|
التاريخانية والتفسير الحتمي
فتحي نصيب
الحوار المتمدن-العدد: 5340 - 2016 / 11 / 11 - 21:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التاريخانية والتفسير الحتمي
بدأت النهضة الأوربية مع إعادة قراءة التراث الفلسفي الإغريقي ، وتحول (المقولات) الفلسفية و(المقولات ) الفكرية إلى تطبيقات عملية وعلمية ، فظهرت الاكتشافات والاختراعات التقنية. إن حجر الأساس في هذه النهضة يكمن في سعي الإنسان للسيطرة على الطبيعة والتحكم بها ، من خلال انتشار مفاهيم : العلم والعقلانية والرشد على منظومة الأفكار والقيم. من خلال النزعة العلمية ظهرت مدارس واتجاهات علمية وفلسفية تقول بولادة الإنسان القادر على التحكم بالطبيعة وظواهرها المختلفة ، وبالتالي تحديد مصيره . وبمعنى آخر : إمكانية الإنسان على صنع تاريخه البشري. في ظل هذا المناخ التفاؤلي بالتطور والتقدم ظهرت نزعات تؤمن بالحتمية * من خلال الاعتقاد بأن التاريخ الإنساني يتطور في شكل خطي متصاعد ، من الأدنى إلى الأرقى يخضع لقوانين ثابتة ، وذلك عبر مقاربة القوانين ( البشرية ) بالقوانين ( الطبيعية ) . ترى النزعة ( التاريخانية ) أن ( التنبؤ ) التاريخي هو غايتها الرئيسية ، وتفترض إمكانية الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن ( القوانين ) و( الاتجاهات ) أو( الأنماط ) التي يسير التطور التاريخي وفقا لها ( بوبر –ص 12 ) . تعتمد هذه النزعة على النجاحات التي حققتها العلوم الطبيعية ، من خلال اكتشاف القوانين ومن ثم إمكانية التنبؤ بوقوع ( الظواهر الطبيعية ) ، وفقا للمنهجية العلمية التي تدرس ( السبب ) و ( النتيجة ) ، ولذلك فان أصحاب النزعة التاريخانية تأثروا بنظرية ( نيوتن ) وقدرتها على التنبؤ في علم الفلك ، وفي رأيهم انه إذا كان من الممكن لعلم الفلك أن يتنبأ بظواهر طبيعية ( كظاهرة الكسوف ) ، فلم لا يمكن لعلم الاجتماع أن يتنبأ بالتطورات الاجتماعية ؟ . كالتنبؤ بوقوع الثورات مثلا ( بوبر – ص 50 ) . رغم ما يشوب هذا الرأي وتلك المقارنة بين التاريخ الإنساني والتاريخ الطبيعي من خلط وتعميم مفرط ، فان التاريخانيين يزعمون أن في اتساع مدى التنبؤات وأهميتها ما قد يعوضان عن نقائصها ، والتنبؤات المقصودة هي التنبؤات بعيدة المدى أوالواسعة النطاق التي يجب على علم الاجتماع التركيز عليها . وعلى هذا الأساس فان المذهب التاريخاني يرى أن علم الاجتماع ليس إلا علما للتاريخ. فعلم التاريخ الذي يدرس القوى المؤثرة بوجه عام ، وقوانين التطور الاجتماعي بوجه خاص والقوانين الاجتماعية الصادقة صدقا كليا ، هي قوانين تاريخية ، ولذا فان على علماء الاجتماع أن يحاولوا الوصول إلى فكرة عامة عن الاتجاهات ( العريضة ) التي تتغير الأبنية الاجتماعية وفقا لها ( بوبر – ص 59 ) . الاعتقاد بنجاح المنهج العلمي دفع ( فيخته ) إلى القول : إذا قبلت نظرية العلم ،فيتسنى للجنس البشري أن يتخلص من المصادفة العمياء ، ولن يعود لحسن الطالع أو لسوئه من وجود ، ولسوف تمسك البشرية قاطبة بمصير نفسها بين يديها ، غير متقيدة إلا بتصورها الخاص ، ولسوف تفعل بنفسها ، بحرية مطلقة ، كل ما يمكن أن تريد فعله بها ( برهييه – ص 137 ) . وقد أعلن ( دوركايم ) إيمانه ( بالعقل ) من جهة و ( العلم ) من جهة أخرى ، على اعتبار إنهما من الملامح الرئيسية للنزعة الوضعية والسوسيولوجية ، وأكد على ضرورة منهجية هامة وهي إمكان تطبيق مبدأ ( السببية ) في تفسير الظواهر الاجتماعية بالاستناد إلى ثلاث فرضيات رئيسية هي : أ / أن هناك وحدة في الطبيعة . ب / إن الظواهر الاجتماعية هي جزء من عالم الطبيعة الموضوعي ، أي أن الظواهر الاجتماعية ظواهر واقعية ، موضوعية ، حقيقية . ج / تخضع الظواهر الاجتماعية لبعض القوانين والمبادئ الخاصة بها ، والتي هي قوانين طبيعية ومبادئ فيزيقية ( إسماعيل – ص 71 ) . وكنتيجة حتمية لهذه الفروض الوضعية الثلاثة ، فان الظواهر الاجتماعية إنما تصبح كالظواهر الطبيعية في خضوعها للبحث العلمي . أي على عالم الاجتماع الالتزام في بحثه بمبادئ : الحتمية ، والضرورة ، والسببية ( إسماعيل – ص 72 ) . إن المقاربات بين قوانين علم الاجتماع الإنساني والعلوم الطبيعية قد تشهد تطابقا في عدة مناح ، إلا أن المناهج العلمية ذات خصائص لا يمكن أن تطبق أو تستخدم إذا تعلق الموضوع بالأحداث والوقائع البشرية . فالقوانين الطبيعية تتصف بعدة خصائص منها وأهمها : 1 / مبدأ الثبات : أي أنها قوانين صادقة في كل زمان ومكان. 2 / مبدأ التجربة : فهذه القوانين قابلة للخضوع لمبدأ التجربة وصولا إلى إنشاء فرضيات واختبارها . 3 / مبدأ التنبؤ : في حال ثبوت ( الفرضيات ) تتحول إلى ( نظريات ) ، أي إمكانية التنبؤ بوقوع نتائج معينة إذا توفرت أسباب محددة . إلا أن الأحداث والوقائع التاريخية متغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة ، ولا يمكنك إرجاع حدث ما إلى سبب محدد، إلا إذا لجأ الباحث إلى وضع فرضية لسبب بعينه مع ( تحييد ) أو ( إلغاء ) الأسباب الأخرى ، وذلك نتيجة لتعقد الظواهر الاجتماعية الإنسانية . ولذا فان تطوير نظريات يمكن من خلالها التنبؤ بوقوع الأحداث الاجتماعية أو التحكم بها أو السيطرة عليها ، قد لا يخضع لمعيار علمي دقيق . ويمكن في هذا الإطار التميييز أوالتفريق بين ( تفسير ) الأحداث التاريخية ( اكتشاف ) بعض الأسباب التي تحكم هذه الظاهرة و( التنبؤ ) بوقوع أحداث بعينها في المستقبل. إن المذهب التاريخاني ينطوي على نزعة علمية ، حيث يرى أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا ..مخاوفنا ومعارفنا ، مصالحنا وأعمالنا ، هي كلها قوى مؤثرة في تطور المجتمع ، ولا يقول المذهب بعجزنا عن إحداث أي شيء كان ، وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئا بأحلامك أو بما يركبه عقلك طبقا لخطة مرسومة ، فلا تأثير إلا( للخطط ) التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي ( بوبر – ص 64 ) . إننا قد نلحظ بعض الايجابية في مقولات المذهب التاريخاني ، إلا أنه يمكن الإشارة إلى بعض النتائج التي تمخضت عنه ومنها : النتيجة الأولى : أنه قد ظهرت – على الصعيد السياسي والاجتماعي – أنظمة سياسية كليانية تنادي بالشمولية والحتمية في تفسيرها لتطور التاريخ الإنساني . النتيجة الثانية : إن نقل بعض الظواهر الطبيعية وقوانينها الصارمة والثابتة نسبيا إلى حقل العلوم الاجتماعية ، قد أدى الى الترويج لأيد يولوجيات اجتماعية زائفة أومغلوطة كما حدث لفرضيات الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح في عالم الحيوانات ،والتي قد تكون صادقة في محيطها الطبيعي ، إلا أنها قابلة للدحض في حقل علم الاجتماع البشري ، وعلى سبيل المثال يشير ( سبنسر ) إلى أن الملامح الأساسية للعالم الحديث إنما تتمثل في النشاط الاقتصادي القائم على المنافسة بين سائر المجتمعات طبقا لمبدأ البقاء للأصلح ، وهذا المبدأ – حسب زعمه – ينطبق على سائر الكائنات العضوية وسائر المجتمعات والحضارات . النتيجة الثالثة : إذا سيطرت على عالم الطبيعة مجموعة من القوانين الفيزيقية ( أي التي لا تختلف باختلاف المكان والزمان ) فان القوانين الاجتماعية تختلف باختلاف الأماكن والأزمنة ، كما لا يمكن إخضاعها للتجربة أو تقييدها في علة واحدة . النتيجة الرابعة : الاعتقاد بالنظريات والمناهج العلمية هو اعتقاد ( نسبي ) وليس(مطلقا). فقد أثبت تاريخ العلوم أن الكثير من ( النظريات والقوانين والمبادئ والفرضيات ) قد تم دحضها أو تعديلها أو تفنيدها أو الإطاحة بها مع كل تقدم معرفي كما حدث لبعض قوانين ( نيوتن ) ، بل أن من مواصفات النظرية ( العلمية ) أن تكون قابلة للدحض ، وإلا فإنها تخرج من نطاق المنهج العلمي نفسه وتندرج تحت النظريات الميتافيزيقية ، أي تلك المقولات التي لا يمكن البرهنة عليها أو دحضها على السواء .
* الحتمية : فرضية فلسفية تقول إن كل حدث في الكون ، بما في ذلك إدراك الإنسان وتصرفاته ، خاضع لتسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة . والقضية الأساسية التي تنادي بها الحتمية هي أن إرادة الإنسان ما هي إلا مجرد وهم . ويمكن التمييز بين نزعتين او مدرستين : الأولى : ترى أن جميع الحوادث المستقبلية محددة سلفا ، وستحدث ضرورة ، وهذه تعرف بالقدرية ، وهي أكثر ارتباطا بالميتافيزيقا . الثانية : ترتبط وتعتمد على أفكار المادية والسببية ، ومن مفكريها : هيوم – هوبز – كانت – جول سيرل
المراجع 1/ اميل برهييه ، تاريخ الفلسفة – القرن الثامن عشر ، ت: جورج طرابيشي ( دار الطليعة ، بيروت ، 1983 ) . 2 / كارل بوبر ، بؤس الايديولوجيا ، نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي ت : عبد الحميد صبره ( دار الساقي ، بيروت ، 1992 ) . 3/ قباري محمد إسماعيل ، اميل دوركايم – مؤسس علم الاجتماع المعاصر نظريا ونقديا ،( منشاة المعارف ، الإسكندرية ، 1976 ) .
#فتحي_نصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النشيج/ قصة قصيرة
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|