انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي
الأسباب والظروف التي ومهدت ،وساعدت على الانقلاب :
لم تكد تمضِ أيام معدودة على نجاح ثورة الرابع عشر من تموز حتى دبت الخلافات بين الأحزاب والقوى السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني ، واللجنة العليا لحركة الضباط الاحرار مما أدى الى انتكاسة كبرى وخطيرة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية بسبب لجوء القوى القومية وحزب البعث إلى رفع شعارات الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة ، على الرغم من عدم وجود اتفاق مسبق لدى سائر الأحزاب الوطنية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني ، ولا اللجنة العليا للضباط الأحرار التي قادت ثور14 تموز الخالدة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ، والإيعاز الى جماهيرهم للنزول الى الشارع والتظاهر لغرض فرض شعاراتهم تلك .
ولم تكن تلك القوى تهدف حقاً الى تحقيق الوحدة مع العربية المتحدة ، وأنما كانت تهدف فقط الى سلب الثورة ، مستخدمين أسم الرئيس عبد الناصر سلماً للوثوب الى السلطة ، وهذا ما أثبته الأيام التالية بعد اقلابهم الفاشي في الثامن شباط 1963 ، حيث تنكر حزب البعث لشعاراته تلك ، ولم يحقق الوحدة فحسب ، بل بدأ الحزب بمهاجمة عبد الناصر .
كما أن القوى القومية بزعامة العقيد عبد السلام عارف الذي قاد انقلاب 18تشرين 63 ضد حزب البعث ، تنكرت هي الأخرى لشعارات الوحدة التي كانت السبب المباشر لإنفراط جبهة الاتحاد الوطني ولجوئها الى التآمر لإسقاط حكومة الثورة ،ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم على يد عبد السلام عارف نفسه .
ونتيجة لسلوك القوى القومية وحزب البعث في محاولة فرض شعاراتهم تلك ، سارع الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي الى رفع شعار الأتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة ، وإقامة أفضل الارتباط معها وخصوصاً في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية مع توحيد التوجهات في السياسة الخارجية ، وقد اضطرت هذه القوى للنزول الى الشارع والتظاهر كرد على مظاهرات القوى القومية وحزب البعث ، وتقديم أقصى ما يمكن لدعم قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم
وهكذا تطورت تلك الشعارات والتظاهرات الى صراع سرعان ما تحول نحو العنف وصولا الى حد التآمر على ثورة الرابع عشر من تموز فكانت المحاولات الانقلابية التالية :
1 ـ محاولة العقيد الشواف الانقلابية التي جرى تنفيذها في الموصل في 8 آذار 1959.
2 ـ محاولة حزب البعث اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في رأس القرية ، في 7 تشرين الأول 1959، تلك المحاولة التي سببت له اصابات خطيرة ، تعافى منها بجهود الأطباء ، وأمكن الحفاظ على سلطة الثورة بجهود الضباط الوطنيين الذين استطاعوا افشال تلك المؤامرة الدنيئة .
3 ـ محاولة عبد السلام عارف اغتيال عبد الكريم قاسم ، وتنفيذ انقلاب ضده كان قد حدد له يوم 4 تشرين الثاني 1959 ، مما دفع بعبد الكريم قاسم الى اعتقال عبد السلام عارف وتقديمه للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة التي قضت بإعدامه ، لكن الزعيم عبد الكريم قاسم عفا عنه فيما بعد وأطلق سراحه لكي يتآمر من جديد بالتعاون مع حزب البعث ولتنفيذ انقلاب 8 شباط المشؤوم .
4 ـ محاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية ،والتي كشفتها حكومة الثورة في 8 كانون 1959 ، وتم تقديم الكيلاني الى المحكمة العليا الخاصة والتي حكمت عليه بالإعدام ، لكن الحكم لم ينفذ ، وأطلق سراحه فيما بعد عملا بشعار الزعيم [ عفا الله عما سلف ] !!
وفي الوقت الذي كان عبد الكريم قاسم يجابه المؤآمرات البعثية والقومية المتلاحقة حدثت انتكاسة خطيرة في العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم ، والتي يتحمل الحزب الشيوعي جانباً من مسؤوليتها ، ويتحمل عبد الكريم قاسم الجانب الآخر منها.
لقد عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة ،وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي ، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة،وبشكل خاص المسيرة التي سيرّها الحزب في الأول من أيار [ عيد العمال العالمي ] تلك المسيرة التي لم ترعب عبد الكريم قاسم فحسب ، بل أرعبت البرجوازية الوطنية ،وأرعبت القوى الإمبريالية ،حيث صرّح رئيس المخابرات الأمريكية آنذاك [ آلن دلاس] بأن أخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق .
لقد ارتعب عبد الكريم قاسم من تلك المسيرة ،ودخل في قلبه الشك من سياسة الحزب الشيوعي ،واعتقد أن الحزب قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم ، بعد ذلك الشعار التي كان يردده اكثر من مليون مشارك في تلك المسيرة[ عاش الزعيم عبد الكريم ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم ]وجعلته يصمم منذ ذلك اليوم على تحجيم الحزب الشيوعي وتقليم أظافره.
لقد كان على الحزب الشيوعي في تلك الظروف التآمرية المحيطة بالعراق وثورة الرابع عشر من تموز أن لا يلجأ إلى تلك المسيرة ،لمطالبته المشاركة في السلطة رغم أحقيته بذلك ، وأن يناضل من أجل انتخاب مجلس تشريعي يسن دستوراً دائماً للبلاد ،وإرساء النظام الديمقراطي الذي يكفل الحقوق الديمقراطية لشعبنا بعربه وأكراده وسائر أقلياته ،جنباً إلى جنب مع دعم السلطة الوطنية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم بوجه المحاولات الرجعية الهادفة إلى اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز ،بدلاً من استفزاز السلطة والبرجوازية الوطنية ، فقد كان الحزب والسلطة الوطنية في قارب واحد ، وغرق السلطة يعني بالضرورة غرق الحزب كما جرى في الثامن من شباط المشؤوم .
لجأ عبد الكريم قاسم في البداية إلى سياسة [ فوق الميول وفوق الاتجاهات ]وسياسة [توازن القوى ]، بين حماة الثورة ،والقوى التي تآمرت عليها ،واتخاذه سياسة التسامح ،والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة سياسة [عفا الله عما سلف ] التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها ،حيث أطلق سراحهم من السجن ،وأعاد عدداً كبيراً من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل إلى مراكز حساسة في الجيش .
ثم تحول عبد الكريم إلى اعتقال وسجن خيرة المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها ،وأحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة،وتسريحه لعدد كبير من الضباط ،كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1300] ضابط ، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة ،والدفاع عن الجمهورية الوليدة ،حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها ثم تحول عبد الكريم قاسم إلى المنظمات الجماهيرية ، التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ، ومكتسباتها ليجردها من قياداتها المخلصة ،والأمينة على مصالح الشعب والوطن ،والتي جادت بدمائها من أجل الثورة ،ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه ،وتسليمها للقوى المعادية للثورة ، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي وهذه أخطر الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال ، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ،ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963 :
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية ،وإنهاء وجودها فيما بعد،واعتقال معظم قادتها ونشطائها:
لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً وخطيراً جداًً ، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها ، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية ، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب .وكانت المقاومة الشعبية ، نتيجة الحرص الزائد على الثورة ، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ، ما كان لها أن تحدث ، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة ، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها وتجميد صلاحياتها ، ومن ثم إلغائها فلو كانت المقاومة باقية لما استطاع الانقلابيون تنفيذ جريمتهم تلك في الثامن من شباط .
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء ،لا في إلغاء المقاومة الشعبية،درع الثورة الحصين ، بل في إصلاحها ، وإعادة تنظيمها ، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة ، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة ونجاحها في اغتيال الثورة ،واغتياله هو بالذات ،وإغراق العراق بالدماء .
لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي ، وليس من الرجعية ، وعملاء الإمبريالية . إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم ،أو المساس بقيادته ،بل بقي حتى اللحظات الأخيرة مدافعاً عن حكمه وكان يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار ،وذاد عن سلطته ،وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 ، وهو اعزل من السلاح ، مستخدماً كل ما يملك ، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب ، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين ، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف : {باسم العامل والفلاح ، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى ، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم ،وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حيث انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم ، واستسلامه فيما بعد .
إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه ،فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون ،ويسفرونه إلى الخارج ،أو لربما حوكم محاكمة قانونية عادلة ،أو سجن لفترة من الزمن ،ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه ،وعلى ثورة 14 تموز المجيدة ،جعلتهم يصممون على تصفيته ،وتصفية كافة أعوانه ،وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم ، ولثورة تموز المجيدة . كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة ،وعن نفسه ،كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي ] ،رئيس جمهورية شيلي، عام 1972 ، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها ، ولا يقع بأيدي الانقلابيين ، الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات ، قبل تنفيذ الإعدام به ،وبرفاقه الشهداء المهداوي ،وطه الشيخ أحمد ،وكنعان حداد .
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه ، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة ، ولقيادته ، فقد أحال على سبيل المثال ،قائد الفرقة الثانية في كركوك ،الشهيد الزعيم الركن [ داؤود الجنابي ] ،وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959 ، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [ هاشم عبد الجبار ] ،آمر اللواء العشرين ،المعروف بوطنيته الصادقة ،والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد ،وأحكم سيطرته على بغداد ،وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ] ، المعروف بعدائه للقوى التقدمية ، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 ،عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب ،وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد ،الذين جرى دفنهم بقبور جماعية .
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي ] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين ،كان من بينهم ، الرئيس [حسون الزهيري ] والرئيس [كاظم عبد الكريم] والمقدم [خزعل السعدي ]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي ] ، الذي كان له ، ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب ، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية ،وتعيين العقيد الطيار [ عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش ، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد ، وكان لتلك القاعدة ،ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب ، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك ،وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها ،وكان له الدور الكبير في الانقلاب ،حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته .
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد ،وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة ، ولسائر القوى التقدمية ،وثبوت مشاركته في الانقلاب .
6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين ،والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد ،جرى ذلك في أوائل آب 1959 ، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي ] ، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب .
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس ، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961 وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل ،وذاد عن الثورة ،وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه .
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية ،وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية ، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق ، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق ،كما أحال عدداً كبيراً من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد .
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم 1300ضابط من الخدمة في الجيش ،بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها .
10 ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام الإذاعة ،وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة ،وقيادتها .
وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار ] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين ،والرجعيين ،بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها .
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة ، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب ،وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب ، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي ، 9 شباط ، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير ،غير المذاع ، لما نجح الانقلاب .
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة ،وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم ،وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها ،فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد .
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية ، كمنظمة أنصار السلام ، واتحاد الشبيبة الديمقراطية ، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة ،ولجان الدفاع عن الجمهورية ، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال ، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية ، ونقابات المعلمين ، والمهندسين ، والأطباء ، والمحامين ، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات ، وتسليمها إلى أعداء الشعب .
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف ، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد ، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته ،وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962 ، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين ،والديمقراطيين رهائن في السجون ليأتي الانقلابيون فيما بعد وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم .
لقد شجعت سياسة العفو ، والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين ، واستمرارهم في التآمر ، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر .
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي ، الذي احدث ثورة اجتماعية ، سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية ،ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون ،وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد ،على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين .
لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها وإضعاف السلطة ،وعزلها عن الشعب .
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية ،والحفاظ على استقلاله الوطني ،وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ،والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات ،والعمل على استغلالها وطنياً .
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط ، وتبادل الطرفان التهديدات ، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي ، وكان الوفد يعني ما يقول ، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها ،والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط ، حرصاً على مصالحها ، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ]و [عباس مامند] ، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة ،ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد ، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة ، وشق جبهة الاتحاد الوطني ،ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط ، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان ،وعباس مامند ،المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران " هولمز " بالشيوخ المتمردين وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية ،وبإشراف خبراء أمريكان ،ليفرض سيطرته على ناحية [ تاودست ] ،كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة ،وبريطانيا عن طريق إيران .
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان ،كنت آنذاك في مدينة السليمانية ،إحدى أكبر مدن كردستان ،أتابع مجريات تلك الحرب،واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي ،حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً .ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي ،بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده ،إلى الحركة الكردية ،بعد أن وقف منذُ البداية مهاجماً موقف عبد الكريم قاسم ، و مطالباً بالسلم في كردستان ،والديمقراطية للعراق ،تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها .كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .
لقد أخطأ قادة الحركة الكردية خطأً جسيماً عندما تعاونوا مع الانقلابيين ظنناً منهم أن حزب البعث والقوميين المتعصبين سوف يلبون مطالب الشعب الكردي وحقوقه الديمقراطية !!،وشاءت الصدف أن اطلع على الرسائل المتبادلة بين [ طاهر يحيى ] ممثل الانقلابيين و[ ابراهيم احمد ] سكرتير حزب البارت قبيل الانقلاب. لكن البعثيين وحلفائهم لم يمهلوا الشعب الكردي سوى ثلاثة اشهر حتى يشنوا عليهم حرباً شعواء لم يسبق لها مثيل في بشاعتها وتدميرها وقتل الأبرياء ،وتدمير وحرق قراهم بكل وحشية.
لقد كانت الحرب في كردستان أحد أهم الأسباب التي ساعدت على نجاح الانقلابيين في اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم .
17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق ، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد ، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك ، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة ،ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم ،وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية ،والحركات التآمرية على السلطة ،وحماية المتآمرين . ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة ، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم ،وقام علي صالح السعدي ،أمين سر حزب البعث ، بالبصق في وجهه ،فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له :
{ لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب } ، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن ،والذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين ، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة ،وكان على رأسهم ،رئيس الجهاز [ محسن الرفيعي ] ،ومن قبله [ رفعت الحاج سري ] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف ، وحكم عليه بالإعدام ،ونفذ الحكم فيه . كما أن موقف رئيس أركان الجيش ،والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين ،والسكوت عن تحركاتهم ،فلم ينل منهم أذى ، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل ،فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها .
18 ـ قيام الطلاب البعثيين ،والقوميين بإضراب عام ،ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني ،مستخدمين كل الوسائل والسبل ، بما فيها العنف ، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة ،ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته ، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين ،ولم تحاول كبح جماحهم ،وكسر الإضراب ،وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب .
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب ،وطبع المنشورات ،وتقديم الدعم المادي للانقلابيين ،وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963 .
هكذا سارت الأمور التي مهدت للانقلاب ،وشجعت الانقلابيين على الإيغال في جريمتهم ،وتنفيذهم لانقلاب الثامن من شباط 1963 بدعم وتوجيه من الإمبريالية، كما صرح بذلك أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث [علي صالح السعدي ] حيث صرح قائلاً :
لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي .
لقد خابت آمال عبد الكريم قاسم في تلك القيادات العسكرية والأمنية التي بوأها أعلى المناصب بعد أن ازاح أولئك المخلصين والمدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها، فقد كان ينتظر منهم التحرك لقمع الانقلابيين ، لكنهم في واقع الأمر كانوا اما قد اشتركوا في الانقلاب ، أو آثروا الجلوس على التل انتظاراً لنتائج الصراع ، ومن ثم مبادرتهم لارسال برقيات التأييد للانقلابيين بعد نجاح انقلابهم الفاشي ، وهكذا استطاع الانقلابيون تنفيذ انقلابهم الفاشي فى ذلك اليوم المشؤوم في الثامن من شباط عام 1963، وليشنوا تلك الحملة الدموية البشعة ضد كافة العناصر الوطنية والتي استمرت طيلة مدة حكمهم التي استمرت تسعة اشهر ، والتي وصف شريكهم عبد السلام عارف تلك العصابة بالمنحرفين فاضحاً جرائمهم البشعة في كتاب أ صدره تحت عنوان [ المنحرفون ] .