أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب (3)















المزيد.....



انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب (3)


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 5335 - 2016 / 11 / 6 - 13:54
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب (3)
طلعت رضوان
أعتقد أنّ الأديب إبراهيم أصلان أحد الذين وعوا التراث المصرى، سواء فيما يتعلق بالثقافة القومية، أو فيما يتعلق بمفهوم شعبنا للدين، الذى أطلق عليه علماء علم الاجتماع (الإسلام المصرى) اعتمد أصلان فى كتابة رواياته وقصصه القصيرة على تقنية فنية أثناء عملية الخلق الفنى ، هى الإبداع بأسلوب فن الهمس (إنْ جاز هذا التعبيرالمجازى) والمقصود ب (الهمس) هنا التأكيد على نفى النقيض ، أى أنّ (الهمس) ضد المباشرة وضد لغة الخطابة وضد كل ما هو العدو الأول للغة الفن ، وإذا كانت لغة الخطابة تزول وتتبخـّر بمجرد إطلاقها ، فإنّ فن الهمس هو الذى كتب لكل الأعمال الإبداعية البديعة البقاء . وإبراهيم أصلان لأنه أعطى لفن القصة والرواية عمره ، ولأنه أحبّ هذا الفن واحترمه ، لذلك نجده قارئــًا من طراز رفيع للإنتاج الأدبى فى فن القصة والرواية العالمى . ويذهب ظنى أنه استفاد من روّاد الإبداع الروائى فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، أمثال أرنست همنجواى (1898- 1961) الروائى الأمريكى الكبير الذى تأثر به كثيرون (فى الغرب وفى الشرق) وهو مؤلف الروايات البديعة (سوف تـُشرق الشمس) ، (وداعًا للسلاح) ، (لمن تدق الأجراس) ورائعته (العجوز والبحر) التى يبدو فيها صوت (الهمس) هو البطل الحقيقى لهذه الرواية البديعة والتى تأثر بها كثيرون ، وهو الحاصل على جائزة نوبل عام 1954 . و(الهمس) نجده أيضًا فى إبداع الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) والتى يُصنفها النقاد على أنها من كتاب القصة التأثيريين . ورغم المعانى الإنسانية العميقة فى إبداع جيمس جويس (1882- 1941) الروائى الأيرلندى ، فإنّ (صوت الهمس) هو اللحن الأساسى فى كتاباته ، حتى عندما كتب روايته البديعة (عوليس) وأدان فيها اليهود وحذر من سيطرتهم على اقتصاد أيرلندا . و(صوت الهمس) نجده كذلك عند الروائى الفرنسى مارسيل بروست (1871- 1922) حتى وهو يكتب رائعته الفلسفية (البحث عن الزمن الضائع) فى 16 جزء . ويُصادفنا (صوت الهمس) فى إبداع الروائى هنرى جيمس (1843- 1916) وهو واحد من أشهر الروائيين الأمريكان ، وتتميّز رواياته بمعالجته الموضوعية الواقعية لشخصياته وبتحليلها والتعمق فى دوافعها الخفية ، دون أية مباشرة أو اللجوء للغة الخطابة . ورغم أسلوبه المعقد الدقيق فإنّ النقاد يعتبرونه من أساتذة الصنعة الفنية . ومن رواياته (صورة سيدة) ، (ما عرفته ميزى) ولعلّ أهم رواياته (جناحا الحمامة) ، (السفراء) و (الإناء الذهبى) أما أشهر رواياته فهى ( دورة اللولب) وعندما نـُبحر فى عالم الإبداع العالمى ، لابد أنْ نتوقف أمام الكاتب الأمريكى هيرمان ملفيل (1819- 1991) الذى تمكــّن ببراعة فائقة من إعادة صياغة تجاربه الحقيقية فى مغامراته البحرية ، ونسج منها الجو الملائم لرواياته التى تدور حول حياة البحار وفى وصف البلاد النائية . ومن مؤلفاته (تيبى) ، (أومو) وفى هاتيْن الروايتيْن جسّد المغامرات فى بحار الجنوب . وقد أثارتْ هاتان الروايتان ضده عاصفة من النقد اللاذع بسبب وصفه الواقعى لحياة الأهالى المُعدمين وهجومه على سلوك المُبشرين . أما أهم رواياته فهى رواية (موبى ديك أو الحوت) نظرًا لما تنطوى عليه من رمزية فلسفية يُغلفها الحزن المرير ، ولكن كل ذلك تم بلغة (فن الهمس)
******
يذهب ظنى إلى أنّ هذا التمهيد كان ضروريًا للدخول إلى عالم إبراهيم أصلان الروائى والقصصى . كما يذهب ظنى أيضًا إلى أنّ إبراهيم أصلان إذا كان قد استفاد من تجارب المبدعين الأوروبيين والأمريكان ، إلاّ أنه وضع بصمته الخاصة فى كل ما كتب . و (الهمس) عند إبراهيم أصلان يعتمد على بديهية يتغافل عنها بعض الكتاب ، بديهية هى المبدأ الأول عند كل مبدع أصيل : الإيحاء أشد بلاغة من الإفصاح ، والهمس أكثر تأثيرًا من الصراخ . ومثل أية متوالية موسيقية ، فإنه طالما انحاز ل (فن الهمس) فكان طبيعيًا أنْ يعتمد على أسلوب التجميع التراكمى ل (المنمنمات) ومن هذا التجميع التراكمى تكتمل اللوحة الإبداعية ، مثلها مثل اللوحة فى الفن التشكيلى ، يظل فضاؤها متسعًا ومتعددًا لكل التأويلات والمعانى والتفسيرات .
وأسلوب (المنمنمات) لا يعتمد على أحداث بمعناها التقليدى . لذلك نجد الحدث / الأحداث عند إبراهيم أصلان تسرى مع تيار الحياة اليومية ، مثل الموجة التى تبدو عنيفة فى أحيان وهادئة فى أوقات أخرى . وهذه التقنية أتاحت للمبدع أنْ يبتعد تمامًا عن الفواجع الميليودرامية التى يتبخر تأثيرها سريعًا . وعلى سبيل المثال فإن الجدة (هانم) تختفى فى بداية الصفحات الأولى فى رواية (عصافير النيل) (الصادرة عن دارالآداب – بيروت عام 1999فى طبعتها الأولى ، وعن هيئة قصور الثقافة فى طبعتها الثانية عام 2000) ولكن لأننا لسنا إزاء كتابة تقليدية ، أى لسنا إزاء كتابة تهتم بالحادثة دون دلالاتها الإنسانية ، فإنّ إختفاء الجدة هانم فى ص 14 يظل صداه عميقــًا ومؤثرًا فى مجمل المنمنمات التى كوّنتْ الإطار العام للرواية ، إلى أنْ نعثر عليها (= الجدة هانم) فى ص 225 فهى مازالت تبحث عن بيت ابنتها نرجس ، تدور مع الأزقه ، وتغيب فى الحارات ، تفتش فى وجوه الناس ((وإذا داهمها الليل تحتمى بالماء . تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع بأوراقها العريضة المائلة على حافة النهر الساكن . تغفو وتقوم على ارتجافة الفجر الفضى عند الكوبرى الحديدى القاتم . تــُبلل وجهها ، وتمضغ قبضة من الأعشاب الرطبة وتحبو)) وإذا كان الطفل الإنسانى يبدأ ب (الحبو) فكذلك تنتهى حياة الجدة هانم بالحبو، ليس بسبب عمرها المتقدم الذى تجاوز التسعين عامًا عند البعض أو المائة والأربعين عند آخرين ، وإنما لأنها لا تريد أنْ تــُصدّق أنّ ابنتها نرجس قد ماتت ، ولا تريد أنْ تــُصدّق أنّ ابنها عبدالرحيم قد مات ، لذلك فهى ((تبحث عن مداسها لكى تلبسه وتروح لابنتها .. ثم تبحث عن المداس لكى تلبسه وتروح تبحث عن ابنها)) وهكذا تظل تبحث عن المداس لكى تروح لهما ، والسبب كما قالت دلال زوجة ابنها عبد الرحيم ((بيتهيأ لها إنهم عايشين)) (ص 18، 19) فالكاتب هنا تجاوز المعنى المباشر للحدث (إختفاء الجدة هانم) وإنما كثف الإضاءة حول دلالاته ومعانيه الإنسانية ، من خلال وعيه بمفردات الشخصية المصرية ومكوناتها ، إذْ أنّ الثقافة القومية المصرية التى توارثناها عبر آلاف السنين ، أثبتتْ عمق العلاقة الوجدانية داخل كيان منظومة الأسرة ، المُجسّدة للترابط بين الأجيال ، وهى ظاهرة متوارثة عن جدودنا المصريين القدماء . كما أنّ المبدع وهو يُمهد لاختفاء الجدة هانم ، استخدم آلية الإبداع الساخر بشكل فنى بديع ، إذْ أنّ الجدة هانم عندما رأتْ النعش المحمول عليه ابنها عبد الرحيم سألتْ ((همّ شايلين الواد عبدالرحيم ورايحين فين ؟)) ولأنّ أولادها وأحفادها تعمّدوا إخفاء خبر وفاته عنها ، خوفــًا عليها من صدمة الفراق ، فلم يُصرّحوا لها بالحقيقة ، فقالت ((يخيبك يا عبد الرحيم .. لازم الانتخابات رجعت تانى)) وتتذكر أيام شبابها حيث أنّ ((المنشاوى باشا نجح)) (ص 10) وهكذا يلضم المبدع بساطة السرد بعمق الدلالة .
وكما حدث الخلط فى تداخل الأزمنة عند الجدة هانم ، نجد أنّ هذا التداخل يأخذ أشكالا عديدة ، وأيضًا بأسلوب الفن الساخر، حيث نجد (البهى عثمان) عندما أراد أنْ يشرب الماء ((تناول القلة من جنب التليفزيون)) (ص24) وعندما ذهبتْ نرجس لخطوبة البنت أفكار لشقيقها عبد الرحيم ، فإنّ أم أفكار قدّمتْ لها نصف تفاحة وللعريس النصف الآخر، كانت نرجس صريحة فقالت ((دى طعمها جاز يا ولاد)) فقالت أم العروسة ((آه والنبى .. دى ريحتها جاز بصحيح.. يمكن من السكينه)) وسأل خال العروسة عبد الرحيم ((أُمال إنت يا سى عبده .. كلتها إزاى ؟)) فقال عبد الرحيم ((أنا إفتكرتْ إنْ التفاح طعمه كدا)) وهذا – بالطبع – ما ضايق العروسة التى قالت له بعيدًا عن أهلها ((يعنى لازم تعرّفهم إنك كمان .. عمرك ما كلت تفاح ؟)) وعندما أكد لها ((أنا كنت بأهزر)) لم تستوعب دعابته (ص 86) وإذا كانت (القلة) الفخار التى تتولى تبريد الماء بجانب التليفزيون ، فإنه عندما انقطع تيار الكهرباء عن شارع فضل الله عثمان ، فقد تمّ اللجوء إلى اللمبة الجاز الموضوعة على التليفزيون (ص 178)
اللجوء إلى فن الهمس ساعد المُبدع على تجميع تراكمات المنمنمات ، فنجده يُكثف آفة الميراث ، تلك الآفة التى شغلتْ البشرية وتسبّبتْ فى الكثير من المآسى ، كثافة صاغها إبراهيم أصلان فى أقل من صفحتين : أفراد العائلة يتساءلون من أحق بالأرض التى كانت فى الأصل ملكــًا للجدة عزيزة ؟ وعزيزة ماتت . الثلث ورثته ابنتها هانم ، جدة عبد الله عثمان . والثلثان ورثهما ابنها عبد العزيز، شقيق جدته . خصوصًا أنّ عبد العزيز ظلّ يفلحها بنفسه . لكن عبد العزيز مات . والعمدة أعطاها لمستأجر من معارفه . أبناء عبد العزيز لهم الحق فى ثلثىْ الإيجار، وهانم الثلث . لكن هانم ماتت . الثلث (إذن) يرثه أبناء هانم – نرجس وعبد الرحيم- ثلث لنرجس وثلثان لعبد الرحيم . ونرجس ماتت . المفروض أنْ يرثها عبد الله وأخوته . وعبد الرحيم مات . والمفروض أنْ ترثه دلال (زوجته) وعيالها . ودلال أخبرته (= عبد الله عثمان) أنّ العمدة عبد الرحمن مات . والمستأجرالقديم مات. وعياله ماتوا. ولا أحد منهم يعرف أين هى الأرض، ولامن يركبها الآن. حكاية لا أول لها ولا آخر. صحيح أنّ كل حى منهم له حق، ولو شبرفى هذه الأرض. لكن أين؟ وكيف؟ أفراد العائلة يتوسّمون فى عبد الله عثمان أنْ يذهب إلى القرية ويحصل لهم على حقوقهم. عبدالله عثمان يمشى بجوار النهر. كان النهرساكنــًا، وبدتْ أضواء المصابيح التى انعكستْ عليه عكرة وذاوية . فكرعبد الله عثمان أنّ الماء نائم. وفكر((يُسافريقول يا من ؟)) وراح يمشى ويُفكر(ص 146، 147) هذه الكثافة الفنية أغنتْ عن الكثيرمن التفاصيل التى لاتــُضيف وعيًا ولاتــُعمّق الدلالة، خاصة أنّ المنمنمات المتناثرة، تضافرتْ مع هذه الكثافة فى تجميع الصورة الكلية لمأساة البشرالمتمسكين بآفة الميراث (من منظوردينى) بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومع مراعاة أنّ كل ذلك تم من خلال فن الهمس.
000
الغموض الفنى:
ومثل المتوالية الموسيقية، نجد أنّ كل مفردة فى تقنيات الكتابة، تلتحم بالمفردة التالية لها وهكذا: فإذا كان المبدع قد انحازإلى فن الهمس، فهذا الفن أخذه إلى أسلوب المنمنمات، وهذا بدوره صعد به إلى أعلى درجات الكثافة الفنية، وهذه بدورها كان لابد ومن الطبيعى أنْ تفتح له آفاق الإبداع الأصيل، والذى يُمكن تلخيصه فى كلمتيْن: الغموض الفنى، لأنّ هذا الغموض الفنى لصيق بجماليات الإيحاء الذى هوأشد بلاغة من الإفصاح، وأكثرتأثيرًا من الصراخ، ولكن بشرط واحد: لابد للمبدع أنْ يضع مفاتيح حل شفرات الغموض، وإلاّتحول الغموض الفنى إلى مجرد (حلية) لامعنى لها، لأنها لاتــُضيف وعيًا ولاتتوقف عند أى مغزى إنسانى، وبالتالى نكون إزاء (الغموض المغلق على نفسه) كما يفعل البعض، وهوالأمرالذى وعاه إبراهيم أصلان فى كل كتاباته الإبداعية.
بعد المشهد السابق مباشرة، الذى جسّد الموقف الدرامى لحيرة عبد الله عثمان، الذى يتمنى ويرغب فى مساعدة أفراد العائلة للحصول على حقوقهم فى الميراث، ولكنه لايعرف كيف؟ ولا يعرف حتى اللجوء إلى من؟ بعد أنْ أصبحتْ الأرض أشبه بالمشاع بين أكثرمن فرد، خصوصًا وأنّ العمدة أباح لنفسه توزيعها على بعض معارفه وخلصائه. بعد هذا المشهد فإنّ عبد الله عثمان يتذكرفترة مهمة من طفولته، حيث كان أطفال القرية يصطادون العصافير بطريقة فيها الكثيرمن القسوة. وعبد الله عثمان الطفل لم يفلح مثلهم فى اصطياد ولوعصفورة واحدة. وذات مرة عثرعلى عصفورة جريحة تعرج. حملها ووضعها فى الفخ (مثل الذى كان الأطفال يستخدمونه) ليوهم أمه أنه نجح فى اصطياد العصفورة. أخرج العصفورة من جيبه وفتح حلقة الفخ. حاول أنْ يجعله ينطبق على رقبة العصفورة، التى صوصوتْ من الألم. عند هذه اللحظة لم يُطاوعه قلبه. وقف يُفكرفى هذه المشكلة . فجأة.. رمقته عين العصفورة بنظرة لامعة. خمشته بأظافرها الرفيعة الحادة. جرحته. العصفورة قرّرتْ الهرب والتحررمن محاولة قيدها. وبعد عدة محاولات فى المطاردة، أدرك عبد الله عثمان أنّ العصفورة هدّها الإعياء، فأدرك أنها هالكة لامحالة. ثم رأى أنها تعلمتْ الطيران. وحوّمتْ مرتيْن ثم اندفعتْ تعبرالأسواروالأشجار، وتعلوفى براح السماء البعيدة.. وتختفى.. وينتهى هذا المشهد (الذى يتذكره عبد الله عثمان من بئرالطفولة) بيد أبيه تلامس كتفيه من الخلف.. فارتجف فى العتمة (من ص 150- 155) هنا نجد التوظيف الدرامى للغموض الفنى فى حركة القبضة المفاجئة وما تلاها من خوف فى العتمة. فهذه الحركة الأخيرة محملة بالكثيرمن الدلالات التى تتعدد بتعدد القراءات، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ حركة الخوف لصيقة بتحريك الضميروهويتذكرعذابات العصفورة، ثم دلالة ذلك بإصرارالعصفورة على الطيران (= الإصرارعلى الحرية) وأنّ قيد العصفورة يُقابله قيد الميراث. وأنّ عذابات العصفورة يُقابلها حيرة عبدالله عثمان الذى لايعرف كيف يحصل لأفراد العائلة على حقها فى الميراث. وهكذا وظــّـف أصلان الثقافة القومية المصرية، والمفهوم المصرى للإسلام إبداعيـًـا.
وعبد الله عثمان (الأستاذ الذى يضع أفراد العائلة أملهم فيه) عندما مشى فى شارع فضل الله عثمان، رأى البنت شربات الصغيرة التى كانت تلاحقه من زمان بعينيها الشقيتيْن، والتى كانت تــُشاركهم اللعب على شاطىء النهربضفيرتيْها.. ثم اختفتْ.. فى هذه المرة وجدها ((كومة كبيرة من اللحم.. تجلس على الأرض حافية فى مدخل أحد البيوت دون أنْ يعرفها.. ثم سمعها تقول بين الغناء والكلام: والله زمان يا سلاحى.. فعرفها من عينيها ومن ابتسامتها الجميلة القديمة.. ورأى وجهها يتهلل عندما أدركتْ أنه عرفها وقالت له (إتفضل) فهمس بكلمة (متشكر) وهويشعر بشىء من العار(ص 143- 144) عند الجملة الأخيرة التى ختم بها المبدع هذا المشهد، لابد للقارىء أنْ يتوقف عند دلالة معنى الشعوربالعار. ولكن إذا رجع القارىء إلى بداية المشهد، سيجد مفتاح حل شفرة الغموض، إذْ بدأ المشهد ب (الست دلال) وهى تطلب منه أنْ يُطمئنها بعد أنْ يعود من البلد .. بينما شقيقه سلامه يقول له ((ماتنساش موضوع الأرض)) (ص 142) إذن فإنّ الكاتب من خلال الهمس وبواسطة المنمنمات وضع أمام القارىء صورتيْن متقابلتيْن ونقيضتيْن: صورة اللهفة على موضوع ميراث الأرض، وصورة البنت شربات (التى يتذكرطفولتها وعينيها الجميلتيْن وضفيرتيها وهى تلهووتلعب على شاطىء النهر) ثم صورتها الأخيرة وهى عبارة عن ((كومة من اللحم)) ومع ذلك تبتهج لأنّ شخصًا ما تذكرها.
000
الوعى بمفردات الشخصية المصرية:
فى مجمل أعمال إبراهيم أصلان، وجدتُ لديه الوعى العميق بمفردات الشخصية المصرية، بكل إيجابياتها وسلبياتها، وهذا الوعى جمع بين العمق الوجدانى، وبين التصرفات ذات الطابع النفعى المحض (= براجماتية) حتى فى اللحظات التى تتطلب الخشوع أثناء تأدية فروض العبادة، كما حدث ((حين تدحرجتْ بريزة فضية من جيب أحد المصلين واستقرتْ أمام محمد أفندى الرشيدى والبهى عثمان، ولأنّ البهى عثمان كان يترصد لمحمد الرشيدى، وبالتالى يعمل على رصد كل عيوبه، لذلك عندما كانا يُصليان معًا، لمح (أثناء الركوع) كف محمد الرشيدى وهى تنزل على البريزة بالضبط.. وقال: ((سبحان ربنا الأعلى، ثلاث مرات. وسحب كل منهما يده واعتدل. كانت البريزة بقدرة قادرقد اختفتْ)) (ص 41) والبهى عثمان الذى كتب العديد من الشكاوى ضد المصلحة التى أخرجته على المعاش فى سن الستين، بينما يرى أنّ حقه أنْ يخرج على المعاش فى سن الخامسة والستين، وإذْ بلغ به اليأس مداه بدأ يسخرعلانية من مشاعرالناس ولم يعد يهتم إطلاقــًا بما يقوله فلان أوفلانة.. ثم توقف تمامًا عن الذهاب إلى الجامع (ص 51)
وعندما مات البهى عثمان (زوج نرجس) ومرّأمامها محمولافى صندوقه الخشبى، رفعتْ نرجس وجهها بالعيون التى جفّ فيها الدمع وصاحت تــُعاتبه ((كدا برضوتعملها يا بوعبد الله)) (ص 57) فرغم أنّ الوجدان المصرى شديد الإيمان بالقدر، وأنّ ((الموت حق)) وأنه فى ((كتاب معلوم)) ومقدّرسلفــًا بالمشيئة الإلهية، رغم كل ذلك نجد أنّ كثيرين (خصوصًا بين الطبقات الشعبية) يُعبرون فى لحظة الوداع عن فاجعة الفراق، بذات الكلمات التى نطقتْ بها نرجس وهى تودع زوجها ((كدا برضوتعملها يا بوعبد الله)) كأنما هوالذى اختاروحدّد لحظة وفاته وليس القضاء والقدر. ونرجس عندما سألتْ شقيقها عبد الرحيم عن أمه قال ((بتسلم عليكى)) طيب ((وستك عزيزة عامله إيه؟)) فكانت إجابته ((زى القرده)) طيب ((وخالك عبد العزيز، قال ((حلو)) (ص 65) مع ملاحظة أنّ تعبير(زى القرده) مُـستمد من الحضارة المصرية، حيث كان القرد رمزالإله جحوتى (إله الحكمة والمعرفة) وأصلان وعى أنّ الأم المصرية عندما يصاب ابنها بمرض، وتسأل عنه جارتها، ويكون الولد فى الشارع يلعب ترد عليها ((آهوبيلعب زى القرد)) وإذا علمنا (من أحداث الرواية) أنّ عبد الرحيم لايكره جدته عزيزة، بل هويحبها، وإذا علمنا أنّ شخصيته أقرب إلى البوهيمية، وتعلقه الدائم بالجنس المتجسّد فى تعدد زيجاته، تقبلنا وصفه لجدته عزيزة وأنها (زى القرده) فهووصف يجمع بين الفكاهة والسخرية ويحمل معنى القوة والعافية المتمثلتيْن فى نشاط القرود وخاصة عند الانتقال من شجرة إلى أخرى. ويؤكد ذلك بلاغته فى وصفه لحال خاله بأنه ((حلو))
ونرجس طوال أحداث الرواية تــُعامل شقيقها عبد الرحيم كما لوكانت أمه وليست شقيقته، فهى شديدة العطف عليه والإهتمام بكل خصوصياته، لذلك عندما مرض، فإنه لم يهدأ إلاّبعد أنْ أعدّتْ نرجس كوبًا من الشاى ودعكتْ جبهته بنصف ليمونة (ص 72) تمامًا كما تفعل الأم المصرية مع أطفالها، وتمامًا مثلما هى عادة شعبية تندرج تحت مايُسمى بالطب الشعبى.
ولأنّ أصلان غاص فى الوجدان الشعبى، لذلك نجد تحايا المصريين تتردّد على ألسنة شخصياته فى كل صفحات الرواية مثل (العواف) عند دخول شخص على شخص آخر، فعندما زارتْ نرجس دلال زوجة شقيقها عبدالرحيم قالت لها ((عواف يا دلال)) فكان رد دلال ((الله يعافيكى ياعمتى)) (ص 161، 162 ، 176) وهذا التعبير((عواف.. يعافيكى)) كان شائعًا لدى غالبية شعبنا قبل غزوالتعليم والإعلام للعقل والوجدان المصرى، وفرض تحية واحدة، تجسيدًا للشمولية والأحادية، لنفى التعددية التى تميّزتْ بها الشخصية المصرية، حتى فى ابتكارشتى التعبيرات الدالة على هذه التعددية، ومنها تعدد التحايا، مثل تحايا الصباح المتعددة وتحايا المساء، وتحايا الخروج من الحمام (نعيمًا) وتحايا الانتهاء من إخراج ما فى المعدة (شـُـفيتم) وبعد الإنتهاء من الصلاة (حرمًا) إلخ. أما لفظة (عمتى) فهى تعبيرمصرى مجازى تقوله الزوجة لشقيقة زوجها، وهذا التعبيريحمل معنىً إنسانيًا عميقــًا، إذْ أنه يجعل العلاقة الأسرية أقرب إلى صلة الدم منها إلى مجرد صلة النسب.
ومن بين العادات المصرية التى وعاها أصلان، خصوصًا فى الأحياء الشعبية، أنّ أبواب الشقق غالبًا مفتوحة، لذلك عندما زارمحمد أفندى الست نرجس.. ومدّ إصبعه ونقرعلى باب الشراعة قالت ((أدخل يا اللى بتخبط)) (ص 169) ومن ملامح الشخصية المصرية التى انتبه إليها المبدع، اقتحام أية مشكلة وعدم التردد فى ممارسة أية مهنة حتى ولوكان الشخص غيرمتخصص فيها مثلما حدث بعد وفاة عبد الرحيم، إذْ أنّ من تولى غسل الجسد بعد الوفاة أبوخالد وهوشخص ليست له أدنى علاقة بهذه المهنة، وكان المبرر((إنها ليست شغلانه.. وأنّ أولاد خاله أولى بالمصاريف التى سيأخذها المغسل الغريب)) (ص 207) ولكن أحد الذين حضروا الغسل ألحّ على أنْ تكون ((الليفه ناعمه)) والسبب لأنّ الليفه ((لوخشنه ممكن تجرح جسد الميت، لإنْ البنى آدم مننا طول ما الروح فيه ممكن يستحمل.. لكن أول ماربنا يفتكره، جـِـلده يبقى رُهيف، وأى شىء ممكن يؤثرفيه)) (ص 210) ورغم أنّ هذا الكلام عكس الحقائق العلمية، فإنّ غالبية المصريين (وهوما شاهدته بنفسى) يحرصون على ضرورة أنْ تكون ((الليفه ناعمه حتى لاتجرح جسد الميت)) ولأنّ الشخصية المصرية شديدة الإيمان بالغيبيات، لذلك كان لابد من خروج أى شخص غيرطاهر، لأنّ ليس له الحق فى حضورغـُـسل الميت ((ولامؤاخذه يا جماعه.. إحنا فى حضرة ملائكه)) (ص 211)
الوعى بمفردات الشخصية القومية لابد أنْ يرتبط بالإبداع الشعبى (مجهول المؤلف) الذى صاغته الجماعة الشعبية الأمية، لذلك تترنم نرجس على رحيل شقيقها بتلك الترنيمة العذبة ((نادى المنادى وسمعته بودانى.. من مات شقيقه ما يعوضوش تانى)) (206)
وعن الصورالفنية البديعة نجد أنّ الشخص الذى يجهش دون صوت ((كأنما هويمضغ البكاء)) (ص 206) ودلال (زوجة عبدالرحيم ) عندما سألتها الجده هانم عن عبد الرحيم أخفتْ عليها خبروفاته، فقالت الجدة من جديد ((إنتى سامعانى يادلال ؟)) فقالت دلال ((سامعاكى)) كان رد دلال بصوت مخنوق.. وهالها وجه العجوزوهويطفومضيئــًا بالخضرة.. فى الجوالمعتم وراء الزيرويختفى)) (ص 220)
ويمزج المبدع الخرافة بالسخرية ضمن مكونات الشخصية القومية، إذْ أنّ نرجس تقول لزوجها ((ياريتك يا أبوعبده لما أموت، توصل لى سلك بلمبه فى التربه)) ولكن زوجها يُبررالرفض والدهشة قائلا ((دى تضرب (أى اللمبه) يا وليه)) فترد عليه ((أبدًا.. والنبى ما يجرى لها حاجه)) زوجها سكت وتهيأ له أنّ اللمبه لن تضرب. وفكربينه وبين نفسه ((صحيح: إيه اللى يخليها تضرب؟)) لكن عقله راح ناحية الملكيْن: وهل يصح أنْ يكون الحساب فى نورلمبة الكهرباء أولايصح.. استغفرربنا وهرش رجله الشمال وبدا له أنّ الموضوع غريب.. ولكن نرجس ألحتْ فقالت ((أسبوع واحد.. لغاية ما آخد على الضلمه)) (ص 28، 29) وإذا كان العلماء يُـفرّقون بين الأسطورة والخرافة، فإنّ كثيرين لايزالون يؤمنون ببعض الخراريف، مثل ذلك الرجل الذى وجد فى إحدى المقابرأسفل منزله قطعة من الرخام ((وحواليها فرخة وسبع كتاكيت دهب)) (ص 109)
كما يعى المبدع المُـتغيرات التى حدثتْ فى الشخصية القومية، من ذلك تغلغل الأصولية الإسلامية مثلما حدث مع أحمد الرشيدى الذى كان لايعيبه إلاّعدم الصلاة التى أغضبتْ السـُـنية فى الجامع ((إلى أنْ قام أولاد الحرام الذين لايعرفهم أحد بالاعتداء عليه، وبهدلوه، فى الشهرالكريم وساعة الإفطار.. وهوّقاعد مع أولاده على الطبليه.. البيت كله سمع الصوت وهويـُـنادى مستغيثــًا ((ياعم أحمد.. يا عم أحمد يا رشيدى)) والرجل قام من على الأكل واندفع يُـلبى النداء صائحًا ((جاى لك)) وفتح باب الشقة ليُفاجأ بضربة من (بونيه) حديد هرست ذقنه وكسرتْ عدة أسنان)) (ص 176) أى أنّ الجماعات الإسلامية المتشددة، ترى أنّ إقناع الناس بالصلاة يكون بواسطة العنف المادى (الضرب بالبونيه الحديد) وليس بالموعظة الحسنة، مثلما كان الواقع المصرى، قبل تغلغل الأصولية الإسلامية وخاصة فى طبعتها الوهابية.
وإبراهيم أصلان لأنه أطلق عقله ووجدانه للسباحة داخل الوجدان الشعبى، لذلك فهوفى سرده الأدبى، يكون مترجمًا أمينــًا (ولكن بلغة الفن) وهويُحاكى أسلوب شعبنا فى بداية الحكى، من ذلك مثلا عندما كتب ((مره النورانقطع فجأة على نرجس وهى قاعدة تتفرج على التليفزيون)) (ص23) وعن الخال الكبيرعبدالعزيزالذى صنع أرجوحة من حبال وربطها فى عروق السطح العالية، كتب عنه ((مرة أكل ثمرة باذنجان رومية، عسلية اللون، قطفها بنفسه من شجيرة قصيرة خضراء)) وكذلك ((مرة دخل حقلا ورأى صبية يجلسون فى شبه دائرة وهم يمضغون أوراق الرجله، ويُدلكون أعضاءهم المنتصبة العارية، أخبره سالم أنهم يريدون أنْ يعرفوا هل بلغوا وصاروا رجالا أم لا)) وأيضًا ((مره كان شباب يُهيجون العصافيرالتى تبيت فى سقف حوش الدارالكبيرة، يقبضون عليها بالطواقى المفتوحة، ويعطونه واحدة، لاتلبث هى الأخرى أنْ تطير)) (ص 149) إنّ الأديب هنا أعاد صياغة الأصل الشعبى، إذْ يبدأ شعبنا حكاياته قائلا ((كان مره فيه كذا)) ويبدأ الكاتب الفصل الثالث هكذا ((الدنيا صيف.. والبلح الأحمرطلع)) (ص61) كناية عن أنّ البلح ظهرفى الأسواق.
يرتبط بأسلوب الحكى الشعبى، انحيازالمبدع للغة المصريين المنطوقة، أى لغة الحياة اليومية التى يتعامل بها الأمى والمتعلم، وحتى رجال الأزهرعلى حد قول عميد الثقافة المصرية (طاها حسين) فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر. ولأنّ شخصيات أصلان من الطبقات الشعبية، وخصوصًا من حى إمبابة والكيت كات وشارع فضل الله عثمان إلخ، لذلك فإنه يمتلك شجاعة كتابة الحواربلغة شعبنا الحية، فى كل رواياته وقصصه القصيرة. بينما يأنف كثيرون من لغة شعبنا. فعندما اختفتْ الجدة هانم، قال البعض أنها ربما تكون قد سافرت إلى البلد، فيكون السؤال (هىّ تعرف تسافر؟) وتكون الإجابة ((يمكن سألتْ حد ودلــّها)) (ص 19، 20) فإذا ترجمنا هذه الجملة إلى اللغة العربية تكون هكذا: ((ربما سألتْ شخصًا ما وأرشدها على الطريق)) وعندما انقطع تيارالكهرباء، فإنّ ((نرجس وقفتْ (تنكش) فى علبة الكبريت)) (ص23) فكلمة (تنكش) هنا كناية بلاغية عن البحث عن شىء ما فى الظلام. ويستخدم تعبيرأنّ فلانــًا ((هبد الباب)) (ص 26) أى أغلقه بعنف فى الترجمة العربية. ويستخدم لفظة (دوشه) (ص29) كبديل للكلمة العربية (إزعاج) ونرجس عندما كانت مشغولة، فالسبب كما قالت ((أنا بأروّق الدولاب)) (ص54) أى أنها تــُعيد تنظيم ترتيب الملابس فى الدولاب. وعبد الرحيم جلس على الكنبة ونشف عرقه (ص61) أى جفف عرقه بالعربى. والبهى عثمان عندما عاد من البوستة ((قلع بدلة المصلحة)) (ص63) كبديل للكلمة العربية (خلع) ونظرًا لأنّ كلمة (قلع) الهدوم تتكررفى كل مناسبة فى الرواية، كبديل عن كلمة (خلع) العربية، فإنّ هذا يؤكد أنّ المبدع ينحازعن عمد للغة شعبنا، وليست المسألة مجرد مصادفة لم تتكرر. وعبد الرحيم يسأل عبدالله ((إزيك يا واد ياعبد الله)) فتكون الإجابة ((كويس)) (ص 64) فلفظ (إزيك) يقابله فى اللغة العربية (كيف حالك) ولفظ (كويس) يقابله (أنا بخيرأوبصحة جيدة إلخ) والخال عبدالعزيزكان يُعانى مشاكل صحية فى المثانة، ولكن البهى عثمان يصف حالته الصحية قائلا ((لسه الميه بتحرقه)) ثم يُضيف ((آهى ساعات تحرقه وساعات يروق)) (ص 65) فتعبير(الميه بتحرقه) هى المرادف للتعبيرالمصرى عن (حرقان البول) كبديل عن (ألم المثانة أثناء التبول)
أما كلمة (لسه) التى تتردد كثيرًا فى صفحات الرواية، فهى تتردد مئات المرات فى حوارات شعبنا فى اليوم الواحد، ولها أكثرمن استخدام، رغم دلالة (الزمن) فى معظم الاستخدامات، لأنها مستمدة من اللغة المصرية القديمة فى مرحلة تطورها الثالث، أى مرحلة اللغة القبطية، للتعبيرعن الزمن، لذلك نجدها (أى كلمة لسه) منتشرة فى القبطية الصعيدية فى هذا التعبير ((الواد لساه ماشى)) أى أنّ الولد انصرف منذ وقت قصيروهكذا. ومن استخداماتها كذلك ((الواد لسه ما جاش)) ، ((الواد دا لسه خام)) (أى عديم الخبرة بالحياة) كما كتب أصلان على لسان الست أم أفكار((يابت دا لسه خام.. إنت علميه)) (ص 81) ((هوّأنا لسه ح أستنى)) (أى كم من الوقت سوف أنتظربعد مكوثى مدة طويلة) ، ((الواد دا لسه صــُغيّر)) كما كتب المبدع ((أصلها لسه صــُغيّره)) (ص 83) وكتب ((مراته لسه هربانه)) (ص 141) كناية عن الفترة الزمنية التى انقضتْ دون العثورعليها، وأنها مازالت هاربة باللغة العربية. وعبد الرحيم عندما يسأل ((أختى نرجس جت ؟)) تكون الإجابة (لسه) (ص160) وليس لها أية ترجمة عربية غير(لا) أى أنها لم تحضربعد. وأم عبد الرحيم تسأله عن صحة نرجس المريضة ((الحكيم شافها ؟)) ((آه)) ((يعنى قامت ولاّ لسه ؟)) (ص204) فيكون المعنى المقصود هنا هل شــُـفيتْ أم مازالت مريضة؟
كما يستخدم الكاتب كلمة (بس) التى ينطقها شعبنا مئات المرات فى اليوم الواحد بمعانيها المتنوعة: ((هوّحربس لما العيال تدحك عليه.. ما ليش دعوه)) (ص 67) فهى هنا بمعنى (لكن) العربية، مثلما جاء على لسان عبدالله ((بس عصفوره لونها أزرق)) (ص 71) وفى سياق آخر تــُستخدم بمعنى (فقط) مثال: موظف يعترض على مبلغ المكافأة فيقول ((همّ دول بس)) فكلمة (بس) هنا جمعتْ بين كلمة (فقط) العربية والمعنى الأشمل وهوالاعتراض على المبلغ الممنوح له. ويستخدم الكاتب كلمة (وله) كبديل عن كلمة (ولد) العربية، مع مراعاة أنّ (وله) ، (واد) تحويرحديث للأصل الهيروغليفى (ياد) للدلالة عن كلمة (الولد) وأصلان يمتلك جرأة كتابة الحواركما ينطقه المصرى دون أى تدخل، فعبد الرحيم حجزتذاكرالسينما له ولخطيبته أفكار (صالة) وليس (بلكون) فقالت تعاتبه ((وقاطعهم صاله كمان؟)) (ص 80) والخال عبد العزيزيعترض على زواج عبد الرحيم من امرأة مطلقة، فيُصرعلى تطليقها منه ((وضرْب عبد الرحيم بالمداس)) (ص 98) وكلمة (المداس) تكرّرتْ فى كل مناسبة فى الرواية، أى أنّ الكاتب يستخدمها عن قصد وليست المسألة مجرد صدفة، والكلمة هى البديل لكلمة (الحذاء)
ونرجس تخجل وترفض أنْ (تشلح) وتقضى حاجتها أمام البط والفراخ (ص 108) وكلمة (تشلح) كبديل عن (ترفع جلبابها) وعبد الرحيم يطلب من زوجته دلال أنْ تكف عن الحديث فيقول لها ((أسكتى)) فترد عليه ((آدينى سكت)) (ص 160) أى ((ها أنا قد صمتتُ)) أوها أنا قد توقفتُ عن الكلام عند ترجمتها للعربى إلخ. ويقول عبد الرحيم لزوجته أيضًا ((إتلهى)) (ص 167) أى إخرسى وفقــًا لسياق الحوار. ويستخدم تعبير((زى الفل)) (ص 190) كبديل للتعبيرالعربى (مثل الفل) ويستخدم (كلمة (قارحه) (ص 223) فى وصف المرأة التى لاتخجل، وتفعل كل ماهولا أخلاقى وتعتبره شيئــًا عاديًا. ونرجس عندما اعتقدتْ أنّ شقيقها عبد الرحيم قد مات وهى بجواره على سريرالمرض، بينما هوكان فى غفوة عميقة قالت ((إخص عليك يا عبد الرحيم)) (ص 168) فكلمة (إخص) هنا بمعنى (خضتنى ياعبد الرحيم) والكلمة لها استخدامات أخرى مثل الأم التى تعاتب طفلها على شقاوته وعلى أفعاله غيرالمتوقعة، فتقول له ((إخص عليك)) بدلامن ((لقد أفزعتنى)) كما أنّ هذه الكلمة تنم عن الحميمية فى أحيان كما فى المثال السابق، وتعنى السب كما فى المثال الآتى ((إخص عليك وعلى اللى خلفوك)) أى (يا لك من سافل أنت ومن أنجبوك) ويقول أحد شخصيات الرواية ((وأنا إيه اللى يودينى البيت؟)) (ص132) أى (ماهى الأسباب التى تجعلنى أذهب إلى البيت؟) لوأردنا ترجمتها إلى اللغة العربية. ومع ملاحظة أن (إ خ ص ى) أصلها مصرى قديم بمعنى (وضيع) أوخسيس (مصروكنعان وإسرائيل فى العصورالقديمة- تأليف دونالد ريدفورد- ترجمة بيومى قنديل- المجلس الأعلى للثقافة- رقم498- عام2004- ص165)
وكان الأديب الكبيرإبراهيم أصلان موفقــًا (فى أكثرالأحيان) وهويكتب الكلمة المصرية حسب نطقها الصحيح وفقــًـا لقواعد كتابة اللغة المصرية، فيفصل الحرف عن الفعل وعن الضمير، كما فى اللغة القبطية واللغة الإنجليزية، فيقول (( ح يشوفونى)) (ص 132) ، ((أمُـال ح تروح فين)) (ص 133) وفلان ((ح يروح فى داهيه)) (ص 135) وزوجة سلامة تسأل زوجها ((ح تنام؟)) (ص 136) ويكتب على لسان دلال ((برتقان)) (ص 162) بدلامن (برتقال) ثمرة الفاكهة المعروفة. ويكتب ((اعمل لك كباية شاى؟)) (ص 170) لأنّ كثيرين، وخصوصًا من يزعمون أنهم شعراء، فإنهم يشبكون الفعل مع الضمير، فيكتبون ((عملك كباية شاى ؟) ويتصوّرون بذلك أنهم يكتبون مايُطلقون عليه (العامية المصرية) ويكتب إبراهيم أصلان ((كان البهى ح يموت)) (ص 177) فى حين أنّ كثيرين يكتبونها ((حيموت)) وطريقة كتابة أصلان هى الأصح، لأنّ حرف ال (ح) حرف مستقبلى فى اللغة القبطية، ويتم فصله عن الفعل فنقول (ح أروح.. ح أذاكر إلخ) ورغم ذلك فإنه لايلتزم بطريقة هذه الكتابة، إذْ يكتب على لسان الحاج شوقى (مش حتلاقى معلقه قد دى)) (ص 191) لأنّ الصحيح ((موش ح تلاقى)) ويكتب على لسان نرجس ((حتركب قطركام يا عبدالرحيم؟)) (ص 90) والأصح (ح تركب)
ورغم هذه الملحوظات القليلة، فإنّ أصلان واحد من المبدعين المصريين الذين وعوا خصائص شعبنا الثقافية (بمعنى الثقافة القومية) التى ينتجها شعب من الشعوب عبرتاريخه الممتد، كما فى حالة شعبنا المصرى. وهووعى يشمل مجمل العادات والطقوس والإبداع الشعبى، فهومثلا عندما تطلب دلال من زوجها عبد الرحيم (اللباس) الذى يرتديه، لتذهب إلى العيادة الخارجية ليكشف عليها الطبيب، لأنها نسيتْ أنْ ترتدى اللباس الخاص بها، وإذْ يعترض عبد الرحيم على طلبها تقول له ((ياخويا قيمة ما أنزل لغاية الدكتوروأطلع)) (ص 163) فالكاتب هنا استخدم تعبيرالمرأة المصرية التى تقول لزوجها (ياخويا) وهوتعبيرمستمد من الحضارة المصرية، ناهيك عن روح الفكاهة الساخرة فى هذا المشهد بين دلال وزوجها الذى كان على فراش الموت. كما أنه تمكن ببراعة فائقة من إعادة صياغة الواقع جماليًا، فمع أنّ إبداعه ينطلق من الواقع، إلاّ أنّ الكتابة ليست هى الواقع المباشر، فقدّم للقارىء (الواقع الفنى) إنْ جازالتعبير، وكل ذلك تم من خلال الإبداع بفن الهمس وبتقنية المنمنمات التى تصنع التراكم الكلى، وعندما يصل القارىء إلى نهاية العمل الإبداعى، تكون هذه المنمنمات قد تغلغلتْ داخل عقله ووجدانه، فتظل الشخصيات حية نابضة لزمن طويل، كما فى كل عمل إبداعى أصيل.
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عروبيون وينتقدون اللغة العربية
- انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب (2)
- انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب
- الأقليات الدينية والثقافة السائدة
- كيف كسر الولاء للدين مصطفى كامل
- هل البديهيات تحتاج إلى توضيح ؟
- هل يستطيع البشر التخلص من الغيبيات ؟
- هل الدين - أى دين - قابل للتجديد ؟
- الأدب الروائى ومقاومة الأصولية الإسلامية
- أصحاب العقول الحرة وموقفهم من العروبة
- هل اختار (الله) شعبه أم العكس ؟
- تناقضات الديانة العبرية (2)
- هل توجد أدلة مادية على ما جاء فى العهد القديم ؟
- هل للعرب مساهمة فى العلوم الطبيعية ؟
- الصراع بين العلم والخرافة
- هل تعلم العرب شيئًا من (التفكير العلمى) ؟
- هل عاش توفيق الحكيم فى البرج العاجى ؟
- المثقف المُتأدلج والمثقف الحر
- هل يمتلك المثقف إرادته وهولصيق بالسلطة؟
- هل المصريون عرب ؟ سؤال متناقض


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - انعكاس الثقافة القومية والدين على الأدب (3)