ساطع هاشم
الحوار المتمدن-العدد: 5334 - 2016 / 11 / 5 - 11:56
المحور:
الادب والفن
اذا صادف يوما ان تكون في لندن في زيارة او اقامة او ماشابه , فحاول ان تذهب الى زيارة متحف – التيت البريطاني –
او يسمى ايضا التيت كاليري , وهذا اسمه القديم قبل انفصاله الى قسمين سنة 2000 , الاول هو البريطاني وهذا مانقصده ونطلب منك زيارته , والثاني المودرن او الحديث , ثم قم بزيارة القسم الخاص بالفن البريطاني لفترة الخمسينات , ستعثر على مصغر مجسم لعمل نحتي لنحات اسمه – ريغ بتلر – بعنوان السجين السياسي المجهول , وبطاقة التعريف المرفقة والمثبتة في اسفل المصغر تحمل اسم النحات وعنوان العمل وتقول بأن بتلر هذا قد انجز عمله بين السنوات 1951-1952 وفاز به بالجائزة الاولى في المسابقة الدولية التي نظمتها ودعمتها المخابرات المركزية الامريكية وتحت عنوان – المسابقة العالمية للنحت /السجين السياسي المجهول - ,هكذا تقول وثيقة المتحف , ( نرفق صورة هذا التعريف ).
وحاليا وبعد انتهاء الحرب الباردة فلم يعد الارتباط بالمخابرات امرا مخجلا او محرجا عند الكشف عنه سواءا كان ذلك للمؤسسات ام للافراد , وبالعكس فالافصاح عن مثل هذه الاسرار امرا يخدم المعرفة والحقيقة بالتاريخ وحتى النجومية لمن كان له مثل هذا الماضي من الجاسوسية والدعارة .
ومايهمنا في ذلك هنا هو ان هذه هي نفس المسابقة التي حاول الفنان العراقي الراحل جواد سليم المشاركة بها وقام بأنجازعمل نحتي وفقا لشروطها وبالهام منها في سنة 1952 وبنفس العنوان الذي طلبته المسابقة , ومنذ ذلك الحين في الخمسينات والى الان , ونحن نقرأ ونسمع بدعاية قوية عن عمله النحتي ذاك في كتابات الصحفيين ونقاد الفن العراقيين واصدقاء الفنان تقول :
( فاز نصبه (السجين السياسي المجهول) بالجائزة الثانية في مسابقة نحت عالمية وكان المشترك الوحيد من الشرق الأوسط وتحتفظ الأمم المتحدة لنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب)
او بكلمات مبالغة اخرى :
(من أعمال جواد المشهورة منحوتته (السجين السياسي) التي قام بتهريبها إلى لندن عام 1953 للمشاركة في المسابقة الدولية مع 3500 نحات حيث فاز بالمرتبة الأولى لفناني الوطن العربي وبالمرتبة السادسة بالنسبة لنحاتي العالم وكان المشترك الوحيد من الشرق الأوسط وتحتفظ الأمم المتحده لنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب )
ولا ادري من اين جاء العراقيون بهذا اللغط الفارغ وهذه الرطانة , فهذه مسابقة عالمية كبرى وقد اصبحت شهرتها في ذلك الوقت تنافس شهرة جائزة نوبل , وعلى مدى عدة سنوات لاحقة اصبحت الشغل الشاغل للمجلات والدوريات الفنية والسياسية على السواء وبمختلف لغات العالم , وجميع الفنانين الذين حصلوا على جوائزها صاروا نجوم بالفن الاوربي والعالمي الحديث.
واريد لها منذ البداية ان تكون رمزا في الصراع الثقافي والاعلامي بالحرب الباردة , وقد كانت هذه المسابقة من الناحية العلنية باسم وتنظيم معهد الفن المعاصر في لندن , لكنها سريا , وبعد اطلاعنا على وثائقئها المتوفرة حاليا للجمهور , فقد كانت من تمويل وتنظيم واعداد المخابرات المركزية الامريكية وكما يذكر المتحف لجمهوره اعلاه , ويدعي كتبة تاريخ الفن بالعراق وصحافته واصدقاء الفنان بان الفنان جواد سليم قد شارك بها وفاز بجائزتها الثانية ولاندري كيف ومتى واين وثائق منحه الجائزة ؟
وقبل ان نكشف بطلان هذا اللغو لابد من تقديم نبذة عن هذه المسابقة اولا, وماهي شروطها واهدافها اصلا , وايضاح بعض الحقائق غير المعروفة لاولئك الذين يروجون تلك الشائعات عن وعي او بدونه.
في كانون الثاني من سنة 1952 نشر معهد الفن المعاصر في لندن الاعلان وشروط المشاركة وعناوين المراسلة , ووجه الدعوات للعديد من دول العالم لحث المسؤولين والنحاتين بالاشتراك في هذه المسابقة .
وكان الداينمو المحرك لكل هذا المشروع والمسابقة هو انتوني كلمان الملحق الثقافي الامريكي السابق لدى السويد الذي
عين لفترة قصيرة مدير تنظيم المعهد , والذي وصل الى لندن في سنة 1951 مدعوما بالاف الدولارات من ممولين امريكان مهمين ومجهولين او لايودون الافصاح عن هوياتهم كما كان يقول وكما تقول الوثائق وكان هو حلقة الصلة بين هؤلاء المجهولين - يعني المخابرات الامريكية - وبقية اعضاء لجنة التحكيم التي كان هو على رأسها.
تكونت لجنة التحكيم من عشرة اعضاء نذكر بعضا منهم : الناقد البريطاني المشهور هربرت ريد الذي كان يشغل منصب رئيس المعهد , و رونالد بنروس نائب رئيس المعهد , والناشر اي. سي. كركوري الذي كان يشغل منصبا فخريا كرئيس لقسم المالية في المعهد , وهو ايضا الذي اسس في سنة 1950 في جامعة ليدز لجنة كركوري للزمالات , والتي كان احد اعضاءها النحات ريغ بتلر الذي فاز بالجائزة الاولى فيما بعد (يعني ان العلاقات والوساطات لعبت دورا) , النحات هنري مور الذي كان يشغل منصب مستشار فني في المعهد .
طلب من النحاتين في ذلك الاعلان ان بقدموا مصغرا لنصب كبير يمثل السجين السياسي المجهول , لوضعه في مكان بارز في احدى العواصم الاوربية الكبرى بحيث يتم نصبه ليكون معلما دوليا هاما , وكان هناك تأكيد من قبل المنظمين على ان الماكيت او المصغر المشارك ليس عملا نحتيا نهائيا وانما هو نموذج اولي ينبغي ان يكون ملائما لوضعه في دولة اوربية , وكان اكثر الاماكن تفضيلا لهذا النصب هو مدينة برلين وعلى الحدود بين المانيا الشرقية والغربية.
وفي الاول من حزيران سنة 1952 وهو اخر موعد للتقديم بلغ عدد المتقدمين للمشاركة 3500 فنانا من سبعة وخمسين دولة بالعالم , ولم يشارك العراق ولا اية دولة عربية اخرى بالتقديم لهذه المسابقة , حسب الوثائق التي استطعنا الاطلاع عليها لحد الان .
وقد رفض الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية وقتها المشاركة بها لانهم اعتبروا اختيار مدينة برلين لاقامة النصب استفزازا وتعميقا للحرب الباردة , ثم انها جاءت بعد وقت قصير من توقيع الدول الغربية على معاهدة جنيف لسنة 1951 الخاصة باللجوء السياسي , والتي فهمت في الدول الاشتراكية على انها موجهة ضدهم ولدعم خصومهم داخل تلك الدول.
فجميع ما تمكنا من الحصول عليه من وثائق تبين لنا من خلالها زيف تلك الدعاوي التي يرددها صحفينا وكما يلي :
اولا : ان الاشتراك بهذه المسابقة تم عن طريق الدول التي ينتمي اليها الفنانين وليس التقديم بشكل شخصي , بمعنى ان كل دولة عليها ترشيح فنان اوبضع فنانين للمسابقة , وهذا شرط من شروطها
ثانيا : تم قبول اعمال 140 فنانا فقط , كانت دولهم قد رشحتهم بعد مسابقات محلية , فمثلا تقدم 607 فنان من المانيا الغربية وحدها , ولم تقبل منهم لجنة التحكيم الالمانية سوى اثنى عشرة فقط , ومن امريكا تقدم حوالي المئتين وتم قبول عشرة فقط وهكذا مع بقية الدول
ثالثا : لايوجد اسم جواد سليم كواحد من هؤلاء ال 140 في كاتالوك المعرض ولا في المقدمة التي كتبها رئيس اللجنة التي اختارت الاعمال والاعمال الفائزة وهو الناقد الشهير هربرت ريد , ولا اية وثيقة اخرى خاصة او عامة لهذه المسابقة , ولا يوجد اسم فنان عربي واحد اصلا او شرقي معروف او غير معروف ضمن قائمة المشاركين الذين تم اختيارهم.
رابعا : اختارت لجنة التحكيم اثنى عشر فنانا من مجموع 140 , لدور شبه النهائي , او لتحديد الفائزين بالجوائز الثلاثة الاولى , وجميع هؤلاء ال 12 فنان هم كالعادة من دول اوربا الغربية
وقد اقيم المعرض الخاص بهذه المسابقة في متحف التيت او التيت كاليري كما كان يسمى , في الفترة من 14 –اذار وحتى 30- نيسان من سنة 1953 .
ومنحت الجوائز كما يلي :
الجائزة الاولى للنحات والمعماري ريغ بتلر – بريطانيا , وقيمتها 4500 باوند
الجائزة الثانية منحت لاربعة فنانين بقيمة 750 باوند لكل واحد وهم :
مركو باسالديا – ايطاليا , باربارا هيبورث – بريطانيا , انتوني بيفسنر – فرنسا واخيه نعوم كابو – امريكا ( هؤلاء اخوة يهود كل واحد يعيش في دولة )
الجائزة الثالثة وقيمتها 250 باوند :
منغازي – ايطاليا , ليبولد –امريكا , ادم – فرنسا , بيل –سويسرا , كالدر –امريكا , جادويك – بريطانيا , هيندر- استراليا
من المعروف ان جواد سليم قد انجز عملا بعنوان السجين السياسي المجهول لهذه المسابقة وهذا مايعرفه الكثيرين وهناك صور عديدة ووثائق لهذا العمل , وربما مازال باقيا في مكان ما او لدى شخص ما , ولكن وفقا لما تعرفنا عليه مؤخرا من وثائق في ارشيف متحف التيت المنشورة والتي ذكرنا قسمها الاساسي اعلاه فان جواد سليم لم يشترك بهذه المسابقة ولم يكن بامكانه المشاركة اصلا , حتى لو كان قد اخذ عمله وسلمه مباشرة الى لجنة المسابقة , والسبب لان شروطها واضحة انذاك وهي الاشتراك عن طريق الدولة وليس بشكل شخصي , ولهذا فلاادري من اين جاءت هذه الدعاية التي تجزم بمشاركته وفوزه ومن روجها ولماذا؟ وكيف اخذت هذه الكذبة كل هذا الوقت دون ان تكشف ؟ واصبحت وكأنها حقيقة في اذهان الناس او قل في ذهن جمهور الفن التشكيلي لاتقبل الجدل , لماذا لم يُتعب او يحاول اتعاب نفسه واحد من اولئك الذين يدعون انهم مؤرخين فن او الذين الفوا الكتب عن جواد سليم بأن يتحققوا من حقيقة الامر من الجهات البريطانية الراعية لهذه المسابقة , لماذا لم يدفعهم الفضول لمعرفة المزيد عن هذه الجائزة حتى على افتراض ان ادعاءاتهم صحيحة.
جميع الفنانين الفائزين بالجوائز انفة الذكر , قد اكتسبوا شهرتهم العالمية واصبحوا مؤثرين بالفن الحديث بعد نيلهم تلك الجوائز ومشاركتهم في ذلك المعرض , ومن وقتها اقتنت كافة متاحف الفن الحديث في اوربا اعمالهم وزادت اسعارها بقفزات , واصبحوا بفضل كتابات ريد وتلك الدعاية النموذج الذي اقتدى به كل جيل الستينات اللاحق في اوربا والعالم , اذن لو كان جواد سليم واحدا منهم , وقد حصل ولو حتى على اقل هذه الجوائز شأنا , سوف لن نقول الثانية فلماذا لايذكره احد الان كما يذكر الاخرين ؟.
كيف يفوز فنان من دول المستعمرات في جائزة بهذا الحجم وهذه الدعاية الهائلة التي غطت سمعتها الوسط الفني العالمي زهاء خمسة سنوات ويبقى اسمه مغمورا بالعالم , بلا معارض خارج حدود بلاده وبلا تكليفات فنية في دول اخرى , بلا شهرة او مقابلات او دراسات نقدية عن اعماله , خاصة وان رئيس لجنة المسابقة التي منحت الجوائز هربرت ريد كان يعد اعظم واشهر ناقد فني بالعالم انذاك , ويكفي ان يكتب سطرا واحدا عن فنان ما حتى يصبح ذلك الفنان حديث اهل الفن وحماته حول العالم ,اذن لماذا لم يذكر اسم جواد سليم في مقدمته لكاتالوك معرض الجائزة الذي حرره هو واختار جميع المشاركين والفائزين بنفسه ؟ولماذا لم يذكره او يكتب عنه لاحقا حتى ولو ضمن ملحوظة بائخة ؟علما بان ريد هذا مات سنة 1968 وجواد مات سنة 1961 فهل من المعقول ان لايؤبنه ببضع كلمات وهو المعروف في وقوفه وراء شهرة ثلاثة ارباع فنانين اوربا انذاك ؟ , اسئلة واسئلة وكلها محيرة.
وكيف يعقل ان تمنح المخابرات المركزية الامريكية جائزة بهذه الاهمية لفنان عربي مغمور ليس له ناقة ولاجمل في صراعها مع خصومها في الشرق الاشتراكي وليس من فائدة سياسية ستراتيجية مرجوة منه حتى وان كانت موهبته اعظم من منافسيه جميعا , حيث ان الفكرة وراء هذه المسابقة اصلا هو ليس اكتشاف المواهب والعبقريات بل ان تستعمل كسلاح سياسي ايدلوجي في الحرب ولعكس تصور الغربيين لانفسهم .
اما الكذبة الثانية التي تم تسويقها بدون دليل فهي وجود نسخة برونزية لدى الامم المتحدة لهذا العمل , ولااحدا يعرف في اي مقر من مقراتها وفي اي دولة وباي عاصمة , خاصة ونحن نعرف ان جميع الاعمال الفنية التي تمتلكها هيئة الامم المتحدة موثقة في ارشيف فني ضخم يستطيع اي باحث او اي انسان عادي مراسلة الجهات المختصة والحصول على المعلومات المطلوبة , والسؤال لماذا يخلو هذا الارشيف من عمل جواد سليم البرونزي ان وجد ؟ بينما يحتوي على تبويب وفهارس لفنانين اخرين من الشرق الاوسط , اين يوجد هذا العمل البرونزي المزعوم ؟
بالواقع وكما يبدو لنا الان من هذا السرد, فأن المتسبب الاول في كل هذا الهراء ربما هو المترجم والناقد الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا , صديق جواد سليم واحد اكثر المعجبين باعماله , وقد يكون هو مخترع قصة مشاركته بتلك المسابقة وفوزه , وليس عندي الان كتابه عن جواد سليم الذي نشرته وزارة الاعلام سنة 1972 ضمن كتب السلسلة الفنية , لكي اعيد قراءته لاستطيع التأكيد او النفي , ولكن على مااتذكر ففي هذا الكتاب يذكر جبرا هذه الكذبة , ولاادري هل كان ذلك حبا بجواد سليم ام سعيا لاستغفال العراقيين , اتمنى ان يقوم الان واحدا من نقاد الفن في بلادنا والمواكبين لتطور الفن العراقي بعرض مفصل لكل ماذكره جبرا بهذا الخصوص .
كم يؤسفني عرض هذه الحقائق التي اكتشفتها لاول مرة بالصدفة في نوفمبر سنة 2011 ولم أشأ الكتابة عنها كل هذه السنوات وبلادنا تعيش كل هذه الماسي والتعاسات التي لانهاية لها , وسوف اكون سعيدا جدا اذا ما تقدم احد الباحثيين الجادين بما هو عكس ما تقوله الوثائق التي اطلعتها عليها لحد الان , غير ان الاماني تبقى اماني ولابد لنا يوما ما من كتابة تاريخنا كما هو وبلا رتوش .
وباختصار نكرر بان جواد سليم قد نفذ عملا نحتيا باسم السجين السياسي المجهول , وهذا مالايناقش به احد , لكنه وفقا لما منشور من وثائق من تلك المسابقة , فانه لم يشترك بها اصلا , ولم يتم اختيار عمله ولا في اي مرحلة من مراحلها , ولم يفوز باية جائزة من جوائزها ولم يعرف به ولابعمله احدا من منظمي اوداعمي هذه المسابقة للنحت لا سابقا ولا لاحقا , وان كل ماقيل عن هذا الامر لايعدو كونه غير وهم وقد تلبس عقول العراقيين.
للمزيد من المعلومات
http://www.tate.org.uk/art/artworks/butler-working-model-for-the-unknown-political-prisoner-t02332/text-catalogue-entry
https://www.moma.org/calendar/exhibitions/2421
https://espionart.wordpress.com/2013/07/12/monument-to-the-unknown-political-prisoner/
#ساطع_هاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟