أخبار الشرق - 8 شباط 2003
في عام 1789 كتب إيمانويل سييز راداً على سؤال ما هي القومي قائلاً: "القومية هي التي تمثل الجميع". هذه الفكرة أو المفهوم للقومية سيأخذ قوة أكثر تحت رعاية الثورة الفرنسية التي استطاعت بشكل مذهل إبدال شخصية الملك التي لهل قيمة إلهية/أسطورية بشخصية أخرى لهل نفس القيمة "الإلهية" وهي القومية أو الأمة، على خلاف ما جرى عند التيارات الفكرية والسياسية القومية العربية حيث أبدلت أفكارها القومية بشخصياتٍ "مؤلّهة" تمثل الجميع وتختصر الأمة في طيات فكرها الملهَم.
يرتبط عادة الفكر القومي بالضرورة بالمجتمع السياسي حيث كل فرد يولد، ويعيش على إرث ثقافي كثير أو قليل الأهمية، ويستطيع امتلاك إرادة الدفاع عن مصالح وشخصية الأمة/القومية، ويكون الفرد هنا مهيأً للوقوع تحت هيمنة العواطف القومية المهيجة، والتي تتحول في حالة - متقدمة إلى مرض أو درجة مرضية أعلى تصل إلى حد العنصرية. ومن جهة أخرى تتحول الأفكار المهيجة إلى مذهب فكري أو سياسي تصبح المشاعر القومية هي القيمة المركزية والحقيقة المطلقة.
الانحراف في مفهوم الأمة/القومية
أولاً: الفاشية: وهي الابن الشرعي للخوف من الانهيار وللأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أوروبا خلال سنوات 1920 - 1930 وهي الصفة الأساسية للأنظمة التي وجدت بعد الحرب العالمية الأولى: إيطاليا (1922)، البرتغال (1926)، إسبانيا (1936)، ألمانيا (1932). إن التجربة الفاشية صعبة الحصر بسبب ما أنتجته من أفكار سياسية واقتصادية مشوشة.
العقيدة الفاشية: يعتقد لويس فيليب" أن الفاشية مذهب ثوري، فالفاشيون ثوريون من حيث أنهم يريدون كسر النظام الثابت والمعقد، كنظام الديمقراطية الليبرالية مثلاً. فهي سياسيا ترفض مفهوم الليبرالية والفردية المنحدرتين أصلا من الثورة الفرنسية، واقتصادياً ترفض النظرية الرأسمالية كما أن الفاشية تناهض النظام البرلماني والتعددية، واتسمت بمعارضتها للاشتركية أو بشكل أدق للماركسية - اللينينية، ولو أن ثورة لينين تبدو وكأنها من أخطر وجوه الفاشية في القرن العشرين.
بنية الدولة الفاشية: من حيث البنية السياسية تعتبر الفاشية تياراً يمجد ويعظم الدولة والسلطة، وهنا يمكن تحديد بعض البنى للدولة الفاشية:
هوية أو بنية الدولة/الأمة
فالدولة الليبرالية الحديثة ولدت من الحركة النقدية الثورية للفكر الإنكليزي والفرنسي والأمريكي، وأُسست وفق المفهوم الفردي للإنسان وقدره.
بخلاف ذلك الدولة الفاشية، تمثل النظام السياسي لمجتمع قومي لا يُعنى بالأفراد وعلاقاتهم، والقومية هنا شكل أو تكوٌن إرادي وسلطوي يتحقق بفضل الدولة التي تقويٌها وتصلٌبها.
الدولة الفاشية، دولة شمولية بعكس الليبرالية تماماًَ ووفق القاعدة الذهبية: "كل شيء في الدولة وضمنها ومعها، لا شيء خارجها، ولا شيء ضدها، كل شيء يخضع للدولة، الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية والأسرية، لا حياة مستقلة عن الدولة".
إذاً هي دولة تسلطية تبتلع المجتمع في الدولة، ولا تقبل بأي شكل من أشكال التجمعات الأهلية السياسية، أو بالأحزاب السياسية، أو النقابات، وتتقبل النقابات الدولتية والحزب الواحد المتسلط. مع هذين العنصرين المميزين للدولة القومية/الفاشية، نضيف مفهوم عبادة الشخصية أو الزعيم، الإنسان/الإله، السماوي.
ضمن نطاق هذا التحليل تقدم لنا القوميات، ما يمكن أن نسميه "العفن" الثوري المتمثل في الحزب الواحد والبنى العسكرية لكل محتويات الدولة من تعليم واقتصاد وفن .. إلخ، أو أنظمة الاستفتاء الشعبي أو ما ندعوه أنظمة القواعد الجماهيرية.
ليس بعيداً عن هذا، المفهوم الهتلري لبنية الدولة القومية، فكل النظريات الألمانية السياسية والدستورية سابقاً ارتكزت على العقيدة النازية في مفهومها للدولة، والتي لا عمل لها سوى خدمة الفوهرر من خلال تأسيس حزب واحد متسلط والذي يضع كل شيء في خدمة الزعيم.
الفكر القومي: عربياً/ فاشياً/ نازياً
من وجهة نظر تاريخية
هذه الحركات جميعها نشأت أو انحدرت من الخوف أو الأزمات، والفكر الناتج عن الخوف لا ينتج سوى الرعب والخوف لحماية نفسه، فالخوف من إذلال الأمة الألمانية، والطموح القومي للإيديولوجية النازية، جعل هتلر يجتاح أوروبا، كما فعل صدام حسين في الكويت مثلاً وبدافع إيديولوجي بين قوسين (قومي)، وباسم القومية العربية أُنتجت تشكيلة من الأحزاب السياسية سمت نفسها قومية وأعطت لنفسها الحق في احتكار العمل السياسي والتنظيمي، وبفضلها استطاع رجل معتوه كآرييل شارون أن يصل تقريباً إلى القاهرة ثم إلى بيروت والآن في القدس المحتلة. لكن الخوف من إذلال الأمة الألمانية جعل هتلر يجتاح أوروبا، بينما ذلًُ الأمة العربية جعل العراق بمرجعية العقائدية يغزو الكوبت. والهوس بالقومية/الدين، لليهود جعل مجموعة من رجال العصابات اليهود يحتلون أجزاء كبيرة من أراضي ثلاثة دول عربية، ويسيطرون على نفسية المواطن العربي بالكامل.
خلاصة القول إن الفكر القومي لا يمكن أن ينتج سوى الكوارث والأزمات والرعب كونه مركب ناتج من تفاعل هذه العناصر الثلاثة.
من وجهة نظر عقائدية
الحركات القومية هي سليلة الفكر القومي والاشتراكي، ثم أضافت من روحها على الدولة والمؤسسات البصمة الشمولية التسلطية. وهذا الطابع ليس غريباً عن بنيوية هذا الفكر القومجي/الفاشي، فهو في الأساس فكر متشائم، عدواني يرى أن الجميع يعادونه ويتآمرون عليه.
من وجهة نظر بنيوية
جميع هذه الحركات تعتمد مبدأ عبادة الشخصية والحزب الواحد، مع فروق ضئيلة في بعض الأحيان، كأن يعتمد نظام قومي/ فاشستي على عبادة زعيم أو رئيس أو أمين عام لحزب .. إلخ.
ويرى آخر أن الدولة بشموليتها ودكتاتوريتها هي بديل الإنسان/الإله.
وللإنصاف في أغلبها هذه الحركات عنصرية أساسها العرق، بحيث تصبح أمة، خير أمة، لأن الله قد خلقها عظيمة ومجيدة، فالمجد يولد بالفطرة، ولا مجد للعقل ولا للعلم ولا للقانون.
وللتذكير، نعود إلى تاريخ بعض هذه الحركات القومية على المستوى العربي (حزب البعث)، إذ يتذكر الكثيرون ثورة عسكري عراقي ذي ميول نازية بشكل واضح (رشيد عالي الكيلاني)، الذي سيطر عدة أسابيع على السلطة في العراق كيف فتح العراق أمام الجيش الألماني، وفي نفس الوقت غادرت مجموعة كبيرة من البعثيين سورية إلى بغداد للمشاركة في حركة الكيلاني، التي وقف معها ميشيل عفلق بكل قواه الخطابية.
ترى ما الذي جمع مجموعة من العسكر المنتمين أساساً إلى العقيدة النازية من أنصار الكيلاني مع مجموعة من المنتمين إلى أنصار عفلق؟ (لا يمكن إغفال موقف زكي الأرسوزي من عفلق نتيجة هذا التصرف الانتهازي كما سماه الأرسوزي، الذي لن يصفح لعفلق تعاطفه المعلن مع الفكر النازي).
يرى أوليفيير كاريه في كتابه، القومية العربية، "أن الاتجاه الفاشي أو النازي للأيديولوجية البعثية، قد استلهمت حقيقة من الفكر القومي الألماني في القرن الماضي. فالأرسوزي ومن قبله ساطع الحصري أُعجبوا كثيراً بِـ "فيخته" ورسالته إلى الأمة الألمانية، كما أن صلاح البيطار وميشيل عفلق تعرفا على الفكر النيتشوي جيداً أثناء دراستهما في باريس".
ولكن بالطبع وإن اختلفنا مع الإيديولوجيات القومية الغربية الفاشية، فإن تشبيه الحركات القومية العربية بها هو ظلم لها، لأن هذه الفاشيات أنتجت على الأقل على الصعيد الاقتصادي أنظمة صناعية متقدمة كما في ألمانية وإيطاليا. بينما لم تنتج عربياً سوى الهزائم، ولم تشيد وتبنِ غير السجون، وحوّلت الإنسان العربي إلى كائن ذليل مطارَد عالمياً كإرهابي، وليس كحفيد لسومر والفينيق وكنعان.
__________
* كاتب وباحث سوري - باريس
هوامش:
1 - George Lavroff، Histoire des idées politiques، éd. DALLOZ
2 - Olivier Carré، Le nationalisme panarabe du Baas، éd، Fayard، 1993
3 - Loïc Philip، Histoire de la pensée politique en France، éd، Economica، Paris 1998
3 - Louis Delbez، La pensée politique allemande، Paris 1975