ليس من السهل تعريف المجتمع المدني، فالمصطلح نما في صيرورة واضحة من مفكر إلى مفكر وبالتزامن مع التحول الاجتماعي في ظل الحداثة الرأسمالية. عند هيغل البداية، وهي بداية تربطه بشكل واضح بالبرجوازية، وأما عند ماركس فهو فضاء الصراع الطبقي بالذات. وعلينا أن ننتظر غرامشي حتى نجد تغييراً جدياً في محتوى المصطلح. هنا سوف يساوى المجتمع المدني بالبنية الفوقية التي تسهم في تطويع المواطن وتضبيط سلوكياته دون الحاجة إلى أن تمارس الدولة أدوارها الإكراهية المعروفة. ولا بد أن أريك فروم في العديد من كتبه ( أنظر مثلاً Beyond the Chains of Illusion,1980) قد عالج الموضوع عبر قراءة جادة لتقنية " البرمجة" المجتمعية للفرد موظفاً المفهوم الذي ولده بديلاً لليبيدو فرويد، ونعني به مفهومه حول الشخصية الاجتماعية التي تتوسط بين البنية التحتية الإنتاجية وبين الفرد الحي في السيرورة الاجتماعية. لا نظن أن أفكار فروم قد تلقت العناية التي تتلاءم مع قيمتها. ولذلك فإننا نميل إلى توضيح مغزاها وإن بشكل مختصر لاعتقادنا أنها يمكن أن تشكل مفتاحاً جاداً لمقاربة عميقة للمصطلح المراوغ، والذي ازداد مراوغة في الآونة الأخيرة بسبب من شيوع استعماله على نطاق واسع.
يعتقد فروم أن الشخصية الاجتماعية تتشكل من عدة عناصر ثقافية ومجتمعية. ولكن العنصر الاقتصادي يؤدي الدور الأهم لأنه أكثر ثباتاً. وبمجرد تشكلها _ وهو في الواقع تحصيل حاصل ومرتبط بوضوح بالحداثة_ فإنها تبدأ في ممارسة تأثيرها على الفرد عبر تقنيات الإيحاء الجماعي، وحاجة الفرد إلى التواصل مع الآخرين الذي يجبره ضمنياً على تبني مقولات ورؤى، بل وذوق ينسجم مع الأغلبية، فإذا فعل خلاف ذلك ُأوقعت عليه عقوبة ثقيلة تتمثل في سحب التقدير الاجتماعي والعزل النفسي. وهكذا يستسلم معظم الأفراد للقيم السائدة دون حاجة إلى ممارسة عنف خارجي مادي كالذي تمارسه الدولة في العالم الثالث حيث يبدو تأثير الشخصية الاجتماعية _ أو المجتمع المدني إذا نقلنا التحليل إلى إيطاليا حيث فكر غرامشي_ محدوداً بالفعل.
علينا على الأرجح أن نبذل جهداً أكبر في تحديد معنى مصطلح المجتمع المدني بدل أن نواصل الرحلة في إيحاءاته المختلفة هنا وهناك وهو ما قد يؤدي إلى الحد من الغموض في دلالاته. ربما أن أول حركة " مدنية " اكتسبت شهرة عالمية هي بالفعل حركة "تضامن" البولندية، التي مثلت قطاعات واسعة من العمال الذين تحولوا إلى أمل الأمة في الديمقراطية وإسقاط النظام الشمولي الشيوعي، بغض النظر عن تقييمنا لنتائج " الحرية " التي جلبتها ثورة تضامن التي حركت الشارع البولندي بكافة ألوان الطيف السياسي، بل وربما الطبقي وإن كان في حقيقة الأمر في تلك الآونة، كامناً من حيث المبدأ.
ليس ما قصدناه في الفقرة السابقة هو أن المجتمع المدني ولد مع حركة تضامن. الحق أن المجتمع المدني قد بدأ على الأرجح مع الحداثة الرأسمالية. وما فعلته تضامن هو تحفيز حمى الاهتمام الراهن بالموضوع وعلى أوسع نطاق. ولكن ولادة الفكرة تعود إلى البرجوازية التي ناضلت من البداية ضد تدخل الدولة في حياة الفرد وجاهدت من أجل تأسيس حيز واسع لحركة الفرد لا يجوز للدولة أن تنتهكه لأن مهمتها فقط هي توفير أفضل الأوضاع التي تسمح للفرد بالعمل وتنمية ثروته ومهمتها في الواقع هي على حد تعبير التربويين " تيسير " النشاط الاقتصادي وغيره باقتراح القوانين والأنظمة الأفضل من أجل ترتيب علاقات الناس وحماية أحدهم من اعتداء الآخر. وهذه الأفكار قديمة تضرب جذوره في بدايات القرن السابع عشر وتشتد طوال القرن الثامن عشر بجهود الليبرالية الإنجليزية وعلى رأسها بالطبع جون لوك حامي حمى الحريات الفردية والملكيات الخاصة. وطبعا يتلقى الإنجليز مساندة واسعة من مفكري ومنوري فرنسا الثورة. ليس من السهل الزعم بوجود مجتمع مدني قبل الرأسمالية، فالأشكال الفعلية للتنظيم النقابي والمؤسسات المدنية الكبيرة مثل الجامعات والصحف واتحادات التجار وأرباب المهن ...الخ هي نواتج غير مسبوقة لعصرنا الحديث. طبعاً مؤخراً وبعد نشاطات تضامن ظهرت وعلى نطاق واسع المنظمات غير الحكومية والتي لا يهدف معظمها إلى الربح لتزعم لنفسها أنها التجسيد الأوضح للمجتمع المدني. والواقع أنه عندما يتعلق الأمر بمجتمعات كالمجتمعات العربية يصعب البحث عن تجليات أخرى للمجتمع المدني، خاصة أننا نعرف أن الصحافة وإلى حد كبير النقابات، ومعاقل العلم من جامعات ومراكز أبحاث هي في الواقع في يد الدولة ومن هنا يبدو حضور المنظمات غير الحكومية في الحالة العربية _ لنأخذ مثلين بارزين حالة فلسطين وحالة مصر حيث تكثر المنظمات ويشتد عودها وتتمتع بتمويل سخي من الاتحاد الأوروبي ومجموعة جهات أخرى في الولايات المتحدة وكندا_ قوياً ومتفرداً خاصة عندما يتعلق الأمر بالتغطية الإعلامية الواسعة التي تتمتع بها المنظمات الأهلية قياساً إلى نفوذها الفعلي على الأرض.
هناك جانب لا يجوز لنا إغفاله عندما نتعرض لمفهوم المجتمع المدني وذلك هو بالطبع النظام النيابي. فالحقيقة أن هناك اتفاقاً على أن الأحزاب السياسية، على الرغم من أنها تقود الدولة في نهاية النهار، جزء رئيس من مكونات المجتمع المدني. ولكن هذه الأحزاب لا تكون موجودة إلا في ظل نظام نيابي حزبي. ومعنى هذا أن تبني هذا الرأي سوف يؤدي بنا إلى إنكار وجود مجتمع مدني حقيقي خارج البلدان التي يقوم نظامها السياسي على التعددية الحزبية والنظام الانتخابي النيابي حيث يمكن تداول السلطة بوسائل مشرعة ومقننة بدرجة كافية من الوضوح الذي يسمح بتكرارها بفاعلية، ودون انتكاسات ما بين الدورة والدورة على عادة ديمقراطيات العالم الثالث الذي لا نعرف هل هو فاشل في التجربة الديمقراطية أم أنه لم ينجح بعد في تأسيس المجتمع المدني ذاته. تكمن خطورة الفكرة الأخيرة في ربطها المحكم وجود المجتمع المدني بوجود الليبرالية السياسية. وهو ما يستبعد دول المعسكر الاشتراكي سابقاً كما ويستبعد معظم العالم الثالث الذي كان يطلق عليه مجموعة عدم الانحياز من دائرة إنجاز المجتمع المدني. وقد لاحظنا كيف أن الحالة البولندية شهدت ولادة حركة مدنية هائلة في تأثيرها، على الرغم أن الدولة المشار إليها كانت جزءاً لا يتجزأ من مجموعة الدول الشيوعية الشمولية والتي يحكم فيها حزب واحد يهيمن على مختلف مناحي الحياة ويحتكر حق تفسير الوجود والسياسة والعلم وبرنامج التنمية. أي أنه باختصار يزعم لنفسه الحقيقة المطلقة. ومع ذلك _ أو ربما بسبب ذلك؟_ ُولدت " تضامن".
يقدم وايت جوردون Gordon, Democratization in the South,p.182,Mamnchester,1996 تعريفاً يسمح بالتغلب على المركزانية الغربية التي لا تفسح المجال لمجتمع مدني خارج نطاقها أبداً. يذهب تعريفه إلى القول بأن المجتمع المدني عبارة عن" مملكة توسطية تقع بين الدولة والأسرة ويقطنها منظمات منفصلة عن الدولة وتتمتع باستقلال ذاتي في علاقتها معها وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية مصالح أو قيم معينة."
في بلادنا حيث لا يوجد تقاليد رأسمالية أو ليبرالية عريقة يصعب التفكير في جسم حداثي يواجه الدولة. والواقع أن فكرة الخصوصية غير واردة في مجتمعنا حتى اللحظة. وليس من الصعب ملاحظة أن " الحشرنة " والتدخل في شؤون الآخرين الخاصة سمة مميزة لمجتمعنا، أفراده قبل دولته. ومن ذلك أن أسئلة تتعلق بالدخل والعمر وتفاصيل حياة الأسرة والزواج وعدمه وهي كلها من صميم حياة الفرد يتدخل فيها أي عابر سبيل. ويمكن لشخصين تعارفا للتو أن ينهمكا في حديث " حميم " حول دخلهما وعملهما ومشاكلهما الأسرية ويحث أحدهما الآخر على فعل كذا وعدم فعل كذا..الخ ومن البين بذاته أن أشد شرائح المجتمع غير السياسي قوة هي الجماعات الطبيعية كالعائلة أو الأسرة الممتدة من عشيرة ونحو ذلك وهنا مثلاً تستطيع العشيرة مثلاً أن تمنع رجلاً بدوياً من تزويج ابنته لفلاح لأن ذلك لا يجوز في العرف البدوي. ومن الواضح أننا هنا لسنا بصدد التدخل في حياة الفتاة الخاصة فحسب وإنما الفتاة وعائلتها النووية ككل تنتهك خصوصيتها لمصلحة الجماعة الطبيعة التي تحمي الأفراد، لكنها تحشر نفسها في أدق أمورهم، وهو ما يميزها عن الجماعة المدنية الحداثية. وفي مجتمعنا تبرز قوة منظمة بمنأى عن السلطة تشبه الجماعة الطبيعية بسبب قدمها التاريخي النسبي. تلك طبعاً هي الجماعة الدينية المنبثقة من المسجد أو المذهب أو الحزب الديني وهنا أيضاً نلمس أن حياة الأفراد تصاغ في كافة مستوياتها تقريباً بحسب إرادة الجماعة. ومن ناحية معينة يلتبس الأمر على المحلل: هل نحن هنا في مواجهة جماعة غير حكومية تقف بين الدولة والفرد، أم أننا إزاء جماعات تمارس إكراهاً يكمل إكراه الدولة ذاتها؟ وإذا عدنا إلى غرامشي وأريك فروم، أليس هذا أيضاً هو ما تمارسه فئات المجتمع المدني الحداثية؟ نعني إخضاع الفرد بصمت واقتدار وسلبه القدرة على المعارضة. ذلك بالطبع سؤال مشروع، وهو موضوع جدال واسع حتى اللحظة. لكننا لا نجد حاجة هنا إلى إقحام طلبتنا في دقائق المنازعات الأيديولوجية التي لم تبرد نارها بانطفاء نيران الحرب الباردة.
ربما نكون قد وصلنا إلى محطة عنواننا المتعلق بالعلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية وقد ألمحنا منذ قليل أن بعض أصحاب الرؤى الليبرالية يربطون الأمرين ربطاً محكماً إلى حد القول بعدم وجود مجتمع مدني حيث لا يوجد ديمقراطية ولكن الأمثلة البارزة كما في حالة بولندا تضامن، وحالة إيران الجامعة والمسجد يتعاونان في إسقاط الشاه، هذه النماذج تفند على الأرجح الرأي الذي يجزم بعدم توليد مجتمع مدني خارج إطار الديمقراطية الليبرالية. ومن جانبنا نود أن نعكس القضية لنسأل: هل المجتمع المدني كفيل بإنجاز الديمقراطية المجتمعية وخصوصاً السياسية؟
يوضح جوردون( المرجع نفسه،ص 186) أن هناك أربعة طرق يمكن للمجتمع المدني أن يؤثر عبرها في المجتمع معززاً الفرصة في نمو الديمقراطية. وأولى تلك الطرق هي خلخلة ميزان القوة المائل لصالح الدولة بحيث يزداد نفوذ المجتمع في توازن القوة الحاصل، إذ دون أن يتحقق توازن أفضل لا يرجى إنجاز ديمقراطي. الأمر الثاني هو قدرة المجتمع المدني على التأثير في درجة انضباط الجهاز السياسي، فإذا كانت القوة مدعاة للفساد فإن القوة المطلقة مدعاة إلى الفساد المطلق. ولذلك فإن وجود المجتمع المدني القوي والفاعل يخضع السياسيين لدرجة معينة من الرقابة التي تجعلهم أكثر حذراً وأقل ميلاً إلى إساءة استغلال السلطة. من ناحية ثالثة يبدو للمجتمع المدني دور بارز كوسيط بين الدولة وقطاعات المجتمع المختلفة، وهو ما يعزز حالة من التواصل باتجاهين بين جناحي البلد الرئيسين الدولة والمجتمع. وإذ يصبحان على اتصال تتحسن حالة الحكم العامة ويتعزز الطابع الديمقراطي. ويبدو أخيراً أن طبيعة المجتمع المدني ومنظماته تتطلب تعزير فكرة الانتخاب والاختيار الحر. وهو ما يتطلب الضغط باتجاه تجذير الديمقراطية على مستوى الدولة والوطن ككل.
ربما أن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل وجاهة التحليل الذي يقدمه جوردون. غير أن التطبيق وساحة الممارسة هما المحك الفعلي لفحص أية نظريات أو تحليلات مهما كان طابعها وميدانها. وفي الحالة الراهنة فإننا نلاحظ مثلا أن منظمات المجتمع المدني في المشرق العربي لا تتمتع بصفات تجعلها أميل إلى الديمقراطية وأسلوب الانتخاب بالاقتراع السري وما إلى ذلك. والواقع أن معظم تلك المنظمات لا تجري انتخابات من أي نوع. ومن هذه الناحية تتفوق عليها الأنظمة الحاكمة بادعائها إجراء انتخابات تحصل فيها على ما يقارب 99% من الأصوات( ما عدا في الاستفتاء الذي جرى في العراق في شهر 11عام 2002 فقد فاز الرئيس صدام حسين بكل الأصوات أي 100% بالتمام والكمال). صحيح أن العديد من الناس لا يتعاملون بجدية مع الانتخابات التي تجري في العالم العربي ومعظم الدول في الجنوب، ولكن الانتخابات في كل الأحوال تجري، أما في منظمات المجتمع المدني التي تتغنى باللبرلة وحقوق الإنسان فإنها لا تمارس أية انتخابات. ويبقى مؤسس المنظمة والحاصل على تمويلها في رأس الهرم مدى الحياة، وأزعم أنني لا أملك حالة واحدة تفند النتيجة المشار إليها. وإذا كانت هذه الملاحظة صحيحة بالفعل، فإن " المجتمع المدني " في الحالة العربية لا يدخل في صراع من حيث المحتوى مع البنى الأخرى السياسية أو غيرها، ولا يدخل حتى في صراع مبدئي مع قطاعات المجتمع المدني التي تنتمي لعالم الجماعات الطبيعية، أو حتى لعالم الجماعات التقليدية بألوانها كافة. ربما يجدر بنا في هذا السياق أن نتذكر كيف أن الممارسات الانتخابية التي تقع في البلاد العربية بين زمن وزمن لم تسهم في تعزيز روح الحداثة بقدر ما عززت، بل وبعثت في بعض الأحيان، انتماءات وولاءات كنا نتوهم أنها قد غابت بالفعل. ومن ذلك بالطبع العشائرية والمناطقية وفي الحالة الفلسطينية بدا لنا أن إنجازات الانتفاضة الأولى التي عززت نواة مجتمع مدني حقيقي يستند إلى عمل شعبي طوعي واسع النطاق قد تدهورت بشدة بعد الانتخابات وما تلاها بسبب الظروف المختلفة التي وجهت الناس ناحية العشيرة والقرية والجماعة الطبيعية أو الدينية في أحسن الأحوال. ويبدو أن أسلوب تنفيذ الانتخاب ذاته قد ساهم في ذلك. ولكن الجانب الأهم هنا هو أن نذكر أن شرط الديمقراطية الحقيقية هو وجود المواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته تجاه الدولة. لكنني أخشى أننا في دور منطقي: إذ أن وجود المجتمع المدني ذاته غير ممكن دون وجود المواطن الذي يمتلك الحق في منح التفويض للدولة وسحبه منها. بينما يمكن القول إن وجود "الرعايا" مرحلة سابقة على الحداثة والديمقراطية، وتجسد انتماء الفرد إلى الجماعة الطبيعية الضيقة. ولعل توافر المواطنة التي تعني الوطن والأمة يشكل بذاته سببا كافياً لتزعزع مكانة الانتماء ما قبل المدني بما يعنيه ذلك من إثنية وعائلية وطائفية ودينية ومناطقية وإقليمية. ونستطيع في الواقع أن نقول بكثير من الثقة أن الفرد العربي عرضة للشد والجذب من عديد الهويات التي لا تتكامل في معظم الأحيان، ومن ذلك القومية والطائفية والدينية والعشائرية .الخ ومن الواضح أن من يعتبر نفسه مسلماً بالدرجة الأولى يميل إلى اعتبار المسيحي العربي غريباً عنه بمعنى من المعاني. بينما يمكن لمن يغلب انتماءه الإقليمي المصري مثلاً أن يعتبر العرب الآخرين جيراناً لا أكثر. ولعل المؤسف أن حالة التشظي والتذرر التي ترافقت مع هجوم العولمة قد مزقت انتماء الناس إلى ما دون الإقليمية. وهو ما يخشى أن يؤدي إلى تهيئة التربة لهويات أصغر تؤدي إلى كانتونات بدل الأقاليم على مستوى الوجود العربي ككل. لعل واجب المجتمع المدني أن يعزز تكوين هوية المواطن في مواجهة الدولة ويقنعه بالتخلي عن حمل عدد من الهويات المتناقضة. ولكن ذلك لا يمكن له أن يحدث دون مجتمع مدني متجانس وواع بهويته وأدواره منتسب بالفعل إلى الهوية الحداثية وليس إلى ما سبقها. ولا نعرف في واقع الحال هل يمكن التفكير في أن مجتمعاً كهذا في طريقه إلى الظهور أم لا. هل نستطيع مثلاً أن نسحب تحليلات بول سويزي وسمير أمين ومهدي عامل التي تزعم عجز الجنوب عن إحداث تنمية رأسمالية صناعية أبعد قليلاً؟ هل نمدد ذلك حد القول: ما دام لا يستطيع ذلك فهو لا يستطيع إذن توليد آليات المجتمع المدني. إذا أقررنا بذلك فهو يعني ببساطة أننا نقر بأن الديمقراطية أيضاً لا مكان لها في بلادنا لأنها ُمرافق التنمية الرأسمالية بامتياز. وما دامت تلك التنمية في عداد المحال لأسباب بنيوية تخص إشكالية التراكم في المستوى العالمي المعولم، فنستطيع أن نقرر النتيجة المتشائمة: لا ديمقراطية ولا مجتمع مدني ولا من يحزنون، في جنوب الكرة الأرضية كله. ويجب عند ذكر مدرسة التبعية أن لا نهمل فكرتهم حول تحدُد الجنوب في زمن القرية الكونية بمقتضيات مصالح الشمال. وفي هذا السياق لا نستطيع إلا أن نستدعي تجربة تشيلي. ذلك الشعب الصغير الذي كان يتمتع بديمقراطية كادت أن ترسخ، وحريات عامة ليبرالية واقتصادية، وعندما ضاق صناع القرار في البيت الأبيض ذرعاً بحكومتها الاشتراكية المنتخبة، ساندوا انقلاباً دموياً قاده الجنرال بينوشيه فقتل عشرات الآلاف وزرع الذعر والخراب في أرجاء البلاد، وفرض ديكتاتورية فظة بلا أحزاب ولا حريات ولا حقوق من أي نوع ما بين عامي 1973 و 1990، عندما سقط بضغط شعبي هائل، وفي ظروف دولية جديدة. إن على الشعب التشيلي الصغير والمحدود الموارد أن يعيد الكرة من جديد ليبني دولة مؤسسات ومجتمع مدني وديمقراطية حقة. ولكن من يضمن أن ما تعرض له لن يتكرر مرة أخرى في عالم يزداد عولمة يوماً بعد يوم، بل لحظة في إثر لحظة، وما عاد للضعفاء فيه من سمات الاستقلال إلا الشارات والرموز التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
من ناحية معينة نجد ملاحظة جوردون المتعلقة بالتوازن في داخل مكونات المجتمع المدني ذاته ملاحظة مهمة لتفسير ما يجري في بلادنا. ودون استعمال لغته ذاتها، بينا فيما سبق صعوبات التفسير الميكانيكي للعلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية فليس كل زرع ينمو بين الدولة والأسرة هو المجتمع المدني الحداثي المنشود. إن القطاعات التقليدية يمكن أن تكون منفصلة بل وحتى معادية للدولة دون أن يعني ذلك أنها ستعمل على إنجاز المشروع الديمقراطي وقد يكون مشروعها على العكس متحفظاً تجاه درجة من الديمقراطية يريد التخلص منها نهائيا. ولا نعرف كيف يستقيم لأصحاب النظرة الميكانيكية في تحليل مقولات المجتمع المدني مواجهة مثل هذه الوقائع.
من الواضح أننا قمنا بمعالجة العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية دون أن نأخذ بعين الاعتبار أية تحفظات من جانب الفكر الاشتراكي واليساري أو فكر اليسار الجديد ممثلاً بمدرسة فرانكفورت، أو حتى مدرسة التبعية وملاحظات اليسار في مرحلة العولمة والقطب الواحد. وعلى الرغم من أهمية الأفكار التي تأتي من جانب اليسار فإنها في الواقع أصبحت معروفة تماماً. وهي في جوهرها تركز على أن الكل الاجتماعي لا يتجزأ، ويترابط إما جدليا كما فكر الماركسيون الروس، وإما بنيوياً مثلما اقترح الفرنسي ألتوسير في مجموعة دراساته الممهورة بعنوان ذو دلالة هو For Marx.
يخبرنا اليسار أن المجتمع المدني يأتي مع صعود البرجوازية؛ بعد أن يتم توضيح المسافة بين الملكية الخاصة والعامة، ويتم فصل العام عن الخاص عموما. ومع تأكيد حقوق الملكية الخاصة تتزكى الحقوق السياسية والحريات، ويبرهن السوق على قوته في وجه الدولة، وتتحول الدولة إلى أداة في خدمة المصالح الطبقية العليا للبرجوازية. ويولد النمو الرأسمالي طبقات لها مصلحة في ديمقراطية حقيقية مثل البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة. وتحديدا مع ولادة الطبقات هذه يتحرك المجتمع باتجاه ديمقراطية تمس حياة الناس الفعلية في المستويات الاقتصادية والاجتماعية. إذ لا قيمة للحريات الليبرالية البرجوازية دون محتوى ومضمون يحسن حياة الجماهير الفعلية.
في نهاية التحليل يبدو أن هناك اتفاقاً فعلياً على أهمية المجتمع المدني في التأسيس للديمقراطية. وفي أسوأ الأحوال فإن المجتمع المدني يبرز ساحة للصراع الطبقي على مستوى البنية الفوقية، كما يخبرنا غرامشي في تحليلات لامعة فضلنا أن نختم بإحداها: فقط في مستوى المجتمع المدني يمكن تعرية البرجوازية ودحرها وهنا يبرز دور المثقف وخاصة المثقف الجمعي _ الحزب_ الذي يخوض نضالاً تنويرياً في هذا المستوى يهدف إلى إنقاذ وعي الجماهير من سيطرة الإيديولوجية البرجوازية( غرامشي وقضايا المجتمع المدني،القاهرة، 1991 ص151،182).