرمته حيا وميتا هو الذي صان حرمات حتى الذين حاولوا قتله، وتستهدف هذه المحاكمة محاكمة مرحلة، وإنصاف التاريخ قبل الرجل.
إن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يحكم العراق لوحده لحظة واحدة، فحين دخل القصر الرئاسي( وكان ينام عند شقيقه حامد مثل أي جندي في وزارة الدفاع!) ليحكم وجد في انتظاره جوقة منفرة من الزعماء والحالمين والفاشلين، وتحمل بصبر أسطوري تلك المرحلة العجيبة من الضباط الانقلابيين الذين قتل أغلبهم بعد ذلك على أبواب دار الإذاعة أو سراديب الأمن أو علب الليل في صراعات حول السلطة، وماتوا وعيونهم مفتوحة مثل دجاج المزابل على هذا الكرسي المشؤوم الذي صار يلاحقنا ويطاردنا في كل مكان حتى هذه الساعات العصيبة.
وقد يكون الزعيم هو الرئيس الأخير الذي يخاصمه وزراؤه في الليل، فيزروهم في النهار، وهو المسؤول العراقي الوحيد عبر التاريخ الذي مات ( دونما جاه أو قصور أو أطيان أو حتى ملابس مدنية)، وهو الرئيس الوحيد الذي حاول عبد السلام عارف أن يغتاله وجها لوجه بعد حوار ساخن في وزارة الدفاع، ورفع في وجه الزعيم مسدسه بحضور فؤاد عارف الذي اندفع نحو عبد السلام مع الزعيم وجرداه من مسدسه، وجلس في هذا الوقت معه يعاتبه عتاب صديق لصديق وتوسل إليه أن يقبل مؤقتا منصب سفير.
واليوم لا أحد يحلم أن يرفع يده للهتاف عند مرور الدكتاتور وليس رفع المسدس في وجهه ويظل هو أو عائلته أو بلدته على وجه الأرض.
اغتيال رجل أم مرحلة؟
إذا كان سهلا اغتيال الرجل بحفنة رصاص على جدار فهل سيكون اغتيال التاريخ بنفس السهولة؟
وإذا طمست جثة الضحية وألقيت في النهر، فهل سيكون سهلا طمس حقبة من التاريخ؟
ايهما أكثر خطورة: اغتيال الرجل أم اغتيال العدالة؟
وكيف نفرق، إذا كان لابد من ذلك، بين من يعدم رجلا وبين من يعدم مرحلة؟
وإذا كان قتل الزعيم قد أوقف مرحلة، وأنحرف المسار نحو طرق جهنمية مهد لصعود أقذر فاشية في تاريخ الأرض منذ خروج جدنا آدم من الجنة عاريا إلى هذه البرية التي تناسل فيها الشرطة والثكنات والسجون وكلاب الليل والنهار، أفلا يؤدي تشويه مرحلة إلى تشويه التاريخ والبشر والمستقبل كما حصل من بعد؟
وهل حقا أن قضية الزعيم هي قضية بحث في ملفات صارت في ذمة التاريخ أم أنها قضية الأمس واليوم والغد؟ وإذا كان كارل ماركس يبحث في انتفاضة الرعيان في أوروبا قبل مئات السنوات، والمؤرخ توينبي يدرس تاريخ الحضارات، وكلود ليفي شتراوس تاريخ الأقوام البدائية والتشكيلات العرقية الأولى، فلماذا يتحول البحث عن قضية الزعيم عبد الكريم إلى قضية ملف في ذمة التاريخ؟
وهل التاريخ العراقي على هذه الدرجة من النظافة الأخلاقية بحيث أن إثارة قضية أو جريمة من هذا النوع ستخدش الصورة النقية لتاريخ تأسس بحفر أنفاق من الدم حتى اليوم؟ أم أن فتح ملفات هذه الجريمة ستقود إلى كشف جرائم أكبر مخفية ومنسية ومطمورة ومسكوت عنها؟ وماذا نقول لأولادنا غدا حين يسألوننا عن تاريخهم الجديد؟
زعيم مجنون حقا!
الذي قالوا والذين قبلوا دون فحص أو شك أو سؤال أو دليل أو برهان بتهمة جنون الزعيم كانوا قد صدقوا حقيقية وليس فرية.
هذا الرجل مجنون حقا.
والدليل؟
من يحكم وطنا في تلك الحقبة لا يمكن أن يكون بشرا عاديا أو طبيعيا.
من يتحمل أعباء تلك المرحلة التي نهض بها الزعيم، كان لا بد أن يكون زعيما بمقاييس لا يفهما الرجال الصغار، الرجال الوشاة، الرجال الجوف/الرجال الدمى/ الرجال المخانيث/ الرجال الخصيان/ الرجال الكلاب، الرجال الشرطة.
والذين كتبوا عن سيرة هذا الرجل كانوا في اغلبهم من نوع النفاية.
فهل يجوز أن تكتب مزبلة سيرة حياة شرفة؟
هل يجوز حقا أن تكتب جيفة سيرة حياة الورد؟
وهل يحق لصرصور أن يكتب تاريخ فراشة؟
من يحاكم من؟
ليس من حقنا أبدا، لا في الأمس ولا اليوم ولا غدا، أن نطلب من الرجل الذي طاردناه حتى في سرير نومه ـ كما يذكر حسن العلوي في كتاب رؤية ما بعد العشرين ـ وجعلناه يحمل أحذيته وكتبه وينتقل من منزل شقيقه إلى وزارة الدفاع وهو يحمل سريره العسكري السفري بيده كأي مؤجر أعزل ووحيد، ليس من حقنا أن نحاسبه كيف حكم ولماذا حكم وماذا فعل.
ولعل حادثة وضع منشورات تحت وسادته من قبل طفل لوحدها تضع الزعيم في مرتبة المتصوفة الكبار والرهبان الذين لا تتكرر ولادتهم مرة أخرى.
وإذا كان للرجل أخطاء فهي أخطاء التاريخ والأحزاب. وكان الزعيم كبيرا في ضميره وفي أفعاله وفي أخطائه لأنه ولد وعاش وحكم في حقبة تحول ومنعطف.
في أي مكان في العالم يكون فيه بيت الرئيس مفتوحا كمقهى أو ملعب للأطفال؟ وفي أي زمان يدخل رئيس دولة إلى غرفة نومه ليجد تحت وسادته منشورات معادية ولا يفتح تحقيقا ويترك المنزل بهدوء بعد أن يعتذر من الجيران؟!
وكان لحاكم غيره أن يفتح أنفاقا من الدم على هتاف أو مزحة أو ظن أو رصاصة أو حلم.
يروي حسن العلوي هذه الحادثة التي كان شاهدا فيها ومدبرا لها:
( تقرر وضع المناشير في غرفة عبد الكريم قاسم بواسطة أحد الأطفال الذين اعتادوا الدخول والخروج إلى بيت حامد قاسم(؟!) ودسها تحت سرير الزعيم. ولدى دخول الزعيم إلى غرفته فوجئ بحزمة مناشير مخبأة تحت الفراش. لم نلاحظ ردة فعل ضد القائمين بهذا العمل وهم معروفون لديه ولدى عائلته(؟!) ...).
السر الخفي ولعبة التوازنات
أي نوع من الأعباء والقوى تحمل عبد الكريم قاسم؟ وما هي حقيقة لعبة التوازنات؟ وما هو السر الخفي وراء عدم إعلان دستور دائم للبلاد؟ ثم.... من قتل الزعيم؟
لا نريد الدخول في تفاصيل التهم الكثيرة التي ألصقت بالزعيم والتي لم تصمد أمام امتحان الزمن وتساقطت كثياب العاهرات في غرف ثوار الأزمنة الحديثة، أو انكشفت كوجوه مناضلي عصر الدبابة الأمريكية الذين وجدوا في الحرب منقذا من العاهة والنسيان والموت والخرف كتوابيت تضع مساحيق تجميل أمام جيل جديد يحتقرها بكل أنواع الاحتقار اليوم وغدا.
لكننا سنتوقف عند بعض المحطات الرئيسة التي أغفلت عمدا أو سهوا أو جهلا.
لكن اسمحوا لي أن أثبت سطورا كتبها الشاعر المرحوم نزار قباني عن الرئيس الياس سركيس مع الفارق بين الرجلين والمرحلتين.
يقول نزار:
( من الظلم أن نطلب من الرئيس سركيس أن يعطينا حسابا تفصيليا عما فعله خلال عام من رئاسته.
لأننا جميعا لم نعطه الفرصة ليفعل شيئا.
ومن الظلم أن نسأله: كيف حكم؟
لأننا جميعا تآمرنا عليه حتى لا يحكم.
تظاهرنا بأننا معه ولم نكن في النهاية إلا مع أنفسنا.
هو غني بضميره القومي وقوي بتماسك عوالمه الداخلية، لا بهشاشة عوالمنا.
هو لا يمتلك موهبة التمثيل، ولا يوافق على توظيف أحزانه كراقصات في المسرح الاستعراضي العربي).
وهذه هي بعض خصال الزعيم عبد الكريم وأكبر بما لا يقاس. كان وحيدا في مواجهة عواصف بدأت تهب عليه من كل مكان ولم يجد إلى جانبه زوجة أو صديقا لبثه أحزانه التي هي أحزاننا، وحين كان يعود إلى غرفته يجدنا تحت سريره ننغص عليه نومه حتى انبثقت لنا، بعد سنوات من قتل الزعيم، خرافة الدم على صورة طاغية من الصحراء كان نائما في الوعي الجماعي وفي الذاكرة العامة عبر قرون، ليسوقنا كالخراف إلى مصير مجهول ويظل مجهولا حتى ساعات القيامة القادمة.
أيقظنا على أنفسنا جنون الموت.
كنا نريد أن نصنع من الزعيم قاتلا أو مغرورا أو طاغية وكان يريد أن يحتفظ بحبه للفقراء وتصوفه بهم وبساطته في العيش التي وصلت مستوى الجمال غير المدرك لنفسه.
يكرر جرجيس فتح الله في تعليقه على كتاب( العراق في عهد قاسم) تأليف أوريل دان بأن الجماهير تواجه الزعيم أينما حل بصيحات حادة:
(ـ عبد الكريم اعدم، اعدم!).
وجرجيس نفسه استعار الاسطورة الصينية التي يتلخص معناها بأن الحكومة الجائرة أكثر خطورة من النمر في محاولة لوصف حكم عبد الكريم قاسم.
وهذا أمر غريب من رجل قانون يعرف قبل غيره وأفضل من غيره انه لا يحق لأحد في هذا العالم أن يجعل من نفسه الحاكم والنص والقضية والشاهد الوحيد في النفي والإثبات، وهو القاعة والجمهور، والقرار، والقانون، والمحامي، دون إعطاء المتهم أو من ينوب عنه فرصة الدفاع عن النفس وشرح الظروف.
ومنطق السيد جرجيس ليس هو هنا منطق رجل قانون قضى عمره في المحاماة، بل هو يتحدث بعقلية سياسي عراقي قادم من أزمنة المحاكمات السياسية التي تشطب وتلغي وتوصم وتدين وتجرم الناس وهم في حالة نوم دونما حاجة إلى دليل أو برهان أو ملف أو شهود أو دفاع ...الخ...
والمسافة كبيرة وهي هوّة بين الاتهام السياسي الذي لا قيمة له وبين الاتهام القانوني القائم على عناصر المحاكمات كما عرفها تاريخ الإنسان في صورها الصحيحة.
تاريخ وأحزاب وأعاصير
هل واجه الزعيم قوى سياسية وأحزابا فقط أم واجه قوانينا تاريخية ومرحلة انهيار قيم وانفلات رغبات في مرحلة تحوّل ومنعطف وتدهور منظومة معايير اجتماعية وثقافية سائدة وتفسخ اجتماعي سياسي و أخلاقي؟
في مثل هذا النوع من المراحل العاصفة التي تهب على المجتمعات خلال أو بعد الحروب أو التي تعقب الكوارث الطبيعية أو الثورات، والهزات الاجتماعية الكبرى، يحصل ما يسميه علماء الاجتماع بحالة فقدان المعايير Normlessness.
وتؤدي هذه الحالة إلى ضرب من العدمية السياسية والاخلاقية وانهيار منظومة القيم والمثل والأعراف وفقدان المقاييس، وفي مثل هذه الظروف الزلزالية لا تتأسس القوانين أو الدساتير لأن الفورة الاجتماعية في ذروتها ولم تستقر بعد ولأن الدساتير التي توضع في مثل هذه الأجواء لا تعكس بصورة دقيقة رغبات وقيم وآمال وحقوق الناس ومثلهم وتقاليدهم التي تكون في حالة إزاحة وتراجع وصراع قيم ومصالح وطبقات جديدة وفئات تتقدم وأخرى تتراجع ونظام أفكار وأخلاق يصعد في مشهد عنف تاريخي جبار.
ولقد اثبت الزعيم عبد الكريم بعدم سنه دستور دائم للبلاد في تلك الظروف العاصفة حكمة وصواب المشرّع، لأننا لا نستطيع أن نقيم حفلا موسيقا هادئا وحالما على ظهور التماسيح.
كان يريد أن يهدأ التاريخ من عربدته وتتوقف قوى الردح ويراهن على الأيام ولم يكن يراوغ لأن الدساتير تعكس مرحلة الاستقرار النسبي لمجتمع ما في حقبة ما، ولا توجد أمة شرعت دستورها في ظروف الاحتراب ومناخات الحرب الاهلية المستترة التي مهدت للخراب القائم اليوم وبعد اليوم.
نحن نحصد زرعنا وخسة أحزابنا وسخف معاييرنا.
كان المسرح السياسي يومها ولا يزال هو مسرح دعارة بامتياز. وكان عبد الكريم قاسم أشبه براهب وجد نفسه، كما في رواية الإخوة الأعداء لكازنتزاكي، في وسط تقاطع نيران.
هناك من يعتقد إن إعدامات مؤامرة الشواف كانت ردة فعل على تحديات وضعها في وجه الزعيم خصمه جمال عبد الناصر. ولكني أتساءل ماذا كان سيفعله الرئيس الفرنسي شيراك أو الرئيس التركي أو الهندي أو الأمريكي اليوم أو غيرهم لو أن عقداءً في الجيش أغاروا على قصر الأليزيه أو البنتاغون مثلا وقصفوه بالصواريخ في تمرد عسكري مكشوف يهدد بحرب أهلية ضارية، وكان من نتيجته مئات أو آلاف الضحايا؟.
إن المتهمين في هذه المحاولة حصلوا لأول مرة وآخر مرة في تاريخ العراق على فرصة نادرة في الدفاع عن أنفسهم علنا أمام الناس من شاشة التلفاز، بل أن الطبقجلي في دفاعه عن نفسه قد كسب تعاطف قطاعات واسعة من الشعب، وهذا نادر في ظروف محاكمة علنية فريدة من نوعها في تاريخ العراق حيث تستطيع أسرة المتهم رؤيته وهو يدافع عن نفسه، في حين أن المتهم اليوم يختفي ليس هو فحسب، بل حتى أسرته وبعض أفراد عشيرته ومعارفه وجيرانه وكلبه وبقراته وقريته وغليونه وصوره أيام العرس ومزرعته وقاضيه إذا تعاطف معه ونصف عدد أصدقائه المقربين ومن صادفه في ذلك الصباح المشؤوم ومن دفع أجرته أو ثمن شايه أو حلق رأسه وحتى من تشاجر معه في لحظة القبض عليه.
وكان أوريل دان منصفا وحكيما حين قال في كتابه المذكور أن الزعيم مارس الحد الأدنى من العنف في مرحلة تحتمل الكثير.
تحملها الزعيم بصبر كبير عملاق هو الأعزل والوحيد لأنه كان يعرف بأنه ذاهب إلى الأبدية، وهم ذاهبون إلى المزبلة كما حدث في كل مكان وفي كل زمان.
كيف يستطيع رجل مهما كانت قدرته في مرحلة عاصفة وفي مناخ دولي ملتبس وعدائي، أن يواجه قوانين تاريخية ومشاكل يعود بعضها إلى مئات السنين ويوقف غليان التاريخ في أعنف لحظاته؟.
لكن هذا الرجل المشتبك في صراع أسطوري كأحد آلهة الإغريق في صمت خرافي، وفي كبرياء حزين، هو كبرياء رجال التاريخ الكبار، وحزن المآذن المنعزلة، والكاتدرائيات الكبرى المهجورة في العشب والصخور والصمت والنجوم، حين يعود إلى منزله من معارك التاريخ وأقداره ليرتاح يجدنا حرمانه حتى من النوم الهادئ على سرير الهاوية ودمع الرجال العائدين من أقدار كبيرة.
إن احتلال وسادة رجل بقامة الزعيم وحرمانه من آخر مساحة للدموع السرية لرجل أعزل وأحد أبطال الملاحم الكبرى هو عمل جبان بكل مقاييس الأرض.
وعلينا أن ندفع ثمن هذا العقوق.
وثمن صمتنا على عقر ناقة صالح.
ودفعناه وسندفع ما هو أمر قريبا.
رجل وتاريخ الغوغاء
التهم الأخرى التي تهاوت هي لعبة التوازنات:
قال له الإسلاميون: الشيوعية كفر والحاد. أعدمهم يا سيادة الزعيم.
هزا رأسه باسما وصمت.
قال له الأكراد: نريد عودة كل العصافير الكردية المشردة وتعيد لنا الخضرة إلى كوردستان وتعيد لنا موتانا وزرقة السماء.
هز رأسه باسما وصمت.
قال له القوميون: نريد وحدة عربية فورية. اعدم الشعوبين يا سيادة الزعيم.
هز رأسه باسما وصمت.
قال له الشيوعيون: ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة. اعدم، اعدم ياكريم.
هز رأسه باسما وصمت.
قال له الليبراليون: دستور عاجل الآن، الآن، وليس غدا كما كان يصرخ الجادرجي.
هزا رأسه باسما وصمت.
قال له كبار السن: أرسلنا يا سيادة الزعيم إلى لندن. اعد إلينا فحولتنا.
هز رأسه باسما وصمت.
قال له كبار قادة الجيش: لا برلمان ولا دستور ولا حريات ولا بطيخ. أعلن الأحكام العرفية حالا يا سيادة الزعيم.
هز رأسه باسما وصمت.
قال له شيوخ العشائر: ذهبت القيم والأخلاق ودب الفساد. أنقذنا يا سيادة الزعيم.
هز رأسه باسما وصمت.
وحينما خرجوا جميعا وظل وحيدا بحث عن صديق يبثه أحزانه الخاصة فلم يجد غير ضميره يعانقه وأجهش في بكاء الآلهة.وهل كانت القرارات تنساب عبر قنواتها أم تعطل في الطريق خلال مرورها بمراكز قوى متعددة ومعادية للرجل؟ وهل كان شركاء الزعيم صباح يوم الثورة مؤهلين حقا لقيادة دولة أم أن مهمتهم انتهت في ذلك الصباح؟ وهل كان الرجل يحكم بمفرده؟
صباح يوم الجريمة
صباح يوم الجريمة ( 8 شباط) يذهب عقيد إلى معسكر الرشيد ويطلب من آمر اللواء تسليمه اللواء المدرع ويخبره بأن أمرا صدر بذلك من الانقلابيين ولم يكن ذلك صحيحا.
نفس الصباح: يذهب عبد السلام عارف وهو غير مؤهل لقيادة ليس دولة فحسب، بل قطيع فئران تجارب، إلى العنصري أحمد حسن البكر وكانا متقاعدين، ويذهبان بكل سهولة إلى معسكر أبو غريب والوشاش (لاقتراض!) سرية دبابات تندفع بهم إلى وزارة الدفاع في وليمة الموت والغدر والجبن.
هذه الحوادث تدل بوضوح صارخ على أن جريمة قتل الزعيم كانت علنية ومكشوفة وأن أحدا لم يتحرك لمنعها وهي تشبه جريمة قتل نصار في رواية غابريل ماركيز( حكاية موت معلن) التي كانت علنية معروفة ومتوقعة من البلدة لكن أحدا لم يحذر نصار حتى قتل أمام الناس الذين كانوا كلهم يعرفون ساعة القتل إلا نصّار وحده.
أخيرا من قتل الزعيم؟
نحن جميعا شركاء في قتله العلني والمكشوف.
سواء الذين أطلقوا عليه الرصاص أو الذين أطلقوا عليه الدموع.
أو الذين صمتوا ولم يتحركوا لمنعها.
أو الذين حاولوا أمس واليوم تشويه الرجل والمرحلة.
أيها الزعيم،
أنت ترقد قي قاع النهر ممزوجا بطين وأساطير الأنهار المقدسة.
وسنظل ننتظرك نحن الأبناء التعساء، أبناء الصرايف، الذين أحببتهم كثيرا، على ضفاف الأنهار.
وعندما ستخرج علينا يوما من النهر،
سنفرش قمصان اليتامى تحت قدميك،
لكي تمر أيها الصديق.